الفصل السادس
عبد الرحمن مجيد الربيعي
– نظام المحترف –
يُعدُّ عبد الرحمن الربيعي، الروائي العراقي الأهم
من أبناء جيله الستيني، وبعدهم كذلك، بلا مُنازِع،
وواحدًا من أقطاب الرواية العربية الحديثة، لا يمكن
الحديث عنها، ولا رسم تمثيلاتها، وجمالياتها،
وإبراز مجموع خصائصها بدون الانتباه إلى أعماله
وإسهاماته المتميزة.
وعلاقته بهذا الجنس الأدبي الصعب، قل بالقصة
عامة، فهو كاتب قصة قصيرة، ومنها انتقل إلى
الرواية، علاقة عمر مديد، ابتدأت منذ ستينيات القرن
الماضي، وما تزال إلى راهننا في مزيد عطاء ووعد.
يصفها قائلا: «لعل القصة بالنسبة لي رفيق درب،
مثلنا كمثل اثنين الْتقَيَا صُدفة، مسافرين ضَمَّتهُما
عربة واحدة، تحدَّثْنا معًا فأحسسْنَا بالتقارب بيننا،
فكان أن عقد بيننا هذا التزاوج الجميل الذي لا
يمكنني أن أتصور الحياة بدونه.»
١ وهو يصنِّف العلاقة في مرتبة الاستعداد
الفطري: «يبدو أن هناك استعدادًا عند بعض الناس
ليكونوا ساردين.»
٢ وهو، بالطبع، واحدٌ منهم، تهيَّأ له فن
القصِّ مِن محيط الحكايات الشعبية، كما الأمر رائج
عند قُصَّاص عرب كثير، ولوحظت موهبته مبكرًا في
الإنشاء المدرسي، وتدريجيًّا بعد المرور بتعبيرات
فنية متعدِّدة، الرسم والمسرح على رأسها، إلى أن وَجد
نفسه يستقرى أخيرًا على القصة: «جئت الرواية من
القصة القصيرة، قبل ذلك من الفن التشكيلي،
[باعتباره خِرِّيج معهد الفنون الجميلة ببغداد] ومن
محاولات مُتعثِّرة غير جادَّة في كتابة الشعر.»
٣ وفي مسيرته الكتابية الطويلة راكَم
الربيعي ما بين عشرين ونيف، بين مجموعات قصصية
أولاها «السيف والسفينة» (١٩٦٦م) عدَّها النُّقاد في
زمانها رائدة تجديد القصة العربية في العراق،
وروايات دشَّنها ﺑ «الوشم» (١٩٧٢م) التي مثَّلَت بدورها
حالة تنويع تطور لافت للسرد التخييلي الحديث في
أدبِنا، وبها كسب الكاتب مكانَته بين الروائيين
العرب المجدِّدِين، توالت إثرها أعمال مشتهرة اليوم
من أبرزها «القمر والأسوار» (١٩٧٦م) و«الأنهار». ما
يعني أننا إزاء كاتب ثابَر حياته كلها في الكتابة،
رغم أنه تقلَّب في العمل الإداري والثقافي والإعلامي
سنوات طويلة، داخل بلاده وخارجها، أهَّل نفسه
بنفسه، حتى صارت حِرفة له، ومنه يكسب عيشه، وهو وضع
عدَد قليل من الكُتَّاب العرب، الذين وإن أصدَروا
روايات فَهُم أقرب إلى كُتَّاب أعمال سردية منهم إلى
روائيين بالمعنى الكامل، ولهذا الوضع مزايا
وتَبِعات: «هناك حقيقة صارت لي بمثابة سلوك يومي
ومنهاج أسير عليه، وتتمثل في (المثابرة) (…)
الكتابة أولًا، وكل ما عداها يأتي ثانيًا وعاشرًا
وألفًا في التسلسل، وكل عائق حياتِيٍّ أو وظيفي أو
جغرافي يجعلني أصطدم باستمرارية الكتابة أتجاوزه
لأُبقِي على الكتابة سلوكًا وطموحًا وقضية، وأُبقِي على
الكاتب هوية واعتدادًا وعنادًا.»
٤
وإذن، فالكتابة عمل فعلي عند كاتِب من هذا
العيار، وقد أولاها ما تستوجب من استحضار عدة
كاملة، ونستطيع أن نستخلص من تجربته فوائد جمة،
فيما تضيء نصوصه، تكشف عن منهج العمل وخطته، وتفيد
المنخرطين في هذا السبيل. لنتبين بعض ملامح
ومكونات التجربة:
– عدة الكاتب: مثل آخَرِين، يُحدِّد الربيعي أُولى
خطواته التكوينية في القرآن الكريم، الذي تَعلَّمه في
الكُتَّاب، وسماع الحكايات الشعبية في الحلقات:
«والتشبع بالطقوس الدينية التي كانت تُمارَس بشكل
واسع في مدينتي (الناصرية) وخاصة أيام عاشوراء،
والانبهار بالشِّعر وحفظه ومحاولة كتابته.»
٥ إضافة إلى «الرسم، التراث، الميثولوجيا
والتاريخ القديم، وعلم النفس، والمسرح،
جانِبُه الحِواري خاصة.»
٦
– عدته، أيضًا، اللغة، حريص، متشدِّد في التعامل مع
الكلمات، اختيارها لأدائها وتعبيريتها:
«لغتي جاءت طليقة، غير خائفة، أتمادى في استعمال
المفرَدات التي أرتاح إليها دون أن أرجع إلى أي
قاموس، وأركبها بإيقاع شعري، ظللت أركن إليه منذ
كنتُ أكتب قصيدة النثر، ولم أَتخلَّ عنه أبدًا خاصة في
قصصي القصيرة.»
٧ ﻓ «اللغة إحساس وموسيقى.»
٨ من هنا الْتِفاتاته العديدة إلى استخدام
اللغة الشعرية، وهو يقصد أسلوب قصيدة
النَّثر.
– في اللغة دائمًا، الإلحاح على خاصيتي التكثيف
والتقتير: «أميل بشكل قوي إلى الجملة المُكثَّفة
النابضة والمُوحية، وكُنتُ مُقترًا جدًّا في هذه اللغة في «الوشم».
٩
– وفي باب التكثيف خاصة، يرى أنه: «صفة لن
يكتسبها الكاتب إلا بعد مِران طويل». مثله الحذف،
فالكاتب: «إذا ما وجد فائضًا في نصه، كان الحذف
لصالح هذا النص فَلْيُقدِم على هذا بدون تردُّد … إذ إن
طول الرواية ليس دليلًا على طول نفَس كاتِبها بل
العكس غالبًا.»
١٠
– ما درجة إعداد الخطة الروائية عنده؟ يفاجئنا
الربيعي بما يلي: «لديَّ تقليد أو منهاج أسير عليه
ويتمثَّل في أني لا أضع أي مخطط لرواياتي، ولكنني
أكتبها في رأسي قبل كل شيء.»
١١ لكن هذا لا يعني أن الكتابة تأتي من
فراغ، والدليل: «ينبت الموضوع فيُعايِشني، وربما أبدأ
بتدوين مُلاحظات عنه خاصَّة ما يتعلق منها بالأماكن
والتواريخ وبعض الشَّخصيات، كما أجمع بعض الوثائق
بشأن المرحلة الزمنية التي أكتبُ عنها لإضاءة ما
عَتم من الذاكرة.»
١٢ وبالقَدْر نفسه يفكر في تقنية صنع
الرواية: «فإنَّ تصورًا مسبقًا أضعه لها، وأُحاذِر فيه
أن لا أُكرِّر تقنية روائية سابقة لي.»
١٣
– في باب الإعداد دائمًا، تتصدر البيئة العراقية
الفضاء الروائي والقصصي القصير، معًا.
– وهل من روائي حقيقي لا ينشغل بكل الجد
بشخصياته، حتى وهو يبدو كاللامبالي بما
يسبق دخولها إلى عالَم الرواية؟ «إنني آتي بِهم من
بين الناس الذين عرفتُهم أوعايشتُهم (…) الشخصية
التي أنْتَبِه إليها هي التي لا تندرج في «القطيعية»
[نسبة إلى القطيع]؛ إنها الشخصية المتفرِّدة التي
لها ما يُميِّزها على كل الأصعدة، بدءًا من الهيئة
فالموقِف وصولًا إلى طريقة الكلام والتصرُّف في محيط
مليء بالبشر المتشابهين كأنهم أختام.»
١٤
– وتحتاج الشخصيات إلى مكان محدَّد، مناسب
لحياتها، وهمومها هي بالذات. هذا من قواعد
الرواية، مثل الحكاية، والبناء، والزمن، والروائي
المحترِف مثل الربيعي، الذي يقول إنه ينطلق من
بيئته العراقية، وقد تشرَّب مصادر ثقافتها، بروافدها
المختلفة، يعي هذا الشرط جيدًا، لا عجب إنْ صرح به
مقرِّرًا: «إنني أهتم بالمكان جيدًا؛ لأنني أريد
لأبطال رواياتي أن يكونوا مَشدودِين لأرض وبيئة؛ لذا
أهتم دائمًا بتدوين أسماء وأوصاف الشوارع والمَطاعم
والفنادق والمقاهي في كل مدينة جديدة أحطُّ فيها
رحالي ولو لبضعة أيام؛ لأنني ربما أعود إلى هذه
الأماكن في عملٍ قصصي أكتبه لاحقًا.»
١٥
– وبخصوص السؤال الذي يُراود كثيرًا من القُراء،
حول موضوع الرواية ومن أين يستقي الكُتَّاب مَشاغلهم
وعوالمهم؟ يقدم الربيعي إضاءة تؤكِّد فهمه لطبيعة
عمله، ونوعية استعداده له، فالموضوع عنده: «متحرِّك
شأنه شأن (اللغة) و(التقنية)، وهذا التحرُّك
يُبعدُهما عن التكرار والاعتياد، لكن بالنسبة
للموضوع قد يكون هناك ما يمكن أن أُسمِّيه تنويعات
على لَحن واحد (…) وبالنسبة إليَّ فإن موضوع القمع
هو الموضوع الذي لا ينفد».
١٦
ومثل تساؤل إلياس فركوح عن سبب تَنقُّله أو تَراوُحه
بين الرواية والقصة القصيرة، يتحدَّث عبد الرحمن
الربيعي عن الحالة ذاتها، وكأنه، عجبًا، يدفع عنه
تُهمة ضعْف شخصية، وتَخصُّ الفن القصير كذلك، مُقدِّمًا
مسوغًا مغايِرًا لزميله الأردني، يُغنِي فهم هذه القضية
الأجناسية التي تطرح على عديد كُتَّاب يُنشِئون في
النوعين، ويتحيَّر النُّقاد والقُراء على السواء في
دواعي تجاذُبِهم الكتابي، بينما يَمدُّنا تاريخ الأدب
القصصي الحديث بأمثِلة عدة لكُتَّاب إما تفوقوا في
النوعين: جيمس جويس، همنغوي، نجيب محفوظ، والربيعي
نفسه، أو مَهَروا في واحد منهما، رغم إجادتهما
للاثنين، نظير تشيخوف، وموبسان، ويوسف إدريس، ومحمد
زفزاف، تمثيلًا لا حصرًا. فعن سؤال: لماذا لجأتُ إلى
الرواية؟ يُعطِي الربيعي الجواب التالي الذي يبدو
فيه انتصار واضح لها الفن، من وجهة نظر محدَّدة: «هو
أنني قد استعنْتُ بتجربتي الحياتية التي اغتنَتْ بحيث
أصبحتْ أقرب إلى الموضوع الروائي منها إلى القصة
القصيرة (…) لا أريد أن أثير تساؤلًا حول عجز القصة
القصيرة عن استيعاب الأحداث الكثيرة المتعدِّدة
الجوانب والشخوص، وقُدرة الرواية على ذلك فقط. فقد
يكون هذا الأمر نِسبيًّا يخالفني الكثيرون فيه،
ولكنني سُقتُه من وجهة نظري التي وُلِدَت من خلال
الممارسة لا التنظير فقط.»
١٧
– وأخيرًا، وهذا شاغِل يبقى مَثار تساؤل وفضول،
يتصل بمبعث الكتابة وظرفها. وكما أشَرْنا إلى ذلك
فهو يدخل في صُلب مُختبَر الكاتب، الذي يَلتقِي القُرَّاء
به في نهاية الطريق، بمؤلَّفِه مطبوعًا، مطروحًا في
الأسواق، وقد تدور في أذهان بعضهم أسئلة مُحيِّرة عن
أطوار إعداده، أو كيف تم انتقاء هذا المكان
بالضبط، أو تلك الشخصية؟ هل جاء ذلك عفوَ الخاطر من
خزَّان الذاكرة، أم بِشغل منظَّم؟ ثم وقد حصل على
المادة المرغوبة، في أيِّ وقت يُقبِل على ترتيبها
والانتقال بواسطة اللغة إلى عالَم السَّرْد التَّخيِيلي؟
… يلخص الربيعي الحالة من وجهة نظره في سؤال:
«متى أَشرَع بكتابة عمل روائي جديد؟» ويُقدِّم عنه إجابة
بسيطة وبلا ألغاز:
«أكتب متى ما أجد نفسي مُهيًّأ لذلك.» موضحا أنه
لا يبدأ «إلا عندما تكون الرواية قد كُتِبَت في رأسي
بأبطالها ومناخها ولكن ليس بتفصيلاتها، وأكون قد
دوَّنتُ بعض الملاحظات عنها وهي تتعلَّق غالبًا بحوارات
وإيضاحات حول الأماكن التي تدور فيها» مستشهدًا في
هذا الصَّدد برأيٍ محمود للدارس إدوار بلشن، مؤلِّف
كتاب «الرواية وصنعة كتابة الرواية» يُعبِّر فيه عن
اعتقادِه بأن الروائي لا يكون على دراية بالتفاصيل
مسبقًا، وأنه متى ما بدأ بكتابة قِصَّته فإن أفكارًا
جديدة تستحضره نتيجة انهماكه في الكتابة.»
١٨