الفصل الأول

وضعية الكاتب والكتابة عند العرب

مقام الشِّعر ووضْع النثر

لا يجادل أحد في أن العرب أمة الكلمة بامتياز، واللغة العربية مجال فسيح للتعبير والإنشاء والبيان، الفصاحة والبلاغة من مُقوِّماتها الأساس، وعقيدة الإسلام التي انبثقت في قلب هذه الأمة، والقرآن وحْيُها وكِتاب هديها، اتَّخذَه نبيها محمد أمضى أسلحة نشْر الدعوة وتحدي خصومها (الآية: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)، فهو، إذن، كتابٌ معجز بالدرجة الأولى بقوة لفظه وبديع بيانه، وما حمل القرآن هذا التحدي إلا لأنه نزل في أمة ذات سِجلٍّ لغوي وتعبيري حافِل وغني، قوي البناء، تتنافس آيات الدلالة على متانته وغزارته، أقوى الأدلة الشعر الجاهلي، واسطة عقده المُعلَّقات السبع أو العشر ليست إلا واحدة منها. وقد حض القرآن بصيغة الأمر على القراءة تحفيزًا للتعلم من الخالق الذي عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وضمنِيًّا على الكتابة، فهي بطبيعة الحال مقترنة بالقراءة وحافظة لها.

وقد دفعت النشأة الوليدة لدولة الفتوحات والخلافة إلى الحاجة لتدبير المعامَلات والعلاقات بين المركز والولاة، وتطور ذلك تدريجيًّا مع اتساع هذه الدولة وتكاثُر وتنوُّع مصالحها وأجهزتها، مما أظهر حاجة متزايدة لاستخدام الرسائل وأشكال المكاتبات المتصلة بهذه المصالح، وبالتالي إلى تبلور دواوين للكتابة يقوم عليها أفراد ستصبح لهم هذه مهنة، وستغدو على يدهم صناعة لها شروطها ومقتضياتها التنظيمية بقدر ما سَتُلزِم مُزاوِلَها بالتوفُّر على الدراية الكافية، بل الفائقة بالمعارف والفنون اللازمة لهذه المهنة المستحدَثة.١

من الواضح أنَّنا نتحدَّث عن مضمار خصوصي، غير ذاك الذي تظهر فيه الكتابة بوصفها حقلًا للتعبير الفني والشعوري، كما تتجلَّى في الفنون الأدبية النثرية الحديثة، وتندرج تحديدًا في إطار مفهوم الأدب بِصيغه القولية والجمالية المحدَّدة. ولذلك من المناسب تجنُّب إقامة مقابَلات بين نموذجين يَنجُم عنهما وضعان متمايزان كل واحد باشتراطاته وخصائصه، ولا بُدَّ من البداية الانتباه إلى السياقات الملائمة حيث تبلورَ كل نموذج على حدة، وفي ضوئها ينبغي أن يُقرأ وتَتحدَّد عناصره التكوينية وسِماته الخارجية، تجنبًا للخلط، من جهة، وبُغية الذهاب في الاتجاه السديد الذي يقود إلى صُنع موضوع نريد أن ننظر فيه إلى الكتابة من حيث هي تعبير إبداعي بالدرجة الأولى، اتصل بالغَرَض أم تنزَّه عنه، من جهة أخرى.

لكن، وعلى الرغم من التبايُن الأصلي بين هذين النموذجين، واختلاف مَقصدِيَّتهما، يبقى من المهم الانتباه مسبقًا، وقبل الشروع في التوصيف، والخوض في التحليل، إلى أن هناك جذرًا مشتركًا بينهما، بل عديد عناصر تواصل وتشابك خاصة في المقتضيات اللغوية والأسلوبية والبلاغية، إذ نجد في المستويين القولِيَّين كليهما حرصًا على مراعاة شروط بعينها، والتمكُّن من الأدوات، والبراعة في الاستخدام، وكل ما من شأنه تزيين الكتابة وإبرازها في أحسن حُلة وأقدر على الإبلاغ والإقناع. وهو غير ما نعلمه اليوم من تفاوُت كبير في الصياغة عندما نتحدَّث عن الرسائل الإدارية أو الديوانية، والبلاغات الصادرة عن المكاتب الحكومية، بل والمَقالات الصحفية نفسها، وبين ما نُدخله في خانة النثر الفني بأجناسه المتعددة.

إن انشغالنا بالبحث عن جذور وإمكانية وجود وضع ممكن للكاتب، أو مَن يقوم مقامه، سواء في الوظيفة، أو في المؤهلات، لَيستدعي منا القيام بحفور أوَّلي في تربة الأدب والثقافة العربيتين، لا سعيًا لخلق أي مماثلة مع نموذج افتراضي، وإنما للبحث عن الهيئات التي اتخذها القائمون بهذا القول، المكلفون بالإبلاغ على نحو مُعيَّن، تلاءَم مع فترات تاريخية وثقافية مخصوصة، وانسجَم مع شروطها، فاتَّخَذ في كل حالة لبوسًا، مستمدًّا أصلًا من الصِّيغ البلاغية واللغوية التي يجيء عليها القول، وحسب المرامي المُتوخَّاة منه، تتطابق تارة مع الشريعة، وتتضمَّنها وهي تتعدَّى النقل إلى العقل، تارة أخرى.

لقد بات أمرًا محسومًا بأن النتاج الكتابي عند العرب ينصرف إلى ضربين كبيرين من القول: الشعر والنثر، أو حسب استعمال القدماء: المنظوم والمنثور، ينضوي تحت هذين الجنسين أنواع وأصناف من القول، تتعدَّد أغراضًا وأشكالًا وسِجلات وعمومًا مدوناتٍ قولية. وقد غلب الشعر، كما هو معلوم، على غيره، ولم يُضاهِ أحدٌ من مُنتجِي الكلام الشاعرَ في جميع العصور لالتصاقه بالطبيعة الغالبة على النفوس، وتَسلُّمه زمام المنافَحة عن القبيلة والفخر بشِيَمها، ولتصويره بيئتها بجماع تكوينها، المادي والوجداني، منتقلًا في مرحلة لاحقة إلى ما سماه الدارسون بالتكسُّب بشِعْره، بينما هو يقوم بخدمة المديح التي احتاج إليها الحُكم الوليد، وهو يُشيِّد القصور، ويُرسي دعائم سُلطة ومؤسَّسات، تَحفل من بين ما تَحفل به مجالس العلم والمناظَرة، للشعراء فيها وخلالها حضور بهيٌّ، يُبجِّلون المزايا قبل أن يَلتمسوا العطايا، يَمضُون بعدها إلى حال سبيلهم، إما يفخرون، أو يَندُبون حظَّهم وهم يشجنون، مثل أبي الطيب المتنبي، أو يَلهُون بالرِّقة والجمال مُستفِزِّين محيطهم كأبي نواس، أو يُقيمون صروح الاستعارة بأدق تواشي المحسنات البديعية صنيع أبي تمام، إن لم يزهدوا في الدنيا على غِرار أبي العتاهية، حينا تفلسف بحكمة وموعظة الأيام حسْب المعَرِّي والمتصوفة، أما الذين برَّح بهم الحب فأعْطُوا أرقَّ الغزَل وأشجاه فحدِّثْ ولا حرَج. بين هذه الشواغل والاستجابات، لا يكاد الشاعر رغم المكانة المزعومة له في سِجِل القول العربي يتوفَّر إلا على مَقام محدود، أو شبه مَقام، ما دام موقعه المركزي هو ذاته بالدرجة الأولى، لا يعدلها أحد ولا شيء. فالقبيلة تَزهو بشاعرها؛ لأنه من عصبيتها، ولن يتنكر لها أو يُشرَّد في البلاد فاقدًا أي حماية وسند، أما السلطان والوزير والوالي فإن أمَّن الشاعرَ فإلى حين، يجده مهدِّدًا، متقوِّلًا عليه إن لم يُجزِل في العطاء، ويطلب المزيد، وإن غَضِب ويلٌ من لسانه، ثم إنه وحده سُلطة تُنازع.

هكذا يَصعُب تحديد موقع مستقر للشاعر، فلا يبقى إلا تتبُّع سِير الشعراء الذين إن وُجدوا في الحاشية فهُم ليسوا موظَّفِين ولا من أعمدة الدولة، يُعوَّل على ألسنتهم وأقلامهم لتصريف شئونها، وبالطبع فإن أشعارهم هنا، وعَبْر الأزمنة لتبيان مسار الشعر وحصر خواصه كافة.

على العكس من هذا فإن الكاتب وإنتاجه يندرجان في سياق يسمح بالحديث عن وضع يساعدنا على مُقاربة ما عرفه سواء من وجود أوَّلِي، أو ما تطوَّر إليه في صيرورة لم تنقطع. فالضرورات السياسية والإدارية هي التي أهَّلت بالدرجة الأولى إمكانية تَبلوُر موقع أشبه بالمِهنِي لم يكن يُعَد عند العرب قبل بداية تأسيس دولة العقيدة المحمدية، من نشأتها إلى تَفكُّكها، سوى مَرويات لأيام العرب، وسيرٍ وأمثال، وأخبار، وحكايات، وأسجاع كُهَّان، وما إلى ذلك؛ أي في جملتها تُسْلَك في باب المنثور. على أنه ليس المَنثور الذي تكفَّل بوضعه وترتيبه كُتابٌ متخصصون أو أناسٌ اتَّخذوا مِن نقْل هذه المواد حِرفة، بل نحن هنا إزاء آثار بِنت الشَّفوية بالدرجة الأولى، جاء جمعُها وتبويبُها وعمومًا تدوينُها في وقت متزامِن مع انصراف العرب إلى جمْع لُغتِهم عَبْر لهجاتهم في البوادي بين القبائل، ومن ثَمَّ إلى نَخْلها، وتصنيف ما سيجتمع بعد ذلك في قواميس ورسائل مخصوصة بأغراض أو مواضيع كالإبل والخيل، وغيره. وهو عمل لغوي بَحْت وفَّر بكل تأكيد حصيلة قاموسية هامة لكل مُقبِل على إتقان العربية والنبوغ فيها، غير أنه لم يكن مُقيَّدًا بالضرورة بما سُقناه عن الحرفة اللهم إلا من ناحية التحصيل الجامع لها، والإجادة بعد ذلك في أبواب شَتَّى، سنقف عليه بتفصيل لاحقًا.

من هنا ندرك أن الخوض في موضوعنا، سواء من حيث الدراية بفن الكتابة وأبوابها، أو التعرف على القائمين على إنشائها، المُقيَّدين في سِلكها، يُعَد جُزءًا من مشروع أوسع، وأغنى معرفة، يختص بتحديد الأجناس الأدبية في الثقافة العربية، على النحو الذي ظهرَت عليه أو كانت في الماضي، هي غير ما نعلمُه بتاتًا في الزمن الحديث، واختَصَّت به الدراسات النَّقدية الحديثة والمُعاصِرة. وهو افتراض نظير بحثنا عن وضع للكاتب، أو ما سيئُول إليه في الزمن الذي تحوَّل فيه إلى مُنشئ أدبي أو أديب مستقل، متفرِّغ أو غير متفرِّغ لعمله، حسب بيئته وظروف عمله. إن من شأن فَرْز الخيوط الرفيعة لشبكة هذه الأجناس، الأنواع حينًا آخر، ومحاولة اكتشاف طرائق وعوامل انبنائها وفْق تَصوُّرات زَمنها وما ارتأته البيئة الثقافية المُحايثة، لهو أحد أدوات الفحص الهامة لتقريبنا من الصورة التي نبحث عنها، ونحن نعني بالدرجة الأولى جنس النثر العام أو المنثور، يختص به الكُتَّاب، لا الشعراء، ومِن شأنه أن يقودنا مباشرة إلى أَهْلِه لمساءلة مكانتهم، وظروف عملهم، وأسرار صَنْعتهم. وإذا ما مَثَّلت أسرار الصَّنعة هذه جزءًا من التحديد الأجناسي – النوعي للأدب، فهي في الوقت نفسه مضمار هامٌّ لتبيان ما يُطلَب من المتعلم، المرء، كي يصبح أهلًا للحرفة، وتَسلس له قيادها. نعتبر أن هذا هو الأقرب إلى شاغلنا، الأجدر بالتخصيص، أكثر من المسألة الأجناسية بكثير. وذاك هو المُعوَّل عليه عندنا، وإليه ننصرف.

وإذن، لِنعتَبر أن البداية الفِعلية لإمكانية المعالَجة تنطلق من إقدام رجال الدولة الجديدة على جعل أفراد جُدد، أيضًا، في خدمتهم، مهمتهم الكتابة، بدءًا من الحاجة إلى تدوين الوحي، وتبعًا لاتساع رقعة الدعوة ومشاغلها، وما ترتَّب عن ذلك من ربط الاتصال بواسطة الرسائل سواء داخل الجزيرة العربية أو منها نحو أطراف الفتح الإسلامي، فتعدَّدَت أغراض الكتابة، نَعُدُّ منها كُتُب الأمان، وكُتُب تقسيم الغنائم، وكُتُب الإقطاعات، وكُتُب المعاهَدات، والوصايا والعهود، كلُّها حسب عز الدين اسماعيل: «تعكس صورة من الفصاحة العربية المألوفة لدى العرب في ذلك الوقت، فيها كثير من عناصر الجمال الفني والمعنوي.»٢ كان المُكلَّفون بهذه المهام يُسطِّرون ما يُمْلى عليهم، ليتم الانتقال بعد ذلك، منذ الخليفة عمر بن عبد العزيز (٦٨١–٧٢٠م) (حكَم من ٧١٧ إلى ٧٢٠م) من الإملاء إلى الإنشاء، فهذا الخليفة، الموسوم بالعدل والزُّهد، هو مَن أنشأ ديوان الرسائل، وأرساه بنو أمية تباعًا، وقلَّدهم وُلاتهم في ذلك، وقد تهيَّأ لهذا التأسيس الانتشار ليصبح ظاهرة ما بين عهد معاوية وحُكم عبد الملك بن مروان، فما أن نصل إلى عهد هشام بن عبد الملك إلا والكتابة غدَت فنًّا قائمَ الذات، ومِن ثَمَّ ستشهد بداية تَحوُّلها إلى نثر فني.٣ تحوُّلٌ تمثَّل في الانتقال من مجرَّد الكتابة بنثر بليغ إلى مستوًى نوعي هو ما يُسمَّى فن التَّرسُّل، الذي يقع الاحتفال فيه بالصنعة البديعية، ويُعَد من سمات الكتابة الديوانية.

عُدَّةُ الكاتب (كاتب الرسائل)

إذا كان فن التَّرسُّل قد تحول إلى نوع مميز داخل الجنس العام للمنثور، والنثر الفني بوجه أصحَّ، واقتضى التزام قواعد أسلوبية، واستعمال صيغ بلاغية، تنقل الكلام من صعيد النثر العادي، والبليغ نفسه، كما ذكَرْنا، إلى مقام يُستدَلُّ فيه بكل ما تحوزه العربية من قدرات التأثير والجمال والإقناع، فإن مُنشِئه، بالطبع، مُلزَم بأكثر، عليه أن يَحوز قُدرات بدونها لن ينجح في الانتماء إلى سِلك كُتَّاب الدواوين، ولا أن ينتزع له مكانًا بين مقام البلغاء، لا يستقيم أي واحد منهما دون إدراك الثاني، وهو تلازُمٌ سنلحظه عند كل الذين أجادوا في هذا المضمار، وعُدُّوا فيه مجيدين، وإليهم الاحتكام في معرفة قواعد الصنعة؛ فهُم واضعوها.

لِنسجِّل أن هنالك أصنافًا من الكُتَّاب، هم خمسة على ما ذكره ابن مقلة:

«كاتِب خط، وكاتِب لفْظ، وكاتِب عَقْد، وكاتِب حُكم، وكاتِب تدبير. فكاتب الخط هو الورَّاق والمُحرِّر، وكاتِب اللفظ هو المترَسِّل، وكاتب العَقد هو كاتِب الحِساب الذي يكتبه للعامِل. وكاتب الحُكم هو الذي يَكتُبه للقاضي ونحوه ممن يتولَّى النظر في الأحكام، وكاتِب التدبير هو كاتِب السُّلطان أو كاتب وزير دولته.»٤ هؤلاء جميعًا يحتاجون إلى المهارة في الآتي:

– «علم اللسان حتى يعلم «الكاتب» الإعراب ويَسلَم من اللحن ويعرف المقصور والممدود والموصول والمذكر والمؤنث.»

– ويكون له بصرٌ بالهجاء فإنَّ الخطأ في الهجاء كالخطأ في الكلام.

– عليه أن لا يمعن في معرفة النحو شأنَ النحاة، ولا في الفقه كالفقهاء: «إنما عليه أن يعلم من ذلك ما لا تَسعه جهالته ثم يُكثِر بعد ذلك من معرفة ما يخص صناعته.»

– ويحتاج كل واحد منهم (الكُتَّاب) إلى: «العِفَّة، ونزاهة النفس، وحسن المعاملة للناس، ولِين الجانب، وسماحة الأخلاق، والنصيحة لمخدومه.»٥

هذه الأصناف سُمِّيت بالمراتب، أيضًا، إليها تنقسم صناعة الكُتَّاب، وعُدَّت خمس عشرة مرتبة، وهي:

«الوزارة، والتوقيع، والرسائل، والخَراج، والضِّياع، وبيت المال والخزاين، والنفقات، والجيش، والزِّمام، والبَريد، والقَص، والمَظالم، وكتابة القضاء، وكتابة القُوَّاد، والأمراء، وكتابة المعاون.»٦
وعند صاحب هذا التقسيم أن اسم الكاتب في النهاية: «إنما يقع في الحقيقة على الكاتب المستقلِّ بجميع آلاتها، المحيط بأدواتها، لا مَن تعلق منها بالسبب المنصرم واستند إلى الركن المنهدم.»٧

وإذ يذهب البطليوسي إلى تفصيل القول في أصناف الكُتَّاب المذكورين، نجده يُولِي العناية إلى ما يختص به موضوعنا، الملزم بأكبر شروط التقيُّد بين أصناف كُتاب الدواوين هو الموصوف ﺑ «كاتِب اللفظ»، وهو المترسِّل، المشتغل بكتابة الرسائل السلطانية بتعدُّد أغراضها، فإنه يحتاج إلى شروط ولوازم منها على وجه الخصوص:

– «الاستكثار من حفظ الرسائل، والخُطب، والأمثال، والأخبار، والأشعار، ومن حفظ عيون الحديث ليُدخِلها في تضاعيف سطره متمثِّلًا إذا كَتب، ويصل بها كلامه إذا حاوَر، ولا بأس باستعمال الشِّعر في الرسائل اقتضابًا وتمثُّلًا (…) ويحتاج الكاتب إلى معرفة مَراتب المكاتَبين عند مَن يكتب عنه، وما يليق من الأدعية والعنوانات على حسب ما تقتضيه مرتبة مَخدومه بين مراتبهم فيُنزل كل واحد منهم مرتبته اللائقة.»٨ ومِن طريف ما يَحسُن الاستشهاد به تحديده لمراتب النساء «في مخاطبتهن ينبغي للكاتِب أن يعرفها، فمِن ذلك: أنه لا ينبغي للكاتب أن يدعو لهن بالكرامة ولا بالسعادة؛ لأن كرامة المرأة وسعادتها موتُها عندهن (…) وبالجملة فينبغي للكاتب إليهن أن يتجنَّب كل لفظة يقع فيها اشتراك، ويمكن أن تَتأوَّل على ما يَقبُح فإن ذلك يُعَدُّ من حِذقهِ ونبله.»٩
ولعل عبد الحميد الكاتب (ت١٣٢ﻫ) أول من وضَع رسالة في التعريف بوظيفة الكُتَّاب، فهو الكاتِب البليغ رئيس ديوان الإنشاء بدولة مروان بن محمد بن مروان بن الحَكم، آخر ملوك بني أمية. يستهل الرسالة١٠ بتبجيل مَقام الكُتَّاب الذين جعلهم الله: «في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات والعلم والرزانة، بِكُم ينتظم للخلافة محاسنُها وتستقيم أمورُها وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلدانهم (…) وليس أحدٌ من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خِلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المعدودة منكم.» وهذا عند عبد الحميد الكاتب المدخل لتعداد الخصال الأخلاقية أو المعنوية المُوجِبة لمَقام الكاتب، دليل لأهميتها وما كان يُوليها المحيط من تقدير، تَجدُها سابقة على الشروط الأدبية والمادية، ومُقيِّدة لها، وهكذا فهو:
– «يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحِبُه الذي يثق به في مُهمَّات أموره أن يكون حليمًا في موضع الحلم، فَهيمًا في موضع الحُكم، مِقدامًا في موضع الإقدام، مِحجامًا في موضع الإحجام، مُؤثِرًا للعفاف والعدل والإنصاف، كتومًا للأسرار وفِيًّا عند الشدائد.»١١

وقد اجتاز هذه العتبة الأخلاقية، ذات المسحة الدينية ينتقل عبد الحميد الكاتب إلى تِعداد ضوابط الحِرفة، ما لا يرى بُدًّا من أن يَتوفَّر عليه معشر الكُتَّاب من مؤهلات؛ إذ الواحد منهم يحتاج عنده إلى أن يكون:

– «قد نظر في كل فَن من فنون العلم فأحكمَه، وإن لم يُحكِمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به (…) فيُعِد لكل أمر عُدَّته وعتاده، ويهيِّئ لكل وَجه هيئته وعاداته.»

– وعليه التَّسابق نحو معارف محددة: «فتنافَسوا يا معشر الكُتَّاب في صنوف الآداب، وتَفقَّهوا في الدِّين، وابدءُوا بعلم كتاب الله عز وجل، والفرائض.»

– «ثم العربية فإنها ثِقاف ألسنتكم.»

– «ثم أَجيدوا الخط فإنه حِليَة كتبكم.»

– «وارْوُوا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها.»

– «أيام العرب والعجم وأحاديثها وسِيَرها.»١٢ وما يلبث وقد حدَّد هذه التحفيزات التعليمية المهنية أن يعود من جديد للمحذور الأخلاقي:

– «ارغبوا بأنفسكم عن المَطامع سَنيِّها ودَنِيِّها؛ فإنها مُذلة للرقاب مُفسدة للكُتَّاب.»

– «ونزِّهوا صناعتكم عن الدناءة، واربئوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات.»

– «وإياكم والكِبرَ والسُّخفَ والعظمةَ؛ فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة.»١٣
ونحن نلاحظ هنا، تفضيلًا للعلوم الدينية بإيلائها أسبقية التعلم، لتعقُّبها صنوف المعارف الأخرى، كما يظهر، ثانيًا، مزجٌ بين احتراز الخصال الخُلقية وحيازة الثقافة الأدبية. على أن أهم ما تتميَّز به الرسالة الحميدية حِرصُها الشديد على رعاية أخلاق الكُتَّاب، وتنبيههم إلى ما يَحفُّ بمهنتهم من مخاطر، وما يتوجَّب التزامه معتقَدًا ودليلَ سَير، فقصدُها الأعم النُّصح بجميع وجوهه، حتى كأن مُنشئها يضع الكاتب في مقام الأنبياء؛ لذلك لا يجد بُدًّا من أن يفصح في النهاية، وليس في البداية، عن القصد جهيرًا: «مَن تلزمه النصيحة يلزمه العمل وهو جوهر هذا الكتاب وغُرَّة كلامه.»١٤ وما كان ولا سيبقى بِدعًا في هذا السبيل، فالربط بين الخُلقي والأدبي المعرفي وتَكامُلهما في تكوين الكاتب وكماله شرطٌ متواتِر مرصودٌ لدى جميع مَن أفتى في هذا الغرض، خلاصته نقرؤُها في عبارة صاحب الاقتضاب: «وإذا اجتمع للكاتب مع التَّفنُّن في المعارف والعلوم العفافُ، ونزاهة النفس عن القبائح؛ فقد تناهى في الفضل وجاز غاية النبل إن شاء الله.»١٥

كيف يمهَرُ الكاتب

ولِمَن يتتبع القيم والخصائص الموجبة للحذق والبراعة في فن التَّرسُّل، وكل ما لا مندوحة للكاتب من أن يضعه مِتراسًا، فإنه واجدها تشمل متطلَّبات وخصائص مشتَركة، شديدة التقارب، مقتضياتها تدور كلها على محاور متطابقة وإن بزيادات طفيفة أو بتحْلِيات نِسبية، هنا وهناك، وببعض إضافات تفريعية وزُخرفية على الأكثر من لدن مُصنِّفي الكتب الأدبية؛ رغبة منهم في التميُّز عن أسلافهم. ولذلك هي كثيرة التصنيفات في هذا الباب، يَجدُر الأخذ بأقواها حُجَّة وأعقلها منطقًا، وأصفاها عبارة وأكثرها إسعافًا فيما تنزع إليه من تعليم أو غاية خُلقية تربوية، خالصة لزمانها، ودالة على بيئة ثقافية أدبية بعينها، ستقود إلى بيئات أخرى، فهذه أمور مُتبدِّلة وتحتاج من قارئها التَّفطُّن إلى سياقاتها، وإلا استهجَنها أو استخفَّ بها، والأدهى أن يُضيِّع قيمتها هي وعصرها، الذي مهَّد لما بعدها، إذ بِصِلة معها يمكن تبيُّن ما حصل من تطوُّر، قُل مِن تغيُّر كبير في فهْم الكتابة وشروط ولوج عالَمها، والأغراض الموجِبة لها، تنَّبه لذلك القدماء حدسًا بقولهم: «… فإن العادات اختلاف الأزمنة فيستحسن أهل كل زمان ما لا يستحسنه غيرهم.»١٦ في هذا السبيل يَحسُن اعتماد أقوى الفتاوى وأرجح التوجيه، والبدء بما على كاتب الرسائل نَهجُه، وهو ما دَشَّنه عبد الحميد الكاتب، كما ذكرْنا، وطوَّرَه أخلافُه، منهم ابن المُدبِّر، وشهاب الدين الحَلبي. ثم ما يُستَحسن توفُّره في الرسائل وتزدان به، نَجده عند غير واحد أهمهم: ضياء الدين ابن الأثير، والصُّولي، وأبو حيَّان التوحيدي، والقاضي القرشي.
لا جرم يُعَد إبراهيم بن المُدبِّر (ت٢٧٩ﻫ) أبرز هؤلاء وأقواهم حُجَّة وأصعبهم تطلُّبًا، وأكثرهم تفصيلًا وإلحاحًا، ثم جمْعًا، في مُصنَّفه المشتهر «الرسالة العذراء»،١٧ يقول مؤلِّفها بأنه وضعها استجابة لمن طلب منه، من بين أسئلة أخرى، معرفة: «متى يكون الكاتب مستحقًّا اسم الكتابة، والبليغ مسلَّمًا له معاني البلاغة في إشارته وعبارته؟ وإلى أيِّ أدواته هو أحوج؟ وبأي آلاته هو أعمل إذا حَصْحَص الحق ودُعِي إلى السبق.»١٨ لهذه الغاية يبادر إلى إجابات مُفحِمة ومفصَّلة يتعذَّر اختصارها، ولا غنى من الاطلاع عليها لمن يريد أن تحصل له الإحاطة بالموضوع، وكذلك ليتذكَّر الجيل الحاضر من كُتَّاب اليوم، رغم اختلاف ظروف تعلُّمهم، وأوضاع حياتهم عن كُتَّاب أمْس، ما كان يتوجَّب من معرفة ويُشترَط من تأهيل جَدِّي ومَكين لحرفة الكتابة. رغم تشعُّب الرسالة سنقدم أهم ما في محتواها مُجزَّءًا ليتضح القصد:
  • (١)

    «اعلم أن الاكتساب [يتم] بالتعلم والتكلف، وطول الاختلاف إلى العلماء، ومدارسة كتب الحكماء.»

  • (٢)

    «فإن أردت خوض بحار البلاغة، وطلبت أدوات الفصاحة، فتصفَّح من رسائل المتقدِّمين ما تعتمد عليه، ومن رسائل المتأخِّرين ما ترجع إليه في تلقيح ذهنك، واستنتاج بلاغتك، ومن نوادر كلام الناس ما تستعين به، ومن الأشعار والأخبار، والسِّيَر والأسمار، ما يشعُّ به منطقك، ويعْذُب به لسانُك، ويطول به قلمُك.»

  • (٣)

    «وانظر في كُتب المَقامات والخُطب، ومحاوَرات العرب، ومعاني العَجم، وحدود المنطق، وأمثال الفُرس ورسائلهم (…) بعد أن تتوسط في علم النحو والتصريف واللغة والوثائق والشروط ككتب السِّجلات والأمانات، فإنه أول ما يحتاج إليه الكاتب.»

  • (٤)
    «وتمهر في نزع آي القرآن الكريم في مواضعها، واجتلاب الأمثال في أماكنها، مع الألفاظ الجزلة، وقرض الشعر الجيد، وعلم العروض.»١٩
  • (٥)
    «(…) ضع كل معنًى في موضع يليق به، وتخيَّر لكل لفظة معنًى يشاكلها.»٢٠
  • (٦)
    «فإنما يكون كاتبًا إذا وَضَعَ كل معنًى في موضعه، وعلق كل لفظة على طبقها في المعنى، فلا يجعل أولَ ما ينبغي له أن يكتب في آخرِ كتابه ولا آخرَه في أوَّلِه.»٢١
  • (٧)

    «لا يكون الكاتب حتى لا يستطيع أحد أن يؤخر أول كتابه ولا يقدم آخره.»

    «وكذلك ينبغي للكاتب أن يَتجنَّب اللفظ المشتَرك، والمعنى الملتبس.»٢٢
  • (٨)
    «وأدِرِ الألفاظ في أماكنها، واعْرِضها على معانيها، وقلِّبها على جميع وجوهها، حتى تقع موقَعها، ولا تجعلها قلقةً نافرة (…) واعلم أن الألفاظ في [غير] أماكنها كترقيع الثوب الذي إذا لم تتشابه رِقاعُه تغير حسنُه.»٢٣
  • (٩)
    «وكلما احْلَولى الكلام وعذُبَ ورَقَّ وسَهُلت مخارجُه، كان أسهلَ ولوجًا في السماع، وأشدَّ اتصالًا بالقلوب، وأخفَّ على الأفواه، ولا سِيَّما إذا كان المعنى البديع مترجمًا بلفظ مونق شريف، ومُعبِّرًا بكلام مُؤلَّف رشيق، لم يشِنه التكلف بميسَمه، ولم يُفسده التعقد باستهلاكه.»٢٤
وهل يكفي الالتزام بهذه الشروط، والقدرة على استيفائها حقَّها لبلوغ شرط البلاغة ومهارة القول؟ لا شيء مضمونٌ أمام الكاتب، كاتب الرسائل نموذج العصر، إن هو لم يحُز موهبته متمثلة في قريحة، أولًّا؛ لذا يخاطبه ابن المُدبِّر مُنبِّهًا: «وهذا كله إن جريتَ من البلاغة على عِرق، وظهرتَ منها على حظ، فأما إن كانت غير مناسبة لطبعك، ولا واقعة شهوتك عليها، فلا تنض مطيتك في التماسها، ولا تتعب بدنك في ابتغائها، واصرف عنانك عنها.»٢٥
وأخطر منه اشتراطه تجنُّب التقليد؛ أي إتيان الكلام على وجه الجدة المُطلَقة، أو لا نفع منه إن أراد البروز حقًّا في هذه الصناعة: «ولا تطمع فيها [البلاغة] باستعارتك ألفاظ الناس وكلامهم، فإن ذلك غير مثمر ولا مُجْدٍ عليك. ومن كان مرجعه فيها إلى اغتصاب ألفاظ مَن تَقدَّم، والاستضاءة بكوكب من سبقه، وسحب ذيل حلة غيره، ولم يكن معه أداة تولد له من بنات قلبه ونتائج ذهنه الكلام الحر والمعنى الجَزْل، فلم يكن من الصناعة في عير ولا نفير.»٢٦ يلتقي في هذا المعنى مع علي بن خلف الكاتب في قوله: إن «كاتِب التَّرسيل يحتاج إلى التَّصرُّف في المعاني المتداولة، والعبارة عنها بألفاظ غير الألفاظ التي عبَّر عنها مَن سبق إلى استعمالها (…) ويحتاج إلى اختراع معانٍ أبكار في الأمور الحادثة التي لم يقع مثلها، ولا سبق سابق إلى المكاتبة فيها.»
ولا نجد بعد في هذا الباب بعد ابن المُدبِّر أفضل من شهاب الدين الحلبي (ت٧٢٥ﻫ)، الذي أكد الشروط ذاتها في مصنَّفه المعروف: «حسن التوسل إلى صناعة التَّرسُّل»،٢٧ أو ما سماه بالأمور الكُلِّية التي على كاتِب الرسائل الإحاطة بها، من قبيل حفظ القرآن، ومعرفة اللغة والنحو، والأمثال والسِّيَر وأيام العرب، وأشعارهم، ومُطالَعة شروحها خاصة فيما اختاره العلماء منها ﮐ «الحماسة» و«المفضَّليات» و«الأصمعيات» و«ديوان الهُذليين».٢٨ ولكل معرفة داعٍ وفائدة، فالقرآن يحتاج إلى: «مُلازمة دَرْسه، وتُدبُّر معانيه، حتى لا يزال مصورًا في فكره، دائرًا على لسانه، ممثلًا في قلبه.»٢٩ ودراسة كتب النحو يَحصُل لدارسها «معرفة العربية بحيث يجمع بين طرفي الكتاب الذي يقرؤه، ويستكمل استشراحه ويكبُّ على الإعراب ويلازمه (…) ويكون على بصيرة من عبارته.»٣٠ أما خُطب البلغاء فتفيد في: «معرفة الوقائع بنظائرها، وتلقِّي الحوادث بما شاكلها.»٣١ فيما يساعد النظر في رسائل المتقدِّمين على: «تنقيح القريحة، وإرشاد الخاطر، وتسهيل الطُّرق والنَّسج على منوال المُجيد والاقتداء بطريقة المُحسِن واستجلاء ما أنتجته القرائح.»٣٢
هذه الأمور الكلية مُجتمِعة عند الحلبي: «لا بد للمترَشِّح لهذه الصناعة [التَّرسُّل] من التَّصدِّي للاطلاع عليها ليثقف من تلك المواد، وليسلك في الوصول إلى صناعته تلك الجواد، وإلا فليعلم أنه في وادٍ والكتابة في واد.»٣٣ ينتقل إثرها إلى ما يسميه «الأمور الخاصة» هي عنده من المكملات لهذا الفن: «فمن ذلك علم المعاني، البيان، البديع، والكتب المؤلَّفة في إعجاز الكتاب العزيز ككتب الجرجاني والسكاكي والخفاجي وابن الأثير.»٣٤ ورغم أن الحلبي يضعها في مرتبة ثانية من عدة المترسِّل، يستغني عنها كل صاحب ذهن ثاقب، مثلا، وطبع سليم، إلا أن العالم به، ومن سيتميز بالتمكن: «من أزِمَّة المعاني، يقول عن علم، ويتصرف عن معرفة وينتقد بحجة ويتخير بدليل ويستحسن ببرهان، ويصوغ الكلام بترتيب.»٣٥ وعموما، فمن يطلع على الرسالة أكملها سيجد أن العصر لم يتخفَّف من موجبات مرحلتي التأسيس والترسيخ، بل أكدها وزاد، دليل توطيد دعائم للكتابة.

طريق الإجادة والاجتهاد

ولنا أن نمضي بعد هذا إلى ما وضعه الأقدمون من شروط تختص بما على الكاتب نفسه أن يلتزم في كتابته، زيادة على ما دعوا إلى التَّوفُّر عليه من أسباب العلوم الفقهية والمعارف اللغوية والبيانية مما هو عدة لا غنى عنها، وهنا يختص الخطاب بالدرجة الأولى بخصائص أسلوبية محددة، لنقل بِنهْج يحسن اتباعه، يدل في النهاية على ما كان البلغاء قد توافقوا عليه لما يُعطِي للرسالة خاصة، والكتابة عامة وجاهتها ورونقها، ويصل بها إلى مبتغاها على أفضل وجه، وذاك ما أقرَّه ضياء الدين ابن الأثير (١١٦٢–١٢٣٩ﻫ)، وحدَّده في خمسة أركان لا غنى عنها،٣٦ هي التي نجملها في الآتي:
  • (١)

    توفُّر الجِدَّة والرشاقة لمطلع الكتاب، «فإن الكاتب مَن أجاد المطلع والمقطع (…) وهذا الركن يشترك فيه الكاتب والشاعر.»

  • (٢)

    انبثاق معنى الكتاب وتجاوبه مع المعنى الذي بني عليه، يدخل في باب الاشتقاف، من ضروب الصناعة المعنوية.

  • (٣)

    وجود رابطة في الانتقال بين معاني الكتاب، فتكون آخذة بعضها برقاب بعض، ولا تكون مقتضبة، مما يندرج في باب التخلص والاقتضاب.

  • (٤)
    تجنُّب ما اخلولق من ألفاظ، واستعمال سبك جديد غير مسبوق، وإن بدت الألفاظ مُستعمَلة، لا يعني أن تأتي غريبة: «فإن ذلك عيب فاحش، بل أريد أن تكون الألفاظ المستعمَلة مسبوكة سبكًا غريبًا، يظن السامع أنها غير ما في أيدي الناس، وهي مما في أيدي الناس.» ومع هذا الركن الأساس يَحْذَر ابن الأثير ما ينعته بإهمال جانب المعاني «بحيث يُؤْتى باللفظ الموصوف بصفات الحسن والملاحة، ولا يكون تحته ما من المعنى ما يماثله ويساويه.»٣٧
  • (٥)
    الحرص على تضمين معاني القرآن والحديث، باعتبارها معدن الفصاحة والبلاغة.٣٨
ورغم ترتيب هذا الركن خامسًا إلا أن ابن الأثير يضعه في مقام عماد الصناعة، يحيل إلى عُدَّة الكاتب الأولى، واللافت أنه يقرنها بتجربته الشخصية: «ولقد مارستُ الكتابة ممارسة كشفتْ لي عن أسرارها، وأظفرتني بكنوز جواهرها، إذ لم يظفر غيري بأحجارها، فما وجدت أعْوَنَ الأشياء عليها إلا حلَّ آيات القرآن الكريم، والأخبار النبوية، وحلَّ الأبيات الشعرية.»٣٩ فإن استكملت معرفة هذه الأركان الخمسة، يعلمك ابن الأثير: «وإذا أتيت بها في كلِّ كتاب بلاغي ذي شأن، فقد استحققتَ حينئذٍ فضيلةَ التقدم، ووجبَ لك أن تسمي نفسك كاتبًا.»٤٠ وهذا هو المعوَّل عليه. والحق أن ثمة ركنًا سادسًا يرى ابن الأثير في تحقُّقه لدى الكاتب، وانتسابه إليه ما يبوئه أعلى عِلِّيين في سجلهم، منشؤُه الاقتباس من الحلول الثلاثة، إنما يجدر أن تكون: «مبتدعة غريبة، لا شركة لأحد من المتقدِّمين فيها. وهذه الطريق هي طريق الاجتهاد، وصاحبها يُعدُّ إمامًا في فن الكتابة، كما يُعَد الشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، (رضي الله عنهم) وغيرهم من الأئمة المجتهدين في علم الفقه (…) ولا يستسهلها إلا مَن رزقه الله تعالى لسان هجَّامًا، وخاطرًا رقَّامًا.»٤١

آداب الكاتب

فإن نحن انتهينا الثلاثة المقترَحة، يتقَلَّب فيها بين الخطأ والصواب إلى أن يستقيم له طريق مُستقِل خاص به، من الأركان، وقَبلَها ما يتوجَّب على الكاتب تَعلُّمه ليعرف جيدًا حق صناعته، يقودنا مبحَثُنا إلى مطلب، قل مطالب معتمَدة عند القدماء، هي ما يسميه القاضي القرشي: «آداب لا بد للكاتب أن يجعلها دأبه، وأوتاد لا غنى له أن ينشد عليها أسبابه.»٤٢ وهي تتنوع بين الاعتقاد، والهندام، والسلوك، وكيفية أداء العمل، وغيره من خصال نفسية ومَسلكية مما له ارتباط وثيق بالمهنة، بحكم أن الكاتب مُجالِس لعِلْية القوم، ولمقاماتٍ تحتاج إلى طرز من التعامل. لعمري دليل سير، ومدونة سلوك منظمة ومنسقة وضعت لإرشاد وتلقين كُتَّاب الزمن العربي الماضي، على اختلاف مراتبهم، وتعدد اختصاصاتهم، نحتاج أن نذكِّر أن كثيرًا منهم عملوا في الدواوين، وبين يدي السلاطين والأمراء والوزراء والولاة؛ أي إنهم بلغة هذه الأيام شريحة وظيفية معتمَدة في الدولة، قريبة من الحاكم، وبالتالي مدعُوَّة لالتزام خط عمل، و«بروتوكول» منظَّم في الأداء والحديث والتنفيذ والسلوك، وُضِعت فيه عديد مُدوَّنات مشتهرة في موضوع الآداب السلطانية، ما صنَّفه القرشي من أبرزها، خاصة وكتابة الإنشاء اكتسبَت في زمانه أهمية كبيرة، وصارت ديوانًا مستقلًّا على عهد الدولة الأيوبية. وإذ نوَّه القرشي بها في مدخل كتابه واصفًا إياها بأنها: «هي الأصل، وصاحبها له في الأمور القطع والوصل، وكلامه الكلام الحر وخطابه الخطاب الفصل.»٤٣ وتكلم القلقشندي بتفصيل حول هذا التصنيف بصيغة التنويه، منه قوله: «وأهل التحقيق من علماء الأدب ما برحوا يُرجِّحون كتابة الإنشاء ويميزونها على سائر الكتابات (…) فهي مستلزمة بكل نوع من الكتابة، كما تستلزم زيادة العلم وغزارة الفضيلة وذكاء القريحة وجودة الرؤية (…) أما رفعة محل صاحب ديوان الإنشاء وشرف قدره … لا يكاد يكون عند الملك أخص منه ولا ألزم لمجالسته. ولم يَزَل صاحِب هذا الديوان معظَّمًا عند الملوك في كل زمن، مقدَّمًا لديهم على مَن عداه: يُلقون إليه أسرارهم ويُطلعونه على ما لم يَطَّلِع عليه أخص الأخصاء.»٤٤ … هكذا، إذن، حدَّد القرشي أقوى ما يقتضيه تأدُّب الكُتَّاب، نقتصر منها على ما يلي:

– اتخاذ التَّقوى دليلًا ونبراسًا.

– تقديم النُّصح لمخدومه.

– تجنُّب الرشوة لشدة ضررها.

– التزام الحذر في المخاطَبة وعدم التَّسرُّع، وحُسن الإصغاء في كل الأحوال.

– أن لا تصدر عنه حركات ولا أصوات ممجوجة في المجلس، من قبيل تخليل الأسنان والتنخُّم والتَّمطِّي والتثاؤب، وتجنُّب المزاح مع المخدوم.

– الحرص على النقل بأمانة، بلا تزيُّد في أي شيء.

– «ولا يتزَوَّق بالملبوس الغريب، ولا يتسوَّق بإظهار النعمة والطيب ولا يَكُن مع الزهادة والقذارة.»٤٥
– «ويتجنب المزاح مع صاحبه ولو جذبه إليه وبسطه، ولْيَتقاعد عن فُحش الكلام ولو استنهضه إليه ونشَّطه (…) ولا يأمن معه الخطأ في القول والزلل.»٤٦
– «وقد قيل: إن مَن خدم السلطان وجَب أن لا يخونه في الأهل ولا في المال، ولا ينوي له غِيلة في الملك ولا يشاركه أغراضه، ويكون عليه كالأحنى في المراقبة، وكالأخير في المصاحبة، ولا يحمله على قطع رحمه، ولا يعيب عليه شيئًا من أفعاله، ولا يُغيِّر عليه قلوب أجناده، ولا يفسد عليه قلوب رعيته، فإذا فعل ذلك استقام به الأمر واستقام له، وربح السلامة مع كل مَن عامله.»٤٧
هذا ولم يَفُت القرشي أن يُعدِّد في مغانم إصابة الكاتب مسائل أسلوبية موصولة بقيم خلقية مباشرة أو محسِّنة لبيانه، نجدها متفرِّقة في رسالته، منها على سبيل المثال دعوته له: «بأن تكون أواخر معانيه معطوفة على أوائلها، وليتجنَّب الألفاظ الموهمة التي يُخْشى من عواقبها وغوائلها، وليتحَرَّ الألفاظ فإنها تدخل على الخواطر وتهجم، ولا يُعجَب بنفسه فيغمض في العبارة ويعجم (…) وليحرص الكاتب إذا ازدحمت على خاطره لفظتان، إحداهما معروفة مستعملَة، والأخرى مجهولة مستثقَلة، أن يأخذ بالمعروف فإن للعُرف حُكمًا، ولْيترك المجهول فإن الجهل وعْر والواقع عليه أعمى.»٤٨ يعي القرشي جيدًا أنه يتحدَّث عن حِرفة تتطلَّب إتقان عَمَل؛ لذا يصف الكاتب بأنه: «صاحِب صناعة لا بد أن يكون صَناعًا في صناعته، ورَبُّ بضاعة لا غنى له أن يتعمَّل لتنفيق بضاعته.»٤٩
أجَل، نَقولها ونعيد، كما قالتِ العرب سابقًا، عن الكتابة بأنها أيُّ صناعة، ووصفَتْها قبل ذلك بالفضيلة، وزيادة على كل ما استقيناه هنا من كُتب التراث مما يبين أهميتها، ويُحفِّز المحترِفِين لها على طرق الإجادة فيها، من كل النواحي التبليغية والبيانية، ولتَسنُّم ذراها، هناك إشارات أخرى لا تَقِل أهمية عند المصنِّفِين القدامى، تتصل بأدوات العمل المباشرة التي يستخدمها الكاتب، على رأسها الدَّواة والقَلم والحبر بأنواعه، وفيها تفاصيل طريفة حقًّا، يُضاف إلى ذلك التوكيد على العناية بالخط، وهو في حد ذاته مبحَث أجاد فيه العرب، ولهم فيه رسائل دقيقة، تدلُّ على خبرة وعناية، نُثبت منها على سبيل المثال «رسالة في علم الكتابة» لأبي حيان التوحيدي٥٠ يفصل القول فيه عن الخط وأقسامه وأنواعه وفنونه، وعن الأقلام وأنواعها، واستشهادات من دُرر ما ذُكِر في هذا المقام أقوالًا وتنويهات لطيفة، منها ما جاء على لسان علي بن عبيدة: «القَلم أصم، ولكنه يَسمع النَّجْوى، وأبْكَم ولكنه يُفصِح عن الفَحوى، وهو أعيَا مِن باقِل، ولكنه أفصحُ وأبلغ من سَحبان وائل، ويُترجم عن الشاهد، ويُخبر عن الغائب.»٥١ وقول إسماعيل الثقفي: «عقول الرجال تحت أسنان أقلامها.» وخاصة ما ذكره عن الحسن بن وهب: «يحتاج الكاتب إلى خلال، منها: تجويد بَرْي القلم، وإطالة جُلفته، وتحريف قَطَّته، وحُسن التأني لامتطاء الأنامل، وإرسال المدة بقدر إشباع الحروف، والتحرُّز عند إفراغها من التطليس، وترك الشَّكل على الخطأ، والإعجام على التصحيف، وتسوية الرسم، والعلم بالفصل، وإصابة المقطع.»٥٢ ولا يفوتنا وقد جِئنا على ذكر التوحيدي التنويه بالإشارات الدالة، والنظرات الثاقبة التي حفل بها مُصنَّفه العظيم «الإمتاع والمؤانسة» في مسائل اللغة والبلاغة وما يتوجَّب على كل مَن دخل حرفة الرواية والدواوين ومُعاشَرة أصحابها التوفُّر عليه من زاد، والتحَلِّي به من خصال، يكشف عن ذلك بطريقته الفريدة في المعارَضة بين الفنون والعلوم، الإنشاء والبلاغة، ثم الإنشاء والحساب، وخاصة فيما يمكن أن يُعَد مرافعة حقيقية بلغة القانون يواجه فيها المنظوم والمنثور، مُعدِّدًا، واصفًا مراتبهما في شرح مفصَّل يحسن فيه العودة إلى مضانه٥٣ ولأن لها أشباهًا فيما أسلفْنَا، فلا حاجة للتكرار. على أنه ليقوِّي حجته فقد اتخذ الشروط المملاة منهجًا لعمله، هي نفسها وأكثر الصورة التي كان التوحيدي يرسمها لنفسه ويضع حدودًا صارمة عليه وهو يتهيَّأ لصياغة كتابه المذكور فيطلب: «أن يكون الحديث على تباعُد أطرافه، واختلاف فنونه مشروحًا، والإسناد عاليًا متصلًا، والمتن تامًّا بيِّنًا، واللفظ خفيفًا لطيفًا، والتصريح غالبًا مُتصدرًا، والتعريض قليلًا يسيرًا، وتوخَّ الحق في تضاعيفه وأثنائه، والصدق في إيضاحه وإثباته، واعمد إلى الحَسن فزِد في حُسنه، وإلى القبيح فانقُص من قبحه، واقصد إمتاعي بجمعه نظمه ونثره، وإفادتي من أوله إلى آخره (…) ولا تُفصِح عما تكون الكناية عنه أستر للعيب، وأَنْفى للرِّيبة، فإن الكلام صَلف تَيَّاه لا يستجيب لكل لسان (…) واللسان كثير الطغيان، وهو مركَّب من اللفظ اللغوي، والصوغ الطباعي، والتأليف الصناعي، والاستعمال الاصطلاحي (…) ولا تعشق اللفظ دون المعنى ولا تهوَ المعنى دون اللفظ.»٥٤

استخلاصات عامة

بإمكاننا بعد هذا العرض القيام بالاستخلاصات العامة التالية:

(١) إن الكتابة المعنية من لدن الكُتاب الذين درسوا هذا الموضوع وأرْسَوا له قواعد وأقرُّوا شروطًا تتطلب معرفة كلية في مجموع ما يدخل في شغلهم، وتنهض عليه صنعتهم؛ إنهم يحتاجون إلى:

  • (أ)

    معرفة علوم الدين، المشتمِلة على القرآن، وشروحه، والحديث النبوي، وما يدخل في الثقافة الدينية بلا استثناء، وهو الشرط الأول عندهم جميعًا، تليه بعد ذلك باقي الشروط.

  • (ب)

    معرفة اللغة نحوًا وصرفًا، ودرايةً بالروايات والتفاسير القاموسية، وإدراكًا للفروق.

  • (جـ)

    باعٌ طويل في البلاغة والفصاحة مما يُحسِّن أساليبهم وُيبلغ على أفضل وجه رسائلهم.

  • (د)

    اطلاعٌ على الثقافة العربية القديمة متمثلةً في السِّيَر والأمثال وأيام العرب وقَصصهم.

    هذه مجتمِعة يحتاج إليها بالدرجة الأولى مَن يُعرَف ﺑ «كاتب اللفظ»، بينما على أصناف الكُتاب الآخرين، كما صنَّفهم وعَدَّ مراتبهم ابن مُقلة، أن يزيدوا على هذا معرفة بما يختص بمهامهم، كشئون الحكم والتدبير والعقد أو الحساب. أضف خصالًا طبعية وخلقية وسلوكية، مهذبة ومنتقاة.

(٢) تخضع هذه الكتابة بكل موادها وشروطها وخصائصها من ناحية أدائها وتنضوي في مقتضَيات فَن التَّرسُّل أو ما اعتبره الدارسون القدامى، أيضًا، صناعة التَّرسُّل، ما يعني اقتضاءَ البراعة وتوخِّي الغرض، باستحقاق أدوات البيان والبلاغة والفصاحة.

(٣) لا تقتصر مقتضيات فن التَّرسُّل على كتابة الرسائل ولا كتابها، بل هي عامَّة وممتدَّة إلى المنثور أو النثر الفني أجمعِه، في الأغراض الأدبية التي انصرف إليها، وحيث تجتمع جماليات النثر الفني العربي عند كبار أعلامه؛ أمثال: عبد الحميد الكاتب، وعبد الله ابن المقفع، والجاحظ، وسهل بن هارون، وأبي حيان التوحيدي، وابن العميد، وابن قُتيبة، والهمذاني، والصولي، وابن عبد ربه، وسواهم.

(٤) إن لَقب كاتب يُستحَق، وصاحبُه كما هو عند عبد الحميد الكاتب يكون «قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه، وإن لم يحكمه أخذَ منه بمقدار ما يكتفي به (…) فيُعِدُّ لكل أمر عُدَّته وعتاده ويُهيِّئ لكل وجه هيئته وعاداته.»٥٥ والحق أفضل ما يمكن أن يقدم صورة مثلى بشروطها الصارمة والمحْكمة كما أقرَّها المصنفون القدامى، هي التي رسم ملامحها التوحيدي، مرة أخرى، على وجه الإحاطة، يقول «(…) ففي جميع الأحوال لا يكون الكاتب كاملًا ولا اسمه مستحَقًّا، إلا بعد أن ينهض بهذه الأثقال [أعباء الكتابة المختلفة] ويجمع إليها أصولًا من الفقه مخلوطة بفروعها، وآيات من القرآن مضمومة إلى سعته فيها، وأخبارًا كثيرة في فنون شتَّى لتكون عدة عند الحاجة إليها، مع الأمثال السافرة، والأبيات النادرة، والفِقَر البديعة، والتجارب المعهودة، والمجالس المشهودة، مع خط كثير مسبوك، ولفظ كوَشْي محوك؛ ولهذا عَزَّ الكاملُ في هذه الصناعة، حتى قال أصحابنا: ما نظن أنه اجتمع هذا كله لجعفر بن يحيى، فإن كتابته سوداوية، وبلاغته سَحبانية، وسياسته يونانية، وآدابه عربية، وشمائله عراقية.»٥٦

(٥) وأخيرًا، فإنَّ لَقب كاتب، وما أقرَّه من وضع، واستقر عليه في سياق الثقافة العربية الكلاسيكية، مختلفٌ تمامًا، ومتباعدٌ من نَواحٍ عدة مع ما آل إليه في الزمن الحديث واكتسبه من صفات نقلته إلى إطار مختلف من ناحية الوظيفة والتأهيل وأهداف أو مرامي القول. ما يحتاج إلى توصيف خاصٍّ، نستنتج منه وضعًا ومعايير مختلفة أوْجَبَها تَبدُّل الشروط الثقافية والاقتصادية، ونجم عنها بروز فئات من أهل القلم ممن احتيج إليهم في مهارات مستجدَّة، كالصحافة مثلًا، وهي مهنة أوجدَتها الطباعة، والحاجة إلى ترويج الأفكار والبرامج السياسية والبضائع من كل نوع، وغيرهم الذين شحذوا القلم في أنواع كتابية طارئة كالمقالة بأنواعها، والقصة القصيرة والخاطرة، فضلًا عن الافتتاحيات والسجالات. ومن المؤكَّد أن الوضع المتميِّز للكاتب في العصر الحديث هو الذي يظهره في صفة المعالج للفنون الأدبية، والرواية في مقدمها، ويتفاوت ذلك من بلد إلى بلد، وبيئة ثقافية إلى أخرى، إنما المهم أنه يرسم خريطة جديدة للكتابة والكُتَّاب، نريد نحن أن نقف على بعض وجوهها وسماتها في العالم العربي.

١  انظر: شبيل، عبد العزيز، نظرية الأجناس الأدبية في التراث النثري؛ جدلية الحضور والغياب، تونس، دار محمد علي المحامي، ٢٠٠١م، ص ص٢٠٤-٢٠٥.
٢  إسماعيل، عز الدين، المُكوِّنات الأولى للثقافة العربية، دار الشئون الثقافية العامة، ١٩٨٦م، بغداد، ص١١٢، ط٢.
٣  شبيل، عبد العزيز، مصدر سابق، ص٢٢٩.
٤  البطليوسي، ابن السيد، الاقتضاب في شرح أدب الكُتَّاب، دار الجيل، بيروت، دار الجيل، ١٩٨٢م، ص٦٦.
٥  المصدر السابق، ص٦٧.
٦  مواد البيان، تحقيق د. حسين عبد اللطيف، منشورات جامعة الفاتح، طرابلس، ١٩٨٢م، ص٧٠.
٧  المصدر السابق، نفسه.
٨  الاقتضاب، المصدر السابق، ص٧٠.
٩  المصدر السابق، ص ص٧٠-٧١.
١٠  الكاتب، عبد الحميد، الرسايل والكتابة، المطبعة الرسمية التونسية، تونس، ١٣١٨ﻫ؛ وأوردها القلقشندي كاملة في صبح الأعشى في صناعة الإنشا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٨٥م كاملة، ج١، ص ص٨٥–٨٩.
١١  المصدر السابق، ص٣.
١٢  المصدر نفسه، ص٤.
١٣  نفسه.
١٤  نفسه، ص٨-٩.
١٥  البطليوسي، مصدر سابق، ص٨٢.
١٦  نفسه، ص٦٩.
١٧  ابن المُدبِّر، إبراهيم، الرسالة العذراء، تحقيق الدكتور زكي مبارك، مطبعة الكتب المصرية، القاهرة، ١٩٣١م.
١٨  المصدر السابق، ص٥.
١٩  نفسه، ص٧.
٢٠  ن، ص١٧.
٢١  ن، ص١٧.
٢٢  المصدر السابق، ص١٨.
٢٣  نفسه، ص٣٠.
٢٤  نفسه، ص٣٧.
٢٥  ن، ص٣٠.
٢٦  ن، ص٣٠.
٢٧  الحلبي، شهاب الدين، حُسن التَّوسُّل في صناعة التَّرسُّل، تحقيق ودراسة أكرم عثمان يوسف، دار الرشيد، (سلسلة كتب التراث)، ١٩٨٠م، ص٨٩.
٢٨  المصدر السابق، ص٨٩.
٢٩  نفسه، ص٧٣.
٣٠  نفسه، ص٨٠.
٣١  ن، ص٨١.
٣٢  ن، ص٩٣.
٣٣  ن، ص١٠٠.
٣٤  ن.
٣٥  ن.
٣٦  ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ١٩٩٠م.
٣٧  المصدر السابق، ص١٥٣.
٣٨  نفسه، ص١٥٤.
٣٩  ن، ص١٦٠.
٤٠  ن، ص١٥٥.
٤١  ن، ص١٥٩.
٤٢  القرشي، عبدالرحيم بن علي بن شيت، كتاب معالم الكتابة ومغانم الإصابة، حقَّقه محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٩٨٨م.
٤٣  المصدر السابق، ص٢٧.
٤٤  القلقشندي، مصدر سابق، ص٨٨.
٤٥  القرشي، مصدر سابق، ص٢٧.
٤٦  نفسه، ص٣١.
٤٧  ن، ص٤٣.
٤٨  ن، ص٣٣.
٤٩  ن، ص٣٧.
٥٠  التوحيدي، أبو حيان، رسالة في علم الكتابة، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ٢٠٠٠م.
٥١  المصدر السابق، ص١٧.
٥٢  نفسه، ص٢٢.
٥٣  التوحيدي، أبو حيان، كتاب الإمتاع والمؤانسة، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، د. ت.
٥٤  المصدر السابق، ص١٠٩.
٥٥  نفسه.
٥٦  وانظر أيضًا: ن. ص١٠٠، وص١٣٠؛ وللتوسع انظر كتاب الصناعتين الشعر والنثر، لأبي هلال العسكري، دار الكتب العلمية، بيروت، تحقيق مفيد قميحة، ١٩٨٤م، (خاصة الفصل الأول بعنوان: «في تمييز الكلام» ص٦٩–٨٣ والفصل الثاني من الباب الثاني: «في التنبيه على خطأ المعاني وصوابها»).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤