إدوار الخراط: الفنان خلَّاقًا
مع إدوار الخراط (١٩٢٦–؟) يمكن القول بوثوق بأن موضوع علاقة الكاتب بعمله، وتدبيره لشئونه، من ناحية عُدَّته، والحرص على تنظيم والتحكم في أدواته، إضافة إلى امتلاك مفهوم محدَّد عن الجنس الأدبي بتفادي الاعتباط، لهي صفاتٌ تَلمَع في المسار الأدبي لروائي وسارد الإسكندرية الأول، إضافة إلى الخصائص الفنية الرفيعة لأعماله السردية، قديمها وحديثها. والحق أن مسيرة تمتدُّ نصفَ قرن في نسج القصة القصيرة والرواية، وبينهما جملة نصوص نقدية وأخرى بينية النوع (مما يسميه محكيات)، لمن شأنها أن تصنع نموذجًا معتبرًا للكاتب المحترف الذي لم ينقطع خلال هذه الفترة كلها عن كلماته، تحسبها هي قُوَّته وهواؤه، نعرف أنها ابتدأت سنة ١٩٥٩م بنشر المجموعة القصصية الأولى: «حيطان عالية»، وتدرَّجت منذئذٍ متناوبة بين القصِّ القصير والسردي الطويل، بدون هُدنة ولا تعثُّر، محققة تراكمًا هامًّا هو من بين أنصع النتاج السردي العربي في القرن العشرين، طابعه دائمًا الفن المتسنِّم لذُراه، لا يقنع بما بلغه إلا ليتجاوزه إلى أبعد وأعمق، وخاصة حيث يمكن الكشف عن مناطق الخفاء واللغز لدى الإنسان، وكله بتقنيات وأساليب يحرص مؤلِّف الرواية الفخمة «رامة والتنين» على نحتها وصوغها لتأتي في أقوى وبأدق قوام وبأجدِّ وأبهى حلة.
ليس إدوار الخراط بعيدًا تمامًا عن يحيى حقي، من وجه معيَّن، وتراه حين يكاد يلتصق به يهرب من مداره صانعًا لنفسه مجرَّته الخاصة، وهي كذلك بلا ريب. هو بدوره مخضرَم. وُلِد في العقد الثاني من القرن الماضي، وبدأ الكتابة ومَدُّ الواقعية على أشده، بعد أن أرسى أُسُسها رُواد القصة المصرية: محمد، ومحمود تيمور، طاهر لاشين، حَقِّي، وصولًا إلى نجيب محفوظ أستاذ الأجيال. من الطبيعي أن تراوده شئون هذا التَّيَّار، ويسبح فيه قليلًا أو كثيرًا، لكنه هو، وكمن اتخذ مسبقًا قرارًا بهذا لن يُجدِّف طويلًا في هذا المجرى، دفعه شراعُه الفني نحو مياه تصطخب بأمواج هوج، ولا تهب عليها إلا عاتي الرياح. فقد شهد النُّقاد للمجموعة الأولى بجنوح مُضاد للواقعية الموسومة بالاجتماعية، وتوجهه للغور في عمق النفس البشرية، واستبطان المشاعر. ذلك الاستبطان الذي تحوَّل عنده ابتداءً من مجموعة «ساعات الكبرياء» إلى رؤية كلية ستتسع تدريجيًّا لتشمل الخارج والداخل، وتصهرهما في وحدة مُنسجِمة، تنطلق من دقائق الحسي لتعلو نحو التجريد والمجاز، ولو شِئنَا النعت لقُلنَا إنها رؤية فردانية وجودية، ولذلك تجد أن لغتها وخطابها كثيرًا ما يَسبَحان في الشعرية والمجاز، غير مكتفِيَيْن بالتعيِين والوصف الأولَيَيْن. ومن الطبيعي أن كاتبًا رهَنَ فنَّه منذ البداية لمثل هذا التحوُّل في مجرى الكتابة وموضوعها وضمنهما جماليتها، ثم أصبح ذا مدرسة تعرف بتسمية «الحساسية الجديدة» وأضحَت عَلمًا عليه، ترمز لقطيعة مع تقاليد والتزامات أدبية بعد نكسة حزيران ١٩٦٧م، واستبدالها بتصوُّرات وأساليب وطرائق مغامرة في الكتابة الشعرية والتخييلية، تعبيرًا عن غضب وحضور جيل جديد هو جمهرة الأدباء الشباب المجدِّدِين الذين نعت الخَراط عملهم باسم فضفاض، لكنه الملائم، لتجارب ذات روافد ومياسم متباينة، متضاربة، على غرار ما عرف عن رعاية يحيى حقي في مدرسته بمجلة «المجلة» لمثل هذه المواهب بحدب أبوي حقًّا؛ مثل هذا الكاتب لا بد أن يتوفَّر وهو المحترِف على محترَف ينظم فيه أدوات عمله، وقاموسٍ يختص بتعريف مصطلحاته، وما يشبه دليلَ السير لمن يهتدي في طريق روائي غير خطي؛ أي لا واقعي، وإنما متعرِّج، لولبي المسار، متمرِّد على نظام الوحدات الثلاث الكلاسيكي في القص.
وثمة سؤال يَرد على لسان كثير من القُراء، أو يخطر ببالهم، قد يَقبَع في لاوعيهم وهم يَروْن أمامهم أعمالًا مكتملة، ناضجة ومستساغة، نعم إنهم يتساءلون كيف تأتَّى لكاتبها أن يصل بها إلى ما هي عليه لكي تقنعهم، وتجد بينهم من يتمنى لو أنه صاحبها، أو يقبل على تقليدها. يقع السؤال طبعًا في قلب النشاط الذي يمارسه المؤلِّف في محترفه، أو ما يفترض كذلك. هنا يقدم لنا الخراط طريقته الخاصة، التي سنرى أنها تمر بمرحلتين؛ أي إن التأليف القصصي ليس اعتباطيًّا البتة، بل مرتبط بعملية اسمها التخطيط، على نحو معيَّن:
– هذا عن الخطاطة العامة والتَّصوُّر الوجداني لنشأة العمل، فماذا عن البناء الروائي؟ الشخصية عمادٌ فيه، مَن هي؟ وكيف تبنى؟ وهل هي مَستقاة من الواقع مباشرة؟ بما أننا نجد فيها ملامح الآخَرين، ومنطبِعةً بأخلاقهم وتمشي حسب سلوكهم، وعمومًا تُحيل إليهم بهذا القدر أو ذاك. من الطبيعي أن تنبت مثل هذه الأسئلة في طريق الروائي، لما تحتله الشخصية من موقع محوري في أي عمل سردي، قادت الأحداث أو انقادت لها، ولا نعلم روائيًّا ذا قيمة وصيت لم يرتبط اسمه بواحد من شخصياته، وتاريخ هذا الفن يعطينا عشرات الأمثلة إلى حد أن هناك شخصيات طَغت على مؤلِّفِيها شهرة في آداب العالم كلها (بوفاري؛ السيد ك؛ كمال عبد الجواد)؛ يستحضر الخراط، إذن، سؤال الشخصية بصيغة تناسبه: «ما هو العامل الأقوى تحكُّمًا بنشأة شخوصي ثم بمصيرها؟» ليجيب:
واضح أن نوعية أسئلة الروائي المصري المجدِّد إدوار الخراط، وطبيعة الملاحَظات التي يسجلها عن فهمه الخاص للكتابة وطريقة تشغيله لجملة من أدواتها، وأسلوبه الفني والعملي، لتُظهِر حقًّا، أولًا، تطورًا بيِّنًا لمفهوم الكاتب العربي من زماننا عن الكتابة عمومًا، والرواية تحديدًا. وهي، ثانيًا، تفيد تَغيُّرًا في درجة وزاوية نظره إلى الأدوات والطرائق المبتغاة لهذا الفن، والتي كانت محصورة قبل ذلك حتمية تصوير النص للواقع في تجلياته الاجتماعية الأبرز. هكذا يمكن القول إن هذا الكاتب ينتقل من موقع الداعية صاحب الشهادة والموقف إلى صعيد الفنان الذي يُولِي لصيغ تبلور نصوصه أكبر الأهمية، غير مكتفٍ، أو متوقف، دأبه في الماضي، بإعلان التزامه الصريح أو المضمر — الذي كان مرجَّحًا على أي شيء آخر — متجاوبًا بذلك مع حاجة مُلِحة من قِبَل تطلُّب أيديولوجي، أو ذائقةٍ قرائية حقيقية مَرةً، ومفترَضة مَرات.
واضح، من جهة ثانية، أن إيلاء المسائل الفنية عناية دقيقة، وتحويل حقل الكتابة إلى مضمار تجربة متواصلة للبناء والتنظيم بفكرة بناء عالَم ذي خصوصيات تتضافر فيه العناصر التكوينية الداخلية للنص الأدبي (= الروائي) دَوالَّ ومدلولات، لهو منجزٌ حقيقي يرقى بها، وبمنتجها معًا، من مجرد تضمين معانٍ، والتبشير بقيم على خط مسئولية قيل دائمًا إنها مُلقاة على عاتق الكاتب، إلى المجال الاحترافي، حيث يمكن للروائي أن يقول إن له وضعًا متميزًا. وسواء اعترف المجتمع أو تَأبَّى عليه لسبب ما، تراه يعاند في هذا المسار بحِرَفِية ما تنفك تزداد رسوخًا، وهو المثال الذي ينطبق حرفًا على الخراط، وعلى آخرين لم يَعودوا أمثلة استثنائية في البيئات الأدبية العربية، رغم أن بضاعة الكتاب لم تتحوَّل بعد في مجتمعاتنا إلى سلعة استهلاكية كاملة تسمح لصاحبها بالعيش من منتوجه، والاحتراف الفعلي بالتفرغ كُليًّا لإنتاجه.
•••
لذلك، سنواصل تقديم ما يلائم هذا التطور، وينسجم مع تحوُّل نراه ناجمًا بالأساس من تنامٍ يزداد تمكنًا من النفوس، الكُتاب وغيرُهم، في صدارتهم جمهورُهم، بالشعور الذاتي، وشخصية الفرد، بعد أن كان للإحساس الجماعي، وتبعاته، سلبًا وإيجابًا، السطوة على أي شعور آخر، حدًّا يعتبر معه التعلق بالذات والتغني بأشجانها، مما هو من فطرة الإنسان، نقيصة، يُقدَح مجترِحُه بالرومانسية من قِبل دُعاة الواقعية الفجَّة، وبالانتماء إلى «البورجوازية الصغيرة» بوصفها طبقة انتهازية، عند مُعتنقِين محترفين أو مقلِّدِين للماركسية اللينينية، هَيمَنوا بعقلية غَبِية وتابعة خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين في العالم العربي، فروَّجوا لمفاهيم سطحية ومبتذَلة عن الأدب والفن والثقافة عمومًا، اعتبروا الأدباء بمثابة جنود وخَدم في «كولخوزات» الواقعية الاشتراكية. وتنامي الإحساس الفردي جاء مقترِنًا بتصاعُد المطالبة بالحريات الفردية والجماعية، غير المتناقضة، لا بل هي متكاملة، ومن ثم فإن جيلًا جديدًا من الكُتَّاب العرب، منذ مطلع العقد السبعيني الخالي تحديدًا، كان قد شرع بوعي، وإثر انتكاسات أيديولوجيات وأنظمةٍ خَسِرت رهاناتها، وما خطَّطتْه من مشاريع لتحرير الإنسان وتغيير المجتمع نحو الأفضل؛ شرع يعلن صوت فردِيَّته المقموعة، لَكَم كبَتَها نقدٌ أدبيٌّ لم يقرأ النص إلا في ضوء سَحْق هوية الفرد ومشاعره الفتية، وانتقلَت الفردية إلى نبرة بَوح حزين ومنكَسِر كانت القصيدة وعاءه الفني بالدرجة الأولى، والسرد التخييلي حَفَل به كذلك إلى حد بعيد تجلَّى في الانحسار التدريجي للواقعية التسجيلية والنقدية والانتقال إلى واقعيات احتمالية، وإلى انطباعيات وتخييليات شعرية اتخذت الذات منظورًا، والفرد محورًا لها.
لا ينبغي النظر إلى إبدال الفرد تخلِّيًا عن الجماعة، أو الطبقة الاجتماعية التي طالما تحدث النقد أن الكاتب يصدر عنها، ويُعبِّر عن هواجسها. لسوف تستمر الإحاطة نفسها، ولن نجد من يحيد عنها إلا ليعود إليها مداورةً أو عبر البحث عن مسوغ فني يبعد الخطاب عن المباشرة، قد أسبغ عليه لبوسًا على مقاس الشخصية أو الحالة أو الحدث الموصوف والمطروق، نسيجه وطرزه منه لا مُمْلى لغاية معنوية سابقة، ثم وفي مرحلة لاحقة، هي امتداد للسبعينيات، لن يبقى الكاتب العربي متراوحًا بين جاذبيتين تتنازعان اهتمامه وأسبقية نظره، بل سنراه يَتَّجِه لحسم المنظور بترجيح مقام الفرد الذي هُو، قبل أن يكون آخَر أو غيره. لقد فَهِم أخيرًا أنه ليس بوسعه حقًّا التعبير عن سواه، إن لم يعِ ويحس عميقًا بأنَاه، هذه التي لن يبقى استحضارها في الصدارة أو المرافقة شأنًا مَعيبًا، ولا مَدعاة تبخيس نَقدي. ومن ثَمَّ سيذهب أبعدَ منتقلًا إلى جعْل الكتابة بأجناسها المختلفة حقلًا متموِّجًا للمغامَرة الفردية، بالتذويت التدريجي، ثم شبه الكلي بعد ذلك للمنظور الواقعي للأحداث، للمرئيات، وللعلاقات من كل نوع. انعكس هذا كله بطبيعة الحال على لغته وأسلوبه، وعمومًا جماليات التعبير، وخطط الوصف والتمثيل والحبك حدًّا أحدث تحوُّلًا قطائعيًّا في لغات وأنواع الخطابات وأساليبها، مما استدعى من النقد الأدبي أن يعيد النظر في سابق معاييره ومفاهيمه عن الكتابة الأدبية، وفي أشكال تخلُّقها في ضوء تغيُّرات جذرية على الأصعدة كافَّة، ما انفكَّت تتلاحَق تهز الأرض تحت أقدام بني الإنسان العرب، وتتطلَّب من الكاتب استجابة خطابية وإبداعية مناسبة تضعه فعلًا في قلب زمانه.