المدينة الغربية

هذه الحضارة الغربية التي تتزعمها أمريكا، تحطَّمَت قيمها، وتحطَّمَت تلك الأبراج المعنوية الهائلة التي تتحدَّث عن الحرية، وعن حقوق الإنسان، وعن الإنسانية؛ أصبحت هباءً منثورًا.١
أسامة بن لادن

بعد هجوم الطائرتين العنيف في مانهاتن، والذي دكَّ مركز التجارة العالمية، راج في الصين شريط فيديو تظهر فيه الأجزاء الأشد رعبًا من هذا الهجوم، مقترنةً مع مشاهد من أفلام هوليود الكارثية. وبَدَا الأمر كما لو أنَّ الشيء الفعلي — ناطحتا سحاب مشتعلتان تنهاران على رءوس آلاف البشر — ليس دراماتيكيًّا بما يكفي، ولا يمكن سوى للخيال الجامح أن يلتقط النكهة الحقيقية لمثل هذه الكوارث، التي لا يعرفها معظمنا إلا من خلال الأفلام.

ولقد خلَّف الدمج بين الواقع والخيال انطباعًا بأنَّ الضحايا ليسوا كائنات بشرية واقعية، بل ممثلون. وكان حياء شبكات التلفزة قد أبقى معظم هؤلاء بعيدًا عن الأنظار؛ إذْ رفضت هذه الشبكات إظهار الألم والمعاناة في لقطة مقربة. وخلال ثوانٍ على الأقل، كان الوهم والخيال هما الانطباع الذي ارتسم لدى كثير من البشر حين فتحوا أجهزة التليفزيون لديهم. ولقد مثَّل الزعم بأنَّ هذا الحدث بعيد عن الواقع سبيلًا ملائمًا لنأي المرء بنفسه عن الرعب. وبالنسبة لعدد هائل من البشر، ليس في الصين وحدها، كان للفكرة التي مفادها أنَّ هذا الحدث هو ضَرْب من الفيلم السينمائي، وأنَّه حدثٌ خيالي محض، وعملٌ مسرحي، أن تهوِّن الشعور بما هو أكثر شؤمًا. أمَّا بالنسبة لبعض البشر، ليس في الصين وحدها، فقد خلَّف تدمير البرجين، رمزَي القوة والثروة الأمريكيتين، رمزَي السيطرة الإمبراطورية، العالَمية، الرأسمالية، رمزَي مدينة نيويورك، بابل المعاصرة، رمزَي كل ما هو أمريكي مما يكرهه البشر ويتوقون إليه في آنٍ معًا، خلَّف تدمير ذلك كلِّه، في أقل من ساعتين، شعورًا بالرضا العميق.

وبهذا المعنى المحدَّد، فإنَّ مَحْق البُرجَين التوءمَين ومَن كان بداخلهما قد حقَّق نجاحًا باهرًا؛ فذلك كان جزءًا من حرب أسامة بن لادن على الغرب، ماديًّا وميتافيزيقيًّا على السواء، كان هجومًا واقعيًّا ورمزيًّا في آنٍ معًا، على نيويورك، على أمريكا، على فكرة أمريكا، وعلى الغرب الذي تُمثِّله. كان فصلًا مدروسًا من فصول القتل الجماعي يُؤدَّى في أسطورة قديمة، أسطورة عن خراب المدينة الآثِمة. ومثل هذا التطهير كان الأشد حضورًا في أذهان المهاجمين كما توضِّح وصيَّةُ واحدٍ من قادتهم، هو الشاب المصري محمد عطا. فقد عبَّر في وصيَّته هذه عن رعب من النساء والجنس، فمن يغسل جثمانه ينبغي أن يضع قفازات لئلَّا تُمَسَّ أعضاؤه، ولا يريد أن تحضر حبلى أو شخص جُنُب توديعه، فذلك غير مُستحَب عنده.

غير أنَّ مستهلكي الأشرطة الصينية لم يكونوا — كما يمكن للمرء أن يخمِّن — قرويين فقراء يكنُّون الكراهية للأمريكيين، أو حتى لمدلِّسي المدن، بل شبان في شانغهاي، وبكين، وسواها من المدن الكبرى التي ارتفعت ناطحات سحابها ذلك الارتفاع الشاهق الذي ينافس تلك التي في نيويورك، فالغرب بوجه عام، وأمريكا على وجه الخصوص، يُثيران الحسد والاستياء بين أولئك الذين يستهلكون صورهما وسلعهما أكثر مما يُثيرانه بين الذين لا يكاد يمكنهم أن يتخيَّلوا ما هو الغرب عليه. وأولئك الذين دكُّوا البرجين هم شبَّان متعلِّمون أمضَوْا قسطًا وافرًا من حياتهم في الغرب، يتدرَّبون على مهمتهم. ومحمد عطا كان يحمل شهادة جامعية في العمارة من القاهرة قبل أن يقدِّم أطروحةً حول الحداثة والتراث في تخطيط المدن لجامعةٍ تقنية في هامبورغ. وبن لادن نفسه كان ذات مرة مهندسًا مدنيًّا. وكان البرجان التوءمان يمثِّلان، من بين ما يمثِّلانه، ضربًا من الاعتداد التقني بالنفس لدى المهندسين المحدثين. ومع ذلك، فإنَّ مَن خطَّط لتدميرهما كان واحدًا من هؤلاء.

وعلى أية حال، فقد تخطَّت ردَّة الفعل على المصيبة الأمريكية في كثير من الأماكن شعور الشماتة إزاء البلاء الذي أحاقَ بقوة عظمى، وغاشمة في بعض الأحيان، ومضى أعمق من مجرَّد عدم الرضا عن السياسة الخارجية الأمريكية. فقد تردَّدت أصداء مشاعر كراهية وقلق أكثر قِدَمًا، مشاعر تكرَّرت بأشكال مختلفة على مرِّ التاريخ. فما من مرَّة أشاد فيها البشر مدنًا عظيمة، إلا وراودتهم خشية الانتقام والقصاص، ينزله بهم الرب، أو كينغ كونغ أو غودزيلا، أو البرابرة المتربِّصون عند بوَّابات المدينة. ومنذ العصور القديمة، عاش البشر في رعبٍ من أن ينزل بهم العقاب على وقاحة تحديهم للآلهة، بسرقة النار، أو اكتساب مزيدٍ من المعرفة، أو خلق مزيدٍ من الثروة، أو بناء أبراج تبلغ عنان السماء. فالمشكلة ليست مع المدينة بحدِّ ذاتها، بل مع مدنٍ مُستسلِمة للتجارة والملذَّات بدلًا من العبادة. وفي حالة أسامة بن لادن ومحمد عطا تخثر هذا الدافع الديني حتى تحوَّل إلى جنون خطير.

وشعور الاعتداد بالنفس، وبناء الإمبراطورية، والعلمانية، والفردانية، وقوة المال وجاذبيته، كل ذلك مرتبط بفكرة مدينة الإنسان الآثمة. أما أساطير دمارها فقد تواجدت منذ أن بنى البشر مدنًا يُتاجرون فيها، ويراكمون الثروة، ويكتسبون المعرفة، ويعيشون عيشًا رغيدًا.

والخوف من العقاب على تحدِّي قدرة الله، وعلى الاعتداد الذي ينطوي عليه التفكير بأننا نستطيع أن ننجز الأمر وحدنا، هو خوف مشترك بين جميع الأديان. وقصة بابل وبرجها الشاهق هي واحدة من أقدم القصص التي عرفها الإنسان. فبعد الطوفان العظيم، شاد نمرود مدينة بابل. وفي رواية أخرى للمؤرِّخ ديودور الصقلي أنَّ الملكة المقتدرة سمير أميس هي التي شادتها. وأنها قُرِنَت لاحقًا بعبادة الربَّة الأم. ولعل الحرية الجنسية النسبية التي تمتَّعت بها نساء بابل هي التي دفعت اليهود والمسيحيين الأتقياء لأن يصفوا مدينتهن بأنها «أم الزواني ونجاسات الأرض» (رؤيا يوحنا اللاهوتي، ١٧: ٥). فأهل بابل، شأنهم شأن مواطني فلورنسة في القرن الرابع عشر، أو نيويورك في القرن العشرين، حرصوا أشد الحرص على السمعة الدنيوية. وقالوا: «هَلُمَّ نَبْنِ لأنفسنا مدينةً وبرجًا رأسه بالسماء. ونصنع لأنفسنا اسمًا» (تكوين، ١١: ٤).

ولعلَّ برج بابل كان نوعًا من الزقورة أو البرج الهرمي، عمارة بدرج دائري يتبع إشارات الفلك. فالبابليون كانوا منجِّمين ثاقبين. وكان التنجيم سبيلهم لاستكشاف أعمال الطبيعة، واكتساب المعرفة. وقر قرار الرب على معاقبة هؤلاء الكفرة المتشامخين. قال الرب: «هو ذا شعبٌ واحدٌ ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما يَنوُون أن يعملوه» (تكوين، ١١: ٦). وعندها أنفذ الرب قصاصه: وغدت اللغة الواحدة لغات كثيرة، وتبعثر الشعب في أرجاء الأرض، وتمَّ التخلِّي عن البرج.

أمَّا نبوخذ نصر، حاكم بابل اللاحق الذي فتح أورشليم (مدينة الرب إلى حدٍّ بعيد)، واستبعد اليهود، وكان يحلم بمملكة ذهبية، فقد عوقب على اعتداده أيضًا وطُرِد لكي «يكون نصيبه مع الحيوان في عشب الحقل». وليست الأقل بين مفارقات التاريخ أنَّ اليهود، الذين كتبوا حكاية الانتقام من مدينة الإنسان، قد تبعثروا هم أنفسهم في أرجاء الدنيا في القرون اللاحقة، وراحوا ينطقون بلغاتٍ كثيرة، ووصفهم أعداؤهم بأنهم كوسموبوليتيون بلا جذور أدمنوا أحلام الثروة.
أما اعتقاد الكثيرين في البلدان الإسلامية بأنَّ تدمير البرجين التوءمين كان من عمل الموساد في حقيقته، وأنَّ وكالة الاستخبارات الإسرائيلية هي في القلب من مؤامرة عالمية النطاق، فهو نوع من الخبل شبيه بالتطرف الديني لدى نشطاء القاعدة. بَيْد أنَّه ليس بالخبل الذي لم يكُن متوقَّعًا على الإطلاق. فكثيرًا ما أُنحي باللائمة على اليهود أنفسهم لما لاقوه من اضطهاد، ومعاداة السامية يمكن أن تتلفَّع بمفارقات وتناقضات غريبة. كما قُرِنت المؤامرات الرأسمالية بحكماء صهيون، بل وبالشيوعية أيضًا. فثمة رابطة ممكنة. فكلٌّ من الرأسمالية والبلشفية، المتناقضتين من جميع النواحي تقريبًا، لا يزال من الممكن وصفهما بأنهما محاولتان لإحلال عالم الإنسان محل عالم الإله.
وصورة المتروبول بوصفه عاهرة ليست مجرَّد انعكاس للجنس لدى النساء، ذلك الجنس الذي يخشاه الطهرانيون أمثال محمد عطا أشدَّ الخشية ويعافونه، بل هي أيضًا تعليقٌ على مجتمع تمثِّل التجارة المحور الذي يدور حوله. ففي المدينة، التي يتمُّ تصوُّرها كسوقٍ عملاقة، كلُّ شيء مُعَدٌّ للبيع وكل إنسان. فالفنادق، ودُور البغاء، والمتاجر الضخمة تبيع أوهام الحياة الرغيدة. والمال يتيح للبشر أن يسلكوا بطرائق لم يُفطَروا عليها. كما يُنظر إلى ساكني المدينة على أنهم كَذَبة. ونجد في أهاجي جوفينال لروما القديمة، مدينة المتملقين، واللصوص، والتجار من جميع بقاع الإمبراطورية، الجملة التالية: «وما الذي يُمكن أن أفعله في روما؟ لم أتعلم قطُّ كيف أكذب.»٢ فروما، بالنسبة لجوفينال، هي مدينةٌ حيث «من بين الآلهة جميعًا الثروة هي التي تنتزع منَّا أعمق الإجلال»، مدينة يختلط فيها الأجانب بحرية مع الأهلين: «الربح الفاحش كان أول ما جلب إلينا الأخلاق الغربية المنحلَّة، والثروة المتخنثة وإطلاق العنان للأهواء الفاسدة هما ما دمَّرنا على مرِّ السنين.»٣ ويدَّخر جوفينال مرارته الأشد لليونانيين واليهود، وللنساء «سواء كنَّ كريمات المحتد أم لا»، اللواتي يمكن أن يفعلن أي شيء لإرضاء «عاناتهن الحارَّة البليلة».٤
والصورة الرمزية الأقوى للعلاقات الإنسانية المُسلَّعة، العلاقات القائمة على التملُّق والمداهنة، هي العاهرة. ولعلَّ المتاجرة بالجنس أن تكون الشكل الأساسي للتجارة المدينية. ولا عجب، إذَن، أنَّ الرؤى المعادية لمدينة الإنسان لا تني تعود إلى هذا الأمر. وإحدى الصيغ المكرورة المبتذلة في التجارة الإيروتيكية هي أن بمقدورك شراء جسد إنسانٍ ما، لكنك لا تستطيع شراء روحه. والعاهرة، في مقدرتها المهنية، بلا روح، ولذلك فهي ليست إنسانًا في حقيقة الأمر. ويصف الأخوان غونكور، في يومياتهما، مومسًا شهيرة في باريس تدعى بايفا، كانت تمارس تجارتها في ستينيات القرن التاسع عشر، فجر العصر الصناعي: «كانت تتقدَّم بين الكراسي مثل إنسان آلي، كما لو أنها كانت تعمل بزنبرك أو نابض، دون أيِّ إيماءة، أو تعبير … دمية مترنِّحة من رقصٍ مروِّع … مصَّاص دماء ودم الأحياء على فمها القرمزي في حين أن الأشياء الأخرى جميعًا مُفعَمة بالحياة، متوقدة، وفي انحلال.»٥ تلك هي النظرة الاستغرابية إلى المدينة، إلى الرأسمالية، وإلى «حضارة الآلة» «الغربية»: العاهرة المجردة من الروح مثل إنسان آلي جشع.

ويُنْظَر إلى الخلوِّ من الروح على أنَّه عاقبة لاعتداد المتروبول بنفسه. ولقد أقلق المتدينين منذ القدم تبديد ما هو روحي سعيًا وراء الثروة. وقصيدة وليم بليك العظيمة لبناء أورشليم في أرض إنجلترا الخضراء واللطيفة، والتي كتبها في أوائل العقد الأول من القرن التاسع عشر، لم تكُن هجومًا فجًّا على الصناعة (الطواحين الشيطانية المعتمة)، بل صرخة من أجل الحرية الروحية، التي لا تقيِّدها الشئون الدنيوية. وبليك، إذا ما حكمنا من خلال قصيدته، لم يكُن يكره المدن بحدِّ ذاتها؛ لكن من المؤكَّد أن مدينته المثالية لم تكُن سوقًا عملاقة، حيث يتنافس البشر على الذهب والشهرة.

وبعد قرن واحد، كتب ت. س. إليوت شعرًا جميلًا يرثي فيه ضياع بصمة الرب عن المتروبول الحديث. وهذه الأبيات من «أناشيد الجوقات في مسرحيته «الصخرة» – ١٩٣٤م»:

باطلًا وقبض الريح نبني إن لم يبنِ الرب معنا.
هل لكم أن تحفظوا المدينة التي لا يحفظها الرب معكم؟
إن ألف شرطي يوجِّهون المرور،
لا يسعهم أن يخبروك لماذا أتيت وإلى أين تمضي.
إنَّ مستعمرةً من الخنازير أو جمهرةً من المرموط،
لتبني خيرًا من أولئك الذين يبنون من دون الرب.
أترانا سنرفع أقدامنا بين أطلال أبدية؟
القصيدة تتفصَّد تشاؤمًا حيال مطامح الإنسان في أن ينافس الإله؛ فالمشروع العلماني، وكونية التنوير، والإيمان بالعقل، ومدينة الإنسان … تلك هي علامات الخطيئة البشرية، علامات الاعتداد. ونقرأ في القصيدة ذاتها:
كانت عليَّ كلمة الرب، قائلةً:
إيه أيتها المدائن التعِسة لرجال يخطِّطون،
إيه أيها الجيل الشقي من رجال مستنيرين،
ضللتم في متاهات أفانينكم،
باعتكم عوائد مخترعاتكم المثلى.

ونقرأ أيضًا:

يا لتعب من تحوَّلوا عن الرب
إلى عظمة عقلكم ومجد عملكم،
إلى الفنون والمخترعات والمشاريع الجريئة.
ليس تفجير مركز التجارة العالمية باسم الله والجهاد سوى صدى فج، وحرفي، وقاتل لأبيات إليوت، فهو ليس شيئًا من رتبةٍ مختلفةٍ تمامًا، ولقد اختار المجاهدون بعنايةٍ ذلك الرمز الذي سينزلون فيه انتقامهم. فنيويورك هي عاصمة الإمبراطورية الأمريكية. والبرجان التوءمان، الممتلئان بالبشر من جميع الأعراق والجنسيات والعقائد، ممَّن يعملون في خدمة الرأسمالية العالمية، كانا يمثِّلان كل ما يمقته المجاهدون في مدينة الإنسان الحديثة الكبرى.

والسؤال هو: متى اقترنت فكرة المدينة بوصفها رمزًا شريرًا للجشع، والكفر، والكوسموبوليتية منخلعة الجذور ذلك الاقتران الكامل بالغرب؟ متى غدا المتروبول الغربي البؤرة الرئيسة للمقت الاستغرابي؟ ففي النهاية، ليست المدينة الضخمة، التي تشتمل على أعراق كثيرة، بالظاهرة الأوروبية أو الأمريكية الحصرية. والمسلمون لم يكونوا تقليديًّا ممَّن يكرهون المدن الكبيرة. وعلى العكس، فقد دعم الإسلام الباكر التمدين كسبيلٍ للخلاص من الجهالة البدوية. وعلى مدى قرون كانت بغداد والقسطنطينية مركزين للتجارة، والعلم، واللذة. وفي الشرق الأقصى، كانت ثروة بكين ووفرتها قد أذهلت رحَّالة من البندقية في القرن الثالث عشر. وبالمقارنة مع ضروب الرقي في الصين، فإن أمستردام في القرن السابع عشر، على الرغم من كلِّ ثروتها، لم تكُن تملك من الإغراء ما يزيد على ما تملكه بلدة في الأقاليم. وحتى أواخر القرن التاسع عشر، كانت إيدو، العاصمة اليابانية، أكبر وأشد كثافة سكانية من أي مدينة أوروبية، بما في ذلك لندن.

ومن ثَمَّ، فإنَّ الفكرة الحديثة عن بابل هي فكرة تضرب بجذورها المكينة في الغرب، ذلك أنَّ المستغربين الأوائل كانوا أوروبيِّين. وقد كتب ريتشارد فاغنر ذات مرة عن إقامة بطله الألماني تانهاوزر المؤقتة وسط الإغراءات الخطيرة في فينسبرغ: «أوافق فريدريش ديكمان على أنَّ فينسبرغ تقوم مقام «باريس، وأوروبا، والغرب»: ذلك العالم العابث، التجاري، والفاسد الذي تقدَّمت فيه «الحرية وكذلك الاغتراب» أكثر من تقدُّمهما في بلدنا «ألمانيا القروية بتخلفها المريح».»

تعكس عواطف فاغنر تجاه باريس ما يزيد على الاشمئزاز من العبث الفرنسي. ويمكن للبشر أن يكرهوا المدن لأسباب لا حصر لها. لكنَّ تحامل المستغربين في عدائهم للمدن يمضي إلى أبعد من ذلك. فهم يرون إلى المدينة الكبيرة على أنها ليست إنسانية، وعلى أنها حديقة حيواناتٍ منحرفةٍ وفاسدة، تتأكَّلها الشهوات. وساكن المدينة، من هذا المنظور، هو شخصٌ أضاع روحه بالمعنى الحرفي.

وعصر الإمبراطورية، بتحفيزٍ من اندفاعة مشروع علمي وصناعي وتجاري استثنائية، هو الذي حوَّل أوروبا إلى ذلك المركز المتروبولي الذي يتحكَّم بالمحيط الذي اختزل إليه قَدْرًا كبيرًا من بقية العالم. وعداء فاغنر لفرنسا — وتصوُّره عن ألمانيا كمحيط ريفي — هما إرثٌ ناجم عن سيطرة نابليون، لكن الإمبراطوريات التي بلغت ذروة قوتها في النصف الأخير من القرن التاسع عشر كانت إمبراطوريات تجارية، يدفعها السعي وراء الثروة أكثر مما تدفعها الرغبة في الغزو العسكري أو نشر كلمة الرب. وكانت لندن أعظم متروبول بين جميع المتروبولات، والعاصمة الإمبراطورية التجارية لعالم القرن التاسع عشر. وكانت مانشستر المدينة الصناعية الأعظم، وعاصمة الطواحين الصناعية المعتمة. وكانت باريس تنافس لندن كمركز متروبولي، ولطالما حاولت برلين يائسة أن تلحق بهما. وهذه المدن جميعًا كانت تثير الخوف فضلًا عن الحسد وباتت تمثِّل، شأن نيويورك بعد قرنين، شيئًا كريهًا على نحوٍ خاص في أعين أولئك الذين كانوا يسعون إلى اجتثاث ما في الحضارة المدينية من ضروب النجاسة ويحلمون بالطهارة الروحية أو العرقية.

والحضارة المدينية في لندن القرن التاسع عشر، تلك الحضارة التي بعثت السرور لدى بعضهم وأثارت اشمئزاز بعضهم الآخر، كانت تتَّسم بتبايُن شديد في الثروة، وبقَدْر كبير من الحرية المدنية والفردية، التي يمكن ردها إلى الماغناكارتا (الوثيقة العظمى)، ولكنها تدين بالكثير أيضًا إلى مُثُل التنوير. وحين وصل فولتير إلى إنجلترا في يوم مشمس عام ١٧٢٦م، راح يهاجم الحكم المطلق الفرنسي عَبْر تقريظه الحريات الإنجليزية. وإذا كان من الطبيعي أن يترك هدفه السجالي نفسه لشيءٍ من الإفراط والمبالغة، إلا أنَّ فولتير كان ذلك المراقب الثاقب الذي اشتملت مزاعمه على بعض الحقائق المهمة. فأحد الأشياء التي راقته في لندن، فضلًا عن حرية البحث العلمي والمكانة الرفيعة التي يتبوَّأها المفكِّرون، كان البورصة الملكية، التي وصفها بأنها «مكان أشد جلالًا من كثير من المحاكم العدلية، حيث يجتمع ممثلوا جميع الأمم لخير الإنسان.»٦ وبعيدًا عن ازدراء الطبقة التجارية، كما فعل معظم الأرستقراطيين ورجال الأدب الفرنسيين، نظر فولتير إلى التجارة كشرط حيوي للحرية. ذلك أنَّه هناك، في البورصة الملكية، «يتعامل اليهودي، والمحمدي، والمسيحي معًا وكأنهم جميعًا يعترفون بدين واحد، ولا يطلقون اسم الكافر على أحد سوى المفلسين.»

فالمال، كما رآه فولتير، يذهب بجميع الفروق في العقيدة أو العرق. وفي السوق، يكون البشر مقيدين إلى قواعد مشتركة، وعقود وقوانين، لم تُوحِ بها آلهة الأسلاف، بل خطَّها البشر لكي تحمي أملاكهم وتحدُّ من فرص الاحتيال عليهم. والمحتد لا يعني الشيء الكثير في السوق. وقواعد الثقة القديمة، التي لعلَّها لا تزال تعمل عملها في العلاقات القبليَّة أو بين الجماعات القروية، لم يعُد من الممكن التعويل عليها. ولأنَّ القوانين التي تحكم التجارة باتت قوانين علمانية، فإنَّ فولتير، كونه عقلانيًّا بارزًا، يحبِّذ على نحوٍ واضح مثل هذه الترتيبات، التي يمكن أن تبدو للعقل الديني أو الإقطاعي باردة، وآلية، بل وغير إنسانية. غير أنَّ إعجاب فولتير بالإنجليز مضى إلى أبعد من ذلك. فقد اعتقد أنَّه «كما أغنت التجارة المواطنين في إنجلترا، كذلك أسهمت في حريتهم، وهذه الحرية بدورها وسَّعت تجارتهم، ومن هنا نشأت عَظَمَة الدولة. فالتجارة زادت القوة البحرية بدرجات غير محسوسة، الأمر الذي أعطى الإنجليز تفوُّقهم البحري …»

وفي وصف فولتير الذي ينمُّ على الإعجاب، تبدو التجارة الإنجليزية مرتبطةً، إذَن، بكلٍّ من الحرية والإمبريالية. وهذه رابطة لا تزال حيَّة إلى حدٍّ بعيد في الاستغراب، مع أنَّ العدو لم يعُد إنجلترا وحدها، بل أنجلو أمريكا، أو أمريكا، أو الغرب، أو الصهيونية-الصليبية، بحسب التعبير المحبَّب لدى أسامة بن لادن.

وما أثَّر على فولتير في لندن لم يجِد على الدوام مثل هذه الحظوة لدى مراقبين أوروبيين آخرين. فأحد الرحَّالة الألمان في العام ١٨٢٦م لم يجِد سوى «الْتِماعة المصلحة الذاتية والطمع في كل عين.»٧ وبعد عشرين سنة من ذلك، لاحظ الكاتب البروسي العظيم ثيودور فونتين أنَّ «عبادة العجل الذهبي هي داء الشعب الإنجليزي». فليس في المتروبول العظيم ما هو روحي، وليس فيه شعر، ذلك أنَّ الجميع مُنكَبُّون على «الجري هنا وهناك بحثًا عن الذهب». بل إنَّ فونتين كان مقتنعًا بأن المجتمع الإنجليزي سوف تدمِّره «حمى الذهب الصفراء هذه، هذا البيع الكامل لجميع الأرواح إلى شيطان مامون …»٨
ورأى فريدريك إنجلز شيئًا «مثيرًا للاشمئزاز» في الحشود المدينية في مانشستر ولندن، «شيئًا تأباه الطبيعة الإنسانية»، فالمدينة هي المكان الذي «يكتظُّ فيه بشرٌ من جميع الطبقات وجميع المراتب بمحاذاة بعضهم بعضًا»، دون تمييز، وعلى نحوٍ مختلط وفوضوي، والأهمُّ من ذلك كله بلا مبالاة. وما أثار إنجلز هو غياب التضامن في مجتمع الأفراد «المذررين» هذا، حيث يمضي كلٌّ وراء مصالحه «الأنانية» الخاصة.٩

غير أنَّ هذا قد يكون مفيدًا أيضًا. ذلك أنَّ الحشود تفسح مجالًا لغرابة الأطوار الفردية. حيث يمكنك أن تختبئ في حشد. ولا مبالاته تَدَعُك حرًّا. وفي كلِّ بلد صناعي، بما في ذلك إنجلترا القرن التاسع عشر، تندفع النساء ويندفع القرويون إلى المدن، بغية إيجاد عمل، والحصول على المال، والحرية. وما ينتظرهم في الغالب هو الآفة الصناعية، والعصابة الإجرامية، والمبغى. وبالطبع، فإنَّ ذلك لم يَحُل قطُّ بين البشر وبين القدوم إلى المدينة. لكنهم ما إنْ يخلِّفوا الحياة الفردية وراءهم، حتى تضيع في العادة إلى الأبد يقينيات تلك الحياة القديمة، والعلاقات القبلية الوثيقة، والخضوع للتقاليد الإقطاعية والدينية، وهذا ما يمكن أن يؤدِّي إلى ضروب من السخط العنيف.

وحكاية الغريب المتوحِّد، الذي تتجاهله المدينة الكبيرة ويُساء إليه فيها، هي حكاية شائعة في كل مكان. وهي غالبًا ما تُحكَى في حكايات هوليود الكئيبة؛ حيث تكون المدينة الكبيرة نيويورك، أو شيكاغو أو ل. أ. كما أنَّها غدت إحدى الصيغ المكرورة في الأفلام الهندية، والتايلندية، واليابانية في خمسينيات القرن العشرين. وكثير من هذه الأفلام هي أفلام عصابات، حيث نجد شابًّا يغادر قريته، مدفوعًا بالجوع أو بالطموح، ورأسه ممتلئ بقصص الثراء الواسع والنساء الهيِّنات. وما يجده بدلًا من ذلك هو الحشود اللامبالية، والمحتالين والنصَّابين الذين يسلبونه مدَّخراته الزهيدة. وفي النهاية يفقد كرامته، حين يتعلَّم كيف يغدو لصًّا هو أيضًا. وفي بعض الأحيان ينضمُّ إلى عصابة إجرامية، حيث يعيد أداء بعض سننه القروية التقليدية بطرائق معكوسة، وفي أحيان أخرى يحاول أن يبقى وحيدًا. لكنَّه عادة ما يخسر في النهاية، فيستغلُّه زعيم عصابة أو شخص ما آخَر ظنَّ أنه يمكن أن يثق به. والذروة انفجارٌ للعنف، حين يعمد الغريب الذي طالت معاناته، مثل شمشون بين الفلسطينيين، إلى هدِّ أعمدة المدينة في فعلِ انتقامٍ كارثي أخير.

والسمة المشتركة بين الأشرار الطالحين، الباردين، الماكرين، الأغنياء في هذه الحكايات الأخلاقية لا تقتصر على فسقهم، أو طمعهم، أو خداعهم، بل تتعدَّى ذلك إلى طرائقهم الغربية اللافتة. ففي أفلام العصابات الأوروبية، يرتدي الأشرار كما يرتدي الأمريكيون ويتصرَّفون مثلهم، وفي الأفلام غير الغربية، يسلكون مثل البيض المحتالين. فرجال العصابات الأشرار في أفلام خمسينيات القرن العشرين اليابانية يستخدمون المسدسات، ويشربون الويسكي، ويرتدون البزَّات، في حين أنَّ الأبطال الذين يرتدون الكيمونو لا يقاتلون إلا بسيوف الساموراي التقليدية. وأفلام العصابات النمطية، في معظم البلدان، معادية للعالم الحديث. وكذلك بالطبع هو حال أفلام الويسترن الأمريكية النمطية حيث يكون الأشرار محتالين مدينيين من «الشرق البعيد»، يأتون لبناء مدن في السهول الغربية، مرتبطة بالسكك الحديدية الجديدة. ومكان علاقات الثقة القديمة بين القرويين الشرفاء تحل عقود مراوغة صاغها رجال يرتدون البزَّات. إنها لقصة كونية، قصة الصدام بين القديم والجديد، بين الثقافة الأصليَّة الأصيلة والخداع والمكر المتروبوليين، بين الريف والمدينة.

غالبًا ما جرت المطابقة، في أوروبا، بين أفراس البحر المتروبولية التي ابتلعت كامل سكَّان الريف إلى أشداقها المتلألئة وبين اليهود وسواهم من الباحثين عن المال. ومرَّة أخرى، يجد إليوت أبرع العبارات ليعبِّر بها عن هذا التحامل.

… بيتي منزلٌ مُتداعٍ،
واليهودي، صاحب البيت، يربض على قاعدة الشبَّاك،
لقد فقس في حانةٍ في أنتويرب،
وتقرَّح في بروكسل، ورُتِق وتقشَّر في لندن …
وصورة جوفينال عن المواطنين الكَذَبة في روما القديمة تعاود الظهور في ضروب التحامل على التجار والصيارفة اليهود في مدن القرن التاسع عشر. فقد ربط كارل ماركس، وهو نفسه حفيد حاخام يهودي، بين الرأسماليين اليهود والقمل، إذْ يغتذون على الفقراء مثل طفيليات خبيثة. أما بيير جوزيف برودون، وهو مفكِّر اشتراكي آخَر من القرن التاسع عشر، فقد رأى أنَّ اليهودي «بطبيعته عكس المنتج … فهو وسيط، مدلِّس وطُفيلي على الدوام، يعمل، في التجارة، كما في الفلسفة، عن طريق الكذب والزيف، وتبادل المنافع.»١٠

ولقد أخذ المفكِّرون النازيون هذه الثيمات ذاتها، بالطبع، وقرنوا اليهود الطُّفَيليين بنيويورك، ولندن، وباريس، وكذلك ببرلين.

فقبل عام ١٩٣٣م، كانت مدينة برلين رمزًا لكلِّ ما هو شنيع، ليس بالنسبة للنازيين وحسب، بل أيضًا لعدد كبير من دعاة المحلية الرومانتيكيين الألمان. وفي تسعينيَّات القرن التاسع عشر، عبَّرت تشكيلة واسعة من عشَّاق الطبيعة، والمتحمسين للفولكلور، وأنصار التعرِّي، والمدافعين عن وطن جرماني أشد نقاءً وعضوية، في شعاراتها التي راجت تلك الأيام، عن رغبةٍ في «الفرار من برلين»، و«الهرب من قرميد برلين»، بمصانعها، وأحيائها الفقيرة، ونواديها الليلية، ويسارييها، ويهودها، وغربائها الآخرين. فالعاصمة البروسية العظيمة كانت تُرى على أنها نسخة هجينة ومُصطنَعة من المدن الفرنسية والإنجليزية والنمساوية والأمريكية. وكانت حداثتها تُرَى على أنَّها «ليست ألمانية».

وفي الدعاية النازية، جرى الحطُّ من قَدْر المتاجر البرلينية الكبيرة، التي تفسد النساء الألمانيات بالمنتجات «الكوسموبوليتية» المنحطة، مثل أدوات التجميل والسجائر، ونُظِر إليها كرموز ﻟ «الإمبريالية اليهودية» وصُوِّرَت في المنشورات النازية بهيئة أخطبوطات قذرة تخنق المشاريع الألمانية الصغيرة والحرفيين الألمان الشرفاء.١١ أمَّا الحداثة الفنية والعلوم الطبيعية فقد نُظِر إليها على أنَّها خداع يهودي. كما أُدين الجاز، أو «موسيقا الزنوج» باعتبارها أَمْرَكة فاسدة مُنحرفة.

أمَّا خارج أوروبا، فالغرب أو الأَمْرَكة هما اللذان أُنحي عليهما باللائمة بسبب الوضع المتروبولي والطمأنينة الريفية المتلاشية، ذلك أنَّ الأَمْرَكة وبعض التنويعات المحلية على يهود المدينة الكبيرة، مثل الصينيين في جنوب شرق أسيا أو التجار الهنود في أفريقيا، الذين اعتُقِد أنهم يتآمرون، مع النخب المحلية «المتغربنة» المشتراة بالمال، لتسميم الجماعات الروحية أو العرقية الأصلية وتقويضها. غير أنَّ أفكار الأمركة أو «الانسمام الغربي»، كما يقول إسلاموي إيراني، كانت متأثِّرة بضروب من التحامل غربية المنشأ.

وحين شجب المثقفون اليابانيون الأَمْرَكة في مؤتمر كيوتو عام ١٩٤٢م، لم يذهب تفكيرهم إلى الحداثة في أمريكا أو أوروبا بقَدْر ما ذهب إلى نمط مدنهم الكبيرة هم أنفسهم، مثل طوكيو وأوساكا: الأفلام الهوليودية، المقاهي، قاعات الرقص، المجلات الهجائية الساخرة، الإذاعات، الصحف، نجوم السينما، التنانير القصيرة، والسيارات. فقد كرهوا هذه الحضارة المتروبولية الحديثة لأنهم اعتبروها ضحلة، مادية، عادية، بلا جذور، وغير يابانية؛ أي بخلاف ذلك النوع من الثقافة الروحية العميقة التي رغبوا في دعمها وتأييدها. وفي هذا، لم يكُن هؤلاء المثقفون اليابانيون يختلفون بشيء عن كثير من المثقفين الأوروبيين في ثلاثينيات القرن العشرين، على الرغم من أنَّ فكرتهم عن الثقافة الروحية قد تكون مختلفةً في الشكل. ومثل كثير من المثقفين العرب، الذين استلهموا مباشرةً مُثُلًا ألمانية جامعة، فقد تأثَّر اليابانيون تأثُّرًا عميقًا بالقوميين الألمان في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته، وراحوا يطبقون آراءهم المعادية للغرب، والمعادية للمدينة، على اليابان.

وهنا أيضًا كان ثمة شيء من النسيان، إذْ إنَّ المدن اليابانية كانت مراكز تجارية قبل أن يقوم هارولد لويد وديانا دربن بإطلاق هذه الأنماط بزمن طويل. وما من أدلة مقنعة على أنَّ عالم مسارح الكابوكي، أو حفلات التسلية الموسمية، أو الأسواق، أو بيوت الدعارة في إيدو القديمة كانت أكثر روحانيةً من أحياء الملذات في طوكيو الثلاثينيات من القرن العشرين. بيد أنَّ أولئك المثقفين كانوا يشمئزُّون من الأَمْرَكة لأسباب شخصية أيضًا. فكانوا يعلمون أنَّ مكانة الفلاسفة ورجال الأدب في مجتمع مُتَأَمْرِك، تحكمه الثقافة التجارية، هي مكانة هامشية في أفضل الأحوال. والاستغراب، بعيدًا عن كونه عقيدةً جامدةً تجد حظوة لدى الفلاحين المُذَلَّين والمُهَانين، غالبًا ما يعكس مخاوف المثقفين المدينيين وتحاملاتهم، أولئك المثقفين الذين يشعرون أنهم منخلعون في عالم التجارة الكبيرة.

أما الشيء الآخَر الذي خشي منه المثقفون المدينيون في الثقافة المتروبولية «التي لا جذور لها» وفي الاستهلاك الجماهيري فكان مساهمة الجماهير في السياسة. فالصحف والإذاعات تتيح للجميع نفاذًا إلى المعلومات التي كانت تقتصر على النخب. وهذا ما مثَّل خطورة، إذْ كان يُنْظَر إلى الجماهير على أنها غير مسئولة، وغير مثقفة، تسوقها الانفعالات والأهواء الجمعيَّة. أما أفلام هوليود، كما حذَّر الناقد السينمائي في مؤتمر كيوتو، فتعزز الفردانية والديمقراطية، ومجتمعًا متعدد الأعراق. والمتروبول التجاري يعني تحطيم الثقافات الموحَّدة، التي تضرب بجذورها في الدم والتراب، لِتُصاغ حضارة مدينية من تنوُّع كوسموبوليتي.

كانت الأحياء الفقيرة المكتظة، حيث يخشى معظم البشر، بما فيهم الشرطة، أن تطأ أقدامهم، قد نمت مع الثورة الصناعية وارتبطت في أوروبا القارية مع إنجلترا، وخاصةً مع نظام حرية التجارة الاقتصادي الذي عُرِفَ باسم ليبرالية مانشستر. والأحياء الشعبية في طوكيو لم تكُن قطُّ بقذارة مثيلاتها في لندن أو برلين، لكن مفاعيل التصنيع وآثاره، مثل الثقافة الجماهيرية، والإعلام الجماهيري، وجماهير القرويين الذين تدفَّقوا إلى المدن، قُرِنَت بالغرب. وكانت جزءًا مما أراد المستغربون أن «يتغلَّبوا عليه». وإذا ما كانت اليابان هي الأولى، إلا أن السيرورة ذاتها حدثت في الأجزاء الأخرى من العالم غير الغربي، كالصين. والتصنيع، الذي يحوِّل آلاف الفلاحين إلى عمال مصانع، أي إلى سلع مُنخرِطة في الإنتاج الجماهيري تغذِّي شبكة من الأسواق متزايدة الاتساع، هو الذي غرس فكرة الغرب بوصفه «حضارة الآلة»، تلك الحضارة العقلانية الباردة، والآلية، والخالية من الروح.١٢

وحين وصل سيد قطب، وهو واحد من أشدِّ المفكِّرين الإسلامويين أثرًا ونفوذًا في القرن الماضي، إلى نيويورك قادمًا من بلده مصر عام ١٩٤٨م، شعر أنه بائس في تلك المدينة، التي بدت له مثل ورشة ضخمة، ضاجَّة وصاخبة. حتى الحَمام بدا تعيسًا في تلك الفوضى المدينية. وتاق لأنْ يسمع حديثًا لا يدور حول المال، أو نجوم السينما، أو موديلات السيارات. وتكشف رسائل قطب إلى الوطن أنَّ ما أكربه على نحو خاص كان جو الإغراء، تلك الشهوانية الصادمة في الحياة اليومية، وسلوك النساء الأمريكيات البعيد عن الاحتشام. كما استوقفه رقص كنسي في غريلي، في كولورادو، التي يصعب اعتبارها مكانًا متروبوليًّا، واعتبر ذلك الرقص مفرطًا في فسقه. وقطب من المدافعين عن جماعةٍ إسلامية نقية، وعلى النقيض من هذا المثل الأعلى كان يرى إلى مادية الغرب الوثنية الفارغة، في نوعٍ من المعركة التي سنعود إليها لاحقًا. ولم تعمل الحياة في أمريكا إلا على ترسيخ ما لديه من التحامل. غير أنَّ مثله الأعلى عن الجماعة الروحية، شأنه شأن جميع أحلام النقاء، لم يكُن سوى وهم، وهم اشتمل على بذور العنف والدمار.

•••

ليست التجارة اختراعًا غربيًّا بالطبع، لكن الرأسمالية الحديثة اختراع غربي. والتجارة كنظام كوني — انطلق من مدن الغرب الكبيرة، واكتسح الإمبراطوريات القديمة والجديدة، مدَّعيًا صياغة حضارة عالمية — تظهر لأولئك الذين نصَّبوا أنفسهم حرَّاسًا للتراث، والثقافة، والعقيدة على أنَّها مؤامرة ترمي إلى تدمير ما هو روحي، وأصيل، وعميق. وهي مؤامرة يمكن أن يُطلَق عليها اسم إمبريالية روما، أو الرأسمالية الأنجلوأمريكية، أو الأمركة، أو الصهيونية-الصليبية، أو الإمبريالية الأمريكية، أو الغرب وحسب. وهي ليست مؤامرة بالطبع، لكن التوترات بين المحلي والكوني هي توترات واقعية وفعلية بما يكفي. فلا شك أن التجارة، في شكلها الرأسمالي العالمي الحديث، تُغيِّر الطريقة التي يتبعها البشر في ترتيب شئونهم السياسية والاجتماعية، على الرغم من أنَّ النتائج لا تكون مباشرة كما يعتقد أنصارها أو خصومها على حدٍّ سواء.

ولطالما قُرِنَ اليهود إلى التجارة والمال، سواء في المجتمعات الإسلامية أم المسيحية، بحيث باتت الآراء المعادية للرأسمالية تطولهم بصورة تكاد أن تكون دائمة. غير أن النظر إلى اليهود كأعداء للأصالة الثقافية ومتطفلين عليها، أفضى إلى ربطهم أيضًا مع ما ادعاه الغرب من أفكار كونية، مثل الجمهورية الفرنسية، والشيوعية، أو حتى القانون العلماني. ولم يكتفِ النازيون في عشرينيات القرن العشرين بإلقاء المسئولية عن أمراض ألمانيا على عاتق الرأسماليين اليهود، والمحتالين اليهود، والخونة اليهود الذين يطعنون في الظهر، بل ألقوها أيضًا على عاتق رجال القانون اليهود الذين صاغوا دستور فيمار لكي يَخْصُوا الشعب الألماني. ولقد رأى منظِّر يُدعَى هانز بلوهر في عشرينيات القرن العشرين أنَّ اليهود، الذين أُقصُوا عن نطاق الجماعات الشعبية الدافئ، كان لا بد أن يؤمنوا بالقوانين والمؤسسات العقلانية، التي وعدت بالتقدم الإنساني. ولو تركنا جانبًا، للحظةٍ، كثيرًا من اليهود الذين واصلوا العيش بحسب الشرائع الدينية القديمة، لبدا بلوهر محقًّا؛ فالقوانين العلمانية بالذات كانت تُرى من قبل المعادين للسامية على أنها ضروب من التهديد الآلي البارد لنقاء العقيدة والعرق.
لكن الإيمان بالتقدم، والقانون، والعقل لم يكُن «يهوديًّا» وحسب، بل فرنسيًّا أيضًا، يضرب بجذوره في التنوير والثورة. وكانت معاداة السامية الحديثة في أوروبا — أي تلك الفكرة التي مفادها أنَّ ثمة مؤامرة يهودية للسيطرة على العالم — قد بدأت كردة فعل على الثورة الفرنسية. ورأى خصوم الجمهورية الفرنسيون إلى اليهود والفريماسون كمتآمرين سريين يرمون إلى تقويض الكنيسة الكاثوليكية وسواها من المؤسسات التقليدية. أما تحرير نابليون لليهود وهدفه المتمثِّل في فرض معايير وقوانين شاملة لأوروبا كلها فقد أثار قناعاتٍ متشكِّكة بأنه ألعوبة في يد اليهود، بل وأنه يهوديٌّ متخفٍّ هو نفسه.
هذه الضلالات الفرنسية أصابت بعدواها أوروبيين آخرين، خاصةً الألمان؛ فقد رأى هتلر في كتابه كفاحي أنَّ فرنسا، التي تستعبدها البورصة اليهودية، و«يوجِّهها اليهودي بدهاء»، كانت تحوِّل انتقامها إلى ألمانيا.١٣ كما اعتقد أيضًا أن أمريكا قد «تهوَّدت» تمامًا وأن الإمبراطورية البريطانية كانت «تغدو أكثر فأكثر مستعمرةً لليهود الأمريكيين.»١٤ ومع أنَّ ثمة مخاطرة في أن نجري التحليل العقلاني على أحاديث الفوهرر المتبجِّحة التي كان يطلقها على مائدة الغداء، إلا أنَّ شيئًا واحدًا كان يدور في خلد هتلر، وفي خلد الكتَّاب الذين كان يقتبس أفكارهم، هو تصور مختلف تمامًا عن الجماعة؛ فالانتماء إلى شعب هو أمر «عضوي» وحصري بالتعريف، في حين أنَّ المواطنة في الجمهورية الفرنسية، وفي الولايات المتحدة، أو بريطانيا هي مواطنة مفتوحة للجميع، شأنها شأن مدن هذين البلدين. وكما يقول هيوستون ستيورات تشابرلين، وهو واحدٌ من معلمي هتلر الأعزَّاء، فإنَّ المواطنة البريطانية يمكن أن ينالها أيُّ «زنجي من الباسوتو» مقابل شلنين ونصف.

وغالبًا ما أمكن التبديل بين اليهود وأمريكا وفرنسا وبريطانيا، بوصفهم موضوعات للكراهية، ذلك أنَّ ألمانيا النازية، شأنها شأن الإسلامويين المعاصرين، كانت تخوض حربًا معهم جميعًا. وكان في ألمانيا، تلك «الأمة الواقعة في الوسط»، أولئك الذين شعروا أنهم محاطون بالأعداء، فالبلاشفة إلى الشرق والديمقراطيات «المتهوِّدة» في أوروبا وأمريكا إلى الغرب. أما جمهورية فيمار فقد نظر إليها أعداؤها على أنها «قوة معادية في خدمة الغرب». وقبل أن تحمل ألمانيا على قطعان ستالين الآسيوية، كانت قد شنَّت الحرب على الغرب. وكان هذا الهجوم على الدول الديمقراطية الليبرالية، التي نظر إليها على أنها مصطنعة، وعقلانية، وهجينة عرقيًّا، ومادية، ومتخمة باليهود الجشعين، مثالًا واضحًا من أمثلة الاستغراب القاتل في قلب القارة الأوروبية.

سبق لليون تروتسكي أن وصف تاريخ الرأسمالية بأنه انتصار المدينة على الريف. ولم يكُن ذلك انتقادًا بقدر ما كان ملاحظة ورصدًا. والريف عند ماركس وإنجلز، كما عند تروتسكي، مكانٌ بعيد عن الحضارة مسكونٌ بالبلهاء. وكذلك، بالمناسبة، حال آسيا وبقية أجزاء العالم غير الغربي. وقد لاحظ ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي أنَّ «البرجوازية قد أخضعت الريف لحكم المدن … وأنشأت مدنًا كبرى … وجعلت البلدان الهمجية وشبه الهمجية معتمدة على البلدان المتحضِّرة.»١٥ وهذا ما يمهِّد التربة أمام الثورة العالمية، كما كانا يتوقعان ويأملان.
لم تَسِر الأمور تمامًا في ذلك السبيل، لكن الفكرة التي مفادها أن أوطان القوى الاستعمارية الغربية تمثِّل المدينة، وأن المستعمرات تمثِّل الريف، هي فكرة مقنعة، على الرغم من أنَّ بعض مدن العالم الأشد تمدُّدًا واتساعًا كانت قد برزت منذ ذلك الحين في الهامش الاستعماري القديم. وهذه التجمعات الضخمة، التي لا تعدو في الغالب أن تكون ضواحي فقيرة ناجمة عن امتداد مراكز المدن التاريخية المتفسِّخة، تقع من حيث استهلاكها للاقتصاد العالمي على أدنى الدرجات: أقراص دي في دي مقرصنة تعرض أفلام الأكشن الهوليودية، ملابس رخيصة أمريكية الطراز، وضجيج موسيقا البوب الأمريكية، أو مثيلاتها المحلية، على مدى أربع وعشرين ساعة. فالعولمة، بوصفها أقرب تجلٍّ للمتروبول الغربي، يمكن أن تكون مصدر إغراء لا ينتهي وإذلال متواصل بالنسبة للشباب العاطل الذي يعيش في هذه الأراضي الثقافية اليباب. أما بالنسبة للذين تلقوا تعليمًا أعلى، فقد غدت هذه العولمة مرادفًا جديدًا للإمبريالية.
وحين كانت أوروبا لا تزال تحتفظ بإمبراطوريتها الرسمية، كانت المدينة تقدِّم الأفكار، والمعرفة التقنية، والابتكارات العلمية، والمدراء، ورجال الأعمال، والمهندسين، والضباط، أمَّا الريف فكان يقدِّم المواد الخام، والعمل الرخيص، ومئونة لا نهاية لها من جنود المشاة. وكان لدى كلِّ قوة استعمارية فكرة مختلفة بعض الشيء عن «رسالتها الحضارية». فاهتمامات البريطانيين والهولنديين كانت تجارية أساسًا، أما الفرنسيون فكانوا مقتنعين بأن العالم برمَّته سوف يفيد من الحضارة الفرنسية، التي رأوا أنها حضارة كونية. وكان الأمريكيون في حماسهم التبشيري أشبه بالفرنسيين منهم بالهولنديين أو البريطانيين، ربما لأن أمريكا قد وُلِدَت من ثورةٍ، مثل فرنسا. غير أن جميع بناة الإمبراطورية كانوا ينظرون إلى أنفسهم، بصرف النظر عن هذه الفروق، كوكلاء للحضارة، وكنقيض لسدنة الثقافة المحلية المتخلِّفين، المؤمنين بالخرافات، و«شبه الهمج».
غير أنَّ معارضةَ هذه النظرة برزت باكرًا. فالمفكرون الرومانتيكيون في ألمانيا القرن الثامن عشر أو أوائل القرن التاسع عشر قاوموا الخطط الإمبراطورية الفرنسية في المجال الثقافي، مثلما قارعت الفيالق البروسية جيش نابليون. ففرنسا كانت تمثِّل، بالنسبة للرومانتيكيين الألمان، المدينة العدوانية التوسعية، التي تدفعها طرائقها المتروبولية، العقلانية، الزائفة. وكانت ألمانيا ريف الشعراء، والرسامين والفلاحين. وهذا التجاور هو ما تكشف عنه بصورة واضحة أعمال يوهان غوتفرد هيردر (١٧٤٤–١٨٠٣م)، على سبيل المثال. فقد كان هيردر باحثًا فولكلوريًّا متحمسًا واعتقد أنَّ الأمم جماعات عضوية، تتطور كما الأشجار، ضاربةً بجذورها في التربة المحلية. أما اللغات والثقافات فتشتمل على روح، هي روح فريدة لدى كل جماعة. وما تنطوي عليه لغات هذه الجماعات، وروح الشعب Volksgeist التي تهبها الحياة، هو ضروب الحكمة القديمة والفضائل الإنسانية الحارة. غير أنَّ «العالم الأوروبي البارد» قد جمَّدته «الفلسفة» لسوء الحظ، والمقصود بالفلسفة هو الفلسفة الفرنسية وما ادَّعته من عقلٍ كوني.

أما قرين هذه الفلسفة الباردة، وتوءمها الخبيث، فكان نظام التجارة الأوروبية متحجِّر القلب، والذي جلب الموت والدمار للثقافات الحارة في ثلاثٍ من القارات. وكان هيردر «مستشرقًا» نمطيًّا، كما يعرِّفه النقَّاد المحدثون المعادون للاستعمار، وذلك من حيث إسقاطه على العالم خارج أوروبا نظرةً ضيِّقةً ثابتةً لا تعرف التغيير. وفضائل «الهجنة» أو «التعددية الثقافية» لا مكان لها عنده؛ فقد نظر إلى معظم أهالي المناطق المدارية على أنهم «أبناء الطبيعة»، الذين لا يزالون ينعمون ببركة الإجلال الطفولي البسيط تجاه الملوك-الآلهة والحكماء المستبدين. غير أنَّ آراء هيردر هذه لم تكن ترمي إلى تعزيز مهمة الرجل الأبيض في تثقيف المحليين الجهلة. فقد كان على العكس، معارضًا عنيفًا للإمبريالية، بل لكل دعاوى الحكمة الكونية. فأبناء الطبيعة، مقارنةً مع أوروبا العقلانية الباردة، هم الأفضل، والأنقى، والأشد أصالة. ومن الخطأ والغطرسة أن نعتقد بضرورة أن يكون البشر جميعًا أحرارًا، ذلك أنَّ حرياتنا المزعومة لم تُفضِ إلا إلى الوحشية والمادية العقيمة.

لكن الحقيقة هي أن الأفكار الأوروبية عن السياسة كانت تنتقل بصورة لا مفرَّ منها إلى الرعايا الاستعماريين، إلى جانب العلم، والدين، والاقتصاد، والأدب. وهذا الانتقال لم يكُن يعمل دومًا على النحو الأمثل. فقد تسلَّلَت إليه تشويهات كثيرة، غير أنَّ الأفكار الأوروبية عن الرأسمالية والديمقراطية غيَّرت الطريقة التي كانت تُدار فيها تلك المجتمعات، من القاهرة إلى طوكيو. وحتى تلك الأمم غير الغربية القليلة التي تفادت الحكم الغربي، مثل اليابان، وإلى حدٍّ ما الصين، كانت مضطرة لأن تستعير الأفكار الأوروبية لكي تصدَّ الغرب. والسؤال هو: أية أفكار أوروبية؟ فغالبًا جدًّا ما نزعت هذه الأفكار لأن تكون تنويعات إما من الكونية الفظَّة أو من مقابلاتها القاتلة، مثل القومية الإثنية والنقاء الديني.

وتشكِّل الصين مثالًا جيدًا على هاتين الحالتين كلتيهما. فهناك، في عهد ماو تسي تونغ، بلغت الحرب بين المدينة والريف حدَّها القاتل. فالحكم الإمبراطوري الصيني كان يُبَرَّر من خلال نظام كوني. حيث الصين في مركز العالم، وعرش التنين يشغل المركز الروحي والسياسي للإمبراطورية الصينية. أما التحدي العلمي لهذا النظام الكوني، ذلك التحدي المستورد من الغرب، فكان تحديًا سياسيًّا أيضًا. وكذلك بالطبع، كانت الليبرالية، والفردانية، والمسيحية. وغالبًا ما كان رفض هذه المؤثرات الغربية دفاعًا عن احتكار للسلطة، ودفاعًا عن الملك السماوي وحاشيته. وهكذا وجد بحَّاثة المؤسسة الصينية في القرن التاسع عشر صيغةً بارعة: المعرفة الغربية فيما يتعلَّق بالمسائل العملية، مثل التسلُّح، والتحصيل الصيني فيما يتعلَّق بالشئون الروحية والأخلاقية. وهي الصيغة ذاتها التي تبنَّاها اليابانيون لاحقًا.

غير أنه لم يكن ثمة أمل في هذا المشروع. فمن غير الممكن أن تفصل نوعًا من المعرفة عن نوع آخَر، أو أن تستورد ما هو نفعي وحسب مستبعدًا في الوقت ذاته ما يقترن به من أفكارٍ قد تكون هدَّامة. لكن مثل هذه المحاولات لا تزال تجري إلى اليوم: حيث تريد الحكومة الصينية أن تحصل على منافع تكنولوجيا المعلومات دون الأفكار التي تجعلها هذه التكنولوجيا متاحةً للجميع. كما عملَ تصنيف المعرفة الغربية كمعرفة عملية محض، سواء كان تصنيفًا خاطئًا أم لا، على تثبيت التصوُّر الذي يرى إلى الغرب على أنه بارد وميكانيكي. أما الشيء الآخر الذي ظلَّ عاملًا ثابتًا في الصين وفي كثير من المجتمعات غير الأوروبية الأخرى، منذ التقائها بالأفكار الأوروبية الحديثة، فهو الانقسام بين المحليين والمتغربنين. حيث يحلم الأولون بالعودة إلى نقاءِ ماضٍ مُتخيَّل: اليابان في ظل الإمبراطور السماوي، الخلافة الإسلامية الموحَّدة، الصين كجماعة من الفلاحين. أما الآخرون فهم من محطِّمي الأصنام، الذين يرون إلى التراث المحلي كعقبة في وجه التحديث الجذري.

وتمثلت مشكلة المحدثين الجذريين في كيفية إجراء التحديث دون أن يتحولوا إلى مجرد نسخة من الغرب. فهل ثمة سبيل لبناء أمة حديثة دون السماح بدخول المسيحية وسواها من أشكال «التلوث الروحي»؟١٦ ولقد كانت هذه المشكلة أكثر حدة في البلدان الإسلامية، حيث شُعر بالنجاحات الحديثة التي حققتها الإمبراطوريات المسيحية كإذلال لا يُطاق. وفي مثل هذه الظروف، لا يعود مدهشًا على الإطلاق ما حازته الاشتراكية، سواء في إهابها العربي أو الصيني، من جاذبية وإعجاب. فالماركسية تدعو إلى المساواة، وهي حديثة دون جدال، وقد جاءت من الغرب، وهي ذات دعاوى كونية مثل المسيحية. لكن وعدها بتحرير البشرية وعد «علمي»، وليس ثقافيًّا أو دينيًّا. وهكذا كانت اشتراكية الدولة سبيل البلدان غير الغربية لكي تغدو جزءًا من العالم الصناعي الحديث دون أن تبدو كما لو أنها تحاكي متروبولات الإمبريالية الرأسمالية. وقد جرى تجريب هذا المسار البديل في كلٍّ من الصين، والعراق، وكوريا الشمالية، وإثيوبيا، وكوبا، وفيتنام، وكثير من الأماكن الأخرى. وفشل. ومن هذا الفشل وُلِدَت أعنف أشكال الاستغراب، وأعنف أشكال التوق المحلي إلى النقاء والاشمئزاز الهدَّام من الغرب، أو كانت جزءًا منه، كما هو الحال في الصين.
ومن بين جميع الثوريين في العالم الثالث، كان الرئيس ماو ذلك النموذج الذي ألهم الأحلام الاستغرابية أشدَّ الإلهام؛ فالرئيس ماو كان في حرب مع الإمبريالية الغربية، بالطبع، ومحطِّمًا عظيمًا للتقاليد. لكن أصالته، بالمقارنة مع ستالين، كانت مستمدة من حربه على المدينة. فقد قرَّر ماو، بخلاف نصيحة مندوبي الكومنترن ورفاقه من الشيوعيين الصينيين، أن يعبِّئ الصين الريفية ويعكس وجهة انتصار المدينة على الريف. وكان يُنظَر إلى شنغهاي، بوجهٍ خاص، كرمز للإمبريالية الغربية، والفساد الرأسمالي، والرفاهية المدينية المنحطة، والزيف الثقافي، والتفسخ الأخلاقي. فشنغهاي، بأحيائها الفقيرة المكتظة، ومقاهيها، ومطاعمها الفرنسية، وأفلامها الهوليودية، وبيوت شايها الروسية، وتجَّارها ومومساتها من جميع الأعراق والعقائد، كانت العاهرة المدينية الأسوأ، والأبعد عن الروح، والأشد تغرُّبًا. وليست الواقعة المتمثِّلة في أنَّ زوجة ماو، جيانغ كنغ، التي هي واحدة من أعتى حواريي الماوية، قد كانت من قبل ممثلة سينمائية وفتاة متعة في شانغهاي سوى مثال واضح على الصلة الوثيقة التي يمكن أن تقوم بين الكراهية العنيفة والتوق العميق.
كان أفق الثورة الريفية الماوية أبعد من شانغهاي بكثير. ففكرته عن الثورة الريفية لم تكُن مقصورةً على الصين. وكان ماو ينظر إلى نفسه على أنه بطل العالم الثالث برمَّته. وهكذا كان ينظر إليه مَن تعاطفوا معه في الغرب. فالماوية، بالنسبة لجميع أولئك الذين يكرهون الغرب البرجوازي، كانت تَعِدُ بسبيل للخروج من الاغتراب الرأسمالي، والتفسُّخ المديني، والإمبريالية الغربية، والفردانية الأنانية، والعقل البارد، واللامعيارية الحديثة أو الخروج الحديث على القياس. ففي ظلِّ ماو، سوف تُستَعاد الأواصر الإنسانية، وسوف يكون للحياة معناها العميق مرَّة أخرى، ويكون للبشر عقيدتهم. وسوف يتمكَّن الريف في النهاية من أن يردَّ الضربة، مثلما سبق للإله أن أنزل نقمته ببابل، ومثلما يحاول أن يفعل اليوم جيل جديد من المجاهدين.
ولقد تمثَّل هدف ماو المباشر ببرجوازية المدينة «المتغربنة». ففي خريف ١٩٥١م، شنَّ سلسلة من الحملات الدامية على الرأسماليين والمثقفين البرجوازيين. وكان يرسل «فرق صيد النمور» لكي تُلقي القبض على المشبوهين وتعرِّضهم للإذلال العلني، أو التعذيب، أو الموت بالنسبة لآلاف منهم. كما أعلن ماو أنه ينبغي تطهير المثقفين من الأيديولوجيا البرجوازية، خاصةً الفردانية ومناصرة الأمركة. وكان يرسل ذوي التُّهم البسيطة إلى معسكرات الأعمال الشاقة، أما مرتكبو الكبائر فكانوا يُقتلون على الفور. ولقد تواصل الهجوم على الطبقة الوسطى المدينية لأكثر من عقد. وخطاب ماو أمام قادة الحزب في العام ١٩٥٥م يعجُّ بالبلاغة الماركسية اللينينية القاسية، إلا أنه يتقاسم اشمئزازًا مشتركًا مع ثوريين آخرين يريدون دكَّ أعمدة المدينة:
في هذه المسألة، لا رأفة لدينا مطلقًا! في هذه المسألة، الماركسية قاسية حقًّا ولا تزال، ذلك أنها عازمة على مَحق الإمبريالية، والإقطاعية، والرأسمالية، والإنتاج الصغير أيضًا … بعض رفاقنا بالِغو اللطف، وليسوا أشدَّاء بما يكفي، وبعبارة أخرى، ليسوا ماركسيين كما ينبغي. إنه لمن الحسن كثيرًا، ومن المهم أيضًا، أن نمحق البرجوازية والرأسمالية في الصين … هدفنا هو أن نمحق الرأسمالية، أن نزيلها عن وجه الأرض ونجعلها شيئًا من الماضي.١٧
ذلك أنَّ الصين، اقرأ كابول، بنوم بنه، وجميع المدن الأخرى التي بناها البشر، ينبغي أن تُهْدَم أو تُحَوُّل إلى مذابح للأضاحي التي تُقَدَّم للآلهة القديمة، أو المخلصين السياسيين المُحدَثين. بل إنَّ ثورة ماو، ثورة الريف على المدينة، كان لها في أماكن أخرى أن تُؤْخَذ إلى أقاصٍ أبعد. فصور جيش الخمير الحمر البائس في مسيرته نحو بنوم بنه تُظهر أولادًا قرويين، مذهولين وناحلين، يحدِّقون غير مصدِّقين في مشاهد المدينة الكبيرة التي يوشكون على إفراغها من مواطنيها. فعمارة بنوم بنه هي عمارة غربية، وفيها مطاعم فرنسية، وتجَّار صينيون، واقتصاد مديني حديث نسبيًّا. أما جنود الخمير الحمر فينحدرون من أفقر مناطق البلد، وأبعدها عن الحياة الحديثة التي لا تزال مجهولة. وكثير منهم لم يتعدَّ مرحلة المراهقة. ومعظمهم لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وقد قال لهم أسيادهم إن أهل المدينة المتعلمين، أي كل مَن ذهب إلى مدرسة، أو تكلَّم الفرنسية، بل كل مَن يتمتَّع بيدين ناعمتين أو يضع نظارات، هو عدو للشعب. وأنَّ الفيتناميين أو الصينيين، الذين عاشوا في المدن وتاجروا منذ قرون، شأنهم شأن اليهود في ألمانيا، ينبغي استئصالهم من المجتمع مثل الخلايا السرطانية. وبعض قادة الخمير الحمر، ومن بينهم بول بوت نفسه، كانوا طلابًا في باريس، حيث التقطوا الأفكار المعادية للغرب، والمعادية للاستعمار، والمعادية للإمبريالية من منظرين مثل فرانز فانون، الذي وصف المدن بأنها مأوى «الخونة والأوغاد».١٨
وفي الفترة التي فعل فيها الخمير الحمر ما فعلوه وتركوا بنوم بنه مدينة أشباح، وحوَّلوا مدارسها إلى أماكن للتعذيب، قُتِل ما يزيد على مليوني شخص أو أُجهِدوا في العمل حتى الموت. ولم يزد ما استغرقه هذا الانتقام على ثلاث سنوات. ومثل غارة القاعدة على البرجين التوءمين في نيويورك، كان هذا الانتقام انتقامًا فعليًّا بقدر ما كان انتقامًا رمزيًّا. ذلك أن بنوم بنه كانت، بالنسبة للخمير الحمر، شريرة، بلا أصالة، رأسمالية، مختلطة إثنيًّا، متغربنة، منحطة، أفسدها الاستعمار. وما كان لسكان المدينة أن يُعامَلوا معاملة إنسانية، فقد سبق لهم أن أضاعوا أرواحهم من قبل. وسوف يقوم الخمير الحمر، عبر القتل الجماعي المنهجي، ومن خلال سحق المدينة الشريرة، بإعادة الطهارة والفضيلة إلى الأرض القديمة.

ولقد فعلت طالبان بكابول ما فعلته بالسرعة ذاتها، وبالقسوة ذاتها. فبعد حرب أهلية قاسية، دُمِّرَت فيها كابول بفعل القصف المتواصل من المرتفعات المحيطة، سيطرت طالبان فجأة على المدينة عشية أحد أيام أيلول في العام ١٩٩٦م. وكان قائدها، المُلَّا محمد عمر، ابن فلاح وبعين واحدة. ومثل أتباعه، بعمائمهم السوداء وشواليخهم، لم يسبق له قط أن كان في كابول. غير أنه تلفَّع بعباءة النبي، بالمعنى الحرفي التام؛ حيث أُخرجت من مزار أفغاني عباءة قيل إنها كانت للنبي محمد وراح المُلَّا عمر يتباهى بها في ظهوراته العلنية النادرة. وتمثَّل أول فعل من أفعال العنف الرمزية — والفعلية المرعبة — بعد سقوط كابول بتعذيب الرئيس اليساري السابق نجيب الله. حيث قطعت طالبان خصيتيه وجرَّت جثته المسحولة وراء سيارة جيب. ثم أطلقت عليه النار ودلَّت جثته من عمود النور في شارع. وكعلامة على فسقه وفساده، ملأت طالبان جيوب الرئيس السابق بالمال، ودسَّت السجائر بين أصابعه المحطمة.

كان هدف طالبان من وراء هجومها على كابول تحويل هذه المدينة إلى مدينة الله. ولذلك كان من الواجب محو علامات التغريب برمتها، مثل «قصَّات الشعر البريطانية والأمريكية»، كما حُرِمَت النساء من العمل ومن الظهور في المشهد العام. وأصدرت الشرطة الدينية قرارًا يقضي بأن «النساء اللواتي يخرجن بثياب مغرية ومشدودة مزيَّنة ودارجة بغية الاستعراض … يكُنَّ ملعونات في الشرع الإسلامي ولا يتوقعن الجنة قطُّ.»١٩ ولقد حُرِّمَت الموسيقا، وكذلك التلفاز، والطائرات الورقية، والشطرنج، وكرة القدم. وبات الزنا يُعاقَب بالرجم، وتعاطي الكحول بالجلد. وباتت الشريعة القانون الوحيد. وحكم على كابول ستة رجال يؤلفون الشورى، ولم يكن بينهم أحد من كابول. ولم يسبق لأحدهم قطُّ أن عاش في مدينة.

ومثل هذه الحالات من الثورات المتطرفة التي يقوم بها الريفيون على المدينة الحديثة هي، في الواقع، حالات نادرة تمامًا. فمعظم الثورات، سواء كانت دينية أم سياسية أم خليطًا من الاثنتين، تولد في المدن، بوصفها بنات أفكار سكان هذه المدن المُستائين. ولكي نذكر حالةً نمطية واحدةً وحسب، فإنَّ نيكولا كولجيفيتش، كان باحثًا مختصًّا بشكسبير من سيراييفو. وقد أمضى فترة من الزمن في لندن والولايات المتحدة. وكانت إنجليزيته طليقة. فضلًا عن كونه مواطنَ واحدٍ من أشدِّ الأماكن اتصافًا بالكوسموبوليتية في البلقان، مدينة بوسنيانس العلمانية، حيث يقطنها الصرب واليهود والكروات، وتشتهر بمكتباتها وجامعاتها ومقاهيها، مدينة التعلُّم والتجارة. وهناك شهد مدينته، في أواسط تسعينيات القرن العشرين، وهي تُحرَق من المرتفعات المحيطة. ذلك أنَّ الأوامر بقصف سيراييفو، باسم النقاء العرقي و«بعث صربيا» كانت أوامر ممهورة بتوقيع نيكولا كولجيفيتش، الباحث المختص بشكسبير.

•••

ولا شك أنَّ القصف واحد من أشكال التدمير الفجَّة. وهناك طرائق كثيرة لمهاجمة بابل الحديثة على نحوٍ مُهلِك بالمثل. فيمكن أن تتخذ الهجمات، على سبيل المثال، شكل بناء مدن جديدة أكبر وأعظم من المدن القديمة، مدن تحتفي بالقوة بدلًا من الحرية، وبسلطة الطغاة، أو الآلهة. والمدينة التي تتعرض للهجوم ليست، في النهاية، مجرد مجموعة من المباني المدينية، بل فكرة المدينة بوصفها متروبولًا كوسموبوليتيًّا.

كان هتلر يكره برلين، غير أنه بدلًا من أن يهجر عاصمته أو ينهبها، وضع خططًا لتغييرها. وكانت السرعة، والصناعة، والتكنولوجيا تلك العلائم المميزة للإنجاز النازي. كان من الواجب أن يكون كل شيء أكبر وأسرع، إنما مع سيطرة الدولة النازية عليه تلك السيطرة المطبقة. وكان من الواجب أن تُحكَم الحشود المنفلتة ككتلةٍ واحدة من المتعبدين. وأن تغدو المدينة ذاتها متروبولًا عملاقًا، يُدعَى جرمانيا، وتبلغ قبابه الأعالي حتى تسبح فيها الغيوم. أما الأماكن الواسعة، حيث يعيش البشر ويعملون، فكان من الواجب هدمها لتحل محلها الجادات الضخمة، التي لا تصلح إلا للعروض العسكرية والحشود الجماهيرية. كانت الفكرة بناء مدينة عبادةٍ تنافس مدينة الله. وكان من المفترض بجرمانيا أن تكون صورة مَرَضيَّة لعاصمة عظيمة، يقطنها عرق نقي، مدينة امتُصَّت منها كل حياة عفوية، مدينة هي بابل الموت. ولذلك كان من الواجب «التغلب» على كل خصيصة من خصائص الغرب الليبرالي — الحريات المدنية، اقتصاد السوق الحرة، الديمقراطية، الحرية الفنية، الفردانية — لإفساح المجال أمام شيء غريب تمامًا. ولقد تباهى هتلر بأنَّ برلين «بوصفها عاصمةً عالمية، لا يمكن أن تعيد إلى الأذهان سوى مصر القديمة، ولا تمكن مقارنتها إلا ببابل أو روما. فبالمقارنة مع هذه العاصمة، ما الذي ستمثله لندن، أو باريس؟»٢٠

ولم يبقَ لجرمانيا سوى قليلٍ من الأثر. فكلُّ ما بقي من خطة هتلر الأساسية العظيمة هو صفٌّ من فوانيس الشوارع وسفارتان، لإيطاليا واليابان. بيد أنَّ الطموح إلى منافسة العواصم الغربية عبر إقامة مُدُن تحت السيطرة على مقاس بابل لم يمُت بموت هتلر. فقد نَبَقَتْ مثل هذه المدن، ليس في أوروبا، بل في كوريا الشمالية، والصين، وجنوب شرق آسيا. وبيونغ يانغ، عاصمة كوريا الشمالية، هي ما كان يمكن لجرمانيا أن تبدو عليه، نكروبوليس (مدينة موتى) كلاسيكية جديدة بمعابد للسلطة الشمولية من المرمر والغرانيت أكبر مما ينبغي. حيث يقف هناك، كعلامةٍ على الاعتداد الديكتاتوري، برج فندق ريوغيونغ الفارغ، ذلك الأهرام العملاق بطوابقه المائة وخمسة، والذي بقي هيكلًا إسمنتيًّا منذ أن نفد المال واعتُبِرَ المبنى غير آمن إلى درجة تحول دون إتمامه. أما ناطحات السحاب العملاقة في بودونغ، تلك الضاحية الصناعية الجديدة في شانغهاي، فهي تعبيرات من نوع آخر، تعبر عن القوة الاقتصادية الفجة لدولة تسلطية: رأسمالية أوامرية جُرِّدَت من الحرية السياسية. وهنالك خطط لإقامة أعلى مبنى على وجه الأرض في هذا الموقع. وليست الأبراج الزجاجية والفولاذية في سنغافورة وكوالالامبور سوى نسخ ألطف من الشيء ذاته. فهذه المدن جميعًا إنما تتغلب على الغرب، بطرائقها المختلفة، عبر إقامتها نسخًا وحشية من الحضارة التي أَمِلَت أن تبزَّها وتتخطاها.

١  من اللقاء الذي أجراه تيسير علوني، مراسل الجزيرة في كابول، مع أسامة بن لادن، في ٢١ تشرين الأول ٢٠٠١م.
٢  أورد ذلك ريموند وليامز في كتابه الريف والمدينة (لندن: شاتو وويندوس)، ص٤٦.
٣  جوفينال، الأهاجي الست عشرة، ترجمة بيتر غرين (نيويورك: بنغوين، ١٩٩٩م)، ص٤٣.
٤  المصدر السابق.
٥  أوردت ذلك إليزابيث ولسون في كتابها أبو الهول في المدينة (لندن: فيراغو، ١٩٩١م)، ص٥٨.
٦  فولتير، رسائل تخصُّ الأمة الإنجليزية (نيويورك، أكسفورد، مطبوعات جامعة أكسفورد، ١٩٩٤م)، ص٣٠. والمقبوسات الأخرى من فولتير هي من هذا المصدر ذاته.
٧  أورده إيان بوروما في كتابه الهوس الإنجليزي: علاقة حب أوروبية (نيويورك، راندوم هاوس، ٢٠٠٠م)، ص٩٦.
٨  ثيودور فونتين، Wanderungen durch England und Schottland (برلين، فيرلاغ دِرْنيشن، ١٩٩٨م)، ص٣٣٢.
٩  فريدريك إنجلز، حال الطبقة العاملة في إنجلترا في العام ١٨٤٤م (لندن، بنغوين، ١٩٨٧م)، ص٢٤.
١٠  أورده برنار لويس في كتابه الساميون والمعادون للسامية (لندن، بيمليكو، ١٩٩٧م)، صIII.
١١  ألكسندر ريتشي، متروبول فاوست: تاريخ برلين (نيويورك، كارول دي غراف، ١٩٩٨م)، ص٤٣٩.
١٢  ينبغي أن نلاحظ هنا أنَّ العمارة الأوروبية الحداثية قد أضيفت إلى هذه الصورة؛ فقد دعا لاكوربوازيه بعض مشاريعه السكنية باسم «آلات للعيش فيها». كما قارن الدولة الفعَّالة بمشروع صناعي. ولقد صُدِّرَت مثل هذه الأفكار والخطط إلى أجزاء كثيرة من العالم غير الغربي، حيث غُرِسَت بطريقةٍ مبهرجة.
١٣  المصدر السابق، ص٥٥٠.
١٤  تريفور–روبير، هتلر: حديث المائدة، ص٣٤٦.
١٥  أورده وليامز، الريف والمدينة، ص٣٠٣.
١٦  هذه العبارة هي ما وصف به رجل الصين القوي دنغ سياو بنغ أفكارًا خبيثة مثل حرية التعبير والديمقراطية الليبرالية.
١٧  أورده فيليب شورت في كتابه ماو: حياته (نيويورك، هنري هولت، ٢٠٠٠م)، ص٤٤٧.
١٨  أورده ريتشارد بايبيس في كتابه الشيوعية: تاريخ (لندن، فوينيكس، ٢٠٠٢م)، ص١٣٥ .
١٩  أورده أحمد رشيد في كتابه طالبان: قصة أسياد الحرب الأفغان (لندن، بان بوكس، ٢٠٠١م)، ص٢١٧.
٢٠  تريفور–روبير، هتلر: حديث المائدة، ص ٣٦١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤