مقدمة
الملف الممنوع من الفتح
في كتابه الصغير «عودة الوعي» طالبَ توفيق الحكيم بفتح ملفات السنوات العشرين الماضية، كان يقصد — أساسًا — ملف التجربة الناصرية.
ودعوة الحكيم مشروعة لأكثر من سبب … فقد اعتمدت غالبية التحليلات لثورة ٢٣ يوليو على الشعارات المطروحة أو على الوقائع المرئية أو على المعرفة المباشرة ببعض الرجال.
وهذا كله ليس كافيًا لتقييم مسيرة عشرين عامًا، وإنما لا بد من التعرف على الكواليس قبل مشاهدة العرض النهائي على خشبة المسرح، لا بد من معاينة المطبخ قبل رؤية الطعام على المائدة.
وفي كتابه «عودة الوعي» لم يفتح الحكيم ملفًّا واحدًا من الملفات الكثيرة التي يحتفظ بها … فالرجل لم يكُن بعيدًا عن الأحداث بالقَدْر الذي يُوهم به نفسه والآخرين. كان قريبًا غاية القُرب في بعض الفترات من غرفة العمليات؛ لذلك جاء اكتفاؤه بالدعوة إلى فتح الملفات غريبًا بعض الشيء، وهكذا شارك — بوعي أو دون وعي — في الحملة الضارية على التجربة التي كان — بلا شك — أحد أركانها على صعيد الفكر والفن. حتى حين كان ينقد النظام لم يكُن خارجه.
أما الذين شنوا الحملة بعد رحيل عبد الناصر، فقد كانوا جميعًا وبغير استثناء من معسكر الثورة المضادة.
وكاد الخيط الرفيع أن يختفي بين ما أراده الحكيم وما يريده يوسف السباعي أو صالح جودت أو أنيس منصور أو موسى صبري … ذلك أن الحكيم في كتابه الصغير ترك الباب مفتوحًا أمامهم جميعًا، لجأ إلى التعميم واختيار التفاصيل الثانوية والوقائع الهامشية.
ولم يفتح الحكيم أخطَر الملفات على الإطلاق، ولم يُشِر بفتحه: ملف «اليمين المصري» الذي استطاع في أحيان كثيرة أن يحتوي الثورة من الداخل، وأن يفتح الثغرات الحقيقية التي نفذت منها الخطايا والجرائم.
ولعلَّ أبرز هذه الجيوب وأوضحها كانت في حقل الثقافة والإعلام، للطبيعة الخاصة التي يتميز بها هذا الحقل، وهي أنه يقع تحت الأضواء مباشرةً، ولطواعية السلعة الثقافية في التحول والتخفِّي على غير الثبات النسبي والصلابة التي تميز الميادين الاقتصادية والاجتماعية.
ولا شك أنه لدى كل مثقف مصري ملفه الخاص، كمجموعة من الذكريات أو الملاحظات أو الاعترافات التي سجَّلَها في ذهنه أو على الورق في هذه المرحلة أو تلك من مراحل الثقافة المصرية.
ولم يكُن «عودة الوعي» نموذجًا لهذا النوع من التسجيلات الخاصة التي عوَّدَنا عليها الحكيم في «زهرة العمر» و«سجن العمر»، وإنما كان منشورًا مُفتعَلًا لا يليق بكاتب كبير أن يضطر أو ينزلق إلى كتابته. والحق أننا ما زلنا ننتظر من توفيق الحكيم وغيره أن يكتبوا لنا ذكرياتهم الحقيقية التي تفسِّر لنا — على الأقل — أعمالهم الفكرية والفنية طيلة الحقبة الماضية. إن الافتعال في كُتيِّب «عودة الوعي» هو أنه يقف شاهدًا مضادًّا لأعمال صاحبه السابقة على مدى عشرين عامًا.
وربما كنت واحدًا من أبناء الجيل الذي عاصر «المعركة» السرية والمُعلَنة بين مثقفي اليمين وبقية صفوف الثقافة الوطنية التقدمية.
وقد أُتيح لي في مختلف الظروف والمواقع أن أكون قريبًا من الأحداث والشخصيات الصانعة لها. وهي أحداث ومواقف تعرفها أغلبية المثقفين، ولكنَّ أحدًا لا يكتبها … ربما لأن العُرف السائد هو عدم التعرُّض للأحياء، إذا بادر أحدهم إلى «التذكر» ولأن الجميع ينتظرون موت الجميع، فإن الجميع لا «يتذكرون».
وهذا الكتاب مجرَّد قطرة في بحر الخطايا والجرائم التي ارتكبها اليمين المصري ضد الثقافة والمثقفين … فالملف الكامل ما زال ممنوعًا من الفتح، لأن الذين يملكونه ليسوا طرفًا واحدًا، ولا يملك الفرد منا أكثر من بضعة أسطر أو قليل من الصفحات.
وعلى مَن يريدون فتح ملف ثورة يوليو أن يفتحوا كل الملفات.
حينذاك سوف تتبدى حقيقة اليمين المصري الذي يطالب الآن بمراجعة الماضي ومناقشته … وسيكون الطرف الوحيد الذي يحرق الملفات ويطويها للأبد، لأنه كان وما زال المتهم، بل المجرم الوحيد.
بيروت، يناير (كانون الثاني) ١٩٧٥م