الفصل الثالث
يحيى حقي: معلم فن الأسلوب
لا نجد أفضل من الأديب يحيى حقي (١٩٠٥−١٩٩٢م)
لرصد عناصر دقيقة وهامة من تجلي رؤيوية عمل
الكاتب، أولًا، ولنتبين، ثانيًا، نوع العُدة التي
يشتغل بها، وأي أهمية يوليه لها. لقد استطاع هذا
الكاتب المخضرم أن يجمع في مسيرته الأدبية وأعماله القصصية
١ خلاصات أكثر من جيل، من نواحي
الريادة، وحسن التأسيس، والمثابرة على زرع وتغذية
بذور الفن الحديث، واقتحام حصون منيعة فيه، مكَّنتْه
ثقافته المزدوجة، وتنقُّله بين بيئات ولغات، بحكم
عمله الدبلوماسي، في مرحلة أولى، ثم إشرافه على
مؤسَّسات للنشر (مجلة «المجلة» تحديدًا ابتداءً من سنة
١٩٦٢م) لاحقًا، من أن يكون أحد كبار الدعاة إلى
التجديد القصصي ورعاية مواهبه، بعد أن أسهم قبل
ذلك في إرساء دعائم التأسيس. وبحكم الريادة واجَه
حقي، مثل أضراب له وأنداد (محمود تيمور أبرزهم)،
صعوبات مرحلة تميَّزت ببداية أفول القديم أو تراجعه،
وانبثاق القوالب والأساليب الحديثة، فاصطدم بمسائل
وصعوبات فعلية، لغوية وبلاغية وفنية، تتدخَّل في
بناء العمل، وتتحكَّم في توصيله إلى قارئ تكوَّن
بالمعارف والسنن القديمة، وقارئٍ كان بعدُ في طَور
التكوين. هكذا اتجه تدريجيًّا إلى صياغة سجل أدبي
غير مسبوق، هو ما سيمثل في العقود الأولى من القرن
العشرين النسيج المستحدَث في الأدب العربي، ممثلًا
في أجناس دخيلة، وأنماط وأساليب تعبيرية بِنْت
زمانها. تَتأتَّى أهمية ملاحظات يحيى حقي، بعد هذا، من
صدورها عمَّن مارس الصعوبات والعقبات في الكتابة
نفسها، وليس من خارجها، وبتكوين خبرة نقدية عنها.
وما الخبرة النقدية التي نجنيها إلا ثمرة التفاعل
بين نَص في طَور التكوين، وحِس فني، ووعي فكري
واجتماعي، تُفضي كلها إلى ميلاد كتابة مختلفة
لجمهور ناشئ ومتطلب، يحتاج إلى بضاعة مناسبة
لعصره. لقد كان حقي أقدر على فَهم هذه الحاجة،
وتوثيق عُرى روابطها، ونجح فعلًا في ذلك.
في حصيلة عُمر، هي بمثابة سيرته الذاتية، يعدِّد
صاحب «قنديل أم هاشم» مصاعب واجهها مع جيله المؤسِّس
للكتابة الحديثة، أوَّلها يراه في الأسلوب، انظر كيف
يصف الصعوبة من هذه الناحية، كالتالي:
«كان علينا في فن القصة أن نَفُك مخالب شيخ عنيد
شحيح، حريص على ما له أشد الحرص، تشتد قبضته على
أسلوب المَقامات، أسلوب الوعظ والإرشاد والخطابة،
أسلوب الزخارف والبهرجة اللفظية والمترادفات (…)
أسلوب الحدوثة التي لا يقصد بها إلا
التسلية» (ق ص١٥).
٢
واضح أن الأساليب الموصوفة هي التي سادت في
أنواع الكتابة القديمة بأغراضها المختلفة، ناسبتْ
زمنها، وأبناء الجيل الحاضر للكاتب يعلنون رغبة
التحرُّر منها، تُكبِّل نزوعهم لقول آخر، رغم أنهم لم
يتربوا عليه، ولا يمتلكون زمامه ويفتقرون بعد إلى
أدوات صنعه، إلا أنهم يرونه الأنسب إلى زمانهم:
«كنا نريد ن ننتزع من قبضة هذا الشيخ أسلوبًا
يصلح للقصة الحديثة كما وردت لنا من أوروبا، شرقها
وغربها، ولا أتحول عن اعتقادي بأن كل تطور أدبي هو
في المقام الأول تطور أساليب.»
٣
الهدف، إذن، هو القصة، ويتضح الوعي الفني
المبكِّر للكاتب لدى نظرته إلى تغيير أسلوب النقل
والوصف؛ أسلوب القول في هذا الفن الجديد شرط لا
مناص منه لإنجاز القصة. بل يذهب الكاتب أبعد عندما
يُصدِر حكمه الجازم، وهو حكم صائب بلا جدال، بَرهَنه
التطور الأدبي بتطور حتمي للأسلوب. إن إيمان كاتِب
ما بحتمية التطور يُلحقه بسلالة المبدِعين
الحقيقيين، وبشجرة أنساب الأدب الكبرى التي ما نمت
وتشعَّبَت فروعًا وتكاثفت أغصانًا إلا بتقرير هذا
الناموس حتمًا، وإلا فمصيرها الذُّبول والزوال. هكذا
يكون يحيى حقي، وهو يحدد أداة رئيسًا لعمله، قد ضبط
تغيير الأسلوب، معتبرًا الفن مرادفًا للتجديد،
وبعبارة أخرى جاعلًا ما استمر كتابة بالأساليب
القديمة خارج الفن، ولا قِبَلَ للقصة به، تتطلَّب
أسلوبًا غير ما جاءت عليه المقامة بزخارفها
وبَهْرجها.
لا أعرف ردًّا أقوى ولا أصوب من هذا في دفع من
قالوا بإمكانية توليد الجديد في لبوس القديم،
أولئك الذين عانَدوا في أن فنَّ القصة موجود في تراث
العرب — الحق أنه موجود في تراث جميع الأمم، بلا
استثناء — مكابرين أو غير مُكترِثين للجدة التي جاء
عليها السرد التخييلي مناط الرواية والقصة
القصيرة، المُسْتَنبَتتَين في أدب العرب الحديث،
البعيدتين عن موروثه. هكذا تتهافَت تمامًا مقولة إن
مقامات المويلحي تُمثِّل صيغة قصصية مختلفة عن
سابقتها، أو هي بمثابة نص تجسيري بين ماضٍ وحاضر،
وذلك ببساطة؛ لأن التطور، كما قال حقي، هو المعيار
الفيصل.
لكن، عن أي أسلوب يتحدَّث حقي، ما هي خصوصيته،
وبأي أداة وطريقة يتكون؟ يجيبُنا:
«ولست أخجل من القول بأني منذ أمسكتُ بالقلم
وأنا ممتلئ ثورة على الأساليب الزخرفية، متحمِّس أشد
التحمُّس لاصطناع أسلوب جديد أسميه الأسلوب العلمي
الذي يهيم بالدِّقَّة والعُمق والصدق …»
٤
ما هو الأسلوب العلمي الذي يطالب به، يا
تُرى؟
هو «أسلوب يتميَّز بطلب الحتمية والدقة والوضوح؛
لأن اللفظ عندي هو وعاء الفكر، ولا وضوح لفكر إلا
بهذا الأسلوب العلمي الدقيق.»
٥
واضحٌ أننا إزاء مصطلحات تحتاج إلى تفسير،
سرعان ما يبادر إليها:
«مفهوم الحتمية … حتمية اللفظ، هو أن يختار كل
لفظ بدقة ليؤدي معنًى معيَّنًا بحيث لا يمكنك أن تحذفه
أو تضيف إليه لفظًا آخر أو تكتب لفظًا بدلًا من آخر …»
٦ كأنه يقدم لنا تعريفًا مرادفًا
للفصاحة كما حدَّدها العرب القدامى، وهو على نزعته
التطورية، التجديدية فنيًّا، يبقى حريصًا على
المعيارية اللفظية، تحسبه محافظًا، وهي محافَظة
الصائغ، المدقِّق.
إننا ننتقل هنا إلى خصوصية اللفظ، ونوعه،
وكيفية استخدامه من لدن الكاتب، هو أداته الأولى؛
لذا يبدو حَقِّي حريصًا على تدقيق أهميته من نواحٍ عدة؛
لنقرأه يقول:
«… قد أكتُب الجملة الواحدة ثلاثين أو أربعين مرة
حتى أصل إلى اللفظ المناسب الذي يتطلبه المعنى …
وأهمية هذه الدعوة ترجع إلى أنها تُعوِّد الذِّهن على
عدم استعمال ألفاظ عائمة، معانيها غير محددة،
وموضوعة في مكانها بلا سبب واضح … فمثل هذه
الألفاظ لا تُخلُّ بالمعنى فقط، بل تشل قدرة الذهن
على التفكير الناضج المحدد … ولذلك أضيق أشدَّ
الضيق باستهانة الكُتَّاب باللفظ واستخدامهم كلمات
بلا معنًى.»
٧
يدعو النقد الأدبي القديم عند العرب إلى كبير
عناية باللفظ في الاختيار، والاستخدام، وتوخِّي
الجزل والصواب، والبعد عن الحشو والإطناب. كما
أولاه البلاغيون أهمية خاصة، ويشغل مكانة دقيقة
لدى شُرَّاح القرآن في عِلمَي التفسير والتأويل. ويمكن
الرجوع إلى الجاحظ، وقُدامة، والجرجاني، على سبيل
المثال فقط، لتبيُّن أهمية موقع اللفظ في المبنى
وتأثيره على المعنى.
٨ وعن هذا المنهل يُصدِر يحيى حقي في نظرته
النقدية عن اللفظ، مع الحرص على ربطه بقضية
الأسلوب لتصب في مجراه، وتكون في خدمته أساسًا. هو
ما يؤكده حقي بقوله، مستذكرًا سيرة عائلية:
«كان الجو الغالب على بيتنا يتلخص في ثلاثة
مظاهر، الأول: شغَف برشاقة اللفظ، والابتهاج
بالتوفيق في العثور على الكلمة المناسبة للمعنى.
لذلك كانت الخطابات التي نتبادلها تُكْتَب بأسلوب
أدبي مُتأنِّق.»
٩
وها هو يعلن تفضيله لروايته «صح النوم» «لأنها
تطبيق صارم للمبدأ الذي أنادي به في ضرورة التزام
الدقة والعمق في أسلوب الكتابة. فليس فيها لفظ
واحد لم يكن موضع جس ووزن. وفيها صفحات كاملة لا
يتكرر فيها لفظ واحد. والمسألة ليست صنعة بقدر ما
هي ثراء في المعاني والأحاسيس التي تتطلب ألفاظًا
لا تتكرر.»
١٠
لا تتوقف الدعوة إلى العناية بالأسلوب، وتقدير
أهميته عند الكاتب الحد الذي نرى، بل هي تمتد إلى
أبعد، في وضع لغوي يتميز في ثقافتنا وحياتنا
بازدواجيته بين فصحى وعامية. ولا شك أن الذين
جذبهم النوع القصصي الحديث، وما يحتوي عليه من
تعدُّد الحوارات والأحاديث بين شخصيات من مستويات
اجتماعية وتعليمية مختلفة، استوقفتهم هذه المعضلة
من غير شك، وشغلهم موضوع الحيرة بين استعمال
الأداتين اللغويتين معًا إما بالتوفيق بينهما، أو
الحسم لصالح واحدة؛ شغل بال الكُتَّاب والنُّقاد على
السواء، وكان له في الصحافة ضجيج، ونظن أنه ما زال
محل نقاش إلى اليوم بين مَعْشر الكُتَّاب العرب، وإن خف
عن الماضي، كما لم يَعُد كثير من الكُتَّاب بدعوى نوازع
متعدِّدة يتحرجون من ناحية استخدام العامية، أو
دمجها في نصوصهم، خاصة المقاطع الحوارية منها.
بالطبع، لم يكن يحيى حقي، وهو من الرُّواد المرسِّخين
للفن القصصي غريبًا عن هذه القضية، لا سِيَّما وهو يتجه
في سروده إلى نقل الأجواء الشعبية والطقوس
اليومية. وبما أنه يعتبر اللغة، واللفظ عدة
الكاتب، واستخدامهما على الوجه الأحسن لصياغة أفضل
أسلوب همه الكبير، لم يَفُته إبداء الرأي، وبحسبه
مضى في كتابته؛ يقول:
«وقد داعبَتْنا اللغة العامية أول الأمر فهمَمْنا
نجري إليها — لا هربًا من مشقة الفصحى فحسب — بل
لأننا كنا نَتلهَّف أن يكون الأدب صادق التعبير عن
المجتمع، ولكننا تحولنا — كأنما بدافع غريزي — إلى
الفصحى؛ لأنها الأقدر على بلوغ المستويات الرفيعة،
على ربط الماضي بالحاضر، على توحيد الأمة العربية.»
١١
ولو أننا جرَّبْنا الخروج من حدود الحلقة اللغوية
التي انصبَّت عليها الفقرة السابقة لوجدنا أنها تثير
إلى جانب إشكالية ازدواجية اللسان والقلم، مسائل
في النقد الأدبي على درجة قصوى من الأهمية، كانت
نُصب أعين الكُتَّاب، كُتَّاب المرحلة، وهم يَطرقون
العَتبات الأولى للفن القصصي، في مقدمها مسألة الواقعية.
١٢ إن الرواية بإجماع الدارسين هي فن
الواقع بامتياز، تحتفل بعوالمه، وتقوم برصد
وملاحظة ما ينعكس على سطحه، وفي جوفه أيضًا، ومن
تاريخ بنائها وتطوُّرِها، وتنوُّع المدارس الروائية ليس إلا
جزءًا من فَهم وتأويل الواقع كما يراه الكُتَّاب،
ويقومون بعد ذلك بتصويره. ولا شك أنه وعي مبكر عند
الكاتب العربي بإدراك ما يرومُه فنُّ القَص، نرى مظهر
هذا الوعي عند يحيى حقي جليًّا في كتابه المؤسِّس «فجر
القصة المصرية»، كما نراه في نصوصه التشخيصية
لمهارته القصصية مثل: «قنديل أم هاشم» (١٩٤٤م)، أو
مجموعة «صح النوم». وسواء فيما هو إبداعي خالص،
أو نظري نقدي، فإن حقي ركَّز بقوة على تصوير بيئته
ونقل أجوائها الشعبية، واصفًا هذا اللون من الكتابة
بالأدب الصادق. أدب يُعَرِّفه بأنه «هو الأدب الذي،
وإن سُجِّل وحُلِّل وكُتِب بأسلوب واقعي، لا يكتفي بذلك،
بل يرتفع إلى حد التبشير …»
١٣ لقد أرَّقَت مسألة الواقعية يحيى حقي،
وجيله، من المتربِّصين بالإنشاء السردي الحديث في
بداياته، وهو يحكي لنا في هذا المعنى نادرة لطيفة
تثبت هذا الشاغل، الذي يُعَد في العمق دليل عناية
صاحبه بما يكتب، وذلك مع أول قصة نشرها بجريدة
السياسة بعنوان «قهوة ديمتري»، «وصفتُ فيها قهوة
حقيقية موجودة في مدينة المحمودية، وسجَّلتُ فيها
الواقع كما هو، وصوَّرت العمدة بطربوشه المائل كما
رأيتُه تمامًا … مجرد تصوير بريء لم أقصد من ورائه
شيئًا، فإذا بالعمدة يغضب عليَّ غضبًا شديدًا ويظنني
أهزأ به.» لينتهي إلى استخلاص الدرس النقدي من هذه
الحكاية – النازلة، وهو درس حَرِي بكل قاصٍّ أن يضعه
نصب عينيه إن كان يريد أن يفلح في هذا المضمار؛
يقول:
«حرصتُ فيما بعدُ [بعد الحادثة] على أن أتجنب مثل
هذه المطابقة، بعد أن فهمتُ أن الأدب الواقعي ليس
هو التصوير الفعلي، وأصبحَت الشخصيات التي أرسمها
ليست منقولة عن فرد واحد، بل عن مجموعة من الأفراد.»
١٤
يمكن تعميم ملاحظات حقي على أكثر من قاصٍّ وروائي
من جيله الأربعيني، وما بعده، خاصَّة وقد أخذَت
الرواية تشهد تناميًا مُطَّرِدًا في كَمِّها، وتنوُّعًا
وتخيُّرًا في خصائصها الصياغية، وهي في سعيها نحو
مزيد رسوخ وبحث عن الاكتمال، حرص كُتابُها أشد
الحرص على الالتصاق بصغير الحياة اليومية وكبيرها
من شواغل الأفراد، والمجتمع عامة. كل أديب، قاصًّا،
روائيًّا، مسرحيًّا، وشاعرًا، أيضًا، كوَّن عُدتَه، وشحذ
أدواته الملائمة لفنه، بناءً على خدمة هذا الشاغل
المِلْحاح. من هنا يمكن القول بأن نزعة الواقعية،
فضلًا عن أنها تستحوذ على الرؤية الذهنية
والتخييلية للكُتَّاب، شكَّلَت ناظمًا مركزيًّا لإنتاجهم
يَسِم السرد العربي الحديث، وسيستمر حاضرًا بقوة،
مهما تعدَّدَت المقارَبات الفنية والمحصلات الموضوعية
عن واقع، هو ذاته لم يفتأ يتقلَّب بين أوضاع وهيئات
شتَّى، مستحِثًّا بذلك على تطوير الصياغة، وتنويع المنظور.
١٥ ومع يحيى حقي يعثر القارئ، ومؤرخ الأدب
ودارسه على النموذج الأمثل لمن عرَف ماهية صنعة
الأدب، وما تحتاج إليه من عناء ودربة وأدوات
مهارة، وبصفة خاصة الإحساس بأهمية أن يُطوِّر الكاتب
عمله. لا عجب أن يكتب حقي في سيرته الذاتية
الأدبية: «ومنذ اشتغلت بكتابة القصة القصيرة، وأنا
أحاول دائمًا العثور على أشكال فنية جديدة.»
١٦ وأن «الفنان الصادق هو الذي يشعر أن
المعبد الذي يعيش فيه يجب أن يستمر وأن يسلمه إلى
جيل آخر.»
١٧