وضعية الكاتب والكتابة عند العرب
مقام الشِّعر ووضْع النثر
لا يجادل أحد في أن العرب أمة الكلمة بامتياز، واللغة العربية مجال فسيح للتعبير والإنشاء والبيان، الفصاحة والبلاغة من مُقوِّماتها الأساس، وعقيدة الإسلام التي انبثقت في قلب هذه الأمة، والقرآن وحْيُها وكِتاب هديها، اتَّخذَه نبيها محمد ﷺ أمضى أسلحة نشْر الدعوة وتحدي خصومها (الآية: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)، فهو، إذن، كتابٌ معجز بالدرجة الأولى بقوة لفظه وبديع بيانه، وما حمل القرآن هذا التحدي إلا لأنه نزل في أمة ذات سِجلٍّ لغوي وتعبيري حافِل وغني، قوي البناء، تتنافس آيات الدلالة على متانته وغزارته، أقوى الأدلة الشعر الجاهلي، واسطة عقده المُعلَّقات السبع أو العشر ليست إلا واحدة منها. وقد حض القرآن بصيغة الأمر على القراءة تحفيزًا للتعلم من الخالق الذي عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وضمنِيًّا على الكتابة، فهي بطبيعة الحال مقترنة بالقراءة وحافظة لها.
من الواضح أنَّنا نتحدَّث عن مضمار خصوصي، غير ذاك الذي تظهر فيه الكتابة بوصفها حقلًا للتعبير الفني والشعوري، كما تتجلَّى في الفنون الأدبية النثرية الحديثة، وتندرج تحديدًا في إطار مفهوم الأدب بِصيغه القولية والجمالية المحدَّدة. ولذلك من المناسب تجنُّب إقامة مقابَلات بين نموذجين يَنجُم عنهما وضعان متمايزان كل واحد باشتراطاته وخصائصه، ولا بُدَّ من البداية الانتباه إلى السياقات الملائمة حيث تبلورَ كل نموذج على حدة، وفي ضوئها ينبغي أن يُقرأ وتَتحدَّد عناصره التكوينية وسِماته الخارجية، تجنبًا للخلط، من جهة، وبُغية الذهاب في الاتجاه السديد الذي يقود إلى صُنع موضوع نريد أن ننظر فيه إلى الكتابة من حيث هي تعبير إبداعي بالدرجة الأولى، اتصل بالغَرَض أم تنزَّه عنه، من جهة أخرى.
لكن، وعلى الرغم من التبايُن الأصلي بين هذين النموذجين، واختلاف مَقصدِيَّتهما، يبقى من المهم الانتباه مسبقًا، وقبل الشروع في التوصيف، والخوض في التحليل، إلى أن هناك جذرًا مشتركًا بينهما، بل عديد عناصر تواصل وتشابك خاصة في المقتضيات اللغوية والأسلوبية والبلاغية، إذ نجد في المستويين القولِيَّين كليهما حرصًا على مراعاة شروط بعينها، والتمكُّن من الأدوات، والبراعة في الاستخدام، وكل ما من شأنه تزيين الكتابة وإبرازها في أحسن حُلة وأقدر على الإبلاغ والإقناع. وهو غير ما نعلمه اليوم من تفاوُت كبير في الصياغة عندما نتحدَّث عن الرسائل الإدارية أو الديوانية، والبلاغات الصادرة عن المكاتب الحكومية، بل والمَقالات الصحفية نفسها، وبين ما نُدخله في خانة النثر الفني بأجناسه المتعددة.
إن انشغالنا بالبحث عن جذور وإمكانية وجود وضع ممكن للكاتب، أو مَن يقوم مقامه، سواء في الوظيفة، أو في المؤهلات، لَيستدعي منا القيام بحفور أوَّلي في تربة الأدب والثقافة العربيتين، لا سعيًا لخلق أي مماثلة مع نموذج افتراضي، وإنما للبحث عن الهيئات التي اتخذها القائمون بهذا القول، المكلفون بالإبلاغ على نحو مُعيَّن، تلاءَم مع فترات تاريخية وثقافية مخصوصة، وانسجَم مع شروطها، فاتَّخَذ في كل حالة لبوسًا، مستمدًّا أصلًا من الصِّيغ البلاغية واللغوية التي يجيء عليها القول، وحسب المرامي المُتوخَّاة منه، تتطابق تارة مع الشريعة، وتتضمَّنها وهي تتعدَّى النقل إلى العقل، تارة أخرى.
لقد بات أمرًا محسومًا بأن النتاج الكتابي عند العرب ينصرف إلى ضربين كبيرين من القول: الشعر والنثر، أو حسب استعمال القدماء: المنظوم والمنثور، ينضوي تحت هذين الجنسين أنواع وأصناف من القول، تتعدَّد أغراضًا وأشكالًا وسِجلات وعمومًا مدوناتٍ قولية. وقد غلب الشعر، كما هو معلوم، على غيره، ولم يُضاهِ أحدٌ من مُنتجِي الكلام الشاعرَ في جميع العصور لالتصاقه بالطبيعة الغالبة على النفوس، وتَسلُّمه زمام المنافَحة عن القبيلة والفخر بشِيَمها، ولتصويره بيئتها بجماع تكوينها، المادي والوجداني، منتقلًا في مرحلة لاحقة إلى ما سماه الدارسون بالتكسُّب بشِعْره، بينما هو يقوم بخدمة المديح التي احتاج إليها الحُكم الوليد، وهو يُشيِّد القصور، ويُرسي دعائم سُلطة ومؤسَّسات، تَحفل من بين ما تَحفل به مجالس العلم والمناظَرة، للشعراء فيها وخلالها حضور بهيٌّ، يُبجِّلون المزايا قبل أن يَلتمسوا العطايا، يَمضُون بعدها إلى حال سبيلهم، إما يفخرون، أو يَندُبون حظَّهم وهم يشجنون، مثل أبي الطيب المتنبي، أو يَلهُون بالرِّقة والجمال مُستفِزِّين محيطهم كأبي نواس، أو يُقيمون صروح الاستعارة بأدق تواشي المحسنات البديعية صنيع أبي تمام، إن لم يزهدوا في الدنيا على غِرار أبي العتاهية، حينا تفلسف بحكمة وموعظة الأيام حسْب المعَرِّي والمتصوفة، أما الذين برَّح بهم الحب فأعْطُوا أرقَّ الغزَل وأشجاه فحدِّثْ ولا حرَج. بين هذه الشواغل والاستجابات، لا يكاد الشاعر رغم المكانة المزعومة له في سِجِل القول العربي يتوفَّر إلا على مَقام محدود، أو شبه مَقام، ما دام موقعه المركزي هو ذاته بالدرجة الأولى، لا يعدلها أحد ولا شيء. فالقبيلة تَزهو بشاعرها؛ لأنه من عصبيتها، ولن يتنكر لها أو يُشرَّد في البلاد فاقدًا أي حماية وسند، أما السلطان والوزير والوالي فإن أمَّن الشاعرَ فإلى حين، يجده مهدِّدًا، متقوِّلًا عليه إن لم يُجزِل في العطاء، ويطلب المزيد، وإن غَضِب ويلٌ من لسانه، ثم إنه وحده سُلطة تُنازع.
هكذا يَصعُب تحديد موقع مستقر للشاعر، فلا يبقى إلا تتبُّع سِير الشعراء الذين إن وُجدوا في الحاشية فهُم ليسوا موظَّفِين ولا من أعمدة الدولة، يُعوَّل على ألسنتهم وأقلامهم لتصريف شئونها، وبالطبع فإن أشعارهم هنا، وعَبْر الأزمنة لتبيان مسار الشعر وحصر خواصه كافة.
على العكس من هذا فإن الكاتب وإنتاجه يندرجان في سياق يسمح بالحديث عن وضع يساعدنا على مُقاربة ما عرفه سواء من وجود أوَّلِي، أو ما تطوَّر إليه في صيرورة لم تنقطع. فالضرورات السياسية والإدارية هي التي أهَّلت بالدرجة الأولى إمكانية تَبلوُر موقع أشبه بالمِهنِي لم يكن يُعَد عند العرب قبل بداية تأسيس دولة العقيدة المحمدية، من نشأتها إلى تَفكُّكها، سوى مَرويات لأيام العرب، وسيرٍ وأمثال، وأخبار، وحكايات، وأسجاع كُهَّان، وما إلى ذلك؛ أي في جملتها تُسْلَك في باب المنثور. على أنه ليس المَنثور الذي تكفَّل بوضعه وترتيبه كُتابٌ متخصصون أو أناسٌ اتَّخذوا مِن نقْل هذه المواد حِرفة، بل نحن هنا إزاء آثار بِنت الشَّفوية بالدرجة الأولى، جاء جمعُها وتبويبُها وعمومًا تدوينُها في وقت متزامِن مع انصراف العرب إلى جمْع لُغتِهم عَبْر لهجاتهم في البوادي بين القبائل، ومن ثَمَّ إلى نَخْلها، وتصنيف ما سيجتمع بعد ذلك في قواميس ورسائل مخصوصة بأغراض أو مواضيع كالإبل والخيل، وغيره. وهو عمل لغوي بَحْت وفَّر بكل تأكيد حصيلة قاموسية هامة لكل مُقبِل على إتقان العربية والنبوغ فيها، غير أنه لم يكن مُقيَّدًا بالضرورة بما سُقناه عن الحرفة اللهم إلا من ناحية التحصيل الجامع لها، والإجادة بعد ذلك في أبواب شَتَّى، سنقف عليه بتفصيل لاحقًا.
من هنا ندرك أن الخوض في موضوعنا، سواء من حيث الدراية بفن الكتابة وأبوابها، أو التعرف على القائمين على إنشائها، المُقيَّدين في سِلكها، يُعَد جُزءًا من مشروع أوسع، وأغنى معرفة، يختص بتحديد الأجناس الأدبية في الثقافة العربية، على النحو الذي ظهرَت عليه أو كانت في الماضي، هي غير ما نعلمُه بتاتًا في الزمن الحديث، واختَصَّت به الدراسات النَّقدية الحديثة والمُعاصِرة. وهو افتراض نظير بحثنا عن وضع للكاتب، أو ما سيئُول إليه في الزمن الذي تحوَّل فيه إلى مُنشئ أدبي أو أديب مستقل، متفرِّغ أو غير متفرِّغ لعمله، حسب بيئته وظروف عمله. إن من شأن فَرْز الخيوط الرفيعة لشبكة هذه الأجناس، الأنواع حينًا آخر، ومحاولة اكتشاف طرائق وعوامل انبنائها وفْق تَصوُّرات زَمنها وما ارتأته البيئة الثقافية المُحايثة، لهو أحد أدوات الفحص الهامة لتقريبنا من الصورة التي نبحث عنها، ونحن نعني بالدرجة الأولى جنس النثر العام أو المنثور، يختص به الكُتَّاب، لا الشعراء، ومِن شأنه أن يقودنا مباشرة إلى أَهْلِه لمساءلة مكانتهم، وظروف عملهم، وأسرار صَنْعتهم. وإذا ما مَثَّلت أسرار الصَّنعة هذه جزءًا من التحديد الأجناسي – النوعي للأدب، فهي في الوقت نفسه مضمار هامٌّ لتبيان ما يُطلَب من المتعلم، المرء، كي يصبح أهلًا للحرفة، وتَسلس له قيادها. نعتبر أن هذا هو الأقرب إلى شاغلنا، الأجدر بالتخصيص، أكثر من المسألة الأجناسية بكثير. وذاك هو المُعوَّل عليه عندنا، وإليه ننصرف.
عُدَّةُ الكاتب (كاتب الرسائل)
إذا كان فن التَّرسُّل قد تحول إلى نوع مميز داخل الجنس العام للمنثور، والنثر الفني بوجه أصحَّ، واقتضى التزام قواعد أسلوبية، واستعمال صيغ بلاغية، تنقل الكلام من صعيد النثر العادي، والبليغ نفسه، كما ذكَرْنا، إلى مقام يُستدَلُّ فيه بكل ما تحوزه العربية من قدرات التأثير والجمال والإقناع، فإن مُنشِئه، بالطبع، مُلزَم بأكثر، عليه أن يَحوز قُدرات بدونها لن ينجح في الانتماء إلى سِلك كُتَّاب الدواوين، ولا أن ينتزع له مكانًا بين مقام البلغاء، لا يستقيم أي واحد منهما دون إدراك الثاني، وهو تلازُمٌ سنلحظه عند كل الذين أجادوا في هذا المضمار، وعُدُّوا فيه مجيدين، وإليهم الاحتكام في معرفة قواعد الصنعة؛ فهُم واضعوها.
لِنسجِّل أن هنالك أصنافًا من الكُتَّاب، هم خمسة على ما ذكره ابن مقلة:
– «علم اللسان حتى يعلم «الكاتب» الإعراب ويَسلَم من اللحن ويعرف المقصور والممدود والموصول والمذكر والمؤنث.»
– ويكون له بصرٌ بالهجاء فإنَّ الخطأ في الهجاء كالخطأ في الكلام.
– عليه أن لا يمعن في معرفة النحو شأنَ النحاة، ولا في الفقه كالفقهاء: «إنما عليه أن يعلم من ذلك ما لا تَسعه جهالته ثم يُكثِر بعد ذلك من معرفة ما يخص صناعته.»
هذه الأصناف سُمِّيت بالمراتب، أيضًا، إليها تنقسم صناعة الكُتَّاب، وعُدَّت خمس عشرة مرتبة، وهي:
وإذ يذهب البطليوسي إلى تفصيل القول في أصناف الكُتَّاب المذكورين، نجده يُولِي العناية إلى ما يختص به موضوعنا، الملزم بأكبر شروط التقيُّد بين أصناف كُتاب الدواوين هو الموصوف ﺑ «كاتِب اللفظ»، وهو المترسِّل، المشتغل بكتابة الرسائل السلطانية بتعدُّد أغراضها، فإنه يحتاج إلى شروط ولوازم منها على وجه الخصوص:
وقد اجتاز هذه العتبة الأخلاقية، ذات المسحة الدينية ينتقل عبد الحميد الكاتب إلى تِعداد ضوابط الحِرفة، ما لا يرى بُدًّا من أن يَتوفَّر عليه معشر الكُتَّاب من مؤهلات؛ إذ الواحد منهم يحتاج عنده إلى أن يكون:
– «قد نظر في كل فَن من فنون العلم فأحكمَه، وإن لم يُحكِمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به (…) فيُعِد لكل أمر عُدَّته وعتاده، ويهيِّئ لكل وَجه هيئته وعاداته.»
– وعليه التَّسابق نحو معارف محددة: «فتنافَسوا يا معشر الكُتَّاب في صنوف الآداب، وتَفقَّهوا في الدِّين، وابدءُوا بعلم كتاب الله عز وجل، والفرائض.»
– «ثم العربية فإنها ثِقاف ألسنتكم.»
– «ثم أَجيدوا الخط فإنه حِليَة كتبكم.»
– «وارْوُوا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها.»
– «ارغبوا بأنفسكم عن المَطامع سَنيِّها ودَنِيِّها؛ فإنها مُذلة للرقاب مُفسدة للكُتَّاب.»
– «ونزِّهوا صناعتكم عن الدناءة، واربئوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات.»
كيف يمهَرُ الكاتب
-
(١)
«اعلم أن الاكتساب [يتم] بالتعلم والتكلف، وطول الاختلاف إلى العلماء، ومدارسة كتب الحكماء.»
-
(٢)
«فإن أردت خوض بحار البلاغة، وطلبت أدوات الفصاحة، فتصفَّح من رسائل المتقدِّمين ما تعتمد عليه، ومن رسائل المتأخِّرين ما ترجع إليه في تلقيح ذهنك، واستنتاج بلاغتك، ومن نوادر كلام الناس ما تستعين به، ومن الأشعار والأخبار، والسِّيَر والأسمار، ما يشعُّ به منطقك، ويعْذُب به لسانُك، ويطول به قلمُك.»
-
(٣)
«وانظر في كُتب المَقامات والخُطب، ومحاوَرات العرب، ومعاني العَجم، وحدود المنطق، وأمثال الفُرس ورسائلهم (…) بعد أن تتوسط في علم النحو والتصريف واللغة والوثائق والشروط ككتب السِّجلات والأمانات، فإنه أول ما يحتاج إليه الكاتب.»
-
(٤)
«وتمهر في نزع آي القرآن الكريم في مواضعها، واجتلاب الأمثال في أماكنها، مع الألفاظ الجزلة، وقرض الشعر الجيد، وعلم العروض.»١٩
-
(٥)
«(…) ضع كل معنًى في موضع يليق به، وتخيَّر لكل لفظة معنًى يشاكلها.»٢٠
-
(٦)
«فإنما يكون كاتبًا إذا وَضَعَ كل معنًى في موضعه، وعلق كل لفظة على طبقها في المعنى، فلا يجعل أولَ ما ينبغي له أن يكتب في آخرِ كتابه ولا آخرَه في أوَّلِه.»٢١
-
(٧)
«لا يكون الكاتب حتى لا يستطيع أحد أن يؤخر أول كتابه ولا يقدم آخره.»
«وكذلك ينبغي للكاتب أن يَتجنَّب اللفظ المشتَرك، والمعنى الملتبس.»٢٢ -
(٨)
«وأدِرِ الألفاظ في أماكنها، واعْرِضها على معانيها، وقلِّبها على جميع وجوهها، حتى تقع موقَعها، ولا تجعلها قلقةً نافرة (…) واعلم أن الألفاظ في [غير] أماكنها كترقيع الثوب الذي إذا لم تتشابه رِقاعُه تغير حسنُه.»٢٣
-
(٩)
«وكلما احْلَولى الكلام وعذُبَ ورَقَّ وسَهُلت مخارجُه، كان أسهلَ ولوجًا في السماع، وأشدَّ اتصالًا بالقلوب، وأخفَّ على الأفواه، ولا سِيَّما إذا كان المعنى البديع مترجمًا بلفظ مونق شريف، ومُعبِّرًا بكلام مُؤلَّف رشيق، لم يشِنه التكلف بميسَمه، ولم يُفسده التعقد باستهلاكه.»٢٤
طريق الإجادة والاجتهاد
-
(١)
توفُّر الجِدَّة والرشاقة لمطلع الكتاب، «فإن الكاتب مَن أجاد المطلع والمقطع (…) وهذا الركن يشترك فيه الكاتب والشاعر.»
-
(٢)
انبثاق معنى الكتاب وتجاوبه مع المعنى الذي بني عليه، يدخل في باب الاشتقاف، من ضروب الصناعة المعنوية.
-
(٣)
وجود رابطة في الانتقال بين معاني الكتاب، فتكون آخذة بعضها برقاب بعض، ولا تكون مقتضبة، مما يندرج في باب التخلص والاقتضاب.
-
(٤)
تجنُّب ما اخلولق من ألفاظ، واستعمال سبك جديد غير مسبوق، وإن بدت الألفاظ مُستعمَلة، لا يعني أن تأتي غريبة: «فإن ذلك عيب فاحش، بل أريد أن تكون الألفاظ المستعمَلة مسبوكة سبكًا غريبًا، يظن السامع أنها غير ما في أيدي الناس، وهي مما في أيدي الناس.» ومع هذا الركن الأساس يَحْذَر ابن الأثير ما ينعته بإهمال جانب المعاني «بحيث يُؤْتى باللفظ الموصوف بصفات الحسن والملاحة، ولا يكون تحته ما من المعنى ما يماثله ويساويه.»٣٧
-
(٥)
الحرص على تضمين معاني القرآن والحديث، باعتبارها معدن الفصاحة والبلاغة.٣٨
آداب الكاتب
– اتخاذ التَّقوى دليلًا ونبراسًا.
– تقديم النُّصح لمخدومه.
– تجنُّب الرشوة لشدة ضررها.
– التزام الحذر في المخاطَبة وعدم التَّسرُّع، وحُسن الإصغاء في كل الأحوال.
– أن لا تصدر عنه حركات ولا أصوات ممجوجة في المجلس، من قبيل تخليل الأسنان والتنخُّم والتَّمطِّي والتثاؤب، وتجنُّب المزاح مع المخدوم.
– الحرص على النقل بأمانة، بلا تزيُّد في أي شيء.
استخلاصات عامة
بإمكاننا بعد هذا العرض القيام بالاستخلاصات العامة التالية:
(١) إن الكتابة المعنية من لدن الكُتاب الذين درسوا هذا الموضوع وأرْسَوا له قواعد وأقرُّوا شروطًا تتطلب معرفة كلية في مجموع ما يدخل في شغلهم، وتنهض عليه صنعتهم؛ إنهم يحتاجون إلى:
-
(أ)
معرفة علوم الدين، المشتمِلة على القرآن، وشروحه، والحديث النبوي، وما يدخل في الثقافة الدينية بلا استثناء، وهو الشرط الأول عندهم جميعًا، تليه بعد ذلك باقي الشروط.
-
(ب)
معرفة اللغة نحوًا وصرفًا، ودرايةً بالروايات والتفاسير القاموسية، وإدراكًا للفروق.
-
(جـ)
باعٌ طويل في البلاغة والفصاحة مما يُحسِّن أساليبهم وُيبلغ على أفضل وجه رسائلهم.
-
(د)
اطلاعٌ على الثقافة العربية القديمة متمثلةً في السِّيَر والأمثال وأيام العرب وقَصصهم.
هذه مجتمِعة يحتاج إليها بالدرجة الأولى مَن يُعرَف ﺑ «كاتب اللفظ»، بينما على أصناف الكُتاب الآخرين، كما صنَّفهم وعَدَّ مراتبهم ابن مُقلة، أن يزيدوا على هذا معرفة بما يختص بمهامهم، كشئون الحكم والتدبير والعقد أو الحساب. أضف خصالًا طبعية وخلقية وسلوكية، مهذبة ومنتقاة.
(٢) تخضع هذه الكتابة بكل موادها وشروطها وخصائصها من ناحية أدائها وتنضوي في مقتضَيات فَن التَّرسُّل أو ما اعتبره الدارسون القدامى، أيضًا، صناعة التَّرسُّل، ما يعني اقتضاءَ البراعة وتوخِّي الغرض، باستحقاق أدوات البيان والبلاغة والفصاحة.
(٣) لا تقتصر مقتضيات فن التَّرسُّل على كتابة الرسائل ولا كتابها، بل هي عامَّة وممتدَّة إلى المنثور أو النثر الفني أجمعِه، في الأغراض الأدبية التي انصرف إليها، وحيث تجتمع جماليات النثر الفني العربي عند كبار أعلامه؛ أمثال: عبد الحميد الكاتب، وعبد الله ابن المقفع، والجاحظ، وسهل بن هارون، وأبي حيان التوحيدي، وابن العميد، وابن قُتيبة، والهمذاني، والصولي، وابن عبد ربه، وسواهم.
(٥) وأخيرًا، فإنَّ لَقب كاتب، وما أقرَّه من وضع، واستقر عليه في سياق الثقافة العربية الكلاسيكية، مختلفٌ تمامًا، ومتباعدٌ من نَواحٍ عدة مع ما آل إليه في الزمن الحديث واكتسبه من صفات نقلته إلى إطار مختلف من ناحية الوظيفة والتأهيل وأهداف أو مرامي القول. ما يحتاج إلى توصيف خاصٍّ، نستنتج منه وضعًا ومعايير مختلفة أوْجَبَها تَبدُّل الشروط الثقافية والاقتصادية، ونجم عنها بروز فئات من أهل القلم ممن احتيج إليهم في مهارات مستجدَّة، كالصحافة مثلًا، وهي مهنة أوجدَتها الطباعة، والحاجة إلى ترويج الأفكار والبرامج السياسية والبضائع من كل نوع، وغيرهم الذين شحذوا القلم في أنواع كتابية طارئة كالمقالة بأنواعها، والقصة القصيرة والخاطرة، فضلًا عن الافتتاحيات والسجالات. ومن المؤكَّد أن الوضع المتميِّز للكاتب في العصر الحديث هو الذي يظهره في صفة المعالج للفنون الأدبية، والرواية في مقدمها، ويتفاوت ذلك من بلد إلى بلد، وبيئة ثقافية إلى أخرى، إنما المهم أنه يرسم خريطة جديدة للكتابة والكُتَّاب، نريد نحن أن نقف على بعض وجوهها وسماتها في العالم العربي.