أبطالٌ وتجَّار
في الأسبوع الأول من الحرب في أفغانستان، تحدث مراسل صحيفة بريطانية مع مقاتل من طالبان
على الحدود الباكستانية. كان المجاهد الشاب مفعمًا بالثقة. وقال إن الأمريكيين لن
يربحوا
مطلقًا، «لأنهم يحبون البيبسي كولا، أما نحن فنحب الموت». وهذه النظرة إلى الغرب بوصفه
حضارة ناعمة، واهنة، ولطيفة، وبوصفه حضارة متفسخة مُدمِنة على الملذات، هي نظرة تعكس
عواطف
مماثلة لدى المجاهدين الآخرين المنخرطين في الحرب المقدسة على الغرب. فالانتحاريون
اليابانيون، الذين كانوا يُديرون أجهزة المذياع على محطَّات الجاز في هونولولو قبل
أن
يدمروا الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر، كانوا يكنون المشاعر ذاتها. وبعد ثلاث سنوات،
حين
كانت اليابان مُدمَّرة بأكملها تقريبًا، كان الاستراتيجيون البحريون اليابانيون يعتقدون
أنه
لا يزال بالإمكان هزيمة الولايات المتحدة بإبداء الروح اليابانية المتفوقة: عبر هجمات
الكاميكاز التي يشنها شبَّان يطلبون الموت ويشتهونه كتضحيةٍ مقدَّسة.
والحروب مع الغرب هي جزءٌ من التاريخ الأوروبي أيضًا، وعبادة الموت ليست سمة مقصورة
على
الآسيويين المجانين. ففي تشرين الثاني من العام ١٩١٤م، شنَّ الجيش الألماني سلسلة
من
الهجمات العقيمة على البريطانيين في الفلاندرز. ومات أكثر من ١٥٤٠٠٠ في الضباب والوحل،
معظمهم من الشباب المتطوعين المنتمين إلى منظمات الشبيبة الوطنية. وكان بعضهم، مثل
طياري
الكاميكاز قبل ثلاثين عامًا، من ألمع الطلاب في أفضل الجامعات. ولقد باتت هذه المذبحة
الجماعية تُعرف باسم
معركة لانغمارك. وبحسب أسطورة،
عزَّزها القوميون الألمان بين الحربين، فإنَّ الشباب كانوا يسيرون إلى موتهم شبه المحقق
وهم
ينشدون اﻟ
Deutschlandlied (نشيد ألمانيا). فكلمات كارل ثيودور كورنر
المشهورة، والمكتوبة قبل مائة عام في حرب التحرير ضد نابليون، غالبًا ما كانت تخطر
في
الذاكرة: «لا سعادة إلا في الشهادة»
١
وكما هو الحال في كل بروباغندا (دعاية)، فإنَّ بلاغة التضحية البطولية بالنفس لها
سوابقها
التاريخية. فبعد حرب السنوات السبع — التي خاضتها القوى الأوروبية حول امتلاك المستعمرات
بصورة أساسية — والتي دمَّرت أجزاء واسعة من ألمانيا في أواسط القرن الثامن عشر، كتب
الرياضي توماس أَبْت مقالة مشهورة دعاها
الموت فداءً لأرض
الآباء، مجَّد فيها لبني جلدته من البروسيين «لذة الموت … التي تنادي روحنا
مثل ملكة من سجنها … وتقدِّم في النهاية دم عروقنا إلى أرض الآباء التي تتألم، لعلَّها
ترتوي وتنهض من جديد.»
٢ غير أنَّ أَبْت لم يكن ضابطًا بروسيًّا صارمًا، بل كان فيلسوفًا لطيفًا في
القلب من
التنوير الألماني، وكان ليبراليًّا بالنسبة إلى
زمنه، ودودًا مع الكتَّاب اليهود مثل موسى مندلسون. وإثارته التضحية والموت الجميل
كانت
شعريةً أكثر منها ولعًا بالقتال.
ولقد تمثَّلت ردَّة فعل ألمانيا على جبروت جيش نابليون والدعاوى الكونية التي أطلقتها
الحضارة الفرنسية بأن رأت نفسها على أنها أمَّة اﻟ Dichter und Denker، الشعراء والفلاسفة. فلعلَّ
الكتَّاب، والفنانين، والقانونيين الفرنسيين قد حسبوا أنَّ لهم الحق في أن يضعوا المعايير
الأوروبية المشتركة، ولعلَّ القيم الجمهورية الفرنسية، والقانون الفرنسي، والأدب الفرنسي،
والتنوير الفرنسي قد بدت، في أعين الفرنسيين، على
أنها نموذج الحضارة العقلانية الكونية، لكن الشعراء والمفكِّرين الألمان التمسوا أن
يكونوا
مختلفين. فدافعوا عن اﻟ Kultur (الثقافة)، والجذور، وعن ذلك النوع الذي سبق أن
ناقشناه من المثالية الرومانتيكية البطولية. وكان أبت وهيردر مهتمين بالثقافة والروح
القومية. غير أنَّ المثالية الألمانية اتَّخذت، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر،
ضربًا
من الانعطافة العسكرية. ومع الانتصار البروسي على فرنسا، وتأسيس الرايخ الألماني،
وتتويج
القيصر ويلهلم الأول في قاعة المرايا في فيرساي، وكل ذلك في العام ١٨٧١م، بدأت ألمانيا
مسيرتها الطويلة إلى لانغمارك وأخيرًا، في عام ١٩٤٥م، إلى الدمار الذي كاد أن يكون
كاملًا. ولقد حاول الليبراليون الألمان، في البرلمان
والصحافة والفنون وحتى في الصناعة، وعلى نحوٍ بطولي في بعض الأحيان، أن يثنوا بلدهم
عن هذا
المسار وأن يبنوا مجتمعًا أكثر ليبرالية، لكن محاولاتهم باءت بالفشل. ومنذ أواخر القرن
التاسع عشر، راح الجنرالات، ورجال البلاط، وتشكيلة واسعة من أنصار الدولة المحاربة
الرسميين
يلحُّون على أنَّ اﻟ Kultur الألمانية تكافئ الانضباط العسكري، والتضحية،
والبطولة.
والحال، أنَّ ضروب التمييز بين ألمانيا، أرض الأبطال، وجيرانها كان مُتخيَّلًا في
كثير من
النواحي أكثر منه واقعيًا: فقد كان لدى كلٍّ من فرنسا وبريطانيا، أيضًا، دعاتها الذين
يدعون
إلى التضحية والاستبسال. ولم يكن رجال الأعمال الألمان أقل توقًا إلى الربح من منافسيهم
البريطانيين. وكان لفرنسا وبريطانيا حصتهما من المفكِّرين الرومانتيكيين والمناهضين
ﻟ
التنوير. وفي حين أن أَبْت لم ينظر إلى نفسه، على
الرغم من كل شيء، كعدو للغرب، فإنَّ القوميين اللاحقين راحوا ينظرون إلى أنفسهم على
هذا
النحو، وهذا ما جعل الدعاية البطولية الألمانية مختلفةً عن نظيراتها في أوروبا الغربية،
فسادت فكرة أنَّ ألمانيا، وفي القلب منها الرايخ، مختلفة ومتميِّزة ثقافيًّا عن الغرب،
وأبعد من الحدود الحضارية للإمبراطورية الرومانية القديمة. هذا ما جعل كونراد أديناور،
ذلك
السياسي الألماني المحافظ إنما البعيد عن الرومانتيكية والذي ينتمي إلى أرض الراين
الغربية،
يدمدم «آسيا» كلما عَبَر قطاره الإِلب إلى بروسيا.
وثمة وثيقة أساسية لحرب ألمانيا على الغرب كُتِبَت في السنة الثانية من الحرب العالمية
الأولى، وكاتبها هو عالم الاجتماع البارز وِرنر زومبارت. وعنوان هذه الوثيقة هو
Händler und
Helden، (تجَّار وأبطال).
ويبدأ زومبارت كتابه بوصفه الحرب على أنها معركة وجودية، ليس بين الأمم وحسب، بل بين
الثقافات ورؤى العالم، أو Weltanschauungen. ذلك أنَّ إنجلترا، أرض الحانوتيين
والتجَّار، وفرنسا الجمهورية تمثِّلان «الحضارة الأوروبية الغربية»، و«أفكار ١٧٨٩م»،
و«القيم التجارية»؛ أما ألمانيا فهي أمة الأبطال، المهيئين لأن يضحوا بأنفسهم من أجل
المثل
العليا. ولعله من الأفضل أن ننظر إلى تجَّار وأبطال ببعض
التفصيل، لأنه مثال ممتاز على الاستغراب من جميع النواحي.
كان زومبارت، مثل جميع من يشاطرونه آراءه، قاطعًا بشأن طبيعة هذا اﻟ
Kulturkompf
(الصراع الثقافي) المميت. وقد كتب: «يجري التعبير عن التفكير الألماني والشعور الألماني
في
المقام الأول من خلال الرفض المطلق لكل ما يدنو أي دنو من التفكير والشعور الإنجليزي
بل
الأوروبي الغربي.»
٣ ولكن ما هو هذا التفكير والشعور الغربي؟ «أفكار ١٧٨٩م» بلا شك. أم أنَّ الأمر
خلاف ذلك؟ فالثورة الفرنسية وعقلية التجار قد تلفتان انتباه المرء بوصفهما متعارضتين،
بل
متضادتين. أما عند زومبارت، فإن «الحرية، والمساواة، والأخوة» هي مُثُل تجارية صميمية،
لا
هدف لها سوى أن توفِّر منافع ومزايا خاصة للأفراد».
٤ وتبلغ فصاحة زومبارت أشدها حين يأتي إلى «رؤية العالم التجارية». فالتاجر
النمطي، كما يقول، لا يهتم سوى «بما يمكن للحياة أن تمنحه له» من حيث السلع المادية
والراحة
الجسدية. وهو يستخدم مصطلح
komfrtismus (الراحة) في وصف العقلية البرجوازية.
والراحة هي تجربة سلبية إلى حدٍّ بعيد. وثمة في الراحة شيء من البلادة. أما اللذة
فتنزع
لأن تكون أكثر فعالية، وأشد إثارة، وربما أكثر روحانية. ولقد أعلن الكاتب إرنست يونغر،
الذي
خاض
معركة لانغمارك واحتفى في كتبه بالبطولة العسكرية:
«كلُّ لذةٍ تخاطر بالعقل؛ وكل مغامرةٍ تخاطر بدنو الموت الذي يحوم حولها.»
٥ فالموت هو الذي يوفِّر الاندفاعة، والحافة الروحية التي تفصل اللذة عن اﻟ
komfortismus.
ويونغر، مثل بعض المفكرين الألمان في أوائل القرن العشرين، كان له تأثيره العميق في
الدوائر
المسلمة. فكتابه
تخطِّي الحد (
Über die linie) ترجمه جلال آل أحمد،
المفكر الإيراني الشهير في ستينيات القرن العشرين. وآل أحمد هو الذي سك مصطلح «الانسمام
بالغرب» لكي يصف التأثير الخبيث الذي تتركه الأفكار الغربية. فقد كان آل أحمد معجبًا
بيونغر
أيما إعجاب. أما صديقه محمود هومن، الذي ساعد في الترجمة، فقال إنه بعد العمل على
يونغر
«بات ينظر إلى القضية ذاتها، إنما بعين أخرى؛ وبات يقول الشيء ذاته إنما بلغة أخرى.»
٦
ولكي يحظى تجَّار الغرب وباعته بالراحة لا بد لهم أن يجنوا المال. والحال، أنهم «مجانين
المال»، كما يقول زومبارت. ولا بد لهم أيضًا من الأمن والسلام. فالحرب سيئة بالنسبة
للأعمال. وبرأي زومبارت، فإن كلَّ ما يفعله التجَّار ملوَّث باﻟ
komfortismus والرضا عن الذات. فالرياضات
الإنجليزية، مثلًا، بخلاف الرعاية الألمانية للفنون والتمرينات العسكرية، هي نمطية
بالنسبة
لمن لا يسعون سوى وراء الرفاهية المادية والتنافس الفردي الزائف الخالي من أي أهداف
سامية.
غير أن تلك العادة البرجوازية الجبانة المتمثلة بالتشبث بالحياة، وعدم الرغبة في الموت
من
أجل المُثُل العظيمة، وإشاحة الوجه عن الصراع العنيف والتنكر للجانب المأساوي في الحياة،
هي
التي تبعث على أشد الازدراء لدى زومبارت، وأوزالد شبنغلر، ويونغر، وسواهم من المفكرين
الألمان في تلك الفترة. والتاجر ليس لديه مُثُل عليا. وهو سطحي بجميع المعاني. والتجَّار،
سواء كانوا من البرجوازية الصغيرة أو من المُتعَبين في هذه الدنيا، لا يهتمون بأي
شيء سوى
إشباع رغباتهم الشخصية، التي «تقوِّض أساس الإحساس الأخلاقي الرفيع بالعالم والإيمان
بالمثل العليا».
٧
والديمقراطية الليبرالية هي النظام السياسي الأنسب للتجَّار. فهي نظام تنافسي تتبارى
فيه
أحزاب مختلفة، ولا يمكن فيه حل نزاعات المصلحة إلا عبر المفاوضات والتسوية. وهي، في
تعريفها، أبعد ما تكون عن البطولة، ولذلك تبدو في عين من يذمونها ويحطون من قيمتها
على أنها
غثة، رديئة، وفاسدة تبعث على الازدراء. وحتى أليكسيس دو توكفيل، الذي كتب بإعجاب شديد
عن
الديمقراطية الأمريكية، كان يرى محدودية هذا النظام. فقد كتب:
إذا كنت تحسب أنه من النافع أن تحول نشاط الإنسان الفكري والأخلاقي نحو ضرورات
الحياة المادية وتستخدمها لإنتاج الرفاهية، وإذا كنتَ تحسب أن العقل أجدى للبشر
من
العبقرية، وإذا لم تكن غايتك أن تخلق فضائل بطولية بل عادات هادئة … وإذا كنت ترى
أن غاية الحكومة الأساسية ليس تحقيق أعظم القوة أو المجد للأمة ككل، بل أن تقدم
لكل
فرد فيها أقصى الرفاهية … فإنه من الخير أن تجعل الشروط متكافئة وأن تقيم حكومة
ديمقراطية.
٨
لقد رأى توكفيل هذه المحدودية لكنه لم يكن يستهجنها. وكان ليبراليًّا مقتنعًا بالفعل.
غير
أنه كان يشتاق، على الرغم من ذلك، إلى عظمة الأرستقراطية ويشعر بالحنين إلى المثل
العليا.
وقد لاحظ، في زيارته أمريكا أواسط القرن التاسع عشر، «ندرة أي طموح رفيع، في بلدٍ
كل مَن
فيها يطمح ذلك الطموح النَّشِط».
ومثل هذه المراثي يمكن أن نسمعها على كلا طرفي الطيف السياسي. فمن الأسباب التي دفعت
كثيرًا من المثقفين الغربيين إلى مناصرة ستالين وماو، بل هتلر وموسوليني بدرجةٍ أقل،
نفورهم
من عادية الديمقراطية. ويُعد المحامي الفرنسي جاك فيرغيس نصيرًا بارزًا لقضايا العالم
الثالث الثورية، والإرهابيين العرب، وسواهم من أعداء الديمقراطية الليبرالية. وقد
دافع أمام
المحاكم عن المقاتلين الجزائريين، وكذلك عن كلاوس باربي، الرئيس السابق للشرطة السرية
النازية. ولعله أن يكون لدى فيرغيس دوافع شخصية تقف وراء عدائه للغرب. فقد وُلِد في
رييونيون، وهي مستعمرة عقوبات فرنسية قديمة في المحيط الهندي، وأمه فيتنامية، الأمر
الذي
حال دون طموح والده لأن يكون دبلوماسيًّا فرنسيًّا. غير أن السبب وراء بروز هذه الشخصية
ذائعة الصيت إنما الهامشية هو هجومها البليغ على تفاهة الديمقراطية وابتذالها. فنفس
فيرغيس
تعاف «الكوسموبوليتية». وهو يعد الشرف أسمى من الأخلاق وتروقه أعمال العنف. وكما يقول
في
مقابلة طويلة عن تورُّطه في الحروب والثورات، «المرء متعطِّش للبطولة، متعطش للتضحية
…»
٩
ويتابع فيرغيس: «منذ أن كنت طفلًا، كانت العظمة تشدني. وأنا أوافق على ما قاله ذات
مرة
ضابط البحرية الألمانية اليميني الشاب، الذي اغتال وولتر راثينو، وزير الخارجية بعد
الهزيمة
الألمانية في العام ١٩١٨م: «أقاتل لكي أمنح الشعب مصيرًا وليس لكي أمنحه السعادة.»
المصير
هو ما يخلب لُبِّي، وهو أمر يختلف عن السعادة، خاصة أنَّ السعادة في أوروبا قد غدت
فكرة
لوثتها الديمقراطية الاجتماعية.»
١٠
والسعادة، بالمعنى الذي يشر إليه فيرغيس، هي بالطبع اﻟ komfortismus. ويحسب فيرغيس نفسه
يساريًّا، غير أنه من الذكاء والصدق، كما يبيِّن المقبوس السابق، بما يكفي لأن يدرك
ما لديه
من ضروب الألفة مع اليمين المتطرف. فما يفتقر إليه الغرب الديمقراطي هو التضحية والبطولة.
وبخلاف ماو، أو هتلر، أو ستالين، فإن السياسيين الديمقراطيين يفتقرون إلى «إرادة العظمة».
وقد دعا توكفيل المجد العسكري أعظم «كارثة للجمهوريات الديمقراطية». غير أن مستغربًا
وحسب،
مثل ورنر زومبارت أو جاك فيرغيس، هو الذي يمكنه أن يحتقر البشر على عدم رؤيتهم الموت
البطولي بوصفه أرفع طموح إنساني.
وبالطبع، فإن الأمم الديمقراطية قد أبدت أشد النجاعة في الحروب. ويبيِّن التاريخ
القريب
أن الديمقراطيات قد كانت لها الغلبة على الدكتاتوريات. لكن توكفيل كان محقًّا مرة
أخرى. فقد
لاحظ أن المواطنين الديمقراطيين (أي تجَّار زومبارت) لا يسهل إقناعهم بأن يخاطروا
بحياتهم
في القتال. وهو يقول، في كتابه
الديمقراطية في أمريكا:
«حين ينتشر مبدأ المساواة، كما هو الحال في أوروبا اليوم، ليس داخل أمة واحدة وحسب،
بل بين
شعوب متجاورة عديدة، فإن قاطني هذه البلدان المتعددة، على الرغم من اختلاف اللغات
والعادات
والقوانين، يشبه بعضهم بعضًا فيما يبدونه من خشية الحرب وحب السلام. عبثًا يُعِدُّ
الأمراء
الطامحون أو الغاضبون العدة للحرب، ذلك أنَّ ضربًا من اللامبالاة العامة والإرادة
الطيبة
تهدِّئ روعهم غصبًا عنهم وتُسقِط السيوف من أيديهم. وبذلك تغدو الحروب نادرةً.»
١١
ولا بد أنَّ أعداء الديمقراطية، أو الغرب، كما عرفه الشوفينيون الألمان أوائل القرن
العشرين، سوف يوافقون على ما يقوله توكفيل، إلا أنهم يرون إلى هذه اللامبالاة العامة
والإرادة الطيبة على أنها ضرب من التفسُّخ والانحلال. وهذا ما عناه المجاهد من طالبان
حين
أشار إلى حب الأمريكيين البيبسي كولا. وقد عزا بعض المفكرين الألمان هزيمة بلادهم
في الحرب
العالمية الأولى إلى الأثر الأكَّال الذي تركه «التغريب». وعلى سبيل المثال، فإن ابن
إرنست
يونغر، الكاتب فريدريش جورج يونغر، قد كتب في مقالةٍ، تحمل عنوانًا مناسبًا هو
الحرب والمحاربون (
Krieg und Krieger)، أنَّ ألمانيا خسرت الحرب العظمى لأنها كانت قد غدت إلى حدٍّ بعيد «جزءًا
من الغرب» عبر تبنيها تلك القيم الغربية مثل «الحضارة، والحرية، والسلام».
١٢
فالحضارة، والحرية، والسلام، بحسب هذا المنطق، تقوِّض العظمة الكامنة لدى الشعب،
أو
الأمة، أو الديانة. وهي تؤدي إلى اﻟ komfotismus. وتغدو العضوية الاجتماعية ضعيفة، منهكةً،
ومتفسِّخة. وثمة حاجة للحرب بوصفها ورشة الحداد التي يُصاغ فيها مجتمع أفتى، وأنقى،
وأقوى.
ولا يمكن للبعث أن يأتي إلا عبر الدمار والتضحية البشرية. وعلى الشبيبة أن تسفح «الدماء
من
عروقها على أرض الآباء، كيما تشرب وتحيا من جديد». والحال، أن توماس آبت، حين كتب
هذه
الكلمات، لم يكن في ذهنه فكرة الغرب على وجه التحديد. غير أنه من الواضح في كتابة
القوميين
الألمان في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته أن نظرتهم إلى الغرب كانت نظرة إلى
عالم
قديم، خائر القوى، لا يهمه سوى جمع الأموال، أناني، وضحل. وقد رأوا أنَّ الخطر يكمن
في أن
تُفسِد إغراءات هذا العالم القديم الشبيبة الألمانية وتبعثها على الكسل والخمول بدل
أن تقوم
بما يتوجب عليها من خوض الصراع سعيًا وراء مستقبل مجيد. وحدها تضحية هذه الشبيبة في
عاصفة
الفولاذ يمكن أن تنقذها من الدمار الذي يمكن أن تنزله بها تفاهة الغرب.
وبعض البلاغة التي تصدر الآن من الولايات المتحدة، خاصةً في دوائر المحافظين الجدد،
تقترب
كثيرًا من هذه الرؤية، وهذا تطور لافت بالنسبة لأمة من الممتثلين المتنافسين، دون
أي «مطامح
رفيعة»، والتي سبق لتوكفيل أن أُعجِب بها.
لا عجب أن القومية الإثنية من الطراز الألماني — بما فيها الوحدة الألمانية الجامعة،
التي
ألهمت حزب البعث في بداياته مطامح الوحدة العربية الجامعة
— قد حظيت، من بين جميع الأفكار الأوروبية الحديثة، بمثل هذه الجاذبية والفتنة لدى
المثقفين
غير الغربيين المتمردين على ما ادَّعته الإمبريالية الغربية من مزاعم كونية. وفي بعض
الأحيان، أفضى التضافر القاتل بين التقاليد المحلية المُعاد تأويلها والأفكار الأوروبية
الرجعية، من بين أشياء أخرى، إلى ضروب شتى من عبادة الموت. وهذا ما يصحُّ بصورة خاصة
على
اليابان، التي تُعتَبَر من نواحٍ كثيرة الأشد «تغريبًا» بين أمم آسيا.
ويُعَد طيار الكاميكاز، الذي يسارع إلى حتفه بسرعة تبلغ ٦٠٠ ميل في الساعة مرتطمًا
بسطح
سفينة العدو، أشد رموز التضحية الإنسانية إثارة للقشعريرة وأكثرها شهرة في حروب القرن
العشرين. ولقد أخطأ كثير من هؤلاء هدفهم وانفجرت طائراتهم أو تحطَّمت في البحر. ومن
أشكال
الموت العنيف البديلة للكاميكاز، أو
التوكوتاي (القوات
الهجومية الخاصة)، كما يدعوها اليابانيون في العادة، كان الالتفاف بكفنٍ فولاذي يشبه
السيجار يُطلَق من غوَّاصة كطوربيد بشري. وإليكم كيف وصف واحد من هذه الطوربيدات البشرية
لحظاته الأخيرة على الأرض، وهو يمسك بغصن كرز مزهر:
كنا نغلي من الغضب. وأقسمنا واحدنا للآخر، شينكاي وأنا، بأن نُغرِق أضخم السفن
التي يمكن أن نجدها. وفكرت بعمري، وهو التاسعة عشرة، وبالقول: «أنْ تموت ويظل الشعب
يرثي موتك؛ أن تموت طاهرًا وفتيًّا، ذلك هو البوشيدو حقًّا.» أجل، كنت أسير في ذلك
على هدي الساموراي … وتذكرت بمتعةٍ كيف اقتبس إنساين أنازي نوبو من قصيدة وقال لي
سوف «أسقط نقيًّا مثل زهرة الكرز» التي أحملها الآن. واندفعنا في طريقنا يحف بنا
الهتاف والتهليل. وكان عقلي مفعمًا بما كان يردده الملازم فوجيمورا ساداو كثيرًا
على مسامعي: «لا تهرب قطُّ من مواجهة الموت. إذا كنت في حيرةٍ أن تعيش أو تموت،
فالموت أفضل على الدوام.»
١٣
مثل هذا الفتى ابن التاسعة عشرة، لا يزال هناك الكثير ممَّن يرون أنَّ عمليات التوكوتاي كانت قاسية لكنها جزء لا يتجزأ من الثقافة اليابانية،
وانعكاس لسنن المحاربين القدماء، وفكرة جمالية عن الموت الإرادي يابانية على وجه التحديد.
ومن الصعب أن نعلم، في الحقيقة، إلى أي مدى حاولت الانفعالات المعبر عنها أعلاه أن
تمتثل
لصيغة متوقَّعة. ففي مثل هذه الأقوال ثمة كثير من الصيغ المكرورة التي ينبغي أن يؤمن
بها من
يقولها. أما رسائل طياري الكاميكاز الخاصة إلى عوائلهم أو أصدقائهم فغالبًا ما كانت
أكثر
قلقًا وتأمُّلًا، وأقل ميلًا إلى تقبُّل مثل هذه المفاهيم الجاهزة، كمفهوم السقوط
مثل زهرة
كرز أو السير على هَدْي الساموراي.
كان معظم متطوِّعي
التوكوتاي (الذين تعرَّضوا لضغوط
شتى) طلابًا يدرسون العلوم الإنسانية في أرقى الجامعات. أما طلاب الفروع العلمية فكانوا
يُعتَبَرون أكثر أهمية بحيث لا يمكن الاستغناء عنهم أو التضحية بهم. وتكشف رسائل هؤلاء
المتطوعين أنهم كانوا جميعًا أشخاصًا ذوي قراءة واسعة، غالبًا بثلاث لغات على الأقل.
وأنَّ
كتَّابهم المفضلين في الفلسفة الألمانية هم نيتشه، وهيغل، وفيخته، وكانط. وفي الأدب
الفرنسي
أندريه جيد، ورومان رولان، وبلزاك، وموباسان. وفي الأدب الألماني توماس مان، وشيللر،
وغوته،
وهِسْ. وكثير منهم أمعن الفكر في انتحار سقراط وكتابات كيركيغارد عن اليأس. وقلة من
بينهم
هم الذين كانوا مسيحيين ملتزمين، لكن عدد الذين كانوا يتبنُّون نظرة ماركسية إلى السياسة
والاقتصاد هو عدد مدهش.
١٤
وكان هؤلاء الشباب وطنيين، ومثاليين إلى أبعد حد، يتسمون بالحذر واليقظة إزاء الدعاية
العسكرية. ولا شك أنهم كانوا ينظرون إلى الرأسمالية والإمبريالية بوصفهما العدو، غير
أنهم
غالبًا ما كانوا يبررون تضحيتهم بأنفسهم (ومثاليتهم) ويفصحون عنها من خلال أفكار غربية.
لقد
وضعوا الغرب قبالة الغرب، إذا جاز القول، وكانوا في ذلك أبناء نموذجيين للتاريخ الياباني
الحديث، فهذا ما فعلته اليابان وتفعله منذ أواسط القرن التاسع عشر.
والصور قديمة: انتحار الساموراي الشعائري، سرعة زوال أزهار الكرز، الإمبراطور السماوي،
الموت في ساحة الوغى مثل «كرة بلورية تتحطم». وكلمات الأغنية الحزينة التي كان يرددها
طيارو
الكاميكاز قبل انطلاقهم في مهمتهم المميتة هي من قصيدة تعود إلى القرن الثامن:
في البحر، جثثٌ منتفخة بالماء،
في الجبال تلك الجثث التي نبت عليها العشب
لكن رغبتي في الموت إلى جانب إمبراطورنا رغبةٌ لا تنثني.
ومع ذلك، فإنَّ عبادة الموت المسئولة عن التكتيكات الانتحارية في آخر سنتين
من الحرب العالمية الثانية لم تكن قديمة مطلقًا، بل جزء من أيديولوجيا سياسية حديثة
أُضفي
عليها الطابع العسكري وتدين للأفكار الأوروبية المُساء فهمها بقدر ما تدين للتقاليد
اليابانية. ومثل جميع الأمم غير الغربية في القرن التاسع عشر، كانت اليابان في مواجهة
قوة
أوروبية متفوقة، وحاول اليابانيون أن يفهموا قدر إمكانهم مصادر هذه القوة. ولم يكن
صب
المدفع والسعي وراء الاكتشافات العلمية سوى البداية. ولأن اليابان كانت واحدًا من
البلدان
الآسيوية القليلة التي لم تستعمرها إمبراطورية أوروبية، فقد مضت أبعد من أي بلد آخر
في
حماية نفسها من القوى الأوروبية عن طريق محاكاتها. وما يُظهرُه سلوك اليابان في نهاية
حربها
مع الغرب هو أن العمليات الانتحارية ليست بالضرورة نتاجًا للفقر، أو التخلف، أو الاضطهاد
الأجنبي. ففي اليابان، كما في ألمانيا، ازدهرت عبادة الموت في خضم أعلى درجة من درجات
الإتقان التكنولوجي، والثقافي، والصناعي.
كان التحول الياباني من أمةٍ من الضيع الإقطاعية، تقف على رأسها سلالة من الساموراي،
إلى
دولة أمة حديثة من الطراز الغربي ضَربًا من الترقيع على الدوام. فالدستور كان بروسيًّا
إلى
حدٍّ بعيد، وصيغت البحرية على غرار البحرية الملكية البريطانية، وهكذا. لكن المشكلة
الأكبر
بالنسبة للمثقفين والسياسيين في عصر ميجي كانت تتمثل في إيجاد أنسب نموذج للدولة الحديثة.
وتطلع بعضهم إلى بريطانيا والولايات المتحدة، حيث اجتذبتهم تلك المؤسسات البرجوازية
ذاتها
التي سبق لتوكفيل أن حللها وهو يبدي إزاءها أشد التعاطف. ورأى بعضهم الآخر في نموذج
القومية
الإثنية الألماني ميزةً كبرى: حيث تقود ملكية ذات طابع عسكري شعبًا من الوطنيين الأبطال.
وكانت الغلبة لهؤلاء الأخيرين الذين عملوا على إقامة دولة سلطوية على الطريقة الألمانية،
مزيَّنة بتقاليد يابانية نصف مبتدعة ومشوَّهة في الغالب. وكانت عبادة الشبيبة للموت
في سبيل
الإمبراطور مثل أزهار الكرز أو البللور المحطم جزءًا من هذه الزينة الجديدة.
ولقد قامت عبادة الإمبراطور الحديثة في جزءٍ منها على ضَربٍ من سوء فهم الدين في
الغرب.
ففي محاولتهم تحليل مصادر قوة الغرب، توصَّل الباحثون اليابانيون في القرن التاسع
عشر إلى
أن المسيحية، بوصفها دين الدولة، كانت الصمغ الذي أبقى على الأمم الأوروبية معًا كمجتمعات
منضبطة. ونظرًا لاعتيادهم على السنن الكونفوشية في إطاعة السلطة، فقد افترض هؤلاء
الباحثون
أن المسيحية قد تركت الأثر ذاته في أوروبا. بل إن بعض اليابانيين في أوائل عصر ميجي
كانوا
يعتقدون بأن على جميع اليابانيين أن يتحولوا إلى المسيحية كجزء من سعيهم وراء الحضارة
والاستنارة، لكن هؤلاء كانوا أقلية. فالنظرة الأكثر شيوعًا كانت أنَّ اليابان تحتاج
إلى دين
الدولة الخاص بها، وأنَّ هذا الدين ينبغي أن يكون شنتو
الدولة، أي طبعة مُسيَّسة من الشعائر القديمة، المرتبطة أشد الارتباط
بالطبيعة والخصب. وكان من الواجب أن تكون أماتيراسو، ربَّة الشمس، بدلًا للإله المسيحي؛
أما
الإمبراطور، الذي كان حتى ذلك الحين شخصية نائية وفاقدة للقدرة السياسية في العاصمة
القديمة
كيوتو، فقد انتقل إلى طوكيو وغدا نوعًا من التركيبة التي تشتمل في داخلها على القيصر،
والقائد العام للقوات المسلحة، والبابا الشنتوي، والإله الأعلى الحي.
ويُعَد المرسوم الإمبراطوري الموجَّه إلى الجنود
والبحَّارة، الذي صدر في العام ١٨٨٢م في القصر الإمبراطوري في طوكيو، من أهم
الوثائق، والنص الذي دفع اليابان في مسارها الذي انتهى إلى الكارثة. ومن المقاطع الأساسية
في هذا المرسوم مقطع كان الجنود اليابانيون يحفظونه عن ظهر قلب: «لا تُلهينَّك الآراء
الشعبية، ولا تتورط في أنشطة سياسية، بل كرِّس نفسك على انفراد لأهم واجب لديك ألا
وهو
الإخلاص للإمبراطور، واعلم أنَّ الواجب أثقل من الجبال لكن الموت أخف من الريشة.»
ولقد جرى التقليد على أن تُنسب إلى أباطرة اليابان صفات إلهية شأنهم شأن آلاف الأشياء
الأخرى، كالجبال، والأنهار، والصخور، فضلًا عن عائلةٍ ضخمة من الآلهة. أما الفكرة
التي تقضي
بعبادة الإمبراطور كإله حي فكانت جديدة. وكذلك كان دوره كقائد أعلى للجنود والبحَّارة.
ولذلك لا بد أن يكون اليابانيون في البداية قد صدمتهم تلك الغرابة الشديدة في اعتبار
الموت
في سبيل الإمبراطور واجب الشبيبة الأسمى. وقد توحي القصيدة القديمة التي كان طيارو
الكاميكاز ينشدونها قبل الإقلاع بعكس ذلك، لكن «الرغبة في الموت إلى جانب إمبراطورنا»
كانت
تشير بصورة خاصة إلى الحرَّاس الذين يقومون على حماية الجبهات الغربية في القرن الثامن،
حين
كانت العادات الإمبراطورية الصينية تُنسَخ، لا لشيء إلا لتُنبَذ لاحقًا.
صحيحٌ أنَّ التضحية بالنفس، على هيئة انتحار شعائري، كانت موجودة، لكن ذلك لم يكن
يُسمَح
به إلا لطائفة المحاربين. وعلى أي حال، فإنَّ انتحار الساموراي لم يكن قطُّ عملًا
حربيًّا،
بل تعبيرًا عن التكفير عن شكلٍ من أشكال الخزي: كارتكاب إثمٍ ما، أو هزيمة مُذلَّة.
ولذلك
كان انتحار الساموراي طريقةً لاستعادة كرامةٍ مفقودة في عالم الأحياء عبر اختيار الموت.
وبهذا المعنى، ربما لم يكن أولئك المثاليون الشباب مخطئين بالكامل في عام ١٩٤٥م؛ إذْ
حسبوا
أنهم يسيرون على هَدْي الساموراي. فقد رأى بعضهم في التضحية استعادةً لشرف أمةٍ لحقت
بها
هزيمة محققة. غير أن هذه كانت علامة من علامات القومية الرومانتيكية أكثر منها علامة
على
عبادة الإمبراطور، وبذلك كانت نتاجًا للتاريخ الأوروبي الحديث بقدر ما كانت نتاجًا
للعادات
اليابانية القديمة.
ولم يكن اليابانيون الشعب غير الأوروبي الوحيد الذي حاول أن يواجه القوة الإمبراطورية
الغربية عبر تبنِّي بعض الأفكار الغربية المتطرفة. فقد شكَّل الهندوس الجذريون في
عشرينيات
القرن العشرين منظمة أطلقوا عليها اسم
RSS جمعوا فيها بين أفكار أوروبية فاشية وتأويل حديث
لممارساتهم الدينية الخاصة. وكانوا يهدفون، مثل الشيوعيين، إلى صياغة «إنسان جديد»
عبر غَرس
الانضباط والطاعة. ومثل الاشتراكيين القوميين الألمان، ألحُّوا على العرق بوصفه العنصر
الأساسي في الأمة الحديثة ذات الطابع العسكري. كما أخذوا أشياء من الجيش البريطاني
أيضًا،
من بزَّاتهم الخاكي إلى عبادتهم الهواء الطلق والتمرين. وتمثلت الفكرة الأساسية لدى
هؤلاء
بانغماس الفرد في الأمة الهندوسية عبر تخلِّيه عن رغباته الفردية واستقلاله الفردي.
وقد كتب
م. س. غولووكر، أيديولوجي هذه الحركة: «كل خلية تشعر بتماهيها مع الجسد كله وتكون
مستعدة
دائمًا للتضحية بنفسها من أجل صحة الجسد ونمائه. وتضحية الملايين من مثل هذه الخلايا
بنفسها
هو الذي يحرِّر الطاقة اللازمة لكل نشاط جسدي.»
١٦
ولقد دافع الفلاسفة اليابانيون، الذين حاولوا أن يوفِّقوا بين هيغل وبوذيَّة زن في
عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته، عن شيء شديد الشبه بهذا. وأن نَصِفَ القومية
الهندوسية
بأنها هندية تقليدية فيه من السخف بقدر ما في وَصف تكتيكات الكاميكاز بأنها يابانية
تقليدية. صحيحٌ أنها استعارت أشياء من الماضي الهندي. مثلما استعارت تكتيكات الكاميكاز
من
الماضي الياباني، غير أنَّ اﻟ RSS والتوكوتاي ما كانتا
لتتخذا الشكل الذي اتخذتاه من غير تأثير الأفكار الأوروبية. وحين توجَّهت هذه الأفكار
ضد
الغرب، كما حصل في حرب الهادي، عملت على تصويره بصورة الجبان، المدمن على الراحة،
والذي
يفتقر إلى روح التضحية. وهكذا حُكِم على الغربيين بالخزي، بسببٍ من تمسُّكهم بالحياة،
وبأنهم لا يرقون إذَن إلى مصاف الكائنات البشرية الحقة.
وهذه المصطلحات هي على وجه الدقة ما كان يستخدمه القوميون أو الفاشيون الألمان قبل
الحرب
في هجومهم على الغرب. فكانوا يعارضون المجتمع البرجوازي الليبرالي، حيث يسير الأفراد
على
هَدْي مصالحهم الخاصة في ظل حكم القانون. وهذا ما سهَّل نسبيًّا على دعاة النزعة العسكرية
اليابانية في السنة الأخيرة من الحرب دفع الطلبة اللامعين والمثاليين لأن يقضوا من
أجل قضية
خاسرة. ذلك أن هؤلاء الطلبة أيضًا، شأن كثير من الطلبة اللامعين والمثاليين في كل
مكان،
كانوا يناهضون اﻟ komfortismus الخالية من الإثارة التي تتسم بها الليبرالية
البرجوازية.
لم يكن طيارو الكاميكاز مجرد مقاتلين ضد أمريكا؛ بل كانوا ينظرون إلى أنفسهم كمتمردين
مثقفين يواجهون ما اعتبروه إفسادًا غربيًّا لليابان، وجشع الرأسمالية الأناني، وخواء
الليبرالية الأخلاقي، وضحالة الثقافة الأمريكية. ولقد تعززت لديهم هذه النظرة بقراءة
نيتشه،
وهيغل، وفيخته، وماركس. ولم تكن النزعة العسكرية لتشكل ذلك الجذب الكبير بالنسبة لهم.
وعلى
العكس من ذلك، فقد نظر كثيرٌ منهم إلى توسع اليابان في آسيا على أنه بضاعة أخرى مستوردة
من
الغرب الإمبريالي الفاسد. ولذلك فإن تضحيتهم الأخيرة نادرًا ما نُظِر إليها بوصفها
محاولة
الخندق الأخير لكسب الحرب لليابان. لقد كانوا أذكى من أن يقضوا من أجل هذه الغاية.
غير أن
كثيرًا منهم كان يأمل بأن ما في موتهم من الطهارة والإيثار سوف يكشف الطريق إلى يابان
أفضل،
أكثر عدلًا، وأكثر أصالةً، وأكثر مساواةً. ولقد كتب واحد منهم يُدعى ساساكي هاتشيرو،
قضى في
الثانية والعشرين من عمره: «إذا ما كانت قوة الرأسمالية القديمة ذلك الشيء الذي لا
نستطيع
أن نتخلص منه بسهولة ولا يمكن أن نحطمه إلا عبر هزيمته في الحرب، فإننا نحول الكارثة
إلى
حدثٍ ميمون. إننا نسعى الآن خلف فينيق ينهض من الرماد.»
١٧
وإليكم ما كان القبطان أونيشي تاكيجيرو، أبو عمليات الكاميكاز، يقوله لطياريه، قبل
أن
ينطلقوا صوب الموت: «حتى لو هُزمنا، فإن الروح النبيلة لدى فريق الكاميكاز الهجومي
سوف تحفظ
وطننا من الدمار. ومن غير هذه الروح، لا شك أن الدمار سوف يتلو الهزيمة.»
١٨ ولقد انتحر أونيشي على طريقة الساموراي، فبقر بطنه بالسيف ليلة استسلام
اليابان.
ويُبدي استخدام أسامة بن لادن للغة عبادة الموت في حثِّ أتباعه الشباب كثيرًا من علامات
الشبه مع بلاغة الروح الكاميكازية. وفي رسالةٍ له في العام١٩٩٦م، بعد شهرين من تفجير
أبراج
الخبر في العربية السعودية، والذي قُتِل فيه تسعة عشر موظفًا أمريكيًّا، قال بن لادن
نقلًا
عن أحد الشباب الذين وصفهم وزير الدفاع الأمريكي وليام بيري بالجبن:
جيش الصليب غدا هباءً
يوم فجَّرنا الخبرْ
بشبابِ إسلامٍ كُماةٍ
لا يهابون الخطرْ
إنْ قيل يقتلك الطُّغاة
يقول في قتلي ظَفَرْ
وقال بن لادن مخاطبًا الأمريكيين إن مجاهديه الشباب يختلفون عن جنودهم، ذلك أن: «مشكلتكم
هي كيفية إقناع جنودكم بالإقدام إلى الحرب، أما مشكلتنا
فهي كيفية إقناع شبابنا بانتظار دورهم في العمليات والقتال.» فالموت عند هؤلاء، شأنه
شأن
الموت عند عاصم بن ثابت، الذي ينقل عنه بن لادن قوله:
ما عِلَّتي وأنا جلد نابِلُ
والقوس فيها وترٌ عنابلُ
الموتُ حقٌّ والحياة باطلُ
إنْ لمْ أقاتلكم فأمي هابلُ
ذلك أنَّ «فوارس» بن لادن هم أولئك الذين قيل فيهم:
فَدَت نفسي وما ملكَت يميني
فوارس صدَّقوا فيهم ظنوني
فوارس لا يملُّون المنايا
وإنْ دارت رحى الحربِ الزبونِ
وإنْ حمِيَ الوطيسُ فلا يبالوا
وداوَوْا بالجنونِ من الجنونِ
١٩
وهذه اللغة بعيدة أشد البعد عن التيار الأساسي في الإسلام. واستخدام بن لادن كلمة
«هابل»،
أو «مجنون»، أقرب إلى استخدام النازيين الدائم كلمة fanatisch. والتضحية البشرية ليست تقليدًا إسلاميًّا
راسخًا. فالجهاد كان يُبرَّر على الدوام بالدفاع عن الدولة الإسلامية، وكان المؤمنون
الذين
يقضون في المعركة يُوعَدون بجنة النعيم، أما تمجيد الموت من أجل الموت فلم يكُن جزءًا
من
هذا، خاصة لدى التقليد السني. وبخلاف الشهيد المسيحي، الذي يعاني العذاب والموت من
أجل
إيمانه، فإن الشهيد المسلم هو محارب عتيد، أشبه بطيار الكاميكاز. لكن دوافعه ينبغي
أن تكون
طاهرة نقية. فما من مجد في أن تموت لأسباب أنانية، أو بالمجان، دون أن تترك أي أثر
على
العدو. والفكرة التي مفادها أن الإرهابيين المتطوعين سوف يدخلون الجنة شهداء بقتلهم
المدنيين العُزَّل هي اختراع حديث، اختراع كان كفيلًا بأن يثير الرعب في نفوس المسلمين
في
الماضي، شيعة وسنة، ولا يزال يثير الرعب في نفوس كثير من المسلمين اليوم. فالإسلام
ليس
عبادة الموت.
ومن ثَم، فإن للغة بن لادن جذورها التاريخية، التي تعود إلى تلك الطوائف المتمردة
في
العالم الإسلامي. ففي القرنين الحادي عشر والثاني عشر، أخذت طائفة شيعية تُعرف باسم
الحشاشين على عاتقها قتل الحكام الآثمين وأتباعهم.
وزعمت أن الخلاص في متناول قلة مختارة، عَبْر معرفة سرية يعرفها الإمام. وقد تحصَّن
هؤلاء
الحشاشون في قلاع في كلٍّ من سوريا وفارس، وكانوا
يبدون لزعمائهم طاعةً مطلقة تبلغ حد الانتحار الشعائري المتعمد. فحين كانوا يؤمرون
بذلك،
كانوا يسارعون إلى إلقاء أنفسهم من فوق جرف صخري دون تردد. كما كانوا يتعاملون مع
الاغتيالات التي يقومون بها على أنها واجب مقدس. وكان الخنجر السلاح الوحيد الذي يُسمَح
باستعماله، وكان يُنتظَر من الحشاش الحقيقي أن يموت بعد
أن يتمَّ عمله.
ولقد قُدِّمت نظريات عديدة في تفسير دوافع هذه الطائفة القاتلة: كالقول إنها نبعت
من
تمرُّد فارسي ضد السيطرة العربية، أو من حرب خاضها ملَّاك الأرض في الريف وعبيدهم
ضد الحكام
في المدن المتنامية. غير أنه مهما تكن الأسباب التي تقف وراء هذه الطريقة المحددة
من طرق
العنف، فقد انتهت إلى الإخفاق وفي منتصف القرن الثالث عشر، آلَ الحشاشون إلى نهايتهم، وحطمهم جبروت الجيوش المغولية الغازية. غير أنهم
كانوا قد وضعوا ذلك النموذج الذي يمكن أن يتبعه المتمردون المتدينون في اللجوء إلى
الفقراء
والمُضطهَدين والساخطين لخوض قتالٍ حتى الموت بغية استعادة مملكة الله على الأرض.
ولطالما
انتهى الأمر بزعماء عبادات الموت الإسلامية في سجون الحكام الذين حاولوا أن يطيحوا
بهم.
ومنذ القرن التاسع عشر فصاعدًا، حين راحت النخب الحاكمة في مصر وأجزاء أخرى من العالم
الإسلامي تتبنى الأفكار الأوروبية في القانون العلماني والحكم الدستوري، صار الغرب
يُقرَن
مباشرة بعبادة المال. ودعا المسلمون الجذريون في الهند ومصر وسواهما إلى الجهاد ضد
التغريب
وعملائه اليهود، وإلى قتال القادة المسلمين الذين «أفسدتهم» الطرائق الغربية. وقد
حدد
الإخوان المسلمون بدقة أهداف حركتهم الجذرية التي تأسست في مصر عام ١٩٢٨م: «الله غايتنا؛
القرآن دستورنا؛ النبي قدوتنا؛ الجهاد سبيلنا؛ والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.»
أما حزب الله في لبنان فقد أعاد ابتكار تكتيكات الكاميكاز اليابانية بعد الغزو الإسرائيلي
عام ١٩٨٢م. ففي تشرين الأول عام ١٩٨٣م قَتلَ انتحاريٌّ يقود سيارة مليئة بالمتفجرات
٢٤١
موظفًا أمريكيًّا. وبعد عشر سنوات من ذلك التاريخ تبنى الفلسطينيون أيضًا هذه العمليات
الانتحارية. وغالبًا ما يكون أولئك الذين يحزِّمون أنفسهم بالقنابل مدفوعين بالثأر
والانتقام. لكن أولئك الذين يرسلونهم ينظرون إلى الأمر على أنه معركة بين مجاهدين
مستعدين
للموت وآخرين أدمنوا اﻟ komfortismus. فهؤلاء الأخيرون يُنظَر إليهم نظرةَ ازدراء
واحتقار. وكما قال الشيخ حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، بعد أيام على انسحاب إسرائيل
من
لبنان عام ٢٠٠٠م: «إنَّ إسرائيل هذه التي تملك أسلحة
نووية وأقوى سلاح جو في المنطقة، والله هي أوهَن من بيت العنكبوت.»
لم تزعم الرأسمالية ولا الديمقراطية الليبرالية قطُّ أنها عقيدة بطولية. بل إنَّ
أعداء
المجتمع الليبرالي يحسبون أن الليبرالية تحتفي بالعادية. والمجتمعات الليبرالية بحسب
القومي
الألماني آرثر مولر فان دِنْ بروك، تترك «لكل واحد الحرية في أن يكون عاديًّا».
٢٠ وهي تولي الأهمية «للحياة العادية وليس للحياة الاستثنائية». وهذا ليس بالخطأ
المطلق. فتوكفيل كان قد لاحظ الشيء ذاته. وبالطبع، فإنَّ المجتمعات الليبرالية تعطي
البشر
أيضًا فرصة أن يعيشوا حياةً استثنائية، موسومةً بمنجزات استثنائية. لكن هذه المنجزات
هي
منجزات فردية. والأفراد يُكافَئون على مواهبهم الاستثنائية بالمال والشهرة. والرأسمالية
الليبرالية هي في تعريفها بعيدة عن المساواة، ذلك أن البشر يتفاوتون في مواهبهم وحظوظهم.
وفي بعض الأحيان تكون هذه المواهب، التي يبرزها النجاح في السوق، مواهبَ زائفة، في
حين تخفق
المواهب الحقيقية العميقة في أن تبرز وتطفو. وهذا واحدٌ من الأسباب التي تدفعنا لئلَّا
ننظر
إلى اقتصاد السوق على أنه الدواء الشافي لكل علة. غير أنه من المقدر لمعظم البشر أن
يعيشوا
حياةً غير استثنائية بالفعل. وقد تعلم الليبراليون، تمشِّيًا مع التقليد البيوريتاني،
أن
يتقبَّلوا ذلك. بل إنهم، كما يشهد الرسم الهولندي والروايات الإنجليزية في القرن السابع
عشر، يعترفون بأن للحياة العادية غير الاستثنائية كرامتها أيضًا. وأنها ينبغي أن تُكلأ
بالرعاية، لا أن تُزدرى ويُسخَر منها.
غير أن هذا لا يمكن أن يرضي أولئك الذين يرغبون في أن يروا البطولة والمجد كجزأين
من
مشروع جمعي، وبديلٍ تاليًا في غالب الأحيان. ولقد لجأت الفاشية إلى البشر العاديين
على وجه
الدقة، ووفرت لهم فرصة أن يلمحوا المجد من خلال ترابطهم، وشعورهم بأنهم جزءٌ من أمة
متفوقة،
وفي النازية من خلال شعورهم بالانتماء إلى عرق متفوق، زعمت تلك النازية أنه مَحبوٌّ
بفضائل
فائقةٍ وصفاتٍ روحية سامية. وغالبًا ما تجتذب الحركات الدينية السياسية البشر للسبب
ذاته.
فالتضحية بالنفس من أجل قضية سامية، ومن أجل عالم مثالي، وإزالة الجشع والظلم، هي
السبيل
الوحيد أمام الإنسان العادي لكي يشعر أنه بطل. فخيرٌ للمرء أن يموت ميتة مجيدة دفاعًا
عن
مَثَل أعلى من أن يعيش في komfortsmus. هكذا يغدو الموت
العنيف فعلًا بطوليًّا من أفعال الإرادة البشرية. وقد يغدو في الأنظمة الشمولية ذلك
الفعل
الوحيد الذي يتمتع الفرد بحرية أن يختاره.
وما يمثله الغرب من تهديد، كما يبدو لأعين أعدائه، لا ينجم عن كونه يوفر منظومة بديلة
من
القيم، أو سبيلًا مختلفًا إلى اليوتوبيا. بل ينجم عن أن وعوده بالراحة المادية، والحرية
الفردية، وكرامة الحياة غير الاستثنائية تفضح كل المزاعم الطوباوية. فطبيعة الليبرالية
الغربية اللابطولية واللاطوباوية هي العدو الأكبر بالنسبة للجذريين المتدينين والملوك
الكهنة، وجماعات الساعين وراء الطهارة والخلاص البطولي.
والطبيعة البرجوازية، المادية، غير البطولية، وغير الطوباوية التي تتسم بها الحضارة
الليبرالية يمكن أن تجعل من الدفاع عن هذه الحضارة أمرًا عسيرًا. وحين تسود السوق
الحرَّة،
كما هو الحال في الولايات المتحدة، يشعر المثقفون أنهم هامشيون وأنهم لا يُقدرَون
حق قدرهم،
وينزعون إلى الانشداد نحو السياسة أو نحو السياسات التي تُطلِق أكبر المزاعم. وإذْ
يأخذون
حرياتهم على أنها من المسلَّمات، يقعون بسهولة فريسة أعداء الغرب. فجمهورية فيمار
لم تسقط
بسبب الوحشية النازية، أو الغباء الرجعي، أو الطموح العسكري، أو الآراء التي عبَّر
عنها
أمثال مولر فان دِن بروك وحسب. بل سقطت أيضًا لأن قلة قليلة وحسب كانت مستعدة للدفاع
عنها.