الميلودي شغموم: النحلة العاملة!
عملية النَّخْل والتَّقطير والتصفية، هذه، التي عُنِي بها العروي أيَّما عناية، إذا ما دلَّت على إيلاء الكتابة الجهد المستحَق لتظهر على أحسن صورة، فهي في الآن عينه أفادت وتفيد أكثر بوجود كُتَّاب هَمُّهم انصراف إلى عملهم بتدقيق ومُثابرة، تُنبِّهك أنهم يأخذونه حِرفة لا هواية، كأغلبيتهم. من هذه الفئة النادرة الروائي المغربي الميلودي شغموم الذي ارتأينا أنه، مع مبارك ربيع، وعبدالله العروي، يتوفَّر على بعض ما يُسوِّغ مَسعانا، ويمتلك من المؤَهِّلات ما يُضيء جوانب نحتاج إلى مزيد تَعرُّف عليها في البحث الذي نحن بصدده. وشأن زملائه المغاربة لم نجده دوَّن ولا نَشر ما يُسعف في هذا الباب، ترى كُتَّابنا يَعِفُّون عن هذا المرام، وإن قُيِّض لهم حديث بشأنه تَجنَّبُوه إلى ما هو أبعد، أو واقِع على الأرجح في ظله؛ ولذلك ذهبتُ إلى شغموم بهمومي، وعرضتُ عليه انشغالي، وبعد تشاوُر وتحاوُر في غمرة زمالة أدبية موقَّرة، تحصَّل لديَّ منه وثيقة مخصوصة وجدتُ فيها بعض ضالَّتي، وقَدْر جواب عن سُؤْلي، وهو ما سأعرضه هنا وفق ما يقتضيه الموضوع، ما أمكن، من ترتيب وتدبير.
-
(١)
سنبدأ معه من حيث تَصحُّ أي بداية تخص أدوات الكاتب. أوَّلها، مِن حسن الحظ، ما يعدُّه الحاجة إلى اللغة ورعايتها، من أول الطريق:
«لقد اكتشفتُ أهمِّيَّة القاموس بالنِّسبة للكاتب، وهذا كل ما في الأمر.»١ وإن سألْنَا فِيم تكْمُن هذه الأهمية؟ يقول شغموم: «إن المُعجَم واحد من الأدوات الأساسية بالنِّسبة لكل كاتِب كيفما كان الجنس الذي يكتب فيه؛ فالمعجم يساعدنا على ضبط اللغة والإملاء، ويسمح لنا بمراقبة دِقَّة الكلمات التي نستعملها ويعطيها الكثير من المعلومات المُلخَّصة التي قد نحتاج إليها ونحن نكتب.»٢ يُولِي الكاتب، أيضًا، أهمية خاصة للموسوعات ذات الاختصاص، وقد لمَسْت هذا الاهتمام مُنتظمًا عند الروائيين الواقعيين، الذين لا يفوتهم نَبْر ولا لون ولا رائحة، وفي الحِرف والصناعات، حرصوا على التقاطه، وتدوينه، وتنظيمه يكون لهم عونًا في الوصف، وتعيين حِرَف شخصيات رواياتهم، ورسم الجَو الحي الذي ينغمسون فيه؛ ترى المهن عندهم كلها واضحة بأدواتها ومَنتوجِها كأنك مع أصحابها لا مع كاتِب شُغْلُه الحكاية مُتموِّجَة بالخيال، بُدُّه ما أبعد وأغْوَر من المهن. كذلك هوبلزاك، لمن يعود إلى موسوعته الروائية العظمى «الكوميديا الإنسانية» يجدها تضجُّ بالخبرة من كل نوع، ومثله فلوبير في عمليه الكبيرين «مدام بوفاري»، و«التربية العاطفية»، قبلهما، في الحقيقة، رابلي، فبَعدَهما ألان روب غرييي، المهندس الفلاحي، أصلًا، وزميل مدرسته السَّرْدية اللذين بَرعا في الوصف الشَّيْئِي، ومثل جزءًا من فن الرواية الجديدة. -
(٢)
ينزع شغموم إلى تحصيل الخبرة بواسطة الموسوعة المتخصِّصة، إذن، واجِدًا فيها بُغية لا يَعدِلها الخيال نفسه، رغم أنه عِماد للروائي في فنه: «إذا احتجْتَ إلى وصف دقيق لطبع ما من الطباع، أو توظيف أسطورة أو جانِب منها، أو حادثة تاريخية، إلخ … لا بد من العودة إلى موسوعة سيكولوجية، أو جامع للأسطورة أو مؤلَّف في التاريخ … إن الخيال الذي نستعمله في الإبداع الأدبي هو زادُنا وعُدَّتنا الكبرى يحتاج بدوره إلى زاد وعُدة توجد خارجه.»٣
-
(٣)
يعتبر الميلودي شغموم الكِتاب جزءًا من عملية التعلُّم، يأتي إليها، أولًا، من القراءة، وبهذه يقصد القراءة كعمل جادٍّ، مُنَبنٍ على الاعتكاف: «يحتاج إلى أدوات عمل هي الكرَّاس والعقل اليقظ أو القلب الحي.» وثانيًا، باعتبار تعلُّم الكتابة ينجم عن قراءة أعمال كُتَّاب سابقين: «تتعلَّم لتعلم إذا اجتهدْتَ واستطعْت! ولهذا كنتُ أمارس القراءة بهذا الشكل.»٤
-
(٤)
يقرن شغموم مِهنته في التدريس قرنًا مباشرًا بالكتابة جاعلًا مسطرتهما واحدة، يرى بحُكم خبرته في الميدان، أنه إذا كان المعلمُ يحتاج إلى المَرجِع، والبيداغوجية، وإشراك التلاميذ، وما إلى ذلك، فهو بهذا المعنى: «كاتِب يضع دائمًا أمام عينيه قارئًا محتملًا ولا يستطيع أن ينجح في عمله بدون مراعاة متطلبات وإمكانات القارئ.»٥ نفهم هنا أن هذا الكاتب بالذات يأخذ بالحسبان حضور القارئ، كشريك أساس إليه يتجه النص.
-
(٥)
ينتقل بنا شغموم بعد هذا إلى طَور عملي، مباشر، مُتعلِّق بطريقة الأداء الخاصة بالكاتب من جهة توزيع وقته، وتدبير طاقته، كأي عامل، وهذا نادرًا ما نَسمع الكُتَّاب يَتحدَّثون عنه، جاعِلين من هذه الممارسة جزءًا من «حديقتهم السرية». علينا أن نثق فيما يقول في هذه الفقرة نوردها بها حرفيًّا على طولها:
«الكاتب، من ناحية شكل شغله عامل، ما في ذلك شَكٌّ، إنه مثل النحلة العاملة، مثل عامل البناء، يبني جزءًا، جزءًا، طوبة، طوبة. والكاتب من حيث وقت العمل، أو المزاج، ثلاثة تقريبًا: الصَّبَاحي، والزَّوالي، والليلي. ولكن كل واحد من هذه النماذج يدخل إلى معمله، ويُغادره في أوقات معلومة ومنتظِمة. والفرق الكبير بين الكاتِب والعامل البسيط هو أن الأول دائمًا في حالة كتابة، حتى وهو خارج معمله: عَمل اليوم يُهيَّأ مِن قَبْل، قَبل اليوم، البارحة مثلًا. (…) للكتابة بداية خارج الكتابة: القراءة والتأمُّل، ومشاكل الحياة، إلخ … وعندما يجلس الكاتب ليشرع في الإنجاز كبداية رواية مثلًا، تأخذ البداية معنى الشروع في الإنجاز.»٦ -
(٦)
هذا ما يقود إلى الوضع المركزي للكتابة، كما ألْحَحْنا عليها سابقًا، بوصفها حِرفة أو مهنة، شغلًا يَتطلَّب الاحتراف ومُقتضياته، والميلودي شغموم بين قِلَّة وَعَوْا هذا المقتضى، ولعله وطَّن نفسه على تُمثُّله. لذا يسأل ما الذي تعنيه كلمة «مَعْمَل» أو«مَكْتَب» «إذا كنا لا نتكلم عن كاتب مُصنِّف، ومكرس، ضمن خانة الكُتَّاب المحترفين»؟ وبالنسبة إليه إنَّ رُوح العمل واحدة، وكذلك شروطه، بين المحترفين والهواة، ما عدا في المدة التي يقضيها كل واحد منهما في الإنجاز.
-
(٧)
من المسائل التي تثير الفضول أيضًا عند عموم القُرَّاء التساؤل عن الأماكن التي تُناسب أكثر عمل الكاتب من غيرها، وهذا كثيرًا ما يَتردَّد في فرنسا، مثلا، حيث اعتاد الكُتَّاب أن يتخذوا من طاولات المقاهي موضعًا لنشاطهم، حتى إن هناك مَقاهيَ ارتبطَت بأسماء أعلام، أشهرها مقهى «لي دوماغو» — مع مقهى لوفلور، أيضًا — بشارع السان جرمان، الذي ألِف جان بول سارتر، وسيمون دو بوفوار ارتيادها، وبسببهما صارت مَحجًّا للزُّوار والفضولِيِّين. وإنَّ روائيًا مجيدًا مثل موديانو اعتاد أن يُسجِّل مُسوَّداته الأولى في مَقاهٍ محدَّدة، فضلًا عن أنها الأجواء الأثيرة لأبطاله. ولم يكن نجيب محفوظ يقصد المقهى إلا للاسترواح، والدَّردَشة، فاشتهرَت في أيامه وبعده مَقهى الفيشاوي؛ حيث مَرتَع بعض أبطاله في حي خان الخليلي، ومعها أماكن جلسات ارتادها. ونرى الميلودي شغموم يحاول أن يُشبِع هذا الفضول حسب تجربته، ليقدم ضوءًا آخَر عنها، قائلًا: «لن أتعَب من تكرار أسماء بعض المقاهي مثل «لاروطند» في الدار البيضاء، و«فلامنكو» في الرباط (…) كتبتُ في هذين المكانين أغلب ما نشرتُ في السبعينيات والثمانينيات.» لينصرف إلى القول بأن: «أهم شيء في مفهوم «العمل» أو «المكتب»، بالنسبة للكاتب، هو أن يتعوَّد على ركن ما، سواء كان فخمًا أو بسيطًا، وأن يتعوَّد الناس عليه، سواء في البيت أو المقهى، وعندما يجلس هناك يكون في حالة عَمَل ويَعرِف الناس مِن حوله أنه يعمل ويُرجَى عدم إزعاجه.»