وضعُ الكاتب العربي الحديث
النماذج الأولى لوضع الكاتب
لا نبتغي الإحاطة بالظروف المختلفة التي أدَّت وصاحبت تبلوُر وضع الكاتب في العالم العربي، فهي من الاتساع والتعدُّد حدًّا يتعذَّر على باحث واحد تصنيفها، تختلف بين المشرق والمغرب بدرجات متفاوتة جدًّا. اختلافٌ مرجِعُه تبايُن المستويات الثقافية والتعليمية العامة من جهة، ومستوى احتكاك كل من هذين الطَّرَفين بالمجال الخارجي، الأجنبي، بثقافته الوافدة، قُل الغازية، التي لعبَت دورًا حاسمًا في نشأة أنواع وألوان كتابية والتحفيز على سجلَّات تعبيرية، من جهة ثانية. إنما لا بد، رغم كل شيء، من ملاحظة محدودية الفروق نظرًا لكون الشروط السياسية والثقافية التي تحكم قُطبَي المشرق والمغرب متماثلة إلى حدٍّ بعيد، ولا اختلاف إلا في مستوى الأداء الفني على الأرجح، حين يخص الأمر التعبير الأدبي. وهو ما يعنينا التعرُّف عليه بالدرجة الأولى، وتدقيق أوصافه ما أمكن؛ لأن أقرب تعريف للكتابة في الزمن الحديث، ما سننصرف إليه، قرين بوجهها الإبداعي، بإنتاج الدلالة وصياغة الجمال، ممثلًا تحديدًا في الأجناس الأدبية، لنَقُل باختصار، بلغة القدماء، بفنَّي المنظوم والمنثور.
بَيْدَ أنه، سواء عندنا، أو في المحيط الأجنبي، ليس سهلًا إقامة حدود فاصلة بين التعابير المختلفة، من الناحية التاريخية بالذات، بل لدى الفرد الواحد، تراه صحفيًّا وأديبًا وسياسيًّا، بصفة الأديب الجامع مما كان يتطلبه موقعه، وتتطلبه منه وظيفة حقيقية ومفترضة. ليكن هذا التوصيف الأوَّلِي مدخلًا للقول بأن الإنشاء الصحفي، والعمل السياسي، والدور التربوي المرتبط بهذا الأخير عضويًّا، في بيئات تداخلَت وتفاعلت فيها هذه الوظائف كلها، هو المضمار الذي نشأ فيه الكاتب، ومن رحِم هذا التفاعل تولَّد لدينا ما يمكن أن نسميه نموذج الكاتب العربي، الذي مرَّ بأطوار ثلاثة قبل أن يستقيم عوده، ويغدو قابلًا للانضواء في النموذج – الأطوار: الفقيه المُصلِح؛ الصحفي الداعية، ثم المنشئ الأدبي. دون بلوغ الوضع المطلوب لهذا النموذج كما في البلدان الغربية حيث ثمة اعتراف قانوني بهذا الوضع، وثانيًا اعتراف قيمي اجتماعي يعود إلى نسبة التَّمدرُس العالية ومستوى التمدُّن المهيئة لاستهلاك وتقدير الخيرات الرمزية، وأخيرًا وليس آخِرًا مقدرة العيش من ريع الكتابة في بلدان تُعَد فيها القراءة وصناعتها بضاعة كاملة من كل النواحي.
سنبحث من خلال مجموع أمثلة أين يوجد النموذج، وربما يكتمل. نبدأ بالشيخ محمد عبده (١٨٤٩–١٩٠٥م)، فقيهٌ أزهري، داعيةُ إصلاح، وهو حامِل قلم، ترك لنا عديد مؤلَّفات منها «رسالة التوحيد»، و«الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية» وشرحُه لنهج البلاغة للإمام علي. يحتفظ التاريخ الثقافي للشيخ بدوره كمُصلح، ولا نجد من يأبَه كثيرًا بأسلوبه، أو يبحث في القيمة الأدبية لأعماله. يمكننا أن نجد مرادفًا له في المغرب في شخصية الفقيه والزعيم السياسي علَّال الفاسي (١٩٠٨-١٩٧٤م)، في حقبة قريبة. فقد كان الرجل من أركان السلفية الجديدة ومُطوِّريها بعد سلفه الشيخ شعيب الدكالي، ومن أعمدة الحركة الوطنية المغربية، وداعية مجدِّدًا في أكثر من ميدان، يشهد له على ذلك كتابه الشهير «النقد الذاتي» (١٩٤٧م) إضافة إلى مؤلَّفات وأشعار ومحاضرات في الجامعة، فيما بات علَّال الفاسي يُذكر الآن كإصلاحي وزعيم وطني بالدرجة الأولى، علمًا بأن كتابه ذو حمولة فكرية ليبرالية، وأسلوبه النثري متطوِّر جدًّا.
اختيارنا المنهجي
هناك، إذن، محطات ومواقع رَسمَت مسلسل التدرُّج في تبَلوُر وضْع الكاتب في الأدبيات العربية، وسياق تحولات ثقافتنا ونظرتنا كذلك لوضع ودور النُّخبة، وهذه قضية جديرة بعرض مستقل، سنصل إليه في نهاية الكتاب. لم لا نُبادِر مسبقًا، ونحن نسعى إلى الجواب عن السؤالين ذينك، للقول بأن تَبلوُر وضْع متميِّز للكاتب في بلداننا كان وما يزال، إضافة إلى أسباب موضوعية بعينها، رهن وضع النخب عامة وما تجده من عنت لتتبلور في بيئة محكومة بالاستبداد وحُكم الفرد. نزعم أن معالجته على وجه أقرب إلى فهم منطقه ومسطرة تَكوُّنه، والمعاني الثَّاوِية فيه يتطلب المرور من مَعبَر مفهوم النخبة؛ لأنه أشمل، ووضع الكاتب، وعمله، يندرجان في هذه الشمولية أولًا ثم يتفرعان تحددًا وخصوصية. ونحن سنعتمد المثال المغربي الأقرب إلى تجربتنا لا نَدِّعي أنه يفيد الشمول ويقبل التعميم تمامًا، لكنه مناسب لاستيعابه من نواحٍ عدة، المثال العربي المشرقي، والغربي إلى حدِّ مصدر الاستعارة المشترك والنموذج المرغوب. وإذا كان قسمٌ من الكُتاب في المشرق يتعالون أو يحاولون التعالي في رفعة ملتبسة فإنهم يبقون أولًا وأخيرًا أبناء المجتمع حيث يعيشون، تتحكم في عملهم وتطلعاتهم التناقضات والمصالح السائدة فيه، ويخضعون مثل فئات أخرى لإشكاليات أوضاع النخبة في بلادهم، هذا ما يجعلهم، هم وأبناء المغارب يتقلبون في همٍّ مشترك. ثم ننتقل بعد هذا إلى صُلب مشروعنا لتقصِّي عمل الكاتب العربي، من خلال نصوصه وما رسمه وسجله عددٌ من الكتاب عن أنفسهم، تكملة لما كنا أسلفناه عن الكاتب في أمثلة غربية مرموقة، نحسب أن ليس أفضل من النصوص لاستجلاء التجربة والإمساك بخيوطها، الهدف مزيد فَهْم واكتساب خبرة وتعميق إحساس، وصقل ذوق، وما أَجلَّها من أهداف في دنيا الأدب.
لهذه الغاية سنقوم باختيار محدَّد لبعض الأمثلة والنماذج الأقوى دلالة وتمثيلًا للطرائق التي ينهجها الكُتَّاب، والأدوات التي يشتغلون بها ويحققون بواسطتها أفكارهم وأحلامهم الأدبية. والحقيقة أن هذا العمل ليس يسير المنال؛ لأن ما لدينا من زاد في هذا السبيل محدود، وقِلَّة فعلًا هم الكتاب الذين تركوا لنا إضاءات مُعتبَرة ونفَّاذة عن الكيفية العملية لاشتغالهم، أو سَلَّطوا أضواء نفاذة على محترفاتهم الكتابية، إذا كانوا قد فهموا الأمر على هذا النحو حقًّا. فيما المتوفِّر بإفراط، لمن شاء، هو آراء وانطباعات الشعراء والروائيين، الأدباء عامة، عن قضايا ومفاهيم أقرب منها إلى العمومية، تتصل بالمضامين ووضع الكاتب في المجتمع، من ناحية المسئولية والالتزام، وفهمه أو انتظاراته من الأدب، لا طريقة تنظيمه وتدبيره للعملية الأدبية بخصوصياتها ووسائلها. ولا شك أن الوازع الأخلاقي والموقف الوطني والموقع الاجتماعي للكاتب في المجتمعات العربية رجَّحت النزعة الرسولية على حساب غيرها، حيث لا يُنظر إلى عمل الكاتب كحرفة ذات مقتضيات مهنية محددة، بالأحرى إن هذه المقتضيات سابقة على سواها، من قبيل أن مهارة الصائغ في صنعته للحلية سابقة على معرفة الزَّين من خلقه أو الشَّين. ثم إن الكاتب العربي الحديث كان، أحسب أنه ما زال، يُولي أكبر الاهتمام للتمرُّس على إنجاز النصوص من طراز الأجناس الأدبية الحديثة خبرته فيها تأتَّت تِباعًا، ومنجزُه منها مُتدرِّجًا، والوعي بها، أيضًا، متأخرًا أو لنقل إنه لاحِق. إن الوعي الفني للكاتب في الآداب الغربية احتاج إلى وقت طويل، وما التطور النوعي الذي عرفته الأجناس المعنية، الذي تعدَّدت تسمياته بين تيارات وأساليب وطُرق فنية، ما هو في الجوهر إلا مسار التدقيق والتصويب، الشحذ والتقويم للوصول إلى النموذج الأمثل في كتابة جنس أدبي مُعيَّن، ليكن الرواية، مثلًا. شأنه شأن الوعي النقدي المُحايِث والملازِم، وجدناه تكوَّن في مراحل، كما احتاج إلى التَّقلُّب في تمارين تطبيقية رغم أن مُنفِّذيها اعتبروها منذ البداية أمثلة صالحة، ومُفحِمة في معالجتهم لنصوص عصرهم. ومن المفيد في هذا الصدد اعتبار التطوير، فالتغيير والتجديد الذي يطول أعمال الكاتب بمثابة خطاطة خلفية لنظراته عن طريقة العمل الفنية، وتدبير المهارة الكتابية، هو ليس في حاجة إلى التصريح بها ولا تقييدها وتقعيدها نظريًّا، فتلك مهمة الناقد والدارس بالدرجة الأُولى.
نحتاج بعد هذا إلى تدقيق أن ما سنُعْنى به هو النص السردي التخييلي؛ لأنه يتيح إمكانية متابَعة مناسبة لعمل الكاتب، باعتباره نصًّا حديثًا اضطر فيه الكاتب إلى تَعلُّم جديد أي غير مسبوق، بحكم جِدَّة الفن القصصي العصري في أدبنا العربي، تاركِين الشعر الذي يُعَد ديوان العرب، الذي تقلب في تحولات تحتاج إلى مقارَبة مستقِلَّة. فهذا الديوان يمثل موروثًا غنيًّا، متعدد الطبقات، كثير المواهب، متنوع الأغراض والخصائص، توفَّرَت له تقاليده، ثقافته الشعرية المنضدة في كتب القدماء، المتوافقة في قيمها ومعاييرها مع ما يمتلكه من نبوغ (نخص بالذكر هنا من بين مدوَّناتٍ أمهاتٍ، كتابَيْ «عيار الشعر» لابن طباطبا، و«العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده» لابن رشيق) حتى إذا دخل الأدب العربي العصر الحديث، والتقى وتأثَّر بآداب أخرى، فإن هذا الشعر غُيِّر مجراه، وانتقل إلى مجالات وآفاق في التعبير إما لم يطرقها من قبل، أو جاءها على منوال آخر. وإذن، فإن هذا المنوال يحتاج إلى درس مستقل، يناسب المتن الجديد المتغيِّر، من ناحية رصد عناصر العمل الشعري، وبالضبط كيف يفكر فيها الشاعر، ويضبطها بلاغيًّا ولغويًّا وإيقاعيًّا ليأتى عمله على الوجه المأمول.
نزيد مُدقِّقين بأنَّنا نحصر اختيارنا لبلوغ هذا البحث في كُتَّاب محدودِين نرى أن ملاحظاتهم، وليس انتماءاتهم القُطرية، بأي حال، تُقدِّم لنا إفادات وجملة ملاحظات في موضوعنا تغنيه من زوايا متعدِّدة. بَيْد أنهم أعلام مكرَّسون، لهم مؤلَّفات في القصة القصيرة والرواية، مشهود بنضجها، علامات في بابها، راسخون في الكتابة ومجدِّدون، مسيرتهم الإبداعية تواصلت طيلة عقود، بالتالي أضحت نصوصهم مؤهَّلة للدرس، ووضعها في ضوء فحص وقراءة مطلبها تتبع وحصر وتقويم أدوات ونهج الكاتب العربي في عمله، فأي عمل!