بذور الثورة

لم يكن ثيودور هرتزل، الأب المؤسس للحركة الصهيونية، روائيًّا موهوبًا. غير أن روايته الأرض القديمة الجديدة (Altneuland)، واحدٌ من أبرز الكتب في القرن العشرين. ومع أن هرتزل كان قد أتمها في العام ١٩٠٢م، إلا أنَّ الأفكار الرؤيوية التي تعبر عنها «حكاية الجنيات» هذه، كما دعاها، هي أفكار تنتسب بقوة إلى القرن التاسع عشر. ذلك أنَّ الأرض القديمة الجديدة هي مخطط لدولة يهودية مثلى، ويوطوبيا تكنوقراطية، وحلم اشتراكي يتسم بكل مزايا الرأسمالية، ومشروع استعماري مثالي، ونموذج للعقل الخالص، و«نور للأمم».
ففي حكاية هرتزل، أنَّ أورشليم سوف تتحول في عشرينيات القرن العشرين إلى متروبول حديث تمامًا، «تقطعه خطوط الترام الكهربائية؛ والشوارع الواسعة التي تحفُّ بها الأشجار؛ والبيوت، والحدائق، والجادات، والمتنزهات؛ والمدارس، والمشافي، والمباني الحكومية، ومنتجعات المتعة». وسوف يعيش العرب واليهود معًا في المجتمع الجديد تلك العيشة الهانئة السعيدة، ويعملون في «نقابات تعاونية» ضخمة. وستلتقي أمم الأرض جميعًا في أورشليم في قصر السلام.

بيد أنَّ أورشليم الفعلية، حيث يعيش أحدنا، وحيث عملنا سويةً على هذا الكتاب في خريف العام ٢٠٠٢م، تختلف كثيرًا عنها في رواية هرتزل. فشوارع المدينة المسوَّرة القديمة صامتة؛ والدكاكين مغلقة بألواح خشبية؛ والأدلاء السياحيون الكبار الأجلاء راحوا، بغياب زبائنهم، يتسولون بلطفٍ بعض المال. واليهود المتزمتون وحدهم لا يزالون يجازفون بالنزول إلى الشوارع التي تعود إلى العصور الوسطى. وفي المناطق الغربية الحديثة من المدينة، يقف مسلحون برشاشاتهم على حراسة المقاهي والمطاعم. والفنادق فارغة، وقد هجرها السياح. ولا يسعك أن تعلم قطُّ أين سيقع التفجير التالي: في حافلة، أم في صالةٍ للسينما، أم في صالةٍ للديسكو. والعرب يقومون بأعمالهم الضرورية، يمسحون أرضيات الإسرائيليين، ويبنون بيوت الإسرائيليين، ثم يعودون مسرعين إلى بيوتهم، لأن كلًّا منهم هو، في أعين السكان الخائفين مفجر انتحاري محتمل. وثمة صمت حاد يخيم على الشوارع، يقطعه، بين الفينة والفينة، زعيق سيارات الشرطة وسيارات الإسعاف.

ولا شك أن إسرائيل تتحمل قسطًا من المسؤلية عن هذا الجو المنذر بالخطر. فليس بمقدورك أن تذل الآخرين وتمارس البلطجة عليهم دون أن يؤدي ذلك في النهاية إلى إثارة ردة فعلهم العنيفة. ولقد لقي الفلسطينيون معاملة سيئة من اليهود والعرب على حدٍّ سواء. ومشهد الفلسطينيين اليومي وهم يجثمون في الحر عند نقاط التفتيش الإسرائيلية، حيث ينالهم سوء معاملة الجنود الإسرائيليين، يفسِّر بعضًا من الغل الذي اتسمت به الانتفاضة. غير أنَّ إسرائيل غدت أيضًا ذلك الهدف الرئيس لما يستشعره العرب عمومًا من سخط على الغرب، وغدت رمزًا للشر الاستعماري، اللاأخلاقي، اﻟمعتد بنفسه، والوثني، وسرطانًا في أعين أعدائها لا بد من إزالته بالقتل.

لعله لم يكن بمقدور هرتزل أن يستشرف كل هذا، لكن بذور المأساة ثاوية في نصه، ذلك النص حسن النية، والمثالي على نحوٍ عميق، والمطابق في كثير من النواحي لكل ما يمقته المستغربون أشد المقت. وتقع مهمة السرد في هذا العمل على عاتق ثلاث شخصيات ملائمة لهذا الغرض. مليونير أمريكي مبغض للبشر من أصل بروسي أرستقراطي يُدعى كينغسكورت يدفع لفريدريش لونِبِرْغ، اليهودي الكئيب من فيينا، لكي يرافقه في رحلة إلى جزيرة مدارية. ولونبرغ هذا هو شخص غندور شديد التأنق ومتحرر من الأوهام، على نحو شديد الشبه بهرتزل نفسه. أما الشخصية الثالثة فهي يهودي من أوروبا الشرقية فقير وفاضل يدعى ليتواك. وفي لحظة من الكَرم الناجم عن الشعور بالإثم، يقدم لونبرغ لأسرة ليتواك ما يملكه من مال. وهكذا يكون لدينا كلٌّ من اليهودي الصالح، واليهودي القلق المكروب، والآخر الغني والمنيع الأمريكي من أصلٍ ألماني.

وفي الجزء الأول من الرواية، يقطع كينغسكورت ولونبرغ رحلتهما المتوسطية بزيارة إلى الأراضي المقدسة، «أرض آبائك»، كما يقول كينغسكورت لمرافقه المأجور، فينكمش لونبرغ. وفي الجزء الثاني، يعاودان زيارة الأراضي المقدسة بعد حوالي عشرين عامًا فيعجبان لكل ما تقع عليه أعينهما. أما ليتواك فقد بات الآن واحدًا من الرواد الأشداء الذين يسهمون في بناء المجتمع الجديد. وفي النهاية، في الجزء الخامس، يغدو ليتواك أول رئيس للدولة اليهودية. ويتزوج لونبرغ من شقيقة ليتواك وينتهي ما كان لديه من قلق وكرب. أما كينغسكورت، وقد ملأه الإعجاب ﺑ المجتمع الجديد، فيغدو المُحسِن المُحِب الذي يتبرع لابن ليتواك الصغير.
لا تكمن مأساة حكاية الجنيات المتفائلة هذه في القصة ذاتها، بل في النبرة، وفي ضروب الوصف المتسمة بكثرة الأوهام، والتبريرات الغريبة التي توضع في خدمة مُثُل هرتزل. وإليكم كيف تُوصَف الأراضي المقدسة في الزيارة الأولى، قبل أن يبني اليهود مجتمعهم الجديد: «الأزقة [في يافا] كانت قذرة، مُهمَلة، مفعمة بالروائح الكريهة. وفي كل مكان كان ثمة متلفع بالخرق الشرقية الزاهية». أما المشهد في الطريق إلى أورشليم فكان عبارة عن «لوحةٍ لقَفرٍ خراب». وكان أهالي «القرى العربية الضاربة إلى السواد أشبه باللصوص أو قطاع الطرق. والأطفال العراة يلعبون في الأزقة القذرة».

لكن يافا غدت بعد عشرين عامًا، «مدينة فخمة»، حيث «شكلت سدودها الحجرية الفخمة ذلك الميناء الأشد أمنًا وراحةً في شرق المتوسط». ويشرح ليتواك، الرائد السعيد، هذا الأمر، فيقول: «لم يعرف التاريخ قطُّ مدنًا بُنيَت بمثل هذه السرعة أو هذا الحُسن، لأنه لم يسبق أن توافرت هذه الكثرة من التسهيلات التقنية. فمع نهاية القرن التاسع عشر، كانت البشرية قد حققت درجة رفيعة من المهارة التقنية. ولم يكن علينا سوى أن نزدرع في هذا البلد تلك الاختراعات الموجودة».

ثمة قطعة من أوروبا، إذَن، تم ازدراعها في القفر الخراب الذي كان عليه الشرق الأوسط. ومع كل تلك المهارات التقنية جاء كثيرٌ من الأفكار التي كانت رائجة آنذاك: الإيمان الأعمى بالتقدم الاقتصادي؛ والثقة بالهندسة الاجتماعية التي تقوم بها الدولة؛ والميل الفيتشي إلى محطات توليد الطاقة والسدود الكبيرة. وها هو البحر الميت، حيث «الأنابيب الحديدية الضخمة» البارزة من الصخور، «تنتصب عموديةً على سقائف العنفات، مثل مداخن خيالية هائلة. وهدير الأنابيب والزبد الأبيض على المياه الدفاقة يشهدان على عمل جبار».

ويشعر لونبرغ بأنَّ «هذه العظمة كلها» تربكه، بل تسحقه. أما ليتواك فلا يشعر بذلك: «لم تسحقنا عظمة هذه القوى، بل ارتقت بنا إلى أعلى!»

وأورشليم الجديدة لا تقتصر على كونها مكانًا متقدمًا اجتماعيًّا، ومتطورًا اقتصاديًّا، بل تتعدَّى ذلك إلى أنَّ الدين ذاته قد تحول إلى شيء بلغت علمانيته ذلك الحد الذي كاد عنده أن يكف عن كونه دينًا. فقد بات عيد الفصح اليهودي مناسبة للاحتفال بالمجتمع الجديد. والغناء لعروس السبت يذكر لونبرغ بهنريش هاينه و«الهوية اليهودية» لهذا الشاعر العظيم. وإذ يتأمل لونبرغ في إعادة بناء الهيكل في أورشليم، يخطر في ذهنه حق اليهود في أن يشعروا بالفخار والحرية.
وهذا كله حسن تمامًا، ولكن ما الفائدة التي يجنيها العرب من كل ذلك؟ ماذا عن تقاليدهم، وقناعاتهم، وما يطمحون إليه من الفخار والحرية؟ كي نسكت عن طموحهم إلى «الهوية». فمثل هذه الأسئلة تخطر في الذهن حقًّا. وكينغسكورت، المعجب بمنجزات الصهاينة العظيمة، يسأل عربيًّا يُدعى رشيد بيك ما إذا كان المتطفلون الجدد يثيرون استياء شعبه بتواجدهم على أرضه. فيرد رشيد بيك: «ما هذا السؤال! إنها بَرَكة عظيمة بالنسبة لنا». فالملاك يبيعون أراضيهم بأثمان مرتفعة، و«مَن لا يملك شيئًا ليس لديه ما يخسره، ولا يمكن إلا أن يربح». ولا شيء، كما يقول رشيد بيك، يمكن أن يكون أشد بؤسًا من قرية عربية في أواخر القرن التاسع عشر. «فأكواخ الفلاحين الطينية كانت أقرب إلى الزرائب. والأطفال يُتركون عُراة في الدروب، فيكبرون هناك مثل بهائم عجماء». أما الآن فقد اختلف كل شيء. ذلك أنَّ الجميع «قد انتفعوا من إجراءات المجتمع الجديد التقدمية، سواء أرادوا ذلك أم لم يريدوه، وسواء شاركوا فيه أم لم يشاركوا». فالمستنقعات جُفِّفَت، والأقنية شُقَّت، والأشجار غُرِسَت. وثمة عمل وافر للجميع. وحده التسوُّل بات الآن ممنوعًا بشدَّة.

والحال، أنَّ مثل هذا الحشو والهراء هو الذي كان يملأ المنشورات الصينية أو السوفييتية في ستينيات القرن العشرين، خاصةً فكرة أن من الممكن شراء السعادة البشرية مع العنفات المُزبِدة والحصادات الضخمة، فلا يعود ثمة شيء بعيد عن العقلانية، مثل الصلف الديني أو القومي أو الإثني، يقف في وجه هدير التقدم الحديث الجبار، ولا يمكن لتلك الشعوب «البدائية» إلا أن تغمرها السعادة إذ تأخذ الأعراق المستنيرة بيدها في المسيرة صوب المستقبل المجيد. وهذه أخيلة وأوهام، ترتَّبت عليها نتائج وخيمة. أما حين كتب هرتزل كتابه، فلم تكن سوى أحلام يقظة.

وتبقى الأرض القديمة الجديدة جديرة بالقراءة لما تعلقه من آمال عظيمة على الفكر الغربي منذ التنوير في القرن التاسع عشر. فهذا النوع من الفكر هو الذي جاء بالثورة الصناعية، والديمقراطية الليبرالية، والكشف العلمي، والحقوق المدنية. غير أن أحلام العقلانيين الأوروبيين البروميثيوسية ذاتها، حين أُخذِت إلى نهاياتها المنطقية ونُفِّذت بقسوة، غالبًا على أيدي غير الأوروبيين الذين أرادوا أن يلحقوا بركب التقدم الغربي، كان مآلها مقابر الغولاغ الجماعية وحقول القتل في الصين وكمبوديا. وإذا ما كان الأوربيون قد برروا فتوحاتهم الاستعمارية باسم التقدم والتنوير، فإنَّ الطغاة الآسيويين قتلوا الملايين باسم هذه المبررات ذاتها.

ولقد كانت ردَّات الفعل على الأحلام العقلانية لدى الطغاة الشرقيين والإمبراطوريات الغربية دمويةً على السواء. فالحركة الثورية الإسلاموية التي تتفشى في أرجاء العالم الآن، من كابول إلى جاوة، ما كانت لتوجد لولا علمانية رضا شاه بهلوي الفظَّة أو تجارب اشتراكية الدولة الفاشلة في مصر، وسوريا، والجزائر. وهذا هو السبب في أنه كان من سوء حظ الشرق الأوسط، ومن نواحٍ كثيرةٍ، أن يواجه الغرب الحديث لأول مرة بأصداء الثورة الفرنسية. فروبسبير واليعاقبة كانوا أبطالًا مُلهِمين لدى الجذريين العرب: تقدميين، ودعاة مساواة، ومناوئين للكنيسة المسيحية. أما نماذج التقدم العربي اللاحقة — إيطاليا موسوليني، وألمانيا النازية، والاتحاد السوفييتي — فكانت أشد كارثيةً. غير أنه من الخطأ أن ننظر إلى تقلُّبات القرن العشرين بوصفها نوَّاسًا، يتأرجح من العقلانية الغربية إلى الحمية الدينية الشرقية، ذلك أنَّ هذين الطرفين متشابكين على نحو خطير.

فمعظم الثورات على الإمبريالية الغربية، وعلى فروعها المحلية، استعارت بكثرة من الأفكار الغربية. هذا ما فعله الساموراي، الذين أسسوا الدولة اليابانية الحديثة عام ١٨٦٧م، لكي يردُّوا عن أنفسهم استعمار الغرب. غير أن ذلك الدفاع كان دفاعًا بالتنكر أو التقليد والمحاكاة. كأن مُثُلهم قد أُخِذَت مباشرة من الأرض القديمة الجديدة. فالطغم الحاكمة في عصر ميجي كانوا تلاميذ أوروبا النجباء من نواحٍ كثيرة. وإذْ أحلُّوا المعاطف ذات الذيول والقبَّعات محل الكيمونو، راحوا يحطمون المعابد البوذية ويغيرون بلادهم باسم التقدم، والعلم، والتنوير. أما الفتوحات الإمبراطورية اليابانية فقد بُرِّرَت بالطريقة ذاتها. وكان بناة الإمبراطورية اليابانية، مثل هرتزل، يعتبرون امتنان الشعوب الأدنى مسلَّمة بدهية لا يرقى إليها الشك.

بيد أنَّ الالتفاف مثل حية الأناكوندا داخل تغيير اليابان الحديث كان نوعًا من الثورة المضادة ذات النزعة المحلية، التي سعت إلى حماية نقاء الثقافة القديمة الروحي من حداثة الغرب الخالية من الروح وتابعيها الشرقيين الصاغرين. مع أن هذه الثورة المضادة ذاتها، على الرغم مما تتميز به من رومانس الشنتو والساموراي، تدين بالكثير إلى الأفكار الغربية، وبالأخص إلى تلك الضروب المعادية للرأسمالية من الاشتراكية القومية. وما يزيد من تعقيد اللوحة هو أنَّ الحداثة غربية الطراز والثورة محلية النزعة قد تواجدتا داخل المؤسسة ذاتها، وغالبًا في عقول الأشخاص ذاتهم.

تلك هي المشكلة. فما من مستغرب، بما في ذلك المجاهد الأشد حماسًا، يمكن أن يكون متحررًا من الغرب ذلك التحرر الكامل. والأحجية اليابانية قبل الحرب، أحجية الثورة المختمرة في قلب المؤسسة التي تسعى إلى الإطاحة بها، هي أحجية واضحة في الشرق الأوسط أيضًا. فقد حظيَ الثوريون الإسلاميون بالملاذ، بل وبالتشجيع أحيانًا، لدى أنظمة علمانية في الظاهر، مثل سوريا، ومصر، والعراق في ظل صدام حسين. وما يجعل إرهاب هؤلاء الثوريين فتاكًا لا يقتصر على الكراهية الدينية المستمدة من النصوص القديمة، والتي غالبًا ما تقوم على ضروب من التحريف والتشويه بالمناسبة، بل يتعداه إلى التوليف بين حماسة دينية وأيديولوجيا حديثة، بين تعصب أعمى قديم وتكنولوجيا حديثة.

وغالبًا ما يكون الأتون اللازم لمثل هذا التوليف موجودًا في الغرب ذاته. فلقد جمع بول بوت بين الماركسية الثورية وقومية الخمير بينما كان طالبًا يدرس تكنولوجيا الاتصال اللاسلكي في باريس. والباحث الثوري الإيراني علي شريعتي لم يكن يصغر بول بوت إلا ببضع سنوات، وأمضى هو أيضًا بعض سنوات الدراسة في باريس، حيث ترجم أعمال فرانز فانون وتشي غيفارا. ووجهات نظره في «الإسلام كاشتراكية عملية» هي نوع من الصهر المتعمد لعقائد جامدة علمانية ودينية. وبذلك تحول الإيمان إلى أداة أو حامل للكفاح المسلح. وارتقت الشهادة («الموت الأحمر») إلى أرفع شكل من أشكال الوجود، فلم تعُد هلاكًا، بل غايةً بحد ذاتها. وكان شريعتي قد تحول من الماركسية إلى طبعة صفائيةٍ خالصة من طبعات الإسلام. وراح يستخدم من موقعه الجديد تلك المصطلحات السياسية الخاصة بالحرية والمساواة.

والبعثية، أيديولوجيا النظام السوري والنظام العراقي السابق، هي توليفةٌ صِيَغت في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته، من الفاشية والحنين الرومانتيكي إلى جماعة أو أمة عربية «عضوية».

ولقد طُوِّرَت هذه الأيديولوجيا، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، على أيدي مفكرين مثل ساطع الحصري وميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث في سوريا. وكان الاستعمار الأوروبي هو العدو الأساسي عند دعاة الوحدة العربية الجامعة. لكن الغرب كان يُقارع، كالعادة، بأفكار وُلِدَت في أوروبا، هي الأفكار ذاتها التي ألهمت القوميين الجذريين في اليابان.
فساطع الحصري كان تلميذًا نجيبًا لمفكرين رومانتيكيين ألمان، مثل فيخته وهيردر، واجهوا التنوير الفرنسي بالإعلاء من شأن تصور لأمةٍ شعبية، عضوية، تمدُّ بجذورها في الدم والتراب. أما مَثَله في جمع العالم العربي معًا في أمة عضوية هائلة فقد استلهمه مباشرةً من نظريات الأمة الألمانية التي راجت بين الدوائر الفاشية في فيينا وبرلين في عشرينيات القرن العشرين. وما كان يحلم به هو جماعة عربية، يشد أواصرها الانضباط العسكري والتضحية البطولية الفردية. وبالمناسبة، فإن بعض الصهاينة الأوائل كانوا مُستعبَدين لهذه الأفكار الألمانية ذاتها وبالقدر ذاته. وقد كتب واحد من هؤلاء، هو هانز كوهن، في مذكراته أنَّ اليهود الشباب «كانوا ينقلون تعاليم فيخته» إلى «سياق وضعنا الخاص … وقد تقبلنا سعيه إلى إقامة المجتمع الأمثل بوضع قدرة الفرد الناضج العقلانية والأخلاقية كلها في خدمة أمته.»١
كما استخدم ساطع الحصري فكرة العصبية، أو رابطة الدم «العربية»، التي جاء بها ابن خلدون في القرن الرابع عشر. وكان يهدف بذلك إلى تجاوز «التفكير الغربي المجرد» وتحرير الشعب العربي من الإقطاعية، والاستعمار، والإمبريالية، والصهيونية. ولا يزال هذا، إلى جانب طبعة من الاشتراكية الشمولية، هو الأيديولوجيا الرسمية لدى البعثيين إلى الآن.

أما الإسلاموية فهي فكرة ثورية ملتفة داخل هذه الثورة العلمانية. فلكي يحطم الحكام البعثيون السوريون والعراقيون ضروب التمرد الديني الفعلية أو المحتملة ضد طغيانهم العلماني، ذبحوا مئات من بني جلدتهم العرب، معظمهم من المسلمين الشيعة في العراق. لقد أُهرِق من الدماء المسلمة داخل الأوطان العربية أكثر مما أُهرِق من هذه الدماء في جميع الحروب بين الإسرائيليين والفلسطينيين. غير أنَّ البعثيين لا يترددون أيضًا في تشجيع الإرهاب الديني ضد «الصليبيين» الغربيين و«الصهاينة»، حين يلائمهم ذلك. وكان يروق لصدام حسين أن يصور نفسه على أنه صلاح الدين، منقذ العرب، وهو يعتلي صهوة فرسٍ بيضاء ليمحق الكفار.

والسؤال، إذَن، هو كيف نحمي فكرة الغرب — أي ديمقراطيات العالم الليبرالية — من أعدائها. والغرب، بهذا المعنى، يشتمل على تلك الديمقراطيات الآسيوية الهشَّة، كما هو الحال في إندونيسيا والفيلبين. وليس هذا بالمكان المناسب لمناقشة التكتيكات العسكرية أو الدبلوماسية الدولية. والسؤال هو بماذا نفكر، وكيف ندرك المشكلة. وربما كان الأسهل أن نضع يدنا على ما ينبغي ألا نفكر به.

فعلى الرغم من كلام الأصوليين المسيحيين على حربٍ صليبية، إلا أنَّ الغرب ليس في حالة حرب مع الإسلام. ولعل أعنف المعارك هي تلك التي ستخاض داخل العالم الإسلامي. فذلك هو المكان الذي تجري فيه الثورة، والذي ينبغي أن يتم فيه إيقافها، ويُفضَّل ألا يكون ذلك عن طريق تدخُّل خارجي، بل من قِبَل المسلمين أنفسهم. ولا شك أنَّ ثمة صدامًا عالميَّ النطاق يدور الآن، لكن خطوط الانقسام لا تتطابق مع الحدود القومية، أو الإثنية، أو الدينية. وحرب الأفكار هي من بعض النواحي تلك الحرب ذاتها التي خيضت منذ أجيال عدة ضد طبعات مختلفة من الفاشية واشتراكية الدولة. ولا يعني هذا أنَّ الحرب العسكرية هي ذاتها، أو أنَّ جميع الأفكار متداخلة. ففي أربعينيات القرن العشرين، كانت الحرب بين دول وحسب. أما الآن فهي الآن أيضًا حرب على حركة ثورية سرية يائسة، عالمية النطاق، ومرنة التنظيم.

والفخ الفكري الآخر الذي ينبغي تجنبه هو الشلل الذي يمكن أن ينجم عن الإثم الاستعماري. فلا بد من التكرار: إن التاريخين الأوروبي والأمريكي مصطبغان بالدماء، والإمبريالية الغربية كانت سببًا لكثير من الأذى. لكن وعي ذلك لا يعني أن نرضى بتلك الوحشية التي تُمارس الآن في المستعمرات السابقة. وعلى العكس، ينبغي لذلك أن يزيد من سخطنا. وأن ننحو باللائمة على بربرية الدكتاتوريين غير الغربيين أو الهمجية الانتحارية التي تنطوي عليها الثورات الدينية ضد الإمبريالية الأمريكية، أو الرأسمالية العالمية، أو النزعة التوسعية الإسرائيلية ليس مجرد تفويت للأمر الأساسي؛ بل هو بالضبط شكل استشراقي من التفضل والتواضع، كما لو أن الغربيين وحدهم قد بلغوا من الرشد ما يكفي لتحميلهم المسئولية الأخلاقية عما يفعلونه.

وقد تخطر الفكرة التي مفادها أنَّ الدين المنظَّم هو المشكلة الأساسية بصورة طبيعية في ذهن المثقف الغربي، المتحرر من الأوهام، والمتعلمن حديثًا، لكن ذلك أيضًا بعيد عن الصواب. فبعضٌ من أعتى أعداء الغرب هم من العلمانيين، أو يزعمون أنهم كذلك على الأقل. والدين يُستخدَم في كل مكان لغايات سياسية تستحق الشجب والإدانة، في الهند كما في إسرائيل، والولايات المتحدة، والعربية السعودية. لكن ذلك لا ينبغي أن يحصل. حيث يمكن للدين أن يكون قوةً من أجل الخير. ولعلَّه يوفر، في الشرق الأوسط، ذلك الأمل الوحيد بسبيل سلمي للخروج من الفوضى الحالية.

والنفور من الغرب، أو حتى كرهه، ليس بالقضية الخطيرة بحد ذاته. ويغدو الاستغراب خطيرًا حين يُسخَّر لسلطةٍ سياسية. وحين يكون مصدر السلطة السياسية هو أيضًا مصدر الحقيقة الوحيد، نكون إزاء الدكتاتورية. وحين تكون أيديولوجيا تلك الدكتاتورية هي كراهية الغرب، تغدو الأفكار قاتلةً. وهذه الأفكار غالبًا ما يلهمها الدين. لكن ذلك لا يعني أنَّ كل سلطة دينية ينبغي أن تُحطَّم. فللدين المنظَّم مكانه، المتمثل بتوفيره وحدة الجماعة والمعنى الروحي لمن يسعون وراءهما. ولعلَّه كان من الممكن للدين، في العالم الإسلامي اليوم، أن يوضع في خدمة الكفاح من أجل الحرية السياسية، ربما على هيئة أحزاب سياسية متنافسة. فتجربة بلدان مثل تركيا وإندونيسيا لا تزال حية. ومع أن نجاح ذلك ليس مضمونًا، إلا أنه يصعب أن نرى كيف يمكن لأي درب من الدروب المفضية إلى الحرية أن يمرَّ خلسةً بعيدًا عن المسجد.

وحيث سبق للحرية السياسية، والدينية، والفكرية أن ترسَّخت، من الضروري الدفاع عنها ضد أعدائها، بالقوة إذا لزم الأمر، إنما بالإقناع أيضًا. والحكاية التي حكاها هذا الكتاب ليست حكاية مانوية عن حضارة في حرب مع حضارة أخرى. بل هي، على العكس من ذلك، حكاية تلويث متبادل، وانتشار للأفكار الرديئة. وهو ما يمكن أن يحصل لنا الآن، إذا ما وقعنا ضحية إغراء مقارعة النار بالنار، مقارعة الإسلاموية بما لدينا من أشكال عدم التسامح. والسلطة الدينية، خاصةً في الولايات المتحدة، لها في الأصل تأثيرها الخطير على الحكم السياسي. ولا يمكننا أن نتحمل إغلاق مجتمعاتنا بوصفه نوعًا من الدفاع ضد أولئك الذين أغلقوا مجتمعاتهم. ذلك أننا جميعًا سنغدوا مستغربين عندئذٍ، ولن يبقى ثمة شيء ندافع عنه.

١  هانز كوهن، العيش في ثورة عالمية، أورده عاموس إيلون في كتابه الإسرائيليون (نيويورك، بنغوين، ١٩٩٢م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤