دعوة إلى محترف العزلة
-
(١)
أحب في هذا المقطع الأخير من البحث التفصيلي أن أزج بنفسي مباشرة في خِضَم عرض الموضوع، بتقديم إضاءات وبعض ملاحَظات إضافية ربما تكون مفيدة في مِضمارِنا، هي أقرب إلى الشهادة؛ لأني أكتبها بنبرة البوح، وقصد الشهادة، وهذه أنسب للكاتب من الشرح والتحليل. لقد استنكفتُ الإشارة منذ بداية هذا المشروع، القائم على مُحاولة فَهم وشرح ما يمكن من العالَم الخاص للكتابة وأدواتها، إلى أن صاحبه مَعنيٌّ مباشرة بالقضية، مُنصرِف إليها منذ عقود، إلى أن أضحَت تُلازِمه، ويعتبرها مِراسه الأول ويقين حياة، بعد أن قضى ردحًا من العمر في تعليم الناشئة صغارًا وكبارًا، والتزم مثل أغلب أبناء جيله بقِيَم الوطن والأمة، حتى ضاعَت أو مُسخِت شعارات لنهب السُّلطة والمال، بدل الإخلاص للناس والحياة. بعد هذين المَسلكين اللَّذين يأسَف على مصيرهما الحالك، تنزَّلت الكتابة عنده وما تزال، في الأطوار المختلفة لحياته مَنزلةَ وجود صميم قبل وبعد الهشيم، أغوَته وهو يتعثَّر في خطوات فتوة تقود أيامها إلى طرقات مرسومة وحْدَها، أو حيث يراد لها أن تكون سالكة، وما هو إلا خطوة، خطوة، يحس أنه يقتفي أثر نفسه، يراها تذهب إلى جهات ومَناحي لا يَلتفِت إليها أحد ممن حوله، أو هي من قَبيل البعيد، المتواري خلف الحُجب، والساكن في أغوار النفوس، التي كانت في ستينيات بداية شبابه مشتعلة بالآمال، مُتحرِّقة للوجود، ومُتطلِّعة للقول والتنفيس، لكن على أي وجه؟ وبأي لسان؟١
-
(٢)
أن تتعلم لغة، وتتنقَّل في سجلات تعبيراتها وثقافتها لا يكفي، كما لا يضمن بأي حال أنك ستنبغ فيها، أو تصبح من كُتَّابها، تنسج قولًا آخر فيها، واحدًا من أجناس أدبها، الأدب لا غيره. فحين عصيت رغبة والدي، الذي أراد لي كلية الحقوق مَسلكًا دراسيًّا بعد حصولي على الثانوية العامة، سيسمح لي بالتخرُّج محاميًا، وهو يرى المُحامِين يَصولون ويَجولون أمامه في المحاكم، وذوو ثروة أيضًا لا مساكين كالفقهاء والمُدرِّسين، وقصدتُ كلية الآداب خفية ظننت عندئذٍ أنها المقصد الذي لا غنى عنه لمن ابتلي مبكرًا بالأوراق والإنشاءات الأدبية، وطفق يجد في رفقتها متعة غامضة لا تقل غموضًا عن مراميها الخفية، وبُعدها عن المادي والناجع الملموس؛ أو ليست جملة كلمات وصور وإشراقات تتلامح بعيدًا كالسراب؟!
ولَكَم وَجد رحاب هذه الكلية أضيق مما سَعَت إليه نفسه، رمتْ به إلى طيَّات الماضي العتيق شعرًا ونثرًا، نحوًا وبلاغة وتدوينات تراثية من كل لون. وهي إذا كانت تُعلِّم أصول العربية وتُفقِّه فيها، وتصون اللسان عن أي زَلل، وتُسلمك، إن اقتدرْتَ عليها، ناصيتها، فإنك لن تبلغ منها بالضرورة أرَبَك، أو تُنيلك مُنى القول الخالص، كما يَتهيَّأ لمن يجيد إنشاءات مدرسية. قد تَقدَح الزِّناد، إنما لا بد لك من أن تكون سلفًا حامل نار، ولك في وجدانك ولحمك ما يحترق.
-
(٣)
شرط لا غنى عنه. اختلفَت فيه التسميات: سمَّاه القدماء نار عبقر، والمحدَثُون توزَّعوا بين أسماء شتَّى، كلها تشير في النهاية إلى معنًى واحد: الموهبة، الاستعداد الفطري، التوهُّم، ومثله. بينما تجد كل شاعر ينعَت المعنى على حِدَة، يُكيِّفه حسب مقتضى إحساسه ومستوى تعبيره، أغلب الأدباء يتحدَّثون عن نار داخلية، والشاعر الألماني ريلكه يجعلها بمثابة الشيء الوحيد الضروري، الَّذي بدونه لا يستطيع المرء أن يعيش، فإن استطاع فلينصرف إلى غيرها، ذاك أفضل له وبه أليق. عبد الوهاب البياتي وضَع اسم عائشة مرادفًا لتسمية النار/الموهبة. بينما قلَّ أن يخوض الرِّوائيون في هذه المتاهة، لا تَهوينًا أو استخفافًا، وإنما لإيمانهم بأن عملهم مرتبِط أكثر بالصَّنعة والمثابرة، ولأن الرواية جماع عالَم مركَّب من الحيوات والشخصيات والمَصائر والفضاءات والحبكات، تستدعي نسجًا مُعقدًا ومهارات لصُنع عالَم تَخْييلي مُحتمَل مُقابِل عالَم واقعي، ناطِق باسمه ويطمح أن يتجاوزه، ذا في حد ذاته عبقرية، لكن بدون عبقر.
-
(٤)
سأقول إني بطريقة ما أحسستُ بتلك النار، لا لاهبة، حارقة، كما في طفرات لاحقة، وإنما وهي بين الضلوع جمرات صغيرة، تارة تَتقد، وأخرى خابية تحت رماد مُتشابه اليومي، ومُتعِب العيش ومُقلِقه العادي، إلى أن يثقل على النفس حدًّا لا يُطاق، فتنزع هذه إلى التخفيف عن بلواها، وتذهب بحثًا عن خلاص أو متنفَّس في كلمات مقدوحة من نار بركانها، وهكذا. وبما أننا تعلَّمنا أن لا قول صحيح يرسل على عواهنه، كما لُقِّنَّا في كلية الآداب، وبموازاتها من القراءة الشخصية المستميتة، أن الكلام تنتظمه أنواع، ويُسكب في قوالب، وهو بدءًا ينقسم إلى شعر ونثر، فقد راحت أطراف القول تتجاذبني، لا أعرف حقًّا أيها متيسِّرٌ، وطيِّعٌ للاستعداد والإمكان في آنٍ. أظن أني وَعَيت في وقت مبكر، وبتأثير القراءة المتواصلة، وطموح لم يفارقني لاختراق آفاق القول المبذول، بأن الكتابة الأدبية، ولا أحب تسمية «الإبداع»، فضلًا عن عموميتها، لا تُرمَى هكذا مثل طلقة طائشة، وكثيرًا ما تصيب ضحايا عابرين لا علاقة لهم البتة، لا بالإبداع ولا بغيره، المساكين! أقول: وعيتُ أن مَن يريد أن يصبح كاتبًا، لنقُل أديبًا بإطلاق، يحتاج إضافة إلى «ما بين الضلوع» إلى معرفة نِسبيَّة بما يريد، وبالكيف القولي الذي سيبلغه ما يريد، وهو في كل خطوة يستمع إلى داخله ويختبر قُواه، ولا يكفُّ يحلم.
-
(٥)
الحقيقة أني، في بداية تَعلُّمي الجامعي، في منتصف ستينيات القرن الماضي وما تلاها، وجدتُني أترعرع في مناخ تعليمي مزدوَج السِّمات، متناقض المَعالم، ولا أظن في الحالتين أنه كان مسعفًا لإنعاش الروح الأدبية الخلَّاقة، ولا لتربية الذوق الفني لأي أديب مُفتَرض وحالم، اللهم أن يكون نرجسيًّا، أو مسكونًا بِجِنِّية مخيفة غالبة على المخيال الشعبي، تُدْعى «عيشة قنديشة»، وربما ميَّالًا لسماع الحكايات في أطراف المدينة، والمدينة فاس، لو علمتم، لإشباع فضول، وتَزْجِية وقْت، والتخفُّف من أوزار وقت هزيل، متواتِر، يمضي دائمًا في ليل مجهول، وبمَعِدة ليست دائمًا ممتلئة، لتقول للرأس غنِّ، جريًا على ملفوظ المثل الشعبي، من ناحية، الدرس التقليدي التراثي، على يد أساتذة وفقهاء، من النابغين بلا ريب، مغاربة ومشارقة، لكنه درس الماضي كله، ولا صلة تكاد تُذكر له مع الحاضر؛ أي الأدب الحديث، وهو ينتعش حيوية في المشرق العربي، وفي طَور التكوين في مغربنا، كما سأعي لاحقًا. ومن ناحية أن الدرس الجامعي كان موضوعًا في إطار طلابي ساخن جدًّا، تحكمه ظروف البلاد المتوتِّرة، وتتخاصم فيه السُّلطة الحاكمة مع مُعارضة سياسية تتخذ من التنظيمات الطلابية جناحًا هجوميًّا لها، وهي ترفع شعارات التَّقدُّمية والتغيير، بل الثورة على الحكم. إنه، إذن، تعارُض شاسع بين طريقين، بينما لم تكن قدرة الاختيار مُتاحة ولا سهلة، وأصعب شيء أن تشق طريقك الشخصي، الحالِم نوعًا ما، ما دُمت تنزع نحو التعبير الذاتي، الأدبي، في مناخ شبه مُعادٍ للذوات، ويوجد فيه مَن يعتبر نفسه ناطقًا باسم الجماعة، ينوب عنها في الفقه والإصلاح، وفي السياسة والشأن العام، سواء بسواء. أي كاتب هذا الذي سيكون في جو مَحكوم بالوصاية، إن وُجِد فلسانه مُستعار، أو ينبغي أن يرتدي جُبَّة المصلح وينطق بوعظه؟!
-
(٦)
إنما لا بد مِن الاعتراف بأن هذه المرحلة الجامعية الأولى، باعتبار أن مراحل أعلى منها تَبِعتُها في فرنسا (أُسمِّيها المرحلة الباريسية السوربونية) زوَّدَتني بالضروري، الأساس، لمن يريد حقًّا أن يتعلم العربية بحق وحقيق، فإذا غامر بالكتابة فيها، فإنَّ زاده منها وفير. هو جل ما أسلَفْنا الحديث عنه في مطلع هذه الدراسة عن عمل الكاتب العربي، وفق مُقتضيات المعارف التي نصَّ عليها عبد الحميد الكاتب، وابنُ الأثير خاصة، وتطلَّبَا الإحاطة بها بالتعلم والإجادة.
فلقد وجدتُنِي أغرف غرفًا من علوم العربية في مظانِّها الأم، أكتشف شيئًا فشيئًا أن ما تعلَّمتُه في السِّلك الثانوي نُثار لا يُقيم الأوَد، خليطٌ بين قديم وحديث، ولا مستقَرَّ، مما أقنعني مبكرًا أن السبيل إلى نهج الأدب الخلَّاق يحتاج إلى الصعود تدريجيًّا من الجذور، من الأصول إلى الفروع، هكذا فأنا تتلمذتُ في النحو على الفقيه بن عبد الله الذي كان يحفظ في صدره إلى جانب القرآن الكريم وشروحه كاملة مُصنَّف النحو الخطير: «مغني اللبيب في كتاب الأعاريب» لابن هشام الأنصاري، وفي البلاغة على سيد العابد الفاسي أحد مشايخها في جامعة القرويين، وفي الشِّعر الجاهلي على واحد من فطاحله الدكتور محمد شكري فيصل، مثلما درستُ المتنبي وأبَا تمَّام على الواحد الفَذِّ في هذا المبحث الدكتور نجيب البهبيتي، ولم يكن أخطر في تعليم النَّقد وشرح النصوص وتفكيكها قبل زمن البنيوية والتفكيكية نظير لأستاذنا أمجد الطرابلسي، الذي تَدِين له كليات الآداب المغربية خلال ثلاثة عقود متوالية بكل شيء، تقريبًا؛ لأنه أرسى فيها فنَّ وعِلمَ قراءة النص الأدبي، وتذوقه، وفهمه، وتوصيف مبناه وتوليد معناه؛ هذا كله فات أدباء هذه الأيام، فلا تَعجبَن أن انقلب شأن العربية عاليها سافِلَها!
-
(٧)
آمنتُ، إذن، بأن التمكُّن من الأصول ضروري للكاتب، قبل الانتقال إلى ما بعدها، كل ما استحدث وجَدَّ؛ لذا واصلتُ تعلُّمي للأدب الحديث بأنواعه ومشاربه المختلفة، عربية وأجنبية، من غير أن يكون لي هَدْيٌ دقيق؛ لأني وأنا أتعلَّم سأجد نفسي أَتنطَّع بمحاولة المُشاركة بدوري في تكوين النص الأدبي الحديث في أدب بلادي، ميَّالًا إلى القصة القصيرة، أو ما ظننتُه مثواها. وما أُحبُّ أن ألفِتَ إليه النظر هنا أن الكاتب الذي أصبحْتُ، بمثابرته واعتراف وسطه، تكوَّن واستمر بالقراءة، استشفَّ رحيقها ولم يُبالِ بالحثالة، لا غنى عنها لصَقْل الموهبة وفتح آفاق المعرفة والخبرة اللازمين لمن يَتصوَّر نفسه في وضع مُنشِئ إضافي للحياة وُمعلم فيها. وإذ قوَّى الذهاب والإياب بين هذين القُطبين شَكيمَتي اللغوية والثقافية، فقد أظهرني على مواهب ومَجازات الآخَرِين، ومنها تشجَّعتُ لِأجُوز أبعد وأغْوَر نحو المَسالك المجهولة، مُؤمنًا أن الكتابة دومًا استكشاف لمجهول، واستحضار لغياب، لُغتي وصِوَري بينهما أبدًا على قلق.
-
(٨)
وجدتُ أن الوسط الأدبي الذي نشرت فيه نصوصي الجدية الأولى في مطلع السبعينيات الفائتة، قد ضجَّ من حولي ونفر، تسرَّع يحكم عليَّ بأني غاوي لغة، أسيرُ لعبٍ لفظي، أتخلَّى عن المحسوس، أُوثر عليه المُجرَّد، بالأحرى أشغف بعبارتي، بصوري طافحة بالاستعارات، تَقفِز على الواقع وهي تنشد الكمال والبهاء فيه. لم يكن هذا اللَّمز خاليًا من صحة، لولا ما شاب ثقافة وذوق، وأيضًا، الأيديولوجية الكامنة خلفه من قصور وغمز من كل كتابة تشق عصا طاعة خطاب الواقعية المباشرة، والدعاوى التحريضية، تلك وقتها كانت وظيفة الأدب. لقد جاء اهتمامي الخصوصي بالمفرَدة المنتقاة، والعبارة حسنة السبك، والصورة المضيئة، المُجنَّحة، من اعتبار أن الأدب من الفنون الجميلة، واللُّغة أداتها الأولى، هي لَبِنات عمارته، والبيان مُجتلاه ومَقصِده، فعليها المعوَّل، وذاك كان قصد الجاحظ وهو يتحدَّث عن المعاني المبذولة في الطريق. غير أني كنتُ أعني وأعنى أيضًا بأهمية وضع الأدب في مَقامه المستقلِّ بذاته، القائم بخصائصه، الناهض بعُمُده لا بالمحتوى المُوجَّه نحوه، والواقعية التبشيرية الانتقادية الموجَّهة له. أستطيع القول بأن هذا الاقتناع قاد خطواتي في درب الكتابة، ولم أَزِغ عنه يومًا، بكل ما أخضعته له من تَشذيب وتعديل، وأحيانًا إعادة نظر جذرية. لكن كل نص أجلس لكتابته، وأرى أن أيَّ كاتِب جدير بفعل ذلك، يحتاج مني إلى انتباه لصوغ مفرداته، وصَقْل كلماته، وحُسن ترتيب عبارته، لتأتِي على الوجه الحسن، في ذاتها، وبجرسها، ومتناغمة مع المعنى الذي صِيغَت له، ويجب أن تنقله بدقة وفصاحة وبيان. وهذا لا يجعل مِنِّي سجين اللغة، ولا لغتي؛ لأن الحياة والمعرفة والخبرة تَشحنُنا باستمرار بمزيد، لنكتشف أن القاموس لا يَسعُنا، ولذا نذهب أبعد من مادته، فنُنقِّحها بلغات أخرى، وأكثر منه نقلب العلاقات السائدة للملفوظ ونحن نقيم صرحًا لا ينتهي من المَجاز الباهر، في الشعر، وفي النثر كذلك، لِمَ لا؟! اقتناعي أن لغة الأدب لا نهائية شأن آفاقه، ولا أكفُّ أرسخ هذا المعنى في ذهني، ووجداني.
-
(٩)
أقول وجداني. ما معنى الكتابة بالوجدان؟ هل هي صيغة مُعدَّلة عن الموهبة أو «النار الداخلية» (كذا). إنني أعْنِي ببساطة الإحساس. الشعور الدَّفين، المُلتبِس غالبًا، لا يستأذنك، مزيج حزن وحنين وافتقاد ورغبة واغتراب، وأَسًى وحُلُم قُزحيٍّ، وهو وضع شخصي غير قابل عندي للتنظير، إنما يقدَح زناد الكتابة المسماة إبداعية، وينبغي أن نتحرَّر منه كلما مَضيْنا نبني صرحها، لتستَقِل بلغتها وصُورها ومعانيها، مُحنَّكة باليقظة وهي تَشف بالضوء. وإنه ليحضرني هنا ما استدلَّ به أبو حيان التوحيدي في مَنشأ الكلام، فأجده يواتيني، ونافع في الفصل بين حال القريحة، ووضع التعلُّم؛ يقول: «قال شيخنا أبو سليمان: الكلام ينبعث في أول مبادئه إما من عفو البديهة، وإما من كدِّ الرَّوِيَّة، وإما [أن يكون] مركَّبًا منهما، وفيه قواهما بالأقل والأكثر؛ ففضيلة عفو البديهة أنه يكون أصفى، وفضيلة كدِّ الرَّوِيَّة أنه يكون أشْفَى، وفضيلة المُركَّب منهما أنه يكون أوفَى وَفِيٍّ؛ وعيب عفو البديهة أن تكون صورة العقل فيه أقل؛ وعَيب كدِّ الرَّوِيَّة أن تكون صورة الحس فيه أقل، وعَيب المُركَّب منهما بقدر قِسطِه منه: الأغلب والأضعف.»٢ لذا فعيب الكاتب أنه شخص يعيش الفصام — لا كعصاب طبعًا — بحكم مهنته، لِنَقُل: إن ما يكابده ليس هو بالضرورة ما ينقله أو يُصوِّره في الورق. هذه إحدى علامات النُّضج فيه، وإلا سيبقى ساذجًا، بسيط الكتابة، ضَحْل المعنى؛ أي بلا عمق أو بُعد. الكاتب هو غير سارِد الرواية، وإذا غلَب المؤلِّف على السارِد وتقمَّصَه أضاعه، ولن ينجح في ضبْط شخصياته، وفي جعلِها تعيش حياتها وفق مصائرها، وإنما حياته؛ لذلك سيخفق في صُنع الرواية، أو يكتب سيرة ذاتية مُقنَّعة، ما بات يغلب على كتابات كُتَّاب رواية عربية وأجنبية، أيضًا. لقد مررتُ بهذه الورطة، أحسب أنِّي خرجْت منها، وكُلَّما أستعِد اليوم لاقتحام تجربة رواية جديدة إلا وأشعر بالتهيُّب، ولا أكف أُقلِّب السيناريوهات والخطاطات والبدائل؛ لكي أستبعد نفسي كليًّا، وأجعل شَخصياتي تَتشبَّع بتجربتها الخاصة. أظن أنه امتحان مُستمِر يخضع له كل كاتِب مسئول أمام جدارة الأدب.
-
(١٠)
بين تحكيك اللغة، وصَقْل العبارة، ثم بين الامتلاء بالوجدان وإدراك المعنى، فبيْن نَقلِهما على وجْهَي الإقناع والإمتاع، لا بديل عن الأسلوب الحاكي، الواسم والموسوم، الناسخ والمعبِّر والمُصوِّر والباني والمُوحي، وصانع الإيقاع. حين تجلس للكتابة، وتعكف عليها، لا تفكر منطقيًّا في الطريقة؛ بكل تأكيد تَروم الصياغة في شكل أدبي بعينه، قواعده معروفة سلفًا، وأنت تلعَب في مساحتها وبأدواتها، وقد تخترقها كما تُشوِّهها، إنما في كل حال يكون الوعي بالشكل ضروريًّا وحاضرًا دائمًا، وإلا فهو خبط عشواء، لذا يتعثَّر المبتدئون، ويَفشل المتسللون، ولا يواصل إلا الصَّنَعَةُ الموهوبون المحكِّكون، بينما يتولَّد الأسلوب وحْدَه بالامتداد والترسُّب، مثل مياه جوفية لِسقيا أديم الأرض. احِتَجتُ مثل غيري أن أنتبه تدريجيًّا إلى توفُّر هذا العماد الرئيس لكل كتابة، بدون ارتكازه لا تكون. من مجموعة قصصية إلى رواية، إلى قصيدة، وكذلك في أبحاثي الجامعية والنَّقدية، رغم التدفُّق اللغوي، والانثيال الصوري، والانفتاح المَجازي، ما يوحي بالانفلات، إلا أنه انفلات مشدود بإحكام إلى نزعة فنية تُدبِّر لعبه، يتأتَّى إبلاغها بأسلوب. أنت تعي أسلوبك، لكنه لن يصبح متحقِّقًا إلا عندما يُعيِّنه ويخصصه قراءٌ محترفون، ويوم يتم ذلك للكاتب فقد دخل حقًّا إلى محفل الأدب من بابه الواسع، وسيغتني الأسلوب الأدبي كله، زادٌ يتغذَّى بأسلوب عامِل جديد في صرح القول. ولن يتم لك ذلك إلا إذا كنتَ وصِرْتَ كُلَّك في محفل نشاطك؛ لذلك صَدرَت عن بوفون (Buffon ١٧٠٧–١٧٨٨م) قولته الشهيرة: «الأسلوب هو الرجل نفسه.»
-
(١١)
أَصِل إلى قضية محورية في عمل الكاتب الشخصي والنظامي في آنٍ. تثير فضول القراء حينًا، وتجسُّها أسئلة النقاد حينًا آخر، في الحالتين هي هنا من صميم موضوعنا. يمكن ربطها مباشرة ببوفون نفسه في تعريفه من بين إضاءات أخرى للأسلوب بأنه: «النظام والحركة اللتان نضعهما لأفكارنا». يذهب الكاتب إلى أوراقه ليدوِّن أفكاره أو مشاعره، وهو كأيِّ صانع يَحتاج إلى مَقرِّ عمَل. نحن أبناء ذلك الجيل لم تكن لنا أبدًا أماكن مُخصَّصة لمراجعة دروسنا وحفظ مُقرَّراتنا، كل مكان صالح، وما زِلنا نرى التلاميذ والطَّلبة هائِمين على وجوههم بدفاترهم وكُتبهم بين أرصفة الشوارع وزوايا حدائق كالأحراش، وأركان خلفية للمقاهي. عقدٌ كامل وأنا أكتُب في المقهى، ولا أعرف كيف أُسطِّر حرفًا إلا في قلب الضجيج الذي اعتدْت عليه من دون أن أسمعه. كنتُ وقتها على امتداد السبعينيات «مرفوعًا» إلى سبع سموات، دماغي وإحساسي، جسدي وحده يُرى للآخرين، وُمسخَّر لقضاء العادي. صار لي بيت مُريح ولم أتعافَ من عادة المَقهى إلا بعد أن استحكمَتْ فيَّ عادة الكتابة، وبِتُّ أنظر إليها كشأن جَدِّي لا هواية تطل وتختفي، مع حلول «الوحي» وغيابه. في هذه المرحلة الأولى كانت أوراق مُتفرِّقة أو دفتر يَكفيانَنِي، مع قلم جافٍّ، أسود اللون دائمًا، لا أحب إلا هذا اللون، وأُغلِّبه على لباسي ما استطعتُ. بإمكاني أن أطلب قطعة ورق من النادل وأنشغل بملئها بشيء ما يدور في رأسي، فرأسي دائم الدَّوَران، وحركته أسرع من حركة الأرض. وكم أعجَب لمن يجلسون من أبناء بلادي ساعات في المقاهي يَحرِقون السجائر وهم يُحملِقون في الفراغ، لعلَّهم يتأمَّلون (!). رأسي يغلي دائمًا بشيء، وجُملَتي حين تنزِل إلى الورق تأتي مُقطَّرة صافية، كأنَّ أحدَنا يُعتصر من الثاني ليبقى وحْدَه ويتفرَّد، فتتلقَّفه الورقة خِلقة حسنة.
كنتُ أعاشر الشاعر المغربي الكبير الراحل أحمد المجاطي، صاحب الديوان اليتيم والعظيم: «الفروسية»، نتنقَّل في شوارع الدار البيضاء مع بدايات العشيِّ، وعند أول نجمة نَحطُّ رِحالنا حيث يحلو لصاحب قصيدة «الخمارة» أن يجلس ويُنادِم. كم مرة باغَتَتْه وهو ينقر وزن البيت الشعري على إحدى ركبتيه، ثم يَخُط على كل ما يقع في يده البيتَ الموزون، ومما يقع علبة عود ثقاب، وقد جَمعتُ وإياه مَرَّة ظَهْر عُلبٍ استصفى منها قصيدة، لعمري الشعر الخالص. ربما تعلَّمتُ مِن المجاطي هذه المكابَدة، وإن كان هو أعظم مني، محكِّكًا ومُقلًّا حد الفناء. من يَطَّلِع على مخطوطاتي الأولى أيام زمن القلم، سيراها تخلو تقريبًا من الخدوش والرُّتوش، ببساطة لأن مراجعاتها وتنقيحَها تمَّ عديد مرات في دماغي وتصوُّري، كل مفردة، جملة، أُوقعها، أُموْسِقها، وهي نثرية شعرية، شعرية نثرية، بين نَومي ويقظتي أكتبها، وقد أنهض أو أنْسلُّ من بين القوم لأدوِّنها، لا أحب أن تفوتني لحظة الكتابة، ما تَيسَّر في الخاطر منها ينبغي أن تُسجِّله فورًا أو تَبرد جمرته لتنطفئ، فإن عُدتَ إليه بَعدَ تَعطَّلٍ أو وَهن، ستجدُ فات الأوان.
-
(١٢)
أستطيع أن أقول: إن كل ما كتبتُه قبل أن أنتقل إلى فرنسا — للدراسة، أولًا، وللإقامة، تبعًا لذلك — لم يكن إلا هِواية قياسًا بما تلاه. ففي باريس احترفتُ الكتابة، والبحث الأكاديمي معها تدريجيًّا، إنك هنا إما مُحترِف أو عابِث، لا توَسُّط بينهما على ما عشتُ وعرفتُ، والباقي هُراء ومَضْيَعة وقت. طبعًا، ثمة الحياة بتلاوينها، باعتبارها عيشًا غميسًا، وحْدَها، أو مادة تجربة.
كل واحد عليه أن يُقرِّر مصيره بمفرده، والكتابة مسئولية وُجودية، إنها هُويَّتك، فأعدَّ لها عُدَّتها اللازمة، خاصة في مجتمع المنافَسة والاختيار المفتوح والمواهب الكثيرة المتجاوِرة. انتهى زمن كتابة المَقهى، وحلَّ العكوفُ على الذات وسُكنى العزلة مقرًّا للكتابة، لا ينبغي أن يُشوِّش عليها كائن أو طير أو موسيقى، ففي الرأس ما يكفي من الجلبة، ومن القارَّات تَعبُرها بشريات بأفراحها وأتراحها وطقوسها؛ عالَم كامل وأحلام وكوابيس، وحكاية تتلو أخرى، وحياة تَمضِي بإيقاع سريع تستفزُّ الكلمات لملاحقتها. وأنت تمضي في رحلة العمر والتجربة حلوِها ومُرِّها، وبالثِّقَافة ضرورة تَتعلَّم أن تهدأ، وتتبصَّر، وتنظر إلى الكتابة مسارًا صوفيًّا، واختبارًا للعقل والوعي، تُصبح أصغى إنصاتًا لنفسك وما حولك. ومن غير أن تَتملَّكك أي نزعة رَسولية أو غرور ستشعر، شعرتَ، أنك تَبْنِي، بَنَيتَ، وعلى الصرح أن يتواصل ارتفاعًا ورسوخًا، وها أنت تنتمي إلى سلالة الكتابة، فاحترمها، بَجِّلْها، فلا حياة لك سواها، وبدونها.
-
(١٣)
يعني هذا في الخلاصة أن الكتابة هي العمل، والعمل هو الكتابة، بجد ودأب وانتظام، وهذا نسقٌ يسنده الحاسوب بشدة. ظللتُ وقتًا متوهِّمًا أن الانقطاع عن الكتابة بالقلم وعلى الورق سينهي استعدادي، أو بالأقل يُضمر قدرتي، كما كنتُ أظن في وقت سابق أن الحياة بما فيها لا تطاق إذا انقطع المرء عن التَّدخين، إلى أن اكتشفتُ العكس وفضائل مجهولة لي. آخِر ما أحب التوقُّفَ عنده لأنهي عرضي الشخصي أن العمل بالحاسوب نَقلَني إلى مرحلة مختلفة جدًّا من الكتابة، حيث أتعامل مع شاشة، وأرقن على أزرار، وهما أداتان مُحايدتان إطلاقًا، وهناك ذاكرة تحفظ كلماتي، وطُرُق للتوزيع والتعديل والإحصاء، إلخ … مع هذه الآلة يجري احتساب العملية كلها تقريبًا في وقت واحد. فأنتَ تجلس، وتُفكِّر، وتنتقي لغتك، وتصوغ، وتبني شخصياتك ومِعمَار قصتك، وتفتح أفق الخيال لِنَصِّك، تُقدِّم، تُؤخِّر، تَحذِف، تُنقِّح، بنفس واحد، وبطريقة مركَّبة، وتُقرِّر أين تُواصِل، وحيث تنتهي بكلمات محسوبة، لا زيادة ولا نقصان. العمل بالحاسوب مباشرة، لا الذين يُسوِّدون وينقلون بعد ذلك، نقيض الكلام الفضفاض والتكرار والهَدْر، واللغة والصِّور والأبنية الأدبية معه شاخصة أمامك حية. وأخيرًا خلاصة الخلاصات، سيطلعك عليها كل الكُتَّاب المحترفين، عندما كانوا يَستخدمون الآلة الراقنة، وانتقَلوا إلى الحاسوب، هي أنك تجلس إليه في وقت مُنظَّم، تُشغِّله فتضيء الشاشة، وإذن: هيَّا، تَفضَّل! أي لا تنتظر «وحيًا» ولا أُصِبْت بصعقة، وتدريجيًّا بناءً على المتراكِم في عقلك ووجدانك سترى الكلمات تبني صرحًا لم تتوقَّعه رغم أنك مُصمِّمه، وستجدك تَحلم وأنت يَقِظ، ويَقِظ في غمرة حُلمك، إلى أن تتركك الكلمات ويَنهدَّ جسمك فعلًا.
-
(١٤)
ولكي لا ينهدَّ تمامًا، وتتمتع بكتابتك وجسمك في آنٍ واحد، فأنت في حاجة لرعايتهما معًا. والرعاية أنواع، ولها معانٍ. في بداياتي لم أكن أعير لهذه الناحية أهمية، أعتبرها أسلوبًا مُتبرجِزًا، زمن الحلم اليساري، بلا نهاية. سهرٌ طويل، نومٌ قليل، تغذيةٌ مُتقطِّعة، تدخينٌ شَرِه، وعنفوانٌ دائم تأتي معه الكتابة في أي وقت ومكان. أحيانًا كان البحث يتم عن مُحفِّزات خارجية، كالحطَب لنار الكتابة، كغارة حب مفاجئة. الداخل بركان لا يتوقَّف عن رمي الحمم، وأنت تكتب، تكتب، بلا حساب ولا ثواب. لا تُعير حسابًا للأشكال والقوالب، واللُّغة كأنَّما تُصاغ وحْدَها، النَّص سبكُه ونظامُه اللاوعي يتحكم فيه، وحتى دون أن تقرأه تجد أنه ما طلبت بالضبط، وأكثر. في وقت لاحق، ستحيط نفسك برعاية طقوسية، مادية ومعنوية. لا تجلس إلى كتابتك إلا وأنت شبعان نومًا، ومُستحِم، حَليق، وحَسن الهندام، ودائمًا وحْدَك. يحتاج صوغ الجمال إلى إعداد مناسب. لا أحب الكُتَّاب القَذِرين، وأشباه الأُمِّيين، أيضًا، حتى وهُم عباقرة، وهو نادر. الصحو ضروري لأدب يقظ، ومُنير، وحالم دائمًا. الرياضة تفيد، تفتح خلايا الجسد، وتُنشِّط لديك قدرات خفية، تحس بعدها بقوة مدهشة، وشباب دائم. الكتابة معها تختلف عنها بدونها. أنا مَدين لها بكثير، وهي مُنشِّطي «السِّرِّي»، مع عناصر أخرى أحتفظ بها في حديقتي الخلفية. وإذ أُجدد تأكيد الوحدة حد العزلة، أحتاج إلى سعادتي الشخصية، إلى ما أسميه سرور الليل، تُجلَب فيه الأطعمة والأشربة وانشراح الخاطر، أعْبُر به رحلة الديجور، نحو غد أتطلع إليه دائمًا مُشرقًا، وبقلق، ليكون مختلفًا ومغدقًا ولِيَرسو بي مُجدَّدًا في ضفة السرور. هكذا لم نَعُد نُراوِد مَلِكًا، ولا نُخطِّط لثورات، ولا الإطاحة بالرءُوس الفاسدة، وتجفيف المستنقَعات العائمة فيما كان أمس يُسمَّى أوطانًا ورايات خفاقة. كل ما أريد من العمر أن أعمل على كتابي وأنا واعٍ وسعيد بما أعمل، عيناي مُفتَّحتان كل عام على فتنة الخريف، في باريس دائمًا أفضل، وسأسعد لو بقيتِ تُقيمين في القلب (مَن تكون؟!) لأني في حاجة إليك دائمًا، فلا أهمية لكاتِب لا يعشق، أو سَيتَنَرجَس، وهو فادح! والختم لابن المدبر، إذ قال بحق: «وارتصِد لكتابك فراغ قلبك، وساعة نشاطك، فتَجِد ما يمتنع عليك بالكَدِّ والتكلُّف؛ لأن سماحة النفس بِمكنونها، وَجودَة الأذهان بمخزونها، إنما هو مع الشهوة المُفرِطة في الشيء، والمحبة الغالية فيه، أو الغضب الباعث منه كذلك. وقيل لبعضهم: لِمَ لا تقول الشعر؟ قال: كيف أقوله وأنا لا أغضب ولا أطرب؟!»٣