الفصل السابع
محمد خضير: القاصُّ مُخطِّطًا
من بين الكُتَّاب العراقِيِّين، ينفرد محمد خضير،
تقريبًا، بنوع من الانقطاع شِبْه التامِّ دون ما يشغله
عن كِتَابته، وما يَتَّصل بهمومها. فهو، أولًا، الكائن
الأدبي الذي عُرِف عنه أنه لا يغادر بيئته، مدينته
الأم، البصرة، جَنوبِي العراق، إلا لِمامًا. وهو،
ثانيًا، قلَّ أن ينخرط في عَملٍ أو تَظاهُرة ثقافية
جماعية، ولا هو بِمَن يُحاوِر الإعلام، أو يقوم بأيِّ
ترويج إعلامي حول شخْصِه وكُتُبه، على غرار ما أصبح
سائدًا في الوقت الراهن، وأضحى من مُقتضَيات عالَم
النَّشر. وثالثًا، فهو كاتِب مُقِل، وحَبَس إبداعه على
الأغلب في القِصَص القصيرة، وما جنَّسه رواية في
أغْلِفة محدودة لا يزيد عن تنويع على القصة القصيرة،
أو توسيع لها، ما يُعْطي للرواية عنده مفهومًا مختلِفًا
عن المُتعارَف عليه فَنيًّا، وكذا المنظم في نصوص
موروثة وأخرى مجايلة.
مُقابِل هذه الخصائص تَتميَّز الكتابة السَّردية لدى
محمد خضير — وما هذا تقويم لأعماله بتاتًا، هي
عبارات وصْفِيَّة لا أكثر— بالإحكام، والتَّشْذيب،
والاقتضاب: الإحكام في البناء، والتشذيب الحادِّ
لِلُّغة والعبارة، والاقتضاب في استخدامهما بالحد
الذي يَخدم السَّرد في تبليغ الخبر، ويصنع إيحائيته
المُبتغاة الضَّامنة لتكوين الرؤية الشِّعرية-الحِلْمية
في عالَم واقعي ومَجازي في آنٍ. ومعنى هذا أنَّنا إزاء
كاتِب يُؤمِن بأن الإبداع القصصي يقع خارج الدائرة
السِّحرية أو الوَهْمِية التي يُحِيل إليها كُتَّاب كُثرٌ،
ولا هو وليد الصُّدْفَة، وإنما رَهِين بنظام؛ أي هناك في
عَقْل المؤلِّف مَن يُنظِّم موهبته، وتدخل ما لديه مِن تصوُّر
أو تَهيُّؤ في قالب محدَّد الأطراف، يُخرِجها من السَّدِيم
ويصنع لها الجسد، بِصَدد «كراسة كانون» يقول:
«شرعتُ في شهر كانون الثاني من عام ١٩٩١م بتخطيط
عَدَد مِن الوجوه القابعة حول مَوقِد الشتاء، جَسَّمَها ضوءُ
فانوسِي القديم (…) وتحتوي كراسة كانون تخطيطات
مرسومة في ليالي التَّعتيم التي أَعقبَت الهجوم الجوي.»
١ جدير بالذِّكْر أن خضير يَقْرِن نَسَق التخطيط
سواء للشخصيات أو للعمل ككل بمُقابَلة اللوحة
التشكيلية. وما سمَّاه رواية يَتناصُّ إلى حد بعيد مع
رسوم لبيكاسو، مِن ضمنها، أولًا، لوحته «آنسات
أفنيون» يتجاوب معها ويَستلهِم منها «تجميع الجزئيات
في لوح احتفالي كرنفالي.»
٢ ينتقل منها خصوصًا إلى اللوحة الشهيرة
«الغرنيكا» التي جمع فيها بيكاسو عناصر البلدة في
شظاياها وتشويهاتها تحت قصف الطائرات الألمانية. يعنى خضير، إذن، بهذا التَّشظِّي، وكذا
ببناء العمل
دائمًا بالتخطيط له، كما لاحظه عند بيكاسو في
إعداده للغرنيكا. عن هذا الإعداد يقول خضير: «تُصوِّر
التخطيطات مراحل الدخول إلى متاهة الحلم التي حبس
فيها المينوتور (الإنسان/الثور) والخروج منها
بالأشلاء المشوَّهة والأعضاء المبتورة، ثم جمعها في
تكوينات متماسكة موحدة الأجزاء.»
٣ بيد أن الأهم عنده يَكمُن في ملاءمة هذه
العملية مع تجربة للكتابة، هي ما يقرنها بممارسته
الخاصة: «لا تتم اللوحة إلا بجَمْع وَجْهَيها
الوحشي/الإنساني، واستجماع مراحل هذه الرؤيا
المزدوجة، المُقطَّعة الأوصال. وهذا دأب الكتابة التي
تستجمع أجزاء ملامحها المستورة، المتناثرة، في
رؤيا عميقة، متدرِّجة أو متلاحقة، عبْر سلسلة من
التخطيطات والتحضيرات التمهيدية، تعرض حُمَّاه
وانتفاضاته وبُثوره، وصولًا إلى النص المبرَّأ من
أعراض تحوُّلاته الواقعية التسجيلية.»
٤ دفْعُ هذا اللون من الواقعية هو وسواس
كتابة يحدد صاحبها خطته في إيمانه ﺑ «الشكل
اللانهائي، الخاطف، غير المكتمل.»
٥
في سياق المقارنة دائمًا نرى الكاتب يغبط الرسام
لأنه: «يرسم ما لا يجمع في مكان واحد، ويرى ما لا
تستوعبه العين في نظرة واحدة.»
٦ فلا يملك إلا أن يتمنى أن: «ليت هذا
يحدث في الكتابة، فينقذف الكاتب إلى خارج نصه.»
يريد لنصه أن يكون مكعَّبًا، مرسومًا بأكثر من وجه،
كما يحدث عند الفنان صانع اللوحة حيث: «الأشياء
تظهر في أكثر من سطح، والوجوه ترى من الأمام
والجانب والخلف، والإنسان يشارك الحيوان والجمادات.»
٧
تلح هذه الأمنية عليه فيعيد التعبير عنها
باستئناف السؤال، فيما يكشف بمداورة وقلق عمَّا
يحب أن يكتبه: «متى ينعكس الكاتب في كتابته كما
ينعكس الرسام في رسومه؟» وعن هذا السؤال أعطى
جوابًا لنا أن نعتبره ممكنًا أو افتراضيًّا. مرة حين
يقول:
«اخترت لحظتي، إني هنا وهناك، في الكتابة
وخارجها، في كتابتي الآن، ومع شخصيات كانون الثاني
قبل عشر سنوات.»
٨
وأخرى، وهو يرسم فعلًا خطاطة شاملة لطريقة
السرد، تتحدد على النحو التالي:
«تستطيع الكتابة أن تحقق نصًّا تكعيبيًّا باختزال
الحوادث في لحظة التصور الآنية، لحظة التذكر
الشاملة للتفاصيل والأجزاء.»
«تسير الكتابة السردية على سطح بلا أعماق،
لكنها تشير دائمًا إلى حُفر الصور المموهة
والاسترجاعات المفاجئة، والأخيلة
المفتوحة.»
«تتقنع الكتابة بالتخطيط كما يتقنع التخطيط
بوجه الأنموذج (الموديل). يتدلَّى خط السرد الحكائي
في حفرة عميقة، حفرة الحلم فيستجلب منها وصف
الوجوه الغائبة وصوت الحوارات المكتومة وقصص
الحوادث الآفلة.»
٩
وأخيرًا، فما يحدث لهذه الكتابة السردية، متمثلة
في النص الذي هو بصدد كتابته (كراسة كانون) عنده
فيفترض أن يتم على النحو التالي:
«تجتمع الحكايات على سطح نص تذكاري مستولد من
تخطيطات شتاء العام ١٩٩١م. يتوهج النص بعد انطفاء
حرائق الغارات الجوية على مدن العراق، وترتبط
أجزاؤه على السطح المظلم لحكاياته المختزلة الأبعاد.»
١٠
بيد أن خضير يصر على استبعاد أي انجذاب للحكاية
إلى المدار الواقعي، فيعود منبهًا لخطة سرد نقيض
للمنتظر؛ أي سرد يقلب أفق توقع انتظار القارئ،
بدون شك:
«وكما جاءت تخطيطاتي من منطقة وراء السرد، فإن
حكاياتي قدمت من وراء السرد لم استعمل في كراستي
مواد تلصيقية (طائرة، قطارًا، بُرجًا، فرنًا، تمثالًا،
ملجًأ …)، لاعتراض السرد بوثائق تاريخية، أو الإيهام
بحقيقتها الواقعية، فقيمة الحقائق السردية تنمو من
خامة الحلم المرئي في مساحة تخطيط وهمية.»
١١
نعتبر، بعد الملاحظات والإشارات الدقيقة، سالِفة
الذِّكر، حول التصور التشكيلي لمحمد خضير لعملية
الكتابة، نظام التخطيط للسرد، أنَّنا نقف هنا في
حالة نادرة عند كاتب عربي يُنجز نصه وهو يفكر ويخطط
له في آنٍ، والعكس كذلك. هذا التلازم يُنتِج في
الحقيقة نصًّا ثالثًا، ويتركه منفتحًا على التكاثر
والاحتمال، وهو ما يسميه صاحبه باللااكتمال. إننا
هنا أمام عمل يتعدى صيغة الميتا-سرد، أو النص
الذي يفكر في نفسه ويتداول في تقنياته، التي هي
عادة مضمرة بوصفها من عدة الكاتب، وجزء من فعالية
المتلقِّي، لتصبح الميتا ذاتها هي موضوع وحكاية
السرد، وهذا نهج مغاير تمامًا، وطريقة مختلفة تحتاج
إلى مزيد درس.
ذلك أن محمد خضير يذهب أبعد مما يمكن أن نفكر
فيه ونحن نفحص خطوات إعداد الكُتَّاب لنصوصهم من نواحٍ
مختلفة. نراه ينطلق من ثقافة متراكمة، ومِراسٍ حاذق،
في ضوئهما تتنامى تجربة القَص وترتسم علاماتها
لتصنع في الأخير ما يشبه دليل السير، أمام منتجها،
أولًا، ولتنير سبيل القارئ، يستهدي بها ضمنًا وهو
منخرط بجد في عملية التَّلقِّي المتفاعلة، وهذه مهمة
الناقد والدارس، بامتياز. يجد من المفيد أن يُعرِّف
الكاتب فَنَّه، رغم ما قد يبدو في الأمر من تَبدِيه
مُسبَق، فيخبره أن القصة القصيرة هي «فن القناعة، أو
البساطة.» وهي «فن عابر كأوراق الشجر التي تجرفها
الريح.» أو تشبه الجدول قياسًا بالرواية التي تشبه البحر.
١٢ ومنه، أيضًا، أن على القاصِّ السيطرة على
مادته من كل النواحي بما يثبت «وجود بصمة، أو
توقيع يشير إلى الصانع الماهر.»
١٢
بل ترى خضير يتحدث عمَّا يسميه «برهانية
الكتابة القصصية»، يعني بها الوسائل المستخدَمة من
لدُن القاص للبرهنة على دقة عمله، وإحكام صنعته،
فيرسم لنا ما اصطلح عليه ﺑ «دائرة البراهين
البسيطة.» لأهمية هذا التصوُّر نعرض تكوين الدائرة
البرهانية بقدر من التفصيل، كما وضعها صاحبها.
إنها تتكون: «من (نواة مركزية) وثلاثة (محيطات)
تمثل وسائل البراهين (المخطوطة والسِّفر، أو البحث، أو
اليوتوبيا)؛ وانعكاس البراهين (النص والواقع
والمؤلف أو الراوي)؛ ونتائج البراهين (القصة
والتمثُّل الذهني ومجهولية المؤلف).»١٢
والنواة (مقدمة البراهين) ﻓ «تشكل مقدمات القصة،
أو فرضياتها، أو موضوعاتها المركزية، أو نواتها
التي تتركَّز فيها أنماط التجربة الإنسانية الأصيلة.»١٢ «بكلمة واحدة، النواة هي (لوجوس)
القصة، هيولاها.»١٢ وعن النواة تتفرع تيمات لا حصر لها،
فيما «يدفن المؤلِّف نواة قصته في مرحلة من مراحل
نسيج السردي، فتكون بذلك بؤرة البرهان الأساسية
التي تلتقي عندها عناصر التصميم القصصي كلها، قبل
أن تواصل انحدارها إلى النهاية.»١٢ وخضير بالذات يدعو إلى تصميم للقصة
باعتبارها، كما يقول، عملًا مدبرًا «يبرهن على وجود
(نواة) تختفي فيها جينات التيمات اللامحدودة.»١٢