الحرب على الغرب

في تموز ١٩٤٢م، بعد سبعة أشهر بالتمام والكمال على تفجير اليابان الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر، وسحق القوى الغربية في جنوب شرق آسيا، اجتمع عدد من الباحثين والمثقفين اليابانيين المعروفين في مؤتمر في كيوتو. كان بعضهم من رجال الأدب المنتمين إلى ما كان يُدعى ﺑ «الجماعة الرومانتيكية»، وبعضهم الآخر فلاسفة ينتمون إلى مدرسة كيوتو البوذية/الهيغلية. وكان موضوع النقاش «كيف نتغلَّب على ما هو حديث.»١
كان ذلك زمن حماسٍ قومي، وكان جميع المثقفين الذين شاركوا في هذا المؤتمر من القوميين على هذا النحو أو ذاك، والغريب في الأمر هو أنَّ أحدًا لم يكَد يأتي على ذِكْر الحرب ذاتها، سواء في الصين أو هاواي أو جنوب شرق آسيا. غير أنَّ واحدًا على الأقل من أولئك الذين حضروا، وهو هاياشي فوزاو، الذي سبقَ أنْ كان ماركسيًّا وتحوَّل إلى قوميٍّ متحمِّس، كتب لاحقًا أنَّ الهجوم على الغرب أفعم قلبه بالبهجة. وأنَّه على الرغم من وجوده في منشوريا المتجمدة لدى سماعه الأنباء، شعر كما لو أنَّ غيومًا سوداء قد انقشعت لتبين عن سماء زرقاء صافية. ولا شكَّ أنَّ كثيرًا من زملائه قد شعروا بمثل ما شعر. لكن الدعاية الحربية لم تكُن الهدف الظاهر للمؤتمر. فهؤلاء الأشخاص — الأدباء الرومانتيكيون، وكذلك الفلاسفة — كانوا مهتمين بالتغلُّب على ما هو حديث قبل زمن طويل من الهجوم على بيرل هاربر. أمَّا استنتاجاتهم، بقَدر ما تملك من التَّماسك الكافي لجعلها مفيدة سياسيًّا، فقد أسلمت نفسها لدعايةٍ إلى نظام آسيوي جديد تحت قيادة اليابان، مع أنَّ هؤلاء المثقفين كان ليرعبهم أن يوصفوا بالدعائيين. فهم مفكِّرون، وليسوا كتَّابًا مأجورين.

و«الحديث» مفهومٌ زَلِق ومراوغ على أيِّ حال. وما كان يشير إليه في كيوتو ١٩٤٢م، كما في كابول أو كراتشي ٢٠٠١م، هو الغرب. غير أنَّ الغرب زَلِق ومراوغ أيضًا، شأنه شأن الحديث. ومع أنَّ مشاعر المثقفين اليابانيين كانت مشاعر قوية إزاء ما يعادونه، إلا أنهم كانوا يواجهون بعض الصعوبة في تحديد ماهيته ذلك التحديد الدقيق؛ فقد ارتأى أحدهم أن التغريب أشبه بداءٍ حلَّ بالروح اليابانية. وقال آخَر: إنَّ «الشيء الحديث هو شيء غربي». ودارَ حديثٌ طويل حول التخصُّص المعرفي الضار، الذي مزَّق كليَّة الثقافة الروحية الشرقية، وتوجَّب الإنحاء باللائمة على العلم. وكذلك على الرأسمالية، وعلى جلب التكنولوجيا الحديثة إلى المجتمع الياباني، وعلى فكرتي الحريات الفردية والديمقراطية. كلُّ ذلك كان من الواجب «التغلُّب عليه». هكذا أدانَ ناقد سينمائي يُدعى تسومورا هيديو أفلام هوليود، وامتدح أفلام ليني ريفينستال الوثائقية عن الحشود النازية، التي كانت تنسجم مع أفكاره عن كيفية صياغة جماعة قومية قوية. ورأى هذا الناقد أنَّ الحرب على الغرب هي حرب على «الحضارة المادية السامَّة» القائمة على القوة الرأسمالية المالية اليهودية. واتفق الجميع على أنَّ الثقافة — أي الثقافة اليابانية التقليدية — هي ثقافة روحية وعميقة، في حين أن الحضارة الغربية ضحلة، وبلا جذور، تدمِّر القوة الخلَّاقة، فالغرب والولايات المتحدة بوجهٍ خاص، آليٌّ بارد. أمَّا الشرق الكلي التقليدي الموحَّد في ظلِّ الحكم الإمبراطوري الياباني المقدَّس، فكفيل بأن يُعيد إلى الجماعة العضوية الدافئة صحتها الروحية. وكما قال أحد المشاركين، فإنَّ الصراع هو بين الدم الياباني والعقل الغربي.

وما كان يعنيه الغرب أيضًا، للآسيويين في ذلك الوقت، ولا يزال يعنيه اليوم على نحوٍ ما، هو الاستعمار. فمنذ القرن التاسع عشر، حين أُذِلَّت الصين بحرب الأفيون، أدركت اليابان المثقفة أن بقاءها القومي يتوقَّف على دراسةٍ دقيقةٍ ومحاكاةٍ للأفكار والتكنولوجيا التي منحَت القوى الاستعمارية الغربية ما تتمتَّع به من مزايا. وما من أمَّة كبرى قطُّ شرعت بمثل ذلك التحوُّل الجذري الذي شرعت به اليابان بين خمسينيَّات القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين، فالشعار الأساسي لعهد ميجي (١٨٦٨–١٩١٢م) كان بنمي كايكا، أو الحضارة والتنوير؛ أي الحضارة والتنوير الغربيين. وقد أسرف المثقفون اليابانيون في امتصاص كلِّ ما هو غربي، من العلوم الطبيعية إلى الواقعية الأدبية. كما جرى اقتباس اللباس الأوروبي، والقانون الدستوري البروسي، والاستراتيجيات البحرية البريطانية، والفلسفة الألمانية، والسينما الأمريكية، والعمارة الفرنسية، والكثير الكثير سوى ذلك مما تم تبنِّيه.

وكان المقابل الذي دُفِع لقاء هذا التحوُّل سخيًّا. فلم تُستعمَر اليابان، وسرعان ما غدت قوة عظمى، استطاعت، في العام ١٩٠٥م، أن تهزم روسيا في حرب حديثة شاملة. بل إن تولستوي وصف الانتصار الياباني بأنه انتصارٌ للمادية الغربية على الروح الآسيوية الروسية، غير أنَّ ذلك ترافق بمضار وأذيات، فالثورة الصناعية اليابانية، التي لم تتأخر كثيرًا عن الثورة الصناعية الألمانية، كانت لها آثارها المُخَلِّعة والمُوقِعة للاضطراب؛ فقد انتقلت إلى المدن أعداد ضخمة من القرويين الفقراء لتواجه هناك ظروفًا بالِغة القسوة. وشكَّل الجيش نوعًا من الملاذ الوحشي لشباب الريف، واضطر هؤلاء في بعض الأحيان لأن يبيعوا أخواتهم لبيوت الدعارة في المدن الكبيرة. وحتى لو وضعنا المشكلات الاقتصادية جانبًا، يبقى هنالك سبب آخَر دفعَ كثيرًا من المثقفين اليابانيين لأنْ يسعوا وراء نقض التغريب الشامل في أواخر القرن التاسع عشر، فقد بدا كما لو أنَّ اليابان تُعاني ضربًا من عسر الهضم الفكري، ذلك أنها ازدردت الحضارة الغربية بسرعة بالِغة. وهذا جزئيًّا ما دفع مجموعةً من رجال الأدب إلى الاجتماع في كيوتو لمناقشة السبل الكفيلة بقلب مسار التاريخ، والتغلُّب على الغرب، والاحتفاظ بما هو حديث مع العودة في الوقت ذاته إلى ماضٍ روحي رُفِع إلى مرتبة المثال.

وما كان لأيٍّ من هذا أن يحظى بما يزيد على الأهمية التاريخية لو أنَّ هذه المُثُل فقدت قوتها المُلهِمة، لكنها لم تفقدها، والاشمئزاز من كل ما يُقْرَن بالعالم الغربي، الذي تمثِّله أمريكا لا يزال قويًّا، وإنْ يكُن ذلك ليس في اليابان في المقام الأول. فهو يجذب المسلمين الجذريين إلى أيديولوجيا إسلامية مُسَيَّسة تصوِّر الولايات المتحدة على أنها الشيطان مُجسَّدًا. كما يتقاسم هذا الاشمئزازَ القوميون المتطرِّفون في الصين، وفي أجزاء أخرى من العالم غير الغربي. بل إنَّ عناصر منه تبرز في تفكير المُعادين الجذريين للرأسمالية في الغرب ذاته. ومن المضلل أن نصف ذلك بأنه يَميني أو يَساري؛ فالرغبة في التغلُّب على الحداثة الغربية في اليابان في ثلاثينيات القرن العشرين كانت رغبة قوية لدى بعض المثقفين الماركسيين، شأنها في الأوساط الشوفينية اليمينية. ولا يزال بمقدورنا أن نلحظ الميل ذاته إلى اليوم.

ومن الطبيعي أن تختلف أسباب كراهية الغرب باختلاف الشعوب، ولا يمكن أن نجمع معًا أعداء «الإمبريالية الأمريكية» اليساريين مع الجذريين الإسلامويين. فلعلَّ هاتين الجماعتين تكرهان المدى العالمي الذي بلغته الثقافة الأمريكية وقدرتها الإدماجية، لكن من غير الممكن أن نقارن على نحو مفيد بين الأهداف السياسية لكلٍّ منهما. وكذلك، فإنَّ الشعراء الرومانتيكيين قد يتوقون إلى نعيمٍ ريفيٍّ رعويٍّ، وتعافُّ نفوسهم المتروبول التجاري الحديث، لكن ذلك لا يعني أنهم يتقاسمون أي شيء آخَر مع الجذريين المتديِّنين الذين يسعون إلى إقامة مملكة الرب على الأرض، فالاشمئزاز من بعض أوجُه الثقافة الغربية، أو الأمريكية، الحديثة يتقاسمه كثيرون، لكن ذلك نادرًا ما يُترجَم إلى عنف ثوري. ولا تغدو أعراض هذا الاشمئزاز مثيرة للاهتمام إلا حين تتطوَّر إلى مرض واضح ومكتمل، فالنفور من ثقافة البوب الغربية، أو الرأسمالية العالمية، أو السياسة الخارجية الأمريكية، أو المدن الكبيرة، أو التحرُّر الجنسي ليس له تلك الأهمية الكبيرة، بخلاف الرغبة في إعلان الحرب على الغرب لمثل هذه الأسباب.

وما ندعوه بالاستغراب هو تلك الصورة التي رسمها للغرب أعداؤه، وقد نزعوا عنه الطابع الإنساني. وغايتنا في هذا الكتاب أن نتفحَّص هذه المجموعة من ضروب التحامُل ونقتفي آثار جذورها التاريخية. ومن الواضح أن من غير الممكن تفسير هذه الضروب من التحامُل على أنها مجرَّد مشكلة إسلامية خاصة. صحيح أن هنالك الكثير مما جرى على نحو خاطئ أشد الخطأ في العالم الإسلامي، لكنَّ الاستغراب لا يمكن اختزاله إلى اعتلال شرق أوسطي إلا بقدر ما أمكن اختزاله إلى مرضٍ يابانيٍ خاص منذ أكثر من خمسين عامًا مضت. بل إنَّ استخدام مثل هذه المصطلحات الطبية يدلُّ على وقوعٍ في إسار عادةٍ نظرية ذميمة لدى المستغربين أنفسهم. ويتمثَّل واحدٌ من آرائنا بالفعل في أنَّ الاستغراب، شأنه شأن الرأسمالية، والماركسية، وكثير من المذاهب الحديثة الأخرى، قد وُلِد في أوروبا، قبل أن يُنقَل إلى أرجاء العالم الأخرى. فالغرب الذي كان مصدر التنوير وفروعه العلمانية، الليبرالية، غالبًا ما كان مصدر سمومه أيضًا. ويمكن أن نقارن الاستغراب، على نحوٍ ما، بتلك الأقمشة الملوَّنة التي كانت تُصدَّر من فرنسا إلى تاهيتي، حيث تمَّ اتخاذها كلباسٍ محليٍّ، لكي يأتي غوغان وسواه فيصوِّرونها كمثال نمطي على الغرائبية المدارية.
ولقد أظهرت سجالات المثقفين في كيوتو أنَّ تحديد السياق التاريخي للحداثة الغربية وكاريكاتورها المقيت، الاستغراب، ليس بالأمر البسيط. فثمة الكثير من الصِّلات والتداخلات التي لا بد منها لرسم صورة متماسكة وكاملة. وكان الفيلسوف نيشيتاني كييجي قد أنحى باللائمة على الإصلاح الديني، والنهضة، وظهور العلوم الطبيعية في تدمير الثقافة الروحية الموحَّدة في أوروبا. وهذا ما يصل بنا إلى لبِّ الاستغراب. فغالبًا ما يُقال إن واحدًا من الفروق الأساسية بين الغرب الحديث والعالم الإسلامي هو الفصل بين المؤسسة الدينية والدولة. ذلك أنَّ الإسلام لم يعرف المؤسسة الدينية، كمؤسسة مميَّزة. ولا يمكن للمسلم التَّقيِّ أن يفصل بين السياسة والاقتصاد والعلم والدين بوصفها مقولات متميزة، لكن البروفسور في كيوتو لم يكُن مسلمًا، وكان مَثَله الأعلى أن يُقيم دولة تشكِّل فيها السياسة والدين كُلًّا لا ينفصم، وتكون فيها المؤسسة الدينية ممتزجة بالدولة. وقد تمثَّلت تلك المؤسسة الدينية في اليابان زمن الحرب بشنتو الدولة، وهو ابتداع حديث، لا يقوم على التقليد الياباني القديم بقَدْر ما يقوم على تأويلٍ خاص للغرب ما قبل الحديث، فقد حاول اليابانيون أن يُعيدوا ابتداع فكرة مشوَّهة عن أوروبا المسيحية القروسطية عبر تحويل الشنتو إلى مؤسسة دينية مُسيَّسة. ويمكن أن نجد هذا النمط من السياسة الروحية لدى أشكال الاستغراب جميعًا، من كيوتو في ثلاثينيات القرن العشرين إلى طهران في سبعينياته. وهو أيضًا مكوِّن أساسي من مكونات الشمولية أو التوليتارية. فكلُّ مؤسسة من مؤسسات الرايخ الثالث الهتلري، من الكنائس إلى الأقسام العلمية في الجامعات، كان عليها أن تمتثل للرؤية الشمولية. ويصح الشيء ذاته على الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين وعلى الصين في عهد ماو.
ومع أنَّ الأمر لم يصِل بمشاركين آخَرين في اجتماع كيوتو حدَّ العودة إلى الإصلاح أو التنوير، إلا أنهم أشاروا إلى التصنيع، والرأسمالية، والليبرالية الاقتصادية في القرن التاسع عشر بوصفها جذر الشرِّ الحديث. وصدرت عنهم عبارات مخيفة بشأن «الحضارة الآلية» و«الأَمْرَكة». ورأى بعضهم أنَّ أوروبا واليابان، بثقافتيهما القديمتين، ينبغي أن تضمَّا جهودهما في مواجهة المحنة التي تمثِّلها الأمركة الهدَّامة الذميمة. ولقد وقع مثل هذا الكلام على أرض خصبة في بعض أنحاء أوروبا. وكان من رأي هتلر، في أحاديثه على المائدة، أنَّ «الحضارة الأمريكية ذات طبيعة آليَّة محض. ولولا هذه الآليَّة، لتفكَّكت أمريكا بأسرع مما تفككت الهند». بل إنَّ تحالف هتلر مع اليابان ذاتها لم يكُن سهلًا، وذلك لاعتقاده أيضًا أنَّ اليابانيين «غرباء كثيرًا بالنسبة لنا، سواء في طريقة عيشهم، أو ثقافتهم. لكن مشاعري ضد الأَمْرَكة هي مشاعر كُرهٍ ومَقْت عميق».٢
ولأنَّ أشكال الاستغراب المعاصرة غالبًا ما تتركَّز بالمثل على أمريكا، فلا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ معاداة أمريكا هي في بعض الأحيان نتيجة سياسات أمريكية معيَّنة، كدعم الديكتاتوريات المعادية للشيوعية، أو إسرائيل، أو الشركات متعددة الجنسية، أو صندوق النقد الدولي، أو ما يجري تحت عنوان «العولمة»، التي عادةً ما تُستَخدم كاختصار للإمبريالية الأمريكية. لكنَّ بعضهم يناوئ الولايات المتحدة لمجرَّد أنها بالغة القوة. ويمقت بعضهم الآخر الحكومة الأمريكية لأنها تساعدهم، أو تطعمهم، أو تحميهم، على النحو الذي يمقت فيه المرء أبًا متغطرسًا. ويكره بعضهم أمريكا لأنها تشيح بوجهها عندما يتوقَّعون منها العون. لكن ما تفعله الحكومة الأمريكية أو تمتنع عن فعله غالبًا ما يكون خارج الموضوع، فالأساتذة في كيوتو لم يشيروا إلى السياسات الأمريكية، بل إلى فكرة أمريكا ذاتها، بوصفها حضارة بلا جذور، كوسموبوليتية، سطحية، تافهة، مادية، مختلطة الأعراق، ومدمنة على ما هو رائج وسائد. وهنا، أيضًا، كان هؤلاء يسيرون على غرار نماذج أوروبية، ألمانية في الغالب. فهيدغر كان خصمًا عنيدًا لما دعاه بالأميريكانيزموس، التي رأى أنها تقوِّض الروح الأوروبية. ورأى مفكِّر أقل أهمية من سنوات ما قبل الحرب، هو آرثر مويلر فان دِن بروك، الذي سكَّ عبارة «الرايخ الثالث»، أنَّ «الأميريكانيزموس» (الأمركة) «لا ينبغي أن تُفهَم جغرافيًّا بل روحيًّا». وأنَّها تَسِم «الخطوة الحاسمة التي شققنا من خلالها طريقنا من الاعتماد على الأرض إلى استغلال الأرض، تلك الخطوة التي مَيْكَنَت المادة غير الحية وكهربَتْها».
وهذا لا يتعلَّق بالسياسة، بل بفكرةٍ، أو برؤيا، عن مجتمعٍ، شبيهٍ بآلةٍ، خالٍ من الروح الإنساني. ولذلك يلعب العداء لأمريكا دورًا كبيرًا في الآراء المعادية للغرب. بل إنَّ أمريكا تمثِّل الغرب في بعض الأحيان. لكن ذلك ليس سوى جزء من الحكاية؛ فالاستغراب والعداء لأمريكا ليسا الشيء ذاته. والحقيقة أنَّ فكرة الكتابة عن الاستغراب قد خطرَت لنا من منظور مُختلِف أشد الاختلاف. ففي واحد من الصباحات الشتوية العاصفة، قمنا بزيارة مقبرة هايغيت، تلك الحديقة المدفن في شمال لندن، حيث يرقد معًا كلٌّ من بالغ الشهرة والمجهول تحت مجموعة من النصب التذكارية التي يختلط فيها الحابل بالنابل، وقفنا أمام ضريح كارل ماركس الضخم، ذلك الضريح الذي أقامته جماعةٌ من مُعجبيه بعد فترة طويلة من وفاته، بدا رأس ماركس الحجري الضخم كأنه ينظر متجهِّمًا إلى القبور المبعثرة من حوله، وبعضها يضمُّ بقايا اشتراكيين من العالم الثالث، ومقاتلين آخَرين قضوا ضد الإمبريالية الأمريكية. تحدثنا عن ماركس، وما قاله الآخرون عنه. وخطَرَ لنا وصف إشعيا برلين لماركس، بأنَّه ذلك اليهودي الألماني النمطي، صاحب المزاح الثقيل ثقل طعامه. فاليهود الألمان — الذين غالبًا ما كانوا — قبل أن تدمرهم الكارثة النازية — أفضلَ حالًا، وأكثر علمانية، وأشد تمثُّلًا من إخوتهم الشرقيين، والذين لعلَّهم أفرطوا قليلًا في الافتخار بثقافتهم الألمانية الرفيعة — لم يكونوا على الدوام موضع محبَّة ومودَّة. ولعلهم نظروا إلى أنفسهم كأبناء مثقفين للتنوير، لكن اليهود الألمان كانوا يَبدون لليهود الشرقيين الفقراء — خاصة أولئك الذين كانت تقاليد حياة المعزل القديمة تحدُّ أفاقهم وتضيِّق عليها — مفتقرين للبعد الروحي؛ فهم باردون، متغطرسون، ماديون، وآليون، وإذا لم يكُن ثمَّة شك في فعاليتهم وكفايتهم، إلا أنهم ملحدون كفرة. وباختصار، فإنه بلا روح. وكان ذلك أيضًا شكلًا من أشكال الاستغراب.
ولا شكَّ في أنَّ هنالك أسبابًا وجيهة تمامًا لأن نتوقَّف عند كثير من العناصر التي تسري في ذلك الشراب السام الذي ندعوه بالاستغراب. فليس كلُّ انتقاد للتنوير يُفضي إلى لاعقلانية متعصِّبة وخطيرة. والإيمان بالتقدم الشامل، الذي تدفعه الأعمال والصناعة، هو عرضة للنقد بلا ريب. كما أنَّ الإيمان الأعمى بالسوق هو عقيدة جامدة أنانية، وغالبًا ما تكون مؤذية. والمجتمع الأمريكي بَعيدٌ عن المثالية، وغالبًا ما تكون السياسة الخارجية الأمريكية كارثية. والاستعمار الغربي هو المسئول عن أشياء كثيرة. وثورة «المحلي» على مزاعم «العالمي» يمكن أن تكون مشروعة، بل ضرورية. لكن نقد الغرب، مهما يكُن حادًّا وقاسيًا، ليس القضية هنا. وصورة الغرب في الاستغراب هي أشبَه بالأوجُه الأسوأ في نظيره، الاستشراق، الذي يجرِّد البشر الذين يستهدفهم من إنسانيتهم، فبعض ضروب التحامل الاستشراقية لا ترى في الشعوب غير الغربية تلك الكائنات البشرية الراشدة؛ فعقولهم عقول أطفال، ويمكن أن يُعامَلوا تاليًا على أنهم سلالات أدنى. ويتسم الاستغراب بهذا الاختزال ذاته على الأقل؛ وتعصُّبه الأعمى يكتفي بقلب النظرة الاستشراقية رأسًا على عقب. وأن تختزل مجتمعًا كاملًا أو حضارة كاملة إلى كتلة من الطفيليات الخاملة، المنحطة، المتعطِّشة للمال، والمفتقرة إلى الجذور، وإلى الإيمان والمشاعر — هو شكل من أشكال التدمير الفكري. ونكرِّر هنا، أنه لو كان الأمر مقتصرًا على الاشمئزاز والتحامل، لَمَا كانت له تلك الأهمية الكبيرة. فالتحامل جزء من الشرط الإنساني. أما حين تتمكَّن الفكرة التي مفادها أنَّ الآخَرِين أدنى من استجماع قوى ثورية، فإنها تُفضي إلى تدمير كائنات بشرية.
ويتمثَّل أحد السبل لتوصيف الاستغراب في أن نتتبَّع تاريخ صِلاته وتداخُلاته جميعًا، من الإصلاح المضاد إلى التنوير المضاد في أوروبا، إلى التنويعات الكثيرة التي اتخذَتْها الاشتراكية الفاشية والقومية في الشرق والغرب، إلى مناهضة الرأسمالية ومناهضة العولمة، وأخيرًا إلى التطرُّف الديني الذي يتفشَّى اليوم في أماكن كثيرة جدًّا.٣ غير أنَّ قرارنا قد قرَّ، بغية الوضوح والإيجاز، على اتباع سبيلٍ آخَر. فبدلًا من الرواية التي تلتزم التسلسُل التاريخي الصارم أو التوزُّع المناطقي، عمَدنا إلى تحديد أصنافٍ بعينها من الاستغراب يمكن أن نجدها في جميع المراحل وجميع الأمكنة التي نقع فيها على هذه الظاهرة. وهذه الأصناف ترتبط معًا، بالطبع، لتُشكِّل سلسلةً من العداء، العداء للمدينة، بصورتها الكوسموبوليتية المفتقرة إلى الجذور، والمتغطرسة، والجشعة، والمُنحطَّة، والطائشة اللَّعوب؛ والعداء لعقل الغرب، كما يتجلَّى في العلم والتفكير المنطقي؛ والعداء للبرجوازية المستقرة، بوصفها النقيض للبطل الذي يُضحِّي بنفسه؛ والعداء للكافر، الذي ينبغي تحطيمه لإفساح المجال أمام عالَم الإيمان الخالص.

ولا يهدف هذا الكتاب إلى جمع ذخيرة في «حرب على الإرهاب» عالَمية، ولا إلى شيطنة أعداء الغرب الحاليين؛ فهدفنا هو أن نفهم ما يدفع الاستغراب، وأن نُبيِّن أن الانتحاريين والمجاهدين اليوم لا يُعانون من مرض فريد، بل تُلهب خيالَهم أفكارٌ لها تاريخ. وهذا التاريخ ليس له حدود جغرافية مرسومة بوضوح؛ فالاستغراب يمكن أن يزدهر في أيِّ مكان. واليابان، التي كانت ذات يوم مرتع استغراب قاتل، هي الآن في معسكر مَن يستهدفهم ذلك الاستغراب. والفهم لا يعني التبرير، شأنه شأن الغفران الذي لا يعني النسيان، ومن غير أن نفهم أولئك الذين يكرهون الغرب، ليس لنا أن نأمل بأن نَحُولَ بينهم وبين دمار الإنسانية.

١  يمكن للقارئ أن يجد تحليلًا مفصَّلًا لهذا المؤتمر في كتاب هاري هاروتنيان، الهزيمة أمام الحداثة (برينستون، مطبوعات جامعة برينستون، ٢٠٠٠م).
٢  هتلر: حديث المائدة، تحرير ﻫ . تريفور-روبير، ترجمة ن. كاميرون ور. ﻫ. ستيفنس (أوكسفورد، مطبوعات جامعة أكسفورد، ١٩٥٣م)، ص١٨٨.
٣  كانت ألمانيا، أكثر من أي بلد آخَر، مصدر هذه الأفكار وساحة معركتها. ويمكن للقارئ أن يجد تحليلًا ممتازًا لهذا الأمر في كتاب فريتز ستيرن، سياسات اليأس الثقافي (نيويورك: دَبلْدِي، ١٩٦٥م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤