عقل الغرب

الهجوم على الغرب هو من بين أشياء هجوم على عقل الغرب، وغالبًا ما يُصوِّر المستغربون عقل الغرب على أنه ضَربٌ من البلاهة الشديدة. فأن تحمل عقل الغرب أشبه بأن تكون علامةً أبله، مختلًّا عقليًّا إنما مع موهبة في إجراء العمليات الحسابية. فهو عقل بلا روح، فاعل، مثل آلة حاسبة، غير أنه لا يجدي نفعًا في القيام بما هو مهم من الناحية الإنسانية. ولا شك أن عقل الغرب قادر على إحراز نجاح اقتصادي عظيم، وعلى تطوير تكنولوجيا متقدمة والارتقاء بها، لكنه عاجز عن التقاط أشياء الحياة السامية، لأنه مفتقر إلى ما هو روحي ويعوزه فهم المعاناة الإنسانية.

وتعود بذرة هذا التمييز إلى ماض بعيد. فأفلوطين (٢٠٤–٢٠٧م)، مؤسِّس الأفلاطونية الجديدة المبجَّل في العالم اليوناني-الروماني، كان يميز بين الفكر الاستدلالي والفكر الحدسي. فكان يستخدم مصطلح «التفكير الاستدلالي» لكي يشير إلى تفكير الروح، و«التفكير الحدسي» لكي يشير إلى العقل. فالإيمان بالله، على سبيل المثال، يمكن أن يعني أن المرء يقبل الافتراض الذي مفاده أن الله موجود. كما يمكن للمرء أن يجل الله دون أن يقول عنه أي شيء. وهذان النمطان من التفكير يصدران عن جهازين ذهنيين منفصلين، إذا جاز التعبير: العقل والروح. (ونحن ننزع الآن إلى عكس هذين المصطلحين، الروح للتفكير الحدسي والعقل للتفكير الاستدلالي). والإفراط في الإلحاح على العقل يحد من دور الفكر الحدسي الذي لا يقوم على الاستدلال. وإنها لفكرة رومانتيكية تلك التي ترى أن الفكر الحدسي يتفوق على التفكير المتروي والاستدلالي. وغالبًا ما ينسخ الاستغراب هذه المقولات. ويتهم العقل الغربي ليس بالعجز عن التفكير الحدسي وحسب، بل أسوأ من ذلك، بالغطرسة والصفاقة التي تدفعه إلى إنكار وجود هذا التفكير.

وعقل الغرب في أعين المستغربين هو عقل مبتور، يُحسِن إيجاد السبيل الأفضل لتحقيق هدف معين، لكنه لا ينفع البتَّة في إيجاد السبيل الحق. فادعاؤه العقلانية ليس سوى نصف الحقيقة، والنصف الأقل. وإذا ما كنا نعني بالعقلانية العقلانية الأداتية، التي تلائم بين الوسائل والغايات، في اختلافٍ عن العقلانية القيمية، التي تتمثل باختيار الغايات الحقة، فإن الغرب لديه وفرة من العقلانية الأولى وليس لديه أقل القليل من العقلانية الثانية. والإنسان الغربي، من وجهة النظر هذه فضولي أو متطفل مفرط النشاط، لا يني يجد الوسائل الصحيحة للغايات الخطأ.

وما يقف على الضد من العقل الغربي هو الروح الروسية، ذلك الكيان الأسطوري الذي أقامه المفكرون في مجرى القرن التاسع عشر. فعلاقة الحب هذه التي أقامها الروس مع روحهم هي صورة مُثلى لتلك اللوحة الكريهة التي رسمها المستغربون للعقل الغربي. غير أن هنالك سببًا آخر لتركيز اهتمامنا على هذا الأمر. فالمفكرون الروس المحليون في القرن التاسع عشر، والذين أُطلِق عليهم بصورة سائبة ومبهمة بعض الشيء اسم أصحاب النزعة السلافية، كانوا قد قدموا نموذجًا للهجمات الروحية القومية أو الإثنية على العقلانية الغربية سارت على هَديِه أجيالٌ من المثقفين في بلدان أخرى، مثل الهند، والصين، والأمم الإسلامية. غير أنه، على الرغم من إلحاح أصحاب النزعة السلافية على الخصائص الفريدة التي تميز الروح الروسية، كانوا ينسجون هم أيضًا على منوال معين. فالولع الروسي بالسلافية كان يضرب بجذوره في الرومانتيكية الألمانية، شأنه شأن الليبرالية الروسية التي سارت على غرار الأفكار الليبرالية الألمانية.

فالحي الغربي في موسكو كان يعني لبطرس الأكبر الحي الألماني. أما في ألمانيا، وخاصةً بروسيا، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فكان يُنظَر إلى فرنسا على أنها خلاصة الغرب وجوهره، بما تتميز به من قوة، وإلهام، وتهديد. وثمة قَدْر كبير من الحقيقة فيما يراه إشعيا برلين من أن الحركة الرومانتيكية الألمانية وقوميتها الرومانتيكية كانتا «نتاج حساسية قومية مجروحة. وإذلال قومي مريع».

ويرى إشعيا برلين أن فرنسا سيطرت على العالم الغربي، سياسيًّا وثقافيًّا وعسكريًّا وأن ذلك، قد مثل إذلالًا عميقًا بالنسبة للألمان المهزومين، خاصةً البروسيين الشرقيين التقليديين، المتدينين، والمتأخرين اقتصاديًّا. ومما زاد الطين بلة حماس فريدريك العظيم للأفكار الفرنسية وميله إلى استيراد موظفين فرنسيين متغطرسين. فكانت ردة فعل الألمان على ذلك «أشبه بفرع مائل على جذع نظرية الشاعر شيللر، حيث جفلوا ورفضوا الإقرار بدونيتهم المزعومة». وعقدوا مقارنة بين حياتهم الروحية الداخلية العميقة، والشعر المنبثق عن روحهم القومية، وبساطة شخصيتهم ونبلها من جهة وبين تفاهة التعقيد الفرنسي وغلظته من جهة أخرى. ولقد بلغ هذا المزاج أشده وبات محمومًا مع المقاومة الوطنية التي واجهت نابليون، وشكل، كما يقول برلين، «النموذج الأصلي الذي سارت على غراره ردة فعل كثير من المجتمعات المتأخرة، أو المُستغَلة، أو التي تُعامَل بغطرسة واستكبار على الأقل، حيث أثار سخطها ذلك التدنِّي الواضح في مكانتها، فردَّت على ذلك بالتحول إلى انتصاراتها وأمجادها الماضية الفعلية أو المتخيَّلة، أو إلى ما يتسم به طبعها الوطني أو الثقافي، من خصائص وصفات تُحسَد عليها.»١

وحين لا يقتصر أمر البشر على الإذلال من قبل قوى أجنبية بل يتعداه إلى اضطهادهم من قبل حكومتهم، غالبًا ما ينسحبون نحو «حياة الروح الداخلية»، النقية والبسيطة، حيث يمكن أن يشعروا بالتحرر من فساد السلطة والتعقيد. كما يغدو كل من الفلسفة والأدب بديلًا سياسيًّا حين لا يعود ثمة مجال للجدال السياسي. وهذا ما يصح على ألمانيا القرن التاسع عشر، وكذلك على روسيا، حيث طُعِّم الجذع الروسي بنصوص ألمانية بَدَت مثل أطراف اصطناعية زائفة. ولقد زادت الرقابة الشديدة من أهمية الأفكار وخلقت انطباعًا بأن هذه الأفكار، تحظى بأهمية بالغة، حتى ولو كانت من النوع الباطني الذي يقتصر فهمه على الخاصة. أما ما كان المفكرون الروس يستشعرونه، في ظل حكم القياصرة، من عجزٍ عن ترجمة الأفكار إلى أفعال وامتحانها بذلك على أرض الواقع، فقد دفع كثيرًا من هؤلاء المفكرين صَوب نزعة صفائية قويمة. فشاعت وجهات نظر متطرِّفة ومتزمِّتة بأن المفكرين والكتَّاب قد تحولوا إلى أنبياء. وقد صدر كثير من وجهات النظر هذه عن الرومانتيكية الألمانية، خاصة الرومانتيكية الرفيعة الباكرة، بين العام ١٧٩٧م والعام ١٨١٥م. أما في روسيا فقد تم بَتْر وجهات النظر هذه وتحويلها إلى ضرب من الاستغراب.

ويعتبر إشعيا برلين الحركة الرومانتيكية جزءًا من التنوير المضاد. ففي حين حمل مفكرو التنوير وجهة النظر المتفائلة التي مفادها أن التاريخ الإنساني هو نوعٌ من التقدم الخطِّي باتجاه عالم أكثر سعادة وأكثر عقلانية، عمد التصور الرومانتيكي إلى استخدام الأفكار والمفهومات الدينية القديمة مثل البراءة، والسقوط، والفداء. فالرومانتيكي يشعر على الدوام أنه في الحضيض، متطلعًا من هناك إلى الأعلى آمِلًا بالخلاص والفداء. أما السقوط فموسوم بتشظٍّ كلِّي، وغربة عن الذات الحقيقة، واغتراب عن البشر، وعن الطبيعة (أو الله).

والسببان الأساسيان لهذا التشظِّي. بحسب هذا الخط من التفكير، هما تقسيم العمل والأسواق التنافسية. ومع أنه من المقدر لخطة الخلاص أن تلبي التوق إلى الوحدة والانسجام، إلا أن الرومانتيكي ليس متفائلًا. فما من ضمانة أنه سيتمكَّن يومًا من التغلب على الاغتراب، ومن هنا ذلك التوق الدائم الذي ينتاب الرومانتيكي غير البرجوازي إلى الوحدة الضائعة. لكن ذلك يبقى محمولًا لأن السعي هو الذي يحظى بالأهمية كلها بالنسبة للرومانتيكي، سواء تم بلوغ الغاية أم لم يتم. ولأن البراءة تأتي قبل السقوط، في المخطط الرومانتيكي، تنزع السياسة الرومانتيكية لأن تفرط في الحنين أو النوستالجيا. فالماضي، سواء كان أوروبا القروسطية، أو المسيحية الباكرة، أو عنفوان الرهبانية الروسية، أو اليابان القديمة، يعمل كنموذج تنسج عليه عملية استعادة الانسجام القديم، «الوحدة» القديمة. ولقد حظي هذا التوق، وما فرَّخه من مواقف، بنفوذ هائل. فمعجم المستغرِب للكلمات الحسنة والرديئة هو في جوهره معجم الرومانتيكي ذاته. وحين يتعلق الأمر بالعقل، فإن كلمة «عضوي» هي كلمة حَسَنة أما كلمة «ميكانيكي» فكلمة رديئة. ذلك أن العقل العضوي يمكِّن الفرد من التوحد مع نفسه، ومع الآخرين، ومع الطبيعة أو الله.

والألوهية ذاتها تتجلى في مجالات مختلفة كثيرة: الطبيعة، والتاريخ، والنفس البشرية. فالآلهة الوثنية تعمل في الطبيعة. واليهودية جعلت التاريخ، كما دُوِّن في العهد القديم، المسرح الأساسي لحضور الله. أما القديس بولس والقديس أوغسطين فقد أحلَّا حضور الله في النفس البشرية. وهذه الأمور تتداخل بالطبع، والديانات الكبرى تبدي عناصر منها جميعًا. والرومانتيكية، في تجليها الديني تعيد إحياء الطبيعة كبؤرة للألوهية، لكنها تعزز دور النفس أيضًا. وهذا العنصر من عناصر الرومانتيكية هو الذي التقطه المفكرون الروس، والأهم من ذلك أنه العنصر الذي التقطه «الروائيون النبويون» الروس. فأصحاب النزعة السلافية وورثتهم الروحيون، مثل فيودور دوستويفسكي وفلاديمير سولوفيوف، لم يجعلوا النفس البشرية معبد الرب وحسب، بل جعلوا النفس الروسية قُدس أقداسه أيضًا.

ومن القناعات الرومانتيكية الشائعة أن العقلانية المفرطة هي التي تقف وراء الانحلال النهائي لما كان يتميز به الغرب ذات مرة من عضوية حيوية. وبذلك بات الذكاء العقلاني مرضًا غربيًّا: ذكاء دون حكمة. ولقد تميزت المساهمة الروسية عمومًا بجدية أخلاقية رفيعة، من ذات النوع الذي نجده في روايات دوستويفسكي. لكن دوستويفسكي أضاف انعطافةً مهمة: حيث رأى أن الفلاح الأشد فقرًا أفضل من المثقف الأشد دراية. ذلك أن الفلاح الذي يخشى الله يعرف على الأقل من ينبغي أن يتوجه إليه في طلب الغفران.

وبحسب رؤية العالم التي يحملها أصحاب النزعة السلافية، والتي يمثل لها دوستويفسكي، علينا ألا نحاول حل المشكلات من خلال العقل البشري، بل من خلال التماس الخلاص. فليس بمقدورنا أن نلتقط حس الحياة المأساوي من خلال العقل، بل من خلال حكمة القلب وحدها. وكما قال باسكال: «للقلب أسبابه التي لا يعلمها العقل». وأسباب القلب تمليها معاناة المرء، ورؤيته الآخرين يعانون، أما العقل الغربي فينكر الدور الثقيفي العظيم الذي تلعبه المعاناة، ولذلك لا يكف عن السعي خلف السعادة. ومذهب المتعة هذا، إلى جانب الاتكال المفرط على العقل، هما اللذان ينأيان بالغرب عمَّا يحتاجه أشد الاحتياج، ألا وهو السبيل إلى الخلاص.

أما الفلاح الروسي فيُفترَض أنه التقط هذا السبيل بغريزته. يقول تولستوي: «أعتقد أن الشعب الروسي، الأقل تحضُّرًا من سواه — أي الأقل فسادًا من الناحية الفكرية والذي لا يزال لديه تصوُّر ضعيف عن جوهر التعاليم المسيحية — ذلك الشعب الروسي، خاصة المزارعين، سوف يفهم على الأقل أين تكمن وسائل الخلاص وسوف يكون أول مَن يبدأ باستخدامها.»

«ما هو لنا حقًّا غريب على أوروبا»، هذا ما أعلنه دوستويفسكي. ومن الواضح أن ذلك عارٍ عن الصحة. فكثيرٌ مما اعتبره الروس «لهم» لم يكن غريبًا على أوروبا البتَّة، بل جاء من هناك. فمثل الفودكا التي أتت إلى روسيا من الغرب في القرن الرابع عشر حين هزم الأتراك الصرب في كوسوفو، كذلك غدا الاستغراب في القرن التاسع عشر مقترنًا بروسيا أشد الاقتران على الرغم من استيراده الواسع من ألمانيا. وبالطبع، فإنَّ النقاش بشأن ما هو من الغرب وما هو إسلافيٌ أصيل هو نقاشٌ بلا نهاية. فحتى الاسم روس، كما يقول بعضهم، هو من أصل اسكندنافي. ويرى المؤرخون الألمان أن الروس، حين تُرِكوا وشأنهم، بلغوا من الفوضوية مبلغًا احتاجوا فيه إلى الفارانج الاسكندنافيين كي يفرضوا عليهم شيئًا من النظام. حيث يزعم هؤلاء المؤرخون أن البنية الحاكمة للمملكة الروسية القديمة في كييف قد فُرِضت فرضًا. وهذه الوجهة الألمانية هي عكس الجهد المضحك الذي بذله النظام الستاليني في ادعاء أن جميع المخترعات التكنولوجية هي من أصل روسي، لكنها وجهةٌ ليست أقل سُخفًا وعبثًا من ذلك الادعاء. فلا شك أن الروس قادرون تمامًا على تطوير أفكارهم الخاصة. ومن الهراء أن نحاول إيجاد أصل أو نسب غربي لكل فكرة لقيت رواجًا في روسيا. والاستغراب في روسيا هو في آنٍ معًا نتاج محلي للتاريخ الروسي ونتاج مُستورَد، من الاتجاهات الرومانتيكية والمثالية في الفلسفة الألمانية بصورة أساسية.

ومن أهم الأحداث في التاريخ الروسي كان تحول مملكة كييف إلى المسيحية في عهد فلاديمير. ففي عام ٩٨٨م رفض فلاديمير أن يتبنى الكاثوليكية الرومانية، واعتنق المذهب الأرثوذكسي اليوناني من بين المذاهب المسيحية. وهذا ما وضع روسيا بقوة في الطرف الشرقي من العالم المسيحي. وحين انتقل مركز الحياة الروسية من كييف إلى موسكو، وغدت مملكة موسكوفي المركز القائد للأمارات الروسية في القرن الرابع عشر، انتقل رأس الكنيسة الأرثوذكسي إلى موسكو أيضًا. وغدت موسكو، نتيجة لذلك، مركز روسيا الروحي، وليس موقع السلطة فيها وحسب. وفي عام ١٤٣٩م، دعت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، في مجمع فلورانسا، إلى توحيد جميع الكنائس الشرقية في ظل السلطة البابوية. واعتبرت موسكو ذلك فعلًا مخاتلًا وغادرًا، وغدت الكنيسة الروسية كنيسة وطنية إلى حد بعيد، كُتِب لها أن تحمل رسالة المسيحية الأصيلة، وغدت روسيا «روسيا المقدسة»، وموسكو «روما الثالثة». ولقد عمل فتح العثمانيين للقسطنطينية عام ١٤٥٣م على تعزيز هذه النظرة المسيانية الخلاصية، التي كانت ترى أن روسيا هي الوريث الشرعي للعقيدة المسيحية الحقة.

وكانت مملكة موسكوفي من نواحي عديدة حضارة دينية أكثر منها نظامًا سياسيًّا. وكان ثمة قدرٌ كبير من التماثل في نظرة الروس العامة إلى هذه الحضارة، كما نزعوا إلى اعتبار الغرب كتلة واحدة على نحوٍ يشبه طريقتهم في النظر إلى أنفسهم، ولذلك كانوا يحطون من قدر ذلك التنوع في الفكر الديني القائم في الغرب. وعلى سبيل المثال، فإن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لم تكن تفسح ذلك المتسع الكبير للاهوت. وكان الروس أشد اهتمامًا بالشعائر، والطقوس، والحياة الرهبانية. وتركَ التقى البسيط من الأثر على مقاربتهم للدين أكثر مما ترك اللاهوت، وجعلها مقاربة مختلفة عن مقاربة الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية ومقاربة الكاثوليكية الغربية.

كانت طبيعة الألوهية مثار النزاع الأساسي في الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية. وكان اللاهوت يُؤخذ بكثير من الجد في الكاثوليكية الرومانية أيضًا. ولقد تأتَّت انقساماتها المختلفة عن جدالات لاهوتية بشأن طبيعة الإنسان. ولا شك أنه كان هنالك على الدوام أشياء أخرى تفعل فعلها في كل انقسام إلى جانب القضايا الدينية المعلنة. غير أنه من الخطأ الفادح أن ننكر وجود المؤمنين الحقيقيين، بل والمؤمنين المستعدين للقتال والموت من أجل عقائدهم.

أما الكنيسة الروسية فلم يقتصر أمرها على قلة الاكتراث باللاهوت وحسب، بل قاومت بقوة أيضًا فكرة تحويل الدين إلى شكل من أشكال الهندسة. فالدين، كما رأت هذه الكنيسة، هو مشروع روحي، وليس مشروعًا فكريًّا. والولع بالأيقونات لا بد أن يكون أفضل من شرح ألمعي لإصحاح أو آية. ومع أن الكنيسة الروسية شهدت انقسامًا كبيرًا في حقيقة الأمر، إلا أن هذا الانقسام لم ينجم عن أي انشقاق فكري. ففي عام ١٦٥٢م، حاول نيكون، بطريرك موسكو، أن يُصلِح الكنيسة الروسية بحيث تغدو أكثر انسجامًا مع الكنيسة اليونانية الشرقية. وتركت هذه الإصلاحات أثرها على الأعراف والسنن القديمة: فصارت التسابيح أو الهللويات ثلاثًا بدلًا من اثنتين، وصار خبز التقدمة أربعة أرغفة بدلًا من سبعة، والموكب بعكس الشمس وليس في اتجاهها، كما جرى تغير في تهجئة اسم يسوع ذاته. وما تبينه هذه الأمثلة هو أن الانقسام لم يكن حول العقيدة، مع أن أولئك الذين عارضوا تلك الإصلاحات كان يُطلَق عليهم اسم المؤمنين القدامى، بل كان حول الأعراف الشعائرية. وكان المؤمنون القدامى يلقون الحجارة على الموكب الكنسي الرسمي في الكرملين لأنه يسير في الاتجاه الخطأ، وليس لأن الكنيسة كانت تضل طريقها في مسائل العقيدة الجوهرية. وإذا ما كانت العقيدة تُقرَن إلى الكنيسة الغربية، فإن العرف ينتمي إلى الشرق.

وثمة عنصران على الأقل في الثقافة الدينية الروسية يستبقان الاستغراب ويتقدمان عليه. فالإلحاح على المسائل الفكرية في الكنيسة الكاثوليكية كان، بالنسبة للمؤمنين الروس، علامة أكيدة على افتقار هذه الكنيسة إلى الإيمان البسيط النابع من قلب نقي. أما العنصر الآخر، الذي شكل واحدًا من جذور الانقسام في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، فكان ذلك التشكك العميق والاشتباه بأي تجديد. فالجدَّة، بالنسبة لهؤلاء المؤمنين، هي على الدوام شيء يأتي من الخارج. فكان يُحكَم عليه بأنه غير أصيل ومُذِل، يشير إلى أن ثمة شيئًا تفتقر إليه الأساليب والطرائق القديمة ذلك الافتقار الجوهري. وهذه الحساسية الدينية تمضي عميقًا جدًّا، فترى إلى الكنيسة لا على أنها مصدر معرفة جديدة، بل بوصفها مستودعًا للذاكرة الجمعية، ذاكرة روسيا كمجتمع مقدس. ولأنَّ الذاكرة والإيمان البسيط، وليس المنطق والسفسطة المستحدثة التي يمكن لهذا العقل أن ينتجها، هما فضيلتا العقل البشري الأساسيتان، كان التصوُّف، الذي يعبر عن نمط رفيع من الوجود، يُقوَّم أعلى بكثير من إعمال العقل المنهجي.

وأحسَّ المؤمنون القدامى أن خلف إصلاحات نيكون ثمة حشد من الكهنة اليونان الذين وصلوا من كييف ومعهم تلك الاستراتيجية القديمة الرامية إلى السيطرة من خلال التعقيد، أي تعقيد الأمور أبعد من إدراك المؤمنين الحقيقيين للحياة الدينية، ومن ثَم الإمساك بزمام هؤلاء عن طريق توجيههم فيما ينبغي أن يفعلونه. فالحياة الدينية البسيطة كانت بالنسبة ﻟ المؤمنين القدامى شيئًا روسيًّا خالصًا، أما كُتيِّب العبادة الجديد الذي جاء به نيكون فكان أجنبيًّا، ومصطنعًا، غير موثوق ولا أصيل.

•••

ولقد شهدت روسيا بالطبع تيارات قوية مضادَّة للمحلية الروسية. وأظهر أصحاب النزعة السلافية ردة فعل حيال الجهود التي بذلها التغريبيون لتحديث روسيا. ولكي نفهم هذه الأفعال لا بد أن نبقي في الذهن تلك المراكز الثلاثة التي عرفها تاريخ روسيا. فكل انتقال من مركز إلى آخر كان قرارًا أيديولوجيًّا وليس سياسيًّا وحسب. فالانتقال الأول، من كييف إلى موسكو، كان تحولًا أيديولوجيًّا باتجاه الانعزالية الروسية. وفي بداية القرن الثامن عشر، انتقل هذا المركز مرة أخرى إلى مدينة سان بطرسبورغ المبنية حديثًا، حيث تأسست في العام ١٧٠٣م، وحلت محل موسكو كعاصمة بعد عشر سنوات من هذا التاريخ، مع أن موسكو سوف تعود مرة أخرى لتحتل هذا الموقع. وكان بطرس الأكبر قد بنى بطرسبورغ وهو ينوي صراحةً أن يجعل منها «نافذة على أوروبا». ولم يكن واضحًا تمامًا ما إذا كان ذلك يعني أن تكون هذه النافذة نافذة مفتوحة يمكن عبرها تنسم الأفكار الجديدة القادمة من الغرب، أو نافذة للعرض يمكن لأوروبا أن ترى من خلالها وجه روسيا الجديد. وعلى أية حال، فإن روسيا القيصر بطرس الجديدة كانت تنظر إلى الغرب، وكانت علمانية، بخلاف أيديولوجيا موسكوفي التي كانت تبدي رهاب الأجانب. وإصلاحات بطرس التي جرت من الأعلى لم تكن إصلاحات روحية أو فنية على وجه التحديد. فمنذ فتوته في الحي الألماني من موسكو، كان بطرس ينظر إلى الغرب على أنه متفوق في التكنولوجيا، والتنظيم، والنظافة. وهذه الفضائل هي التي أراد بطرس أن يستوردها إلى روسيا.

وكانت الآثار التي ترتَّبت على حمية بطرس الغربية آثارًا عميقة. فقد أشاع من الثقة بين الروس المدينيين ما كان كافيًا لأن يقتنعوا بأن «هذا الملك قد ارتقى بأرض آبائنا إلى مصاف الآخرين، وعلمنا أن ندرك أننا بشر نحن أيضًا».٢ ولا شك أن هؤلاء كانوا يعتبرون الغرب، ربما بنوع من السذاجة، المعيار الوحيد الذي ينبغي أن تُقاس روسيا عليه.

أما كاترين العظيمة، التي حكمت بين ١٧٦٢ و١٧٩٦م، فقد ولدت في ألمانيا وكانت لديها فكرة عن الغرب أشد إحكامًا. وأرادت لروسيا أن تستورد الثقافة، وليس الحضارة المادية وحسب. وقد عنى ذلك استيراد الكتب فضلًا عن الحرفيين الألمان أصحاب الخبرة في بناء السفن والمدافع. ولقد عملت كاترين الكثير لكي توجِد طبقةً مثقفة انبثقت منها الإنتلجنسيا الروسية. لكنها انقلبت ضد ما أوجدته حين كشفت الثورة الفرنسية أن الكلمات يمكن أن تكون خطيرة، والإنتلجنسيا تعتاش على الكلمات. بل إن الرعب من التلوث الفكري بلغ بابنها الغبي بول (١٧٩٦–١٨٠١م) حد أنه منع استيراد الكتب وحال بين الروس والسفر إلى الخارج.

غير أن الإنتلجنسيا، بعد موته، جعلت علاقة روسيا بالغرب موضوعها الأساسي. فقد أَمِلَ المثقفون أن ذلك سوف يمكِّنهم من تكوين فكرة أوضح عن أنفسهم وعن مكانتهم في العالم، تلك المكانة التي تعززت بانتصار القيصر ألكسندر الأول على نابليون، القائد الغربي النموذج. ويصف تولستوي القائد الأعلى للجيش الروسي في عهد ألكسندر، كوتوزوف، على أنه تجسيد للروح الروسية، المتجذِّرة في الطبيعة، بعكس الروح الفرنسية، روح الاصطناع والابتكار، التي يمثل لها نابليون. غير أن ضباط ألكسندر الذين لعبوا دورًا في الحروب النابليونية في أوروبا، كانوا في الحقيقة أشد تأثرًا ﺑ التنوير الفرنسي، وأبعد عن التحول الصوفي لدى قيصرهم، الذي كانت روحه تتدفَّأ بنيران الحرب في موسكو، ولقد غدا هذا القيصر رجعيًّا مسيانيًّا، أما هم، لدى عودتهم إلى روسيا، فقد وجدوا بلادهم متخلفة بمعايير التنوير.

وفي عهد نيكولا الأول (١٨٢٥–١٨٥٥م)، دار الجدال بشأن روسيا والغرب حول مسألة الهوية الروسية: ما هي هذه الهوية، أو ما الذي ينبغي أن تكون عليه. وفي المعارك التي دارت رحاها بين أصحاب النزعة السلافية والتغريبيين، تحول الاستغراب من منعكس ثقافي إلى أيديولوجيا تامة النضج. وكان مصطلح الولع بالسلافية، مثل كثير من اللصاقات الأيديولوجية الأخرى، مصطلحًا يُساء استخدامه لتُوصَف به النزعة القبلية المتزمتة لدى أولئك الذين يعارضون دعاة التغريب. غير أن التغريب أيضًا كان مصطلحًا يُساء استخدامه من قبل أصحاب النزعة السلافية في وَصْم الخيانة المرتكبة بحق الروح الروسية لمصلحة عقل غربي ميكانيكي، واصطناعي، ومتغطرس فوق ذلك كله.

وكان الأخوان كيريفسكي من أفصح أصحاب النزعة السلافية، بيتر (١٨٠٨–١٨٥٦م) وخاصة إيفان (١٨٠٦–١٨٥٦م)، وكذلك ألكسي خُمياكوف (١٨٠٤–١٨٦٠م)، وكونستانتين أكساكوف (١٨١٧–١٨٦٠م)، ويوري سامرين (١٨١٩–١٨٧٦م)، وهذه الشخصيات باتت الآن منسية إلى حد بعيد، لكنها أوجدت أيديولوجيا هائلة القوة لا يمكن من دونها فهم روسيا القرن التاسع عشر. وكانت الفلسفة، أكثر من الأدب، هي التي ألهمت هؤلاء. ففي ظل نظام نيكولا الأول القمعي، كان يُنظَر إلى الفلسفة على أنها ذلك الفرع الهدَّام أكثر من أي فرع آخر. ولذلك مضت الفلسفة تحت الأرض، إذا جاز التعبير، ومعها كتابات المثاليين والرومانتيكيين الألمان.

وكان إيفان وبيتر كيريفسكي قد وُلِدا لعائلةٍ «مختلطة». فأبوهما كان ماسونيًّا مستنيرًا وكانت أمهما أيديولوجية رومانتيكية لا يُشق لها غبار. ومنذ نعومة أظفارهما، كان بمقدور هذين الأخوين أن يلتقيا كل من يُحسَب له حساب في حياة روسيا الثقافية. ولم يكن إيفان الذي نمَّ على نضج مبكر قد تجاوز السابعة عشر حين انضمَّ إلى عشَّاق الحكمة (١٨٢٣–١٨٢٥م)، وهي جمعية من الأرستقراطيين الشباب مهتمة بالفلسفة الغربية. وكان بطلها الفكري الأساسي المفكر الألماني فريدريش ويلهلم شيللنج الذي عاش أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.

ويصعُب اليوم أن نجد سوى قلة تقرأ شيللنج، وأقل منها من يجدونه مقنعًا. ولا نستطيع أن نتصور اليوم أحدًا يجلب تمثالًا نصفيًّا لشيللنج إلى روسيا (أو إلى أي مكان آخر)، لكن ذلك ما فعله إيفان كيريفسكي. ولقد فُخِّم شيللنج وعُبِد في روسيا على نحو يصعب أن نفهمه الآن. وكان المفكرون الجذريون، مثل كروبوتكين الفوضوي القديس، يجلونه بقدر ما كان يجله مفكر رجعي مثل بوغودين (الذي كان يمارس نوعًا من الرجعية بالغة الرداءة). فما الذي وجده هؤلاء لدى شيللنج؟

لم تكن الرومانتيكية الألمانية، بخلاف أشكال الرومانتيكية الأخرى في أوروبا الغربية، مجرد حركة أدبية وفنية؛ فقد انطوت على مكنونات سياسية واجتماعية شديدة وقوية. وفي كتابه فلسفة الطبيعة، رسم شيللنج الكون كعضوية حية، تتصرف بطريقة غائية. وكان ذلك معاكسًا تمامًا لفكرة إسحق نيوتن عن الطبيعة بوصفها آلية، لا توجهها الغايات، بل القوى والأسباب. وكان تصور شيللنج العضوي وسيلة للإجهاز على عقل الغرب الحسابي وتقديم فكرة عن المجتمع بوصفه عضوية حية تدفعها غايات جماعية. وكان ذلك نقيضًا للتصور الليبرالي عن المجتمع بوصفه مُكوَّنًا من أفراد يربط العقد فيما بينهم.
ولقد راقت كثيرًا أفكار شيللنج عن الكون للمزاج المولع بالسلافية. فالمجتمع، عند هؤلاء يتطابق مع الكنيسة أو الجماعة الدينية، ليشكِّلا عضوية إلهية-بشرية. والكلمة التي غالبًا ما كانت تُستعمَل للتعبير عن ذلك هي sobornost. حيث اﻟ Sobor هو المجمع الكنسي، أما الفعل sobirat فيعني «يتحد»، وبذلك كانت الفكرة الكنسية الأصلية هي اتحاد المؤمنين في جسد المسيح الغامض.٣ وكان كيريفسكي يتكلم على ضرب من «التكامل». وعلى أي حال، فإن هؤلاء كانوا ينظرون إلى روسيا، وقد ألهمتهم أفكار شيللنج، على أنها بعكس المجتمع الغربي، كما تمثل له إنكلترا، أو هولندا، أو الجمهورية الفرنسية.
وفي كتابه مبدأ جديد في الفلسفة أقام كيريفسكي تمييزًا واضحًا بين عقل الغرب وعقل البقية، حيث تقف روسيا، بين هذه البقية، بوصفها العقل غير الغربي النموذج. وبحسب منطق كيريفسكي، فإن الغرب يقوم على أسسٍ فاسدة: فهو يقوم، من الناحية الروحية، على العقلانية السكولائية (المدرسية) كما تبنتها الكنيسة الكاثوليكية؛ ويقوم، من الناحية السياسية، على الفتوحات الرومانية والتيتونية التي شكلت نظام أوروبا السياسي؛ ويقوم، من الناحية الاجتماعية، على الفكرة الرومانية الخاصة بحقوق التملك المطلقة، التي رأى فيها كيريفسكي طورًا أولًا أو شكلًا بدئيًّا من الفردانية. ولقد طابق بين عقل الغرب والتفكير المجرد، المتشظِّي، المنقطع عن كلية العالم. أما العقل الروسي العضوي، من جهة أخرى، فيهديه الإيمان ويقوى على التقاط كلية الأشياء.

ولقد استهدف كيريفسكي كلًّا من العقلانية والقدرة على التفكير المنطقي بوصفهما عنصرين خبيثين في العقل الغربي. ومع أن من السهل أن يجري الخلط بين هذين الاثنين، إلا أنهما ليسا الشيء ذاته في حقيقة الأمر. ويرى كيريفسكي أن أرسطو هو المسئول عن وضع عقل الغرب في القالب الحديدي للتفكير المنطقي. لكنه فشل، لحسن الحظ، في أن ينقل هذه الفكرة إلى تلميذه الماجد، ألكسندر الأكبر، الذي كان أكبر على وجه الدقة لأنه كان يسعى إلى المجد، وليس وراء مثال التفكير المنطقي السخيف. فالتفكير المنطقي، كما يقول كيريفسكي، ليس سوى «المكابدة سعيًا وراء الأفضل ضمن دائرة ما هو تافه ومبتذل». والتفكير المنطقي هو فطنة هيابة، ونشدان للتفاهة الشديدة، يقوم على حكمة تقليدية مبتذلة، هي نقيض الحكمة الحقيقية. وخوف المرء من أن يكون أصيلًا لئلَّا يُوصَف بالتطرف، هو أسوأ ما يمكن أن يكون عليه هذا المرء في الغرب الجبان. والتفكير المنطقي هو خلاصة العقل غير البطولي، ولذلك راح يندد به ليس أصحاب النزعة السلافية الروس مثل كيريفسكي وحسب، بل حشد من المفكرين المناهضين لليبرالية، وكثير منهم كانوا ألمانًا، ممَّن يحتقرون التاجر ويعبدون البطل كما سبق أن رأينا.

وقد يحسب كثير منا أن القدرة على التفكير المنطقي توحي بالفطنة، والاستقرار، وامتلاك نزر يسير من بُعد النظر. كما توحي بالاستعداد للإصغاء إلى المنطق والتصرف انطلاقًا من أسباب واضحة. وبهذا المعنى فهي تعني ما تعنيه العقلانية تمامًا. لكن كيريفسكي، وسواه من المستغربين الذين أتوا بعده، رأوا إلى الفطنة على أنها خوف أو تهيب، واستقرار يشبه البلادة، وبُعد نظر يشبه السعي إلى عيشة مستورة خالية من الإلهام. وقد وجد كيريفسكي كل ذلك لدى أرسطو، ذلك أن أرسطو أخذ القناعات الشائعة والفهم الشائع على محمل الجد، أما كيريفسكي فقد فسَّر قاعدة أرسطو الذهبية على أنها قاعدة لتجنب الأقاصي والسعي وراء الوسط، الذي ليس سوى اسم آخر للتفاهة. وهكذا حول كيريفسكي أرسطو إلى أول فيلسوف للعقل البرجوازي، الذي هو عقل الغرب ذاته وليس أي شيء آخر.

كما كان لأفكار فريدريك نيتشه في الإرادة البشرية أثر هائل على المفكرين الروس. وغالبًا ما نظر المستغربون إلى عقل الغرب البرجوازي على أنه عائق يقف في وجه الفعل، أو في وجه الفعل المهم على الأقل. وهاملت هو رمز ذلك. وقد حول المترجمون الروس سؤال هاملت «أن تكون أو لا تكون» إلى «أن تعيش أو لا تعيش». فهاملت الذي يطيل التأمل، والذي يشله قدر كبير من العذاب الفكري، يفتقر إلى الحيوية التي تتأتى من الحياة العفوية. والمتغربن الروسي منخلع الجذور هو من هذا النمط، بالنسبة للمولع بالسلافية. فوجهة النظر التي ترى أن الفعل البشري ينبغي أن يهتدي بالمنطق هي وجهة نظر خاطئة، بحسب هذا التصور، وينبغي أن تُحل محلَّها التلقائية، أي الفكرة التي مفادها أن الفعل ينبغي أن يكون مدفوعًا بالإرادة البحتة. فالإرادة متفوقة على المنطق، لأن هذا الأخير، كما يرى التلقائيون، لا يوفر للفعل أسبابًا وجيهة بل مجرد تبريرات زائفة لئلَّا نفعل شيئًا.

وبالطبع، فإن الشغف بالإرادة البحتة كان تيمة كبرى لدى الفاشية والنازية أيضًا. ولطالما اتُّهم الغرب الليبرالي بأنه مشلول بالتفكير المنطقي الهياب. أما القدرة على اتخاذ القرارات الكبرى فقد عُبدَت بحد ذاتها بصرف النظر عن محتواها. وكان هذا أساس اﻟ Fuhrerprinzip النازي. قائد واحد ذو سلطة مطلقة يكسبها من خلال قدرته على تقرير مصير أمة. وما تعنيه فكرة التقرير هذه في اللاهوت السياسي لاثنين من المفكرين البارزين المناصرين للنازية هما مارتن هيدغر وكارل شميت، هو أن يلعب الفرد دور الله في السياسة. فالزعيم مثل الإله في سفر التكوين: «وقال الله: «ليكن نور.» فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن.» أما الغرب بعقله الحسابي، من جهة أخرى، فواقعٌ في إسار لعبة تشله حيث لا يني يزن منافع كل فعل وأضراره. ولأن الليبراليين يخشون أن تفوتهم أي بينة، فإن المطاف ينتهي بهم إلى نوع من الرعدة والارتعاش. واقتصارهم على تصديق ما يتناسب مع البينات هو عدو التصرف على نحو حاسم ومقرِّر انطلاقًا من الإيمان.
ويُعد كونستانتين ليونتييف (١٨٣١–١٨٩١م) «نيتشه الروسي». ولو بحثنا عن نمط بدئي للمستغربين الروس.، فسوف نجد في ليونتييف هذا النمط. فقد وُلِد لعائلة من الملاك الكبار، وخدم كجرَّاح عسكري في حرب القرم (١٨٥٣–١٨٥٦م)، ومرَّ بأزمة روحية، وغدا راهبًا قبل فترة وجيزة من وفاته. وعلى الرغم من ميوله الرهبانية، فإن ليونتييف اتخذ في «أشعار الحرب» التي كتبها موقفًا بطوليًّا ضد نزوع البرجوازي المادي الكاره للثقافة. كما رفض التكنولوجيا الحديثة أيضًا ذلك الرفض الحاد والعنيف. وفي كتابه روسيا وأوروبا، الذي ترك أثرًا كبيرًا في زمنه، قدم ليونتييف نموذجًا عضويًّا للتطور التاريخي، عبر عنه من خلال النماء والانحلال الثقافيين: حيث البساطة الجنينية في البداية، ثم التعقيد المزدهر، وأخيرًا الانحلال والموت.

ومن وجهة نظر ليونتييف، كان الغرب، بنزعته المساواتية الليبرالية، في آخر مراحل انحلاله. أما روسيا، كثقافة فتية فيمكنها أن تُبقِي على ما تنعم به من حالة ازدهار بتجميد مؤسساتها، وأن تحفظ حيويتها عبر قوة الإرادة المحضة التي يتمتع بها القيصر. ويمضي استغراب ليونتييف في اتجاهات كثيرة، لكن الواضح هو أن النزاع بين روسيا والغرب يدور حول الشخصية أو الطبع. وسوف يُعقَد النصر للطرف الذي يتسم بالإرادة الأقوى. وفرصة روسيا هنا أفضل من فرصة الغرب، غير أن النزعة المساواتية الليبرالية الغربية تقعدها. ففي النهاية، حتى أصحاب السلافية كانت تعوزهم الإرادة لمقاومة الإصلاحات السياسية التي شهدتها ستينيات القرن التاسع عشر، تلك الإصلاحات التي عادت على الأقنان بمزيد من الحرية.

غير أن التهمة الأساسية التي وجهها إيفان كيريفسكي وسواه إلى العقل الغربي تبقى عقلانيته المفرطة. فلقد صور كيريفسكي العقل البشري كجامعة، فيها الكثير من الكليات، ولا يشكل المنطق سوى واحدة منها. فكليات الانفعال، والذاكرة، والإدراك، واللغة، وهلمَّ جرًّا تحظى بالقدر ذاته من الأهمية على الأقل. أما عقل الغرب، كما رآه كيريفسكي فأشبه بجامعة بكلية واحدة، كلية المنطق.

والعقلانية هي الإيمان بأن المنطق، والمنطق وحده، يمكنه أن يفهم العالم. وهذا مقرون إلى فكرة أن العلم هو المصدر الوحيد لفهم الظواهر الطبيعية. أما مصادر المعرفة الأخرى، خاصة الدين، فيهملها العقلانيون بوصفها ضروبًا من الخرافة. ومن ثم فإن هنالك عقلانية سياسية، تزعم أن المجتمع يمكن أن يُدار — وجميع المشكلات البشرية يمكن أن تُحل — من خلال مخطط عقلاني، يستهدي بمبادئ عامة وشاملة. ولقد رأى المستغربون أن الغرب المتغطرس متهم بخطيئة العقلانية، وأنه متعجرف بما يكفي لأن يعتقد أن المنطق هو الكلية التي تمكن البشر من معرفة كل ما ينبغي معرفته.

ويمكن النظر إلى الاستغراب على أنه تعبير عن استياء مرير من إبداء الغرب ذلك التفوق المهين، القائم على التفوق المزعوم الذي يحظى به المنطق. ولعل إمبريالية العقل المفروضة من خلال نشر الإيمان الغربي بالنزعة العلمية، أي الإيمان بأن العلم هو السبيل الوحيد لنيل المعرفة، لعل إمبريالية العقل هذه أن تكون أشد إزعاجًا وتنغيصًا من الإمبريالية العسكرية.

ولم تفعل حقيقة أن الإصلاحيين الجذريين في العالم غير الغربي قد تبنوا النزعة العلمية ذلك التبنِّي الحماسي إلا على زيادة حدة العداء لدى المحليين. ذلك أن العدو المباشر للمستغربين، كما رأينا في مثال الإسلامويين الثوريين، ليس الغرب ذاته على الدوام بقدر ما هو أولئك التغريبيون الموجودون في مجتمعاتهم. ولقد طالب التحديثيون الصينيون بالإصلاحات في أوائل القرن العشرين باسم السيد علم والسيد ديمقراطية. وكان كثير منهم من محطمي الأوثان الذين رأوا في التغريب الكلي حلًّا وحيدًا للصين. أما خصومهم الفكريين فغالبًا ما أثاروا الروح الصينية كترياق يواجه هذا المذهب.
وفي روسيا، كان العدميون من بين المؤمنين بالعلم. ورأى فيهم المستغربون حَمَلة أيديولوجية خبيثة مستوردة من الغرب. ولعل أفضل من يعبر عن مزاج الحركة العدمية هو ديمتري بيساريف، الذي قال، قبل أن يموت غرقًا وهو في الثامنة والعشرين من عمره، إن «ما يمكن أن يُطرَح أرضًا، ينبغي أن يُطرَح أرضًا بلا هوادة؛ فما يصمد، يصلح للبقاء؛ أما ما يتناثر شظايا، فيصلح للقمامة. شُقَّ طريقك عنيفًا قويًّا، فلا ضرر ولا ضرار.»٤ والعدمية، في حقيقتها، هي مزاج بقدر ما هي عقيدة، لكن هدفها الأساسي هو تدمير كل ما لا يمكن أن يقوم على أساس من العلم والتفكير العقلاني، سواء كان علم الجمال، أو الأخلاق التقليدية، أو الدين، أو السلطة بجميع أشكالها، من كنيسة أو أسرة أو دولة.
ولقد جرى استخدام كلمة «العدمية» في روسيا منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، لكنها لم تَغدُ ذلك المصطلح الشائع إلا بعد رواية تورغنيف الآباء والبنون. التي كان بطلها، بازاروف، مثالًا للعدمية. وهو ليس نفعيًّا متطرفًا وحسب، لا يؤمن سوى بتعظيم ما هو مفيد، بل مؤمن متزمت بالنزعة العلمية أيضًا. ومع أنه شخص طيب القلب، إلا أن تصرفاته فجَّة مثل ماديته. وهو يرفض علم الجمال بوصفه عديم القيمة، إلا أنه يثق أشد الثقة بعقل الفرد. وبازاروف هو نوع من الروسي الذي كان يروق لتورغنيف أن يُطلق عليه اسم «البطل الزائد عن الحاجة»، ليس وجوديًّا بل اجتماعيًّا، فهو مثقف عاجز عن التأثير في الحياة من حوله. غير أن بازاروف هو على وجه الدقة ما كان يمكن للمستغربين — الذين كان تورغنيف واحدًا من خصومهم المفوَّهين — أن يروا فيه نتاجًا نمطيًّا للعقل الغربي. ذلك أن فيه كل ما يمقتونه وتعافه نفوسهم.
وبازاروف شخصية روائية. أما نيكولاي تشيرنيشيفسكي (١٨٢٨–١٨٨٩م)، شهيد العدمية، فليس كذلك. كان تشيرنيشيفسكي ابنًا لأحد القساوسة الذين تلقوا تعليمًا رفيعًا، وكان النظام القيصري يرى فيه منذ البداية نوعًا من التهديد والخطر. وباعتراض رسالةٍ أرسلها إليه ألكسندر هيرزن من لندن، وجد عملاء الحكومة «الدليل» على المؤامرة التي كانوا يفتشون عنها. ونُفيَ تشيرنيشيفسكي إلى سيبيريا وحُكِم عليه بالأشغال الشاقة أربع عشرة سنة. وقد كتب روايته المؤثرة والشهيرة ما العمل؟ في السجن بينما كان ينتظر محاكمته. وهي رواية تصور الشخصيتين الرئيستين، لوبوخوف وفيرا بافلوفنا، كنسلٍ جديد من الأناويين العقلانيين الذين سيبعثون الحياة في روسيا السقيمة.
ولقد قدم تشيرنيشيفسكيفي في عمله الفلسفي الأساسي، الأساس الأنثروبولوجي للفلسفة(١٨٦٠م)، ما غدا الآن موضوعة مألوفة، مفادها أن العلم هو مفتاح المعرفة البشرية الوحيد، وأن ما من شيء من حيث المبدأ إلا ويمكن للعلم أن يفهمه. «إنَّ اتحاد العلم الدقيق برئاسة الرياضيات — أي الحساب، والوزن، والقياس — ينتشر سنةً بعد سنة إلى ميادين جديدة من المعرفة، ويتنامى بضمه الوافدين الجدد.»٥
ويضع تشيرنيشيفسكي العلوم الأخلاقية — أي العلوم الاجتماعية وعلم النفس — بين الحقول الجديدة الواقعة في كنف العلم وتحت رعايته. فالعلم، عنده، هو السبيل الوحيد لاكتشاف الطبيعة البشرية، شأنها شأن طبيعة الحموضة. وما إن نكتشف أي القوانين الطبيعية هي التي تنطبق على البشر، حتى تفتح العلوم الاجتماعية الباب أمام تنظيم المجتمع تنظيمًا عقلانيًّا بهدف تحقيق السعادة. يقول تشيرنيشيفسكي: «يبين الفحص الدقيق للدوافع التي تقف وراء أفعال البشر أن كل عمل، سواء كان صالحًا أم طالحًا، رفيعًا أم دنيئًا، بطوليًّا أم جبانًا، إنما يدفعه سبب واحد: هو تصرف الإنسان بالطريقة التي تضمن له أكبر قَدر من اللذة.»٦
ويُعد المعرض الكبير للأعمال الصناعية من جميع الأمم، الذي أقيم في لندن عام ١٨٥١م، واحدًا من أعظم احتفاءات القرن التاسع عشر بالعلم والتقدم. فسرعان ما اعتُبِر قصر البللور العجيب، ذلك المستودع الضخم المكون من الحديد والزجاج والذي صممه المزارع السابق جوزيف باكستون خِصِّيصَى للمعرض، رمزًا للعقل العلمي والتقدمي.
وما يحتج عليه رجل العالم السفلي عند دوستويفسكي هو قصر البللور هذا. فهو مقتنع أن الغرب ملتزم بالنزعة العلمية، أي بالإيمان بأن من الممكن هندسة المجتمع مثل قصر البللور. وعنده أن النزعة العلمية والمذهب النفعي المستورَدين يشكلان أيديولوجيا خادعة ومضللة خطيرة. فحين يتعلق الأمر بالطبيعة البشرية، ليس ثمة قوانين طبيعية، كما يقول. ولو كانت هناك مثل هذه القوانين، لواظب البشر على تأكيد حريتهم بالعيش تبعًا لنزواتهم المؤذية وليس تبعًا لأي فكرة عن السعادة المنظمة.
ويتساءل دوستويفسكي: «ما الذي نفعله بملايين الوقائع التي تشهد أن البشر، على الرغم من فهمهم الكامل والواعي لمصالحهم الفعلية، يتركونها وراءهم ويندفعون قُدُمًا في سبيلٍ آخر يواجهون فيه المهالك والأخطار، دون أن يدفعهم إلى ذلك أحدٌ أو شيء، سوى مقتهم للدروب المطروقة ورغبتهم العنيدة في أن يشقوا طريقًا آخَر صعبًا ومُحالًا، يتلمَّسونه فيما يشبه العتمة؟»٧
ولعلنا نشاطر دوستويفسكي نظرته إلى السلوك البشري، لكن نظرته إلى الغرب بوصفه قصر بللور ضخم، لا تدفعه سوى العقلانية القاحلة، هي نوع من التشوُّه الاستغرابي الذي ينزع إنسانية الإنسان. ولعل دوستويفسكي كان سيضع بين «ملايين الوقائع» مثال المفجِّرين الانتحاريين في هذه الأيام، الذين يقفون في وجه الحساب النفعي للسلوك البشري. غير أنه يرى أن أولئك الذين يعيشون في قصر البللور البرجوازي لا يمكن أن يفهموا الإرادة والاستعداد اللذين يقفان وراء مثل هذه التضحية. وهذا ما يوافق عليه كل الموافقة المستغرب المتعصب في أيامنا.
١  أشعيا برلين، خشب الإنسانية الملتوي: فصول في تاريخ الأفكار، تحرير هنري هاردي (برينستون، مطبوعات جامعة برينستون، ١٩٩٧م)، ص٢٤٦.
٢  مُقتبَس من مذكرات إ. إ. نيبلويف في كتاب ليا غرينفيلد القومية: خمسة دروب إلى الحداثة (كيمبرج، ماس، مطبوعات جامعة هارفرد، ١٩٩٢م)، ص٢٢٥.
٣  السوبورنوست كلمة روسية تعني الاتحاد المسيحي الحر، وقد اقترح فؤاد كامل ترجمتها ﺑ «الإجماعية» لأنها تعني إجماع المسيحيين على فكرة واحدة، أو الاكتفاء بكتابتها كما هي. انظر: نيقولاي لوسكي، تاريخ الفلسفة الروسية، ترجمة فؤاد كامل، مراجعة الدكتور زكي نجيب محمود، دار المعارف، القاهرة، ١٩٨٤م. (المترجم)
٤  أورده توماس مازاريك في كتابه روح روسيا (لندن، جورج آلن وأنْوِن، ١٩٥٥م)، ٢: ٢٥٥.
٥  أورده جيمس م. إدي، وجيمس ب. سكانلين، وماري باربرا زيلدن في الكتاب الذي قاموا بتحريره بالتعاون مع جورج ل. كلاين، بعنوان الفلسفة الروسية (شيكاغو، كوادرانغل، ١٩٦٥م)، ٢: ٣٢-٣٣.
٦  المصدر السابق، ٣: ٥٢.
٧  فيودور دوستوفيسكي، رسائل من العالم السفلي، في كتاب الوجودية: من دوستوفيسكي إلى سارتر، حرره وقدم له والتر كوفمان (كليفلاند ونيويورك، ميريديان/ ورلد، ١٩٥٦م)، ص٦٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤