عبد الله العروي: أسلوب الكتابة التعبيرية
يشتهر الأستاذ عبد الله العروي في العالم العربي، والغربي، أيضًا، بكونه باحثًا في التاريخ وفلسفته، ومُنظِّرًا ثقافيًّا من الطراز الرفيع. أثبت ذلك منذ نشر كتابه الرائد بالفرنسية «الأيديولوجية العربية المعاصرة» (١٩٦٨م) والذي تُرجِم متأخرًا إلى العربية، وأحدث تأثيرًا واسعًا في المَحافل الجامعية والثقافية نظرًا للقراءة الشمولية والتركيبية التحليلية، والنقدية، التي قام بها للثقافة العربية برموزها وقيمها الأصلية والمتطورة، وفي علاقتها مع النموذج الغربي التَّحديثي، وآفاقها، أيضًا. في هذا الكتاب ذي الفائدة العظيمة، والذي ما يزال مفرَدًا في قيمته، تناول العروي كذلك، وإن في عُجالة، مسألة التعبير والأجناس الأدبية، الرواية على الخصوص، ليطرح عنها تصورًا موضوعيًّا منبثقا من رؤية وممارسة الروائيين الفرنسيين المتفوِّقين في القرن التاسع عشر، فلوبير بالذات. لقد هيَّأتْه ثقافته العميقة وتَمكُّنه البليغ من اللغة الفرنسية لينزع القشور ولينقب في جذور المدنية الغربية ومقوِّماتها بدون افتتان، مما بلور لديه الوعي بمفهوم الرواية ومجالها وموضوعها وبموجباتها المُسماة موضوعية. لعلَّ العروي غير معروف خارج بلاده بأنه روائي، بل مُجدِّد في هذا الفن، ومِن رُواده عندنا بروايته «الغربة» (١٩٧١م) وهي تُمثِّل ثمرة تجربة المُثاقَفة مع الغرب، والحوار الوجداني مع الذات والوطن. وقد واصل الكتابة السردية، بموازاة أبحاثه التاريخية والفكرية القويمة، أنجز منها روايات «اليتيم»، «الفريق»، «أوراق؛ سيرة إدريس الدهنية». بذا فهو معنيٌّ جدًّا بمسائل الكتابة الأدبية، وصِيَغها الفنية، عناية الهاوي، قد تظهر للبعض، لكن المنقطع إليها ويجعلها في صلب قضية التعبير، ومقاصده، ومُحدِّداته، الأدبي مكمل للفكري ومُتصَادٌّ معه، مُتناغِم الدلالة، وهذه طريقة في التعبير، عند مَن يبحث دائمًا في الأسلوب، ولا يتوقف عن التفكير في التفكير. وفي روايته، أو كتابه المُعضِل، المتنوع الأغراض والأشكال، الذي عنونه ﺑ «أوراق؛ سيرة إدريس الذهنية» خاصة، يَتَّجِه عبد الله العروي إلى مُساءلات ومحاوَرات تخص اهتماماته، ومحطات من حياته، بين المغرب وفرنسا، حيث أكمل الدراسة العليا، يختبر المفاهيم، ويراجع بالفحص والنقد التاريخي والفلسفي أهم ما شغله، وبني قومه، في العصر الحديث، زمن التلازُم والصراع بين ثنائيات متضادة: «استعمار/استقلال؛ أصالة/حداثة؛ محافَظة/تجديد … إلخ.»
- أول ملاحظة: يَجدُر تسجيلها هي التي يَلتقِي فيها الكاتب مع زملائه، وأبناء جيله كافَّة، وتُعَد عمليًّا حافزًا أوَّليًّا لدى حمَلة القلم، قوامها مبدأ الحرية، وعند العروي شرط القول، وإلا: «ما فائدة الكتابة إذا لم تُعطِ للكاتب حُرِّية أكبر من التي يعرفها في حياته العادية؟»٢
- الملاحظة الثانية: تخص ما ينبغي ويحتاج الكاتب إلى الاهتمام به، والاستغراق فيه، وهي كما يسجل أكبر من الموضوع، الذي يُحيل عند النُّقاد عمومًا إلى المضمون. يَعتَبِر العروي أن مَن يتصدَّى للقول هو صاحب تجربة، تُملِي عليه أكثر من سؤال من قبيل: «كيف أؤطرها، أقطِّعها، ألوِّنُها، أعدِّلها؟» ليرى أن المُعوَّل عليه في النهاية يكمن في «التجربة المعيشة، هي الملتقط، هي الموصوف، ليست الموضوع، ليست الغاية.»٣ من الواضح أنه وهو يجد نسغ الكتابة في المعيش، في حصيلة التجربة، إنما يُؤكِّد ربطها المباشِر بالواقع، بالدرجة الأولى، وجعلها عماده. في الوقت نفسه فهي تجربة شخصية، ما أكون قد عِشتُه أنا تحديدًا لا آخر.
- الملاحظة الثالثة: تتوجه لتعريف الموضوع بالنسبة إليه، فما يمكن أن يظهر بدهيًّا لدى القراء والكُتَّاب أنفسهم ليس واضحًا دائمًا. إننا كثيرًا ما نسمع السؤال: «ما موضوع هذه القصة أو المسرحية أو الفيلم؟» وتتشعب الأجوبة. يتساءل العروي عمَّا يكوِّن الموضوع، فهل هو«التجربة، المِعمار، الزينة؟» فيستبعد هذه العناصر: «لا شيء من ذلك هو الموضوع، هو الغرض.» فما هو إذن؟ وماذا يكون؟ «لا بد من البحث خلف هذه الأمور عن عبارة تخص الوجدان، تخص لون الموصوف.» هكذا ينقلنا إلى مبدأ ثالث يقع موقع الموضوع، ويفاجئنا به، أيضًا. فإذا كان المعنى المتداوَل لكلمة موضوع يُستمَدَّ من خارج، ومن فعل وَضَعَ، بتجريد عن الذات، فالعروي ينسبه بالضبط إلى هذه الذات المَخفِيَّة حيث يقطن المجرَّد المسمَّى الوجدان. عبارة عن إحساس أو شعور أو وَجْد وانفعال بحالة مُعيَّنة، وعلى كلٍّ فهو أقرَب إلى العاطفة منه إلى العقل ومُقْتضى تدبُّره. يضيف إليه عنصرًا آخر لا يَقِل غموضًا يُسمِّيه لون الموصوف. ولا أريد أن أخطئ مَرَّتين بالمجازَفة بتعريفه، صَنِيعي مع الوجدان، الذي هو عند العروي شيء آخر تمامًا ممَّا حدَّده القاموس، ويمكن أن ينصرف إليه الذِّهن. هاكم تعريفه: «الوجدان حركة، واللون حركة، والنغمة حركة.» يفترض بعد هذا أن نطالبه بمساعدتنا على معرفة ما يقصده بالحركة، إذا تجاوَزنَا ما تنطوي عليه ضِمْنًا من نفي الثبات. مرة أخرى ما هو الموضوع عند الكاتب؛ وبالنسبة إلى العروي، كيف الوصول إليه؟