عقل الغرب
الهجوم على الغرب هو من بين أشياء هجوم على عقل الغرب، وغالبًا ما يُصوِّر المستغربون عقل الغرب على أنه ضَربٌ من البلاهة الشديدة. فأن تحمل عقل الغرب أشبه بأن تكون علامةً أبله، مختلًّا عقليًّا إنما مع موهبة في إجراء العمليات الحسابية. فهو عقل بلا روح، فاعل، مثل آلة حاسبة، غير أنه لا يجدي نفعًا في القيام بما هو مهم من الناحية الإنسانية. ولا شك أن عقل الغرب قادر على إحراز نجاح اقتصادي عظيم، وعلى تطوير تكنولوجيا متقدمة والارتقاء بها، لكنه عاجز عن التقاط أشياء الحياة السامية، لأنه مفتقر إلى ما هو روحي ويعوزه فهم المعاناة الإنسانية.
وتعود بذرة هذا التمييز إلى ماض بعيد. فأفلوطين (٢٠٤–٢٠٧م)، مؤسِّس الأفلاطونية الجديدة المبجَّل في العالم اليوناني-الروماني، كان يميز بين الفكر الاستدلالي والفكر الحدسي. فكان يستخدم مصطلح «التفكير الاستدلالي» لكي يشير إلى تفكير الروح، و«التفكير الحدسي» لكي يشير إلى العقل. فالإيمان بالله، على سبيل المثال، يمكن أن يعني أن المرء يقبل الافتراض الذي مفاده أن الله موجود. كما يمكن للمرء أن يجل الله دون أن يقول عنه أي شيء. وهذان النمطان من التفكير يصدران عن جهازين ذهنيين منفصلين، إذا جاز التعبير: العقل والروح. (ونحن ننزع الآن إلى عكس هذين المصطلحين، الروح للتفكير الحدسي والعقل للتفكير الاستدلالي). والإفراط في الإلحاح على العقل يحد من دور الفكر الحدسي الذي لا يقوم على الاستدلال. وإنها لفكرة رومانتيكية تلك التي ترى أن الفكر الحدسي يتفوق على التفكير المتروي والاستدلالي. وغالبًا ما ينسخ الاستغراب هذه المقولات. ويتهم العقل الغربي ليس بالعجز عن التفكير الحدسي وحسب، بل أسوأ من ذلك، بالغطرسة والصفاقة التي تدفعه إلى إنكار وجود هذا التفكير.
وما يقف على الضد من العقل الغربي هو الروح الروسية، ذلك الكيان الأسطوري الذي أقامه المفكرون في مجرى القرن التاسع عشر. فعلاقة الحب هذه التي أقامها الروس مع روحهم هي صورة مُثلى لتلك اللوحة الكريهة التي رسمها المستغربون للعقل الغربي. غير أن هنالك سببًا آخر لتركيز اهتمامنا على هذا الأمر. فالمفكرون الروس المحليون في القرن التاسع عشر، والذين أُطلِق عليهم بصورة سائبة ومبهمة بعض الشيء اسم أصحاب النزعة السلافية، كانوا قد قدموا نموذجًا للهجمات الروحية القومية أو الإثنية على العقلانية الغربية سارت على هَديِه أجيالٌ من المثقفين في بلدان أخرى، مثل الهند، والصين، والأمم الإسلامية. غير أنه، على الرغم من إلحاح أصحاب النزعة السلافية على الخصائص الفريدة التي تميز الروح الروسية، كانوا ينسجون هم أيضًا على منوال معين. فالولع الروسي بالسلافية كان يضرب بجذوره في الرومانتيكية الألمانية، شأنه شأن الليبرالية الروسية التي سارت على غرار الأفكار الليبرالية الألمانية.
فالحي الغربي في موسكو كان يعني لبطرس الأكبر الحي الألماني. أما في ألمانيا، وخاصةً بروسيا، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فكان يُنظَر إلى فرنسا على أنها خلاصة الغرب وجوهره، بما تتميز به من قوة، وإلهام، وتهديد. وثمة قَدْر كبير من الحقيقة فيما يراه إشعيا برلين من أن الحركة الرومانتيكية الألمانية وقوميتها الرومانتيكية كانتا «نتاج حساسية قومية مجروحة. وإذلال قومي مريع».
وحين لا يقتصر أمر البشر على الإذلال من قبل قوى أجنبية بل يتعداه إلى اضطهادهم من قبل حكومتهم، غالبًا ما ينسحبون نحو «حياة الروح الداخلية»، النقية والبسيطة، حيث يمكن أن يشعروا بالتحرر من فساد السلطة والتعقيد. كما يغدو كل من الفلسفة والأدب بديلًا سياسيًّا حين لا يعود ثمة مجال للجدال السياسي. وهذا ما يصح على ألمانيا القرن التاسع عشر، وكذلك على روسيا، حيث طُعِّم الجذع الروسي بنصوص ألمانية بَدَت مثل أطراف اصطناعية زائفة. ولقد زادت الرقابة الشديدة من أهمية الأفكار وخلقت انطباعًا بأن هذه الأفكار، تحظى بأهمية بالغة، حتى ولو كانت من النوع الباطني الذي يقتصر فهمه على الخاصة. أما ما كان المفكرون الروس يستشعرونه، في ظل حكم القياصرة، من عجزٍ عن ترجمة الأفكار إلى أفعال وامتحانها بذلك على أرض الواقع، فقد دفع كثيرًا من هؤلاء المفكرين صَوب نزعة صفائية قويمة. فشاعت وجهات نظر متطرِّفة ومتزمِّتة بأن المفكرين والكتَّاب قد تحولوا إلى أنبياء. وقد صدر كثير من وجهات النظر هذه عن الرومانتيكية الألمانية، خاصة الرومانتيكية الرفيعة الباكرة، بين العام ١٧٩٧م والعام ١٨١٥م. أما في روسيا فقد تم بَتْر وجهات النظر هذه وتحويلها إلى ضرب من الاستغراب.
والسببان الأساسيان لهذا التشظِّي. بحسب هذا الخط من التفكير، هما تقسيم العمل والأسواق التنافسية. ومع أنه من المقدر لخطة الخلاص أن تلبي التوق إلى الوحدة والانسجام، إلا أن الرومانتيكي ليس متفائلًا. فما من ضمانة أنه سيتمكَّن يومًا من التغلب على الاغتراب، ومن هنا ذلك التوق الدائم الذي ينتاب الرومانتيكي غير البرجوازي إلى الوحدة الضائعة. لكن ذلك يبقى محمولًا لأن السعي هو الذي يحظى بالأهمية كلها بالنسبة للرومانتيكي، سواء تم بلوغ الغاية أم لم يتم. ولأن البراءة تأتي قبل السقوط، في المخطط الرومانتيكي، تنزع السياسة الرومانتيكية لأن تفرط في الحنين أو النوستالجيا. فالماضي، سواء كان أوروبا القروسطية، أو المسيحية الباكرة، أو عنفوان الرهبانية الروسية، أو اليابان القديمة، يعمل كنموذج تنسج عليه عملية استعادة الانسجام القديم، «الوحدة» القديمة. ولقد حظي هذا التوق، وما فرَّخه من مواقف، بنفوذ هائل. فمعجم المستغرِب للكلمات الحسنة والرديئة هو في جوهره معجم الرومانتيكي ذاته. وحين يتعلق الأمر بالعقل، فإن كلمة «عضوي» هي كلمة حَسَنة أما كلمة «ميكانيكي» فكلمة رديئة. ذلك أن العقل العضوي يمكِّن الفرد من التوحد مع نفسه، ومع الآخرين، ومع الطبيعة أو الله.
ومن القناعات الرومانتيكية الشائعة أن العقلانية المفرطة هي التي تقف وراء الانحلال النهائي لما كان يتميز به الغرب ذات مرة من عضوية حيوية. وبذلك بات الذكاء العقلاني مرضًا غربيًّا: ذكاء دون حكمة. ولقد تميزت المساهمة الروسية عمومًا بجدية أخلاقية رفيعة، من ذات النوع الذي نجده في روايات دوستويفسكي. لكن دوستويفسكي أضاف انعطافةً مهمة: حيث رأى أن الفلاح الأشد فقرًا أفضل من المثقف الأشد دراية. ذلك أن الفلاح الذي يخشى الله يعرف على الأقل من ينبغي أن يتوجه إليه في طلب الغفران.
وبحسب رؤية العالم التي يحملها أصحاب النزعة السلافية، والتي يمثل لها دوستويفسكي، علينا ألا نحاول حل المشكلات من خلال العقل البشري، بل من خلال التماس الخلاص. فليس بمقدورنا أن نلتقط حس الحياة المأساوي من خلال العقل، بل من خلال حكمة القلب وحدها. وكما قال باسكال: «للقلب أسبابه التي لا يعلمها العقل». وأسباب القلب تمليها معاناة المرء، ورؤيته الآخرين يعانون، أما العقل الغربي فينكر الدور الثقيفي العظيم الذي تلعبه المعاناة، ولذلك لا يكف عن السعي خلف السعادة. ومذهب المتعة هذا، إلى جانب الاتكال المفرط على العقل، هما اللذان ينأيان بالغرب عمَّا يحتاجه أشد الاحتياج، ألا وهو السبيل إلى الخلاص.
أما الفلاح الروسي فيُفترَض أنه التقط هذا السبيل بغريزته. يقول تولستوي: «أعتقد أن الشعب الروسي، الأقل تحضُّرًا من سواه — أي الأقل فسادًا من الناحية الفكرية والذي لا يزال لديه تصوُّر ضعيف عن جوهر التعاليم المسيحية — ذلك الشعب الروسي، خاصة المزارعين، سوف يفهم على الأقل أين تكمن وسائل الخلاص وسوف يكون أول مَن يبدأ باستخدامها.»
ومن أهم الأحداث في التاريخ الروسي كان تحول مملكة كييف إلى المسيحية في عهد فلاديمير. ففي عام ٩٨٨م رفض فلاديمير أن يتبنى الكاثوليكية الرومانية، واعتنق المذهب الأرثوذكسي اليوناني من بين المذاهب المسيحية. وهذا ما وضع روسيا بقوة في الطرف الشرقي من العالم المسيحي. وحين انتقل مركز الحياة الروسية من كييف إلى موسكو، وغدت مملكة موسكوفي المركز القائد للأمارات الروسية في القرن الرابع عشر، انتقل رأس الكنيسة الأرثوذكسي إلى موسكو أيضًا. وغدت موسكو، نتيجة لذلك، مركز روسيا الروحي، وليس موقع السلطة فيها وحسب. وفي عام ١٤٣٩م، دعت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، في مجمع فلورانسا، إلى توحيد جميع الكنائس الشرقية في ظل السلطة البابوية. واعتبرت موسكو ذلك فعلًا مخاتلًا وغادرًا، وغدت الكنيسة الروسية كنيسة وطنية إلى حد بعيد، كُتِب لها أن تحمل رسالة المسيحية الأصيلة، وغدت روسيا «روسيا المقدسة»، وموسكو «روما الثالثة». ولقد عمل فتح العثمانيين للقسطنطينية عام ١٤٥٣م على تعزيز هذه النظرة المسيانية الخلاصية، التي كانت ترى أن روسيا هي الوريث الشرعي للعقيدة المسيحية الحقة.
وكانت مملكة موسكوفي من نواحي عديدة حضارة دينية أكثر منها نظامًا سياسيًّا. وكان ثمة قدرٌ كبير من التماثل في نظرة الروس العامة إلى هذه الحضارة، كما نزعوا إلى اعتبار الغرب كتلة واحدة على نحوٍ يشبه طريقتهم في النظر إلى أنفسهم، ولذلك كانوا يحطون من قدر ذلك التنوع في الفكر الديني القائم في الغرب. وعلى سبيل المثال، فإن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لم تكن تفسح ذلك المتسع الكبير للاهوت. وكان الروس أشد اهتمامًا بالشعائر، والطقوس، والحياة الرهبانية. وتركَ التقى البسيط من الأثر على مقاربتهم للدين أكثر مما ترك اللاهوت، وجعلها مقاربة مختلفة عن مقاربة الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية ومقاربة الكاثوليكية الغربية.
كانت طبيعة الألوهية مثار النزاع الأساسي في الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية. وكان اللاهوت يُؤخذ بكثير من الجد في الكاثوليكية الرومانية أيضًا. ولقد تأتَّت انقساماتها المختلفة عن جدالات لاهوتية بشأن طبيعة الإنسان. ولا شك أنه كان هنالك على الدوام أشياء أخرى تفعل فعلها في كل انقسام إلى جانب القضايا الدينية المعلنة. غير أنه من الخطأ الفادح أن ننكر وجود المؤمنين الحقيقيين، بل والمؤمنين المستعدين للقتال والموت من أجل عقائدهم.
وثمة عنصران على الأقل في الثقافة الدينية الروسية يستبقان الاستغراب ويتقدمان عليه. فالإلحاح على المسائل الفكرية في الكنيسة الكاثوليكية كان، بالنسبة للمؤمنين الروس، علامة أكيدة على افتقار هذه الكنيسة إلى الإيمان البسيط النابع من قلب نقي. أما العنصر الآخر، الذي شكل واحدًا من جذور الانقسام في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، فكان ذلك التشكك العميق والاشتباه بأي تجديد. فالجدَّة، بالنسبة لهؤلاء المؤمنين، هي على الدوام شيء يأتي من الخارج. فكان يُحكَم عليه بأنه غير أصيل ومُذِل، يشير إلى أن ثمة شيئًا تفتقر إليه الأساليب والطرائق القديمة ذلك الافتقار الجوهري. وهذه الحساسية الدينية تمضي عميقًا جدًّا، فترى إلى الكنيسة لا على أنها مصدر معرفة جديدة، بل بوصفها مستودعًا للذاكرة الجمعية، ذاكرة روسيا كمجتمع مقدس. ولأنَّ الذاكرة والإيمان البسيط، وليس المنطق والسفسطة المستحدثة التي يمكن لهذا العقل أن ينتجها، هما فضيلتا العقل البشري الأساسيتان، كان التصوُّف، الذي يعبر عن نمط رفيع من الوجود، يُقوَّم أعلى بكثير من إعمال العقل المنهجي.
•••
ولقد شهدت روسيا بالطبع تيارات قوية مضادَّة للمحلية الروسية. وأظهر أصحاب النزعة السلافية ردة فعل حيال الجهود التي بذلها التغريبيون لتحديث روسيا. ولكي نفهم هذه الأفعال لا بد أن نبقي في الذهن تلك المراكز الثلاثة التي عرفها تاريخ روسيا. فكل انتقال من مركز إلى آخر كان قرارًا أيديولوجيًّا وليس سياسيًّا وحسب. فالانتقال الأول، من كييف إلى موسكو، كان تحولًا أيديولوجيًّا باتجاه الانعزالية الروسية. وفي بداية القرن الثامن عشر، انتقل هذا المركز مرة أخرى إلى مدينة سان بطرسبورغ المبنية حديثًا، حيث تأسست في العام ١٧٠٣م، وحلت محل موسكو كعاصمة بعد عشر سنوات من هذا التاريخ، مع أن موسكو سوف تعود مرة أخرى لتحتل هذا الموقع. وكان بطرس الأكبر قد بنى بطرسبورغ وهو ينوي صراحةً أن يجعل منها «نافذة على أوروبا». ولم يكن واضحًا تمامًا ما إذا كان ذلك يعني أن تكون هذه النافذة نافذة مفتوحة يمكن عبرها تنسم الأفكار الجديدة القادمة من الغرب، أو نافذة للعرض يمكن لأوروبا أن ترى من خلالها وجه روسيا الجديد. وعلى أية حال، فإن روسيا القيصر بطرس الجديدة كانت تنظر إلى الغرب، وكانت علمانية، بخلاف أيديولوجيا موسكوفي التي كانت تبدي رهاب الأجانب. وإصلاحات بطرس التي جرت من الأعلى لم تكن إصلاحات روحية أو فنية على وجه التحديد. فمنذ فتوته في الحي الألماني من موسكو، كان بطرس ينظر إلى الغرب على أنه متفوق في التكنولوجيا، والتنظيم، والنظافة. وهذه الفضائل هي التي أراد بطرس أن يستوردها إلى روسيا.
أما كاترين العظيمة، التي حكمت بين ١٧٦٢ و١٧٩٦م، فقد ولدت في ألمانيا وكانت لديها فكرة عن الغرب أشد إحكامًا. وأرادت لروسيا أن تستورد الثقافة، وليس الحضارة المادية وحسب. وقد عنى ذلك استيراد الكتب فضلًا عن الحرفيين الألمان أصحاب الخبرة في بناء السفن والمدافع. ولقد عملت كاترين الكثير لكي توجِد طبقةً مثقفة انبثقت منها الإنتلجنسيا الروسية. لكنها انقلبت ضد ما أوجدته حين كشفت الثورة الفرنسية أن الكلمات يمكن أن تكون خطيرة، والإنتلجنسيا تعتاش على الكلمات. بل إن الرعب من التلوث الفكري بلغ بابنها الغبي بول (١٧٩٦–١٨٠١م) حد أنه منع استيراد الكتب وحال بين الروس والسفر إلى الخارج.
وفي عهد نيكولا الأول (١٨٢٥–١٨٥٥م)، دار الجدال بشأن روسيا والغرب حول مسألة الهوية الروسية: ما هي هذه الهوية، أو ما الذي ينبغي أن تكون عليه. وفي المعارك التي دارت رحاها بين أصحاب النزعة السلافية والتغريبيين، تحول الاستغراب من منعكس ثقافي إلى أيديولوجيا تامة النضج. وكان مصطلح الولع بالسلافية، مثل كثير من اللصاقات الأيديولوجية الأخرى، مصطلحًا يُساء استخدامه لتُوصَف به النزعة القبلية المتزمتة لدى أولئك الذين يعارضون دعاة التغريب. غير أن التغريب أيضًا كان مصطلحًا يُساء استخدامه من قبل أصحاب النزعة السلافية في وَصْم الخيانة المرتكبة بحق الروح الروسية لمصلحة عقل غربي ميكانيكي، واصطناعي، ومتغطرس فوق ذلك كله.
وكان الأخوان كيريفسكي من أفصح أصحاب النزعة السلافية، بيتر (١٨٠٨–١٨٥٦م) وخاصة إيفان (١٨٠٦–١٨٥٦م)، وكذلك ألكسي خُمياكوف (١٨٠٤–١٨٦٠م)، وكونستانتين أكساكوف (١٨١٧–١٨٦٠م)، ويوري سامرين (١٨١٩–١٨٧٦م)، وهذه الشخصيات باتت الآن منسية إلى حد بعيد، لكنها أوجدت أيديولوجيا هائلة القوة لا يمكن من دونها فهم روسيا القرن التاسع عشر. وكانت الفلسفة، أكثر من الأدب، هي التي ألهمت هؤلاء. ففي ظل نظام نيكولا الأول القمعي، كان يُنظَر إلى الفلسفة على أنها ذلك الفرع الهدَّام أكثر من أي فرع آخر. ولذلك مضت الفلسفة تحت الأرض، إذا جاز التعبير، ومعها كتابات المثاليين والرومانتيكيين الألمان.
ويصعُب اليوم أن نجد سوى قلة تقرأ شيللنج، وأقل منها من يجدونه مقنعًا. ولا نستطيع أن نتصور اليوم أحدًا يجلب تمثالًا نصفيًّا لشيللنج إلى روسيا (أو إلى أي مكان آخر)، لكن ذلك ما فعله إيفان كيريفسكي. ولقد فُخِّم شيللنج وعُبِد في روسيا على نحو يصعب أن نفهمه الآن. وكان المفكرون الجذريون، مثل كروبوتكين الفوضوي القديس، يجلونه بقدر ما كان يجله مفكر رجعي مثل بوغودين (الذي كان يمارس نوعًا من الرجعية بالغة الرداءة). فما الذي وجده هؤلاء لدى شيللنج؟
ولقد استهدف كيريفسكي كلًّا من العقلانية والقدرة على التفكير المنطقي بوصفهما عنصرين خبيثين في العقل الغربي. ومع أن من السهل أن يجري الخلط بين هذين الاثنين، إلا أنهما ليسا الشيء ذاته في حقيقة الأمر. ويرى كيريفسكي أن أرسطو هو المسئول عن وضع عقل الغرب في القالب الحديدي للتفكير المنطقي. لكنه فشل، لحسن الحظ، في أن ينقل هذه الفكرة إلى تلميذه الماجد، ألكسندر الأكبر، الذي كان أكبر على وجه الدقة لأنه كان يسعى إلى المجد، وليس وراء مثال التفكير المنطقي السخيف. فالتفكير المنطقي، كما يقول كيريفسكي، ليس سوى «المكابدة سعيًا وراء الأفضل ضمن دائرة ما هو تافه ومبتذل». والتفكير المنطقي هو فطنة هيابة، ونشدان للتفاهة الشديدة، يقوم على حكمة تقليدية مبتذلة، هي نقيض الحكمة الحقيقية. وخوف المرء من أن يكون أصيلًا لئلَّا يُوصَف بالتطرف، هو أسوأ ما يمكن أن يكون عليه هذا المرء في الغرب الجبان. والتفكير المنطقي هو خلاصة العقل غير البطولي، ولذلك راح يندد به ليس أصحاب النزعة السلافية الروس مثل كيريفسكي وحسب، بل حشد من المفكرين المناهضين لليبرالية، وكثير منهم كانوا ألمانًا، ممَّن يحتقرون التاجر ويعبدون البطل كما سبق أن رأينا.
وقد يحسب كثير منا أن القدرة على التفكير المنطقي توحي بالفطنة، والاستقرار، وامتلاك نزر يسير من بُعد النظر. كما توحي بالاستعداد للإصغاء إلى المنطق والتصرف انطلاقًا من أسباب واضحة. وبهذا المعنى فهي تعني ما تعنيه العقلانية تمامًا. لكن كيريفسكي، وسواه من المستغربين الذين أتوا بعده، رأوا إلى الفطنة على أنها خوف أو تهيب، واستقرار يشبه البلادة، وبُعد نظر يشبه السعي إلى عيشة مستورة خالية من الإلهام. وقد وجد كيريفسكي كل ذلك لدى أرسطو، ذلك أن أرسطو أخذ القناعات الشائعة والفهم الشائع على محمل الجد، أما كيريفسكي فقد فسَّر قاعدة أرسطو الذهبية على أنها قاعدة لتجنب الأقاصي والسعي وراء الوسط، الذي ليس سوى اسم آخر للتفاهة. وهكذا حول كيريفسكي أرسطو إلى أول فيلسوف للعقل البرجوازي، الذي هو عقل الغرب ذاته وليس أي شيء آخر.
كما كان لأفكار فريدريك نيتشه في الإرادة البشرية أثر هائل على المفكرين الروس. وغالبًا ما نظر المستغربون إلى عقل الغرب البرجوازي على أنه عائق يقف في وجه الفعل، أو في وجه الفعل المهم على الأقل. وهاملت هو رمز ذلك. وقد حول المترجمون الروس سؤال هاملت «أن تكون أو لا تكون» إلى «أن تعيش أو لا تعيش». فهاملت الذي يطيل التأمل، والذي يشله قدر كبير من العذاب الفكري، يفتقر إلى الحيوية التي تتأتى من الحياة العفوية. والمتغربن الروسي منخلع الجذور هو من هذا النمط، بالنسبة للمولع بالسلافية. فوجهة النظر التي ترى أن الفعل البشري ينبغي أن يهتدي بالمنطق هي وجهة نظر خاطئة، بحسب هذا التصور، وينبغي أن تُحل محلَّها التلقائية، أي الفكرة التي مفادها أن الفعل ينبغي أن يكون مدفوعًا بالإرادة البحتة. فالإرادة متفوقة على المنطق، لأن هذا الأخير، كما يرى التلقائيون، لا يوفر للفعل أسبابًا وجيهة بل مجرد تبريرات زائفة لئلَّا نفعل شيئًا.
ومن وجهة نظر ليونتييف، كان الغرب، بنزعته المساواتية الليبرالية، في آخر مراحل انحلاله. أما روسيا، كثقافة فتية فيمكنها أن تُبقِي على ما تنعم به من حالة ازدهار بتجميد مؤسساتها، وأن تحفظ حيويتها عبر قوة الإرادة المحضة التي يتمتع بها القيصر. ويمضي استغراب ليونتييف في اتجاهات كثيرة، لكن الواضح هو أن النزاع بين روسيا والغرب يدور حول الشخصية أو الطبع. وسوف يُعقَد النصر للطرف الذي يتسم بالإرادة الأقوى. وفرصة روسيا هنا أفضل من فرصة الغرب، غير أن النزعة المساواتية الليبرالية الغربية تقعدها. ففي النهاية، حتى أصحاب السلافية كانت تعوزهم الإرادة لمقاومة الإصلاحات السياسية التي شهدتها ستينيات القرن التاسع عشر، تلك الإصلاحات التي عادت على الأقنان بمزيد من الحرية.
غير أن التهمة الأساسية التي وجهها إيفان كيريفسكي وسواه إلى العقل الغربي تبقى عقلانيته المفرطة. فلقد صور كيريفسكي العقل البشري كجامعة، فيها الكثير من الكليات، ولا يشكل المنطق سوى واحدة منها. فكليات الانفعال، والذاكرة، والإدراك، واللغة، وهلمَّ جرًّا تحظى بالقدر ذاته من الأهمية على الأقل. أما عقل الغرب، كما رآه كيريفسكي فأشبه بجامعة بكلية واحدة، كلية المنطق.
والعقلانية هي الإيمان بأن المنطق، والمنطق وحده، يمكنه أن يفهم العالم. وهذا مقرون إلى فكرة أن العلم هو المصدر الوحيد لفهم الظواهر الطبيعية. أما مصادر المعرفة الأخرى، خاصة الدين، فيهملها العقلانيون بوصفها ضروبًا من الخرافة. ومن ثم فإن هنالك عقلانية سياسية، تزعم أن المجتمع يمكن أن يُدار — وجميع المشكلات البشرية يمكن أن تُحل — من خلال مخطط عقلاني، يستهدي بمبادئ عامة وشاملة. ولقد رأى المستغربون أن الغرب المتغطرس متهم بخطيئة العقلانية، وأنه متعجرف بما يكفي لأن يعتقد أن المنطق هو الكلية التي تمكن البشر من معرفة كل ما ينبغي معرفته.
ويمكن النظر إلى الاستغراب على أنه تعبير عن استياء مرير من إبداء الغرب ذلك التفوق المهين، القائم على التفوق المزعوم الذي يحظى به المنطق. ولعل إمبريالية العقل المفروضة من خلال نشر الإيمان الغربي بالنزعة العلمية، أي الإيمان بأن العلم هو السبيل الوحيد لنيل المعرفة، لعل إمبريالية العقل هذه أن تكون أشد إزعاجًا وتنغيصًا من الإمبريالية العسكرية.