مبارك ربيع: روائيٌّ وروائيَّتُه
هذا روائي مغربي (١٩٣٦م)، سلخ عمره كله كتابة تقريبًا، إنْ نحن أضفنا إليها سنواته المهنية التي قضاها في التربية والتعليم بأسلاكه المختلفة، أوصلته إلى التقاعد وهو عميد لكلية الآداب، بعد أن عمل أستاذًا لعلم النفس. معناه أنه صاحب خبرة بالكلمة، ومتمرِّس بصنعتها، متصيِّدٌ لأسرارها، مذ أصدر مجموعته القصصية الأولى: «سيدنا قدر» (١٩٦٩م)، بينما كان قد بدأ النشر قبل هذا التاريخ، وواصله طيلة العقود اللاحقة، متنقِّلًا بانتظام بين القص القصير، والسرد الروائي الطويل له فيه على الخصوص أعمال منتظمة ومشتهرة في الأدب المغربي والعربي الحديث والمعاصر. أشهرها «الطيبون» (١٩٧٢م)؛ «الريح الشتوية» (١٩٨٠م)؛ «بدر زمانه» (١٩٨٣م)؛ «ثلاثية درب السلطان» (١٩٩٩م). تضع الحصيلة الأدبية لهذا القاص والروائي بين قِلَّة من الكُتَّاب المحترفين، الذين واصلوا النشر على امتداد أربعة عقود، في سوق القراءة العربية المغربية على السواء. وواحد كذلك بين قِلَّة يواكبون نتاجهم بالتعهُّد من كل النواحي للتعريف بها، وترويجها بالندوات واللقاءات، وترشيحها للجوائز والمقرَّرات المدرسية، فهو، إذن، أبعد ما يكون عن الصورة المألوفة للكاتب في العالم العربي، المُستكين إلى نصوص متقطعة، المعوِّل على إلهامه الشخصي، ذاك الحالم، قلَّ أن يجنيَ مما يكتب، اللهم إلا الخيبة، وملاحقة سراب أمل، وحده نوره الذي يقود سبيله، ووراءه يمضي، ويكتب.
ربيع كاتب محترف، رغم أن لا أحد في المغرب يعيش نهائيًّا من ريع قلمه، ولأن المجتمع ما زال قليل الاستيعاب لهذه الحرفة، وهذا مفارقة في بلد الفقهاء ورجال الدين والأضرحة والتكايا، الذين يرتبط شُغلهم بالقلم. وبحكم هذا الاحتراف؛ أي الانصراف شبه الكلي للكتابة السردية نفترض، وقد افترضنا أن يكون للرجل فعلًا انشغال وضبط لطرائق ومسالك عمله، وله معه وقفات تأمُّل من قبيل أسرار المهنة، ما يُسَمَّى الحديقة الخلفية للكاتب. لقد بحثْنا إن كان نشر ما يفيد من هذه الناحية، مُقتنِعين بأن الإحاطة بتجربته ضرورية، كجزء من الاطلاع على التجربة الأدبية للمَغاربة، على فُتوَّتها ناضجة ومتفتِّحة، فلم نعثر على شيء دالٍّ، ولا عند غيره ممن يمكن أن يعول عليهم في هذا الحقل. والحق أن السبب لا يرجع إلى الاستهانة بقيمة هذه الإشارات، وإنما إلى عاملين من المهم الإلماع إليهما هنا: أولهما، أن عنصر الاحتراف ولو توفَّر كان وما يزال محدود القيمة، قياسًا بما هو موجود في البيئات الثقافية الغربية حيث للكاتب وضْع تحكمه ضوابط تربوية وتنظيمية تسمح له فعلًا بترتيب شئون «بيته الداخلي»، ينظر إليه المجتمع عضوًا فاعلًا، ومنتجًا، وبضاعته تُقوَّمُ في السوق، ماليًّا ورمزيًّا. العامل الثاني، أن كُتَّابنا العرب، الجيل القديم على الأقل، لا المتنطعين من الجيل الراهن، تمسَّكُوا بأخلاق وتواضُع الفقهاء، ونكران الذات، يعتبرون أي حديث عن الأنا يضيرهم ولا ينسجم مع وضْع يُميِّزهم بالورع، أو يرشحهم لحمل رسالة اجتماعية وخُلقية، مِن ثم تنتفي فرديَّتُهم لصالح روح وهيئة الجماعة، مما يتوافق مع الأيديولوجيات الإصلاحية الوطنية لزمانهم. من الطبيعي أن لا نعثر، والحالة هذه، على ما يشفي الغليل في مَسعانَا، خلافًا للمُحدَثين المعاصرين، أصواتهم وحدها تُعبِّر عن ذواتهم وصنعتهم، ومثله، أعلى مما تفيدنا عن انشغالهم بإتقان عملهم. يساعد على هذه النزعة التفخيمية إعلامٌ غير سليم، يُغذِّي التبجيل، ويساوِم به أحيانًا في مناخ ثقافي يفتقر بدوره إلى ضوابط سليمة.
إن هذا الكلام المطبوع بالتجريد، مستخدمًا الصورة لطرح معنى لا يكاد يتحدَّد، إنما يظهر أن التوجس المشار إليه لدى ربيع هو حرص الكاتب على تدقيق أدواته، وإحكام نظرته بدرجة فائقة الدقة، وهو يبني الرواية شكلًا وعالمًا. وهذا الطرح على تجريديته إنما يُبيِّن وعْي الروائي المغربي بالأهمية التي يوليها لصنعته، ويؤكِّد مقولتنا عن الاحترافية التي تتطلب دائمًا العُدَّة والتحوُّط بوقاياتها الخاصة، وإن وجدناه نفسه يميل إلى تليين قبضة هذه السيطرة داعيًا إلى إفساح المجال للسجية في قوله بمبدأ: «دعْ كل شيء يجري على هواه.» هكذا يتجاوَر النظام مع الهوى لِيشكِّلان نسقًا يتخلَّل عمل الكاتب، وقبل ذلك سُنَّة لإنجازه.
بيد أن مبارك ربيع، ورغم هذه المرونة، يحب البقاء متشبِّثًا بالوعي وتبعاته، وهذا على مستوى مقصدية الكتابة ومتلقيها وموقفه فيها ووضعه داخلها. عنده أنها تقود خطاه وتُعَد قاعدة خلفية في قانون السير الكتابي الذي اختطه لنفسه. لنقرأ هذه الفقرة من الوثيقة:
جدير بالتنبيه أن الأمر هنا لا يخص المضمون وحده، ولا نوعية الموقف المُتَبنَّى داخل الكتابة؛ لأن مفهوم الوعي وإملاءاته تقيد صاحبه فوق الالتزام بهذه القضية أو تلك، والدفاع عن هذا المبدأ أو ذاك، بأن يتتبع ما من شأنه إبداعيًّا تحقيق «رهان التواصل والتفاهم والتعاطف». هكذا نكون أمام قاعدة جديدة، مُثلَّثة الأضلاع، وذهبية في عُرف مبارك ربيع.