أين كان توفيق الحكيم والمثقفون في قاع الجحيم؟
حدث ذلك عام ١٩٥٧م. كنت محررًا «مشاغبًا» في مجلة ذائعة الصيت حينذاك اسمها «العالم العربي»، وكانت مقالات أحمد رشدي صالح على صفحات «الجمهورية» قد استهوتني، فكتبت مقالًا بعنوان «بين خمينيث وحمار الحكيم». وصدرت المجلة بعد أن توقفت حملة الجمهورية على توفيق الحكيم، وبعد أن أعلنت الصحف عن فوزه بأرفع وسام في الدولة (لا يُعطى إلا لرؤساء الدول). ولأنه لم يكُن لديَّ تليفون في المنزل، فقد فوجئت بأسعد حسني — رئيس التحرير — يطرق بابي في الصباح الباكر وهو يصرخ: خربت بيتي، خربت بيتي! كان أحمد رشدي صالح قد بدأ سلسلة مقالات نقدية، يقارن فيها بين بعض مسرحيات توفيق الحكيم وبعض الأعمال الأجنبية. وكانت أكثر المقارنات مدعاة للدهشة والإثارة، تلك المقارنة التي أقامها بين «حمار الحكيم» وحمار خمينيث الكاتب الإسباني … فقد طبع إلى جانب مقاله بالزنكوغراف صفحات كاملة من الأديب المصري تقابلها صفحات مماثلة من أديب إسبانيا تصل إلى حد المطابقة!
وهاجت مصر وماجت. وارتفع توزيع الجمهورية ارتفاعًا مذهلًا، والجمهورية هي جريدة الثورة وصوت حركة ٢٣ يوليو. وبعد أزمة مارس (آذار) ١٩٥٤م، وتأميم القناة في ١٩٥٦م أصبحت اللسان الرسمي للرئيس عبد الناصر، قبل أن ينتقل هيكل من «آخر ساعة» إلى «الأهرام».
وثار «الرئيس» ثورة عاتية. ونقل عنه المقربون أنه قال: إنني لا أفهم المقارنات والتحليلات الأدبية. ولكني أشعر أن هناك مَن يريد النَّيْل من توفيق الحكيم. وهو رجل عظيم، أعترف أنني تأثرت بروايته «عودة الروح» تأثُّرًا عميقًا، لقد حاولت تقليده في كتابة قصة لم أكملها، ولكن المؤكد أنني استوحيتُ من روايته «ثورة» أحاول استكمالها.
وتسرَّبَت تعليقات عبد الناصر، فذاع تعبيره أنه تأثَّر بعودة الروح لتوفيق الحكيم، ثم جاء الوسام الرفيع كالخاتم الرسمي على الشهادة.
وارتاح الحكيم! لا لأن رأي عبد الناصر فيه كان إيجابيًّا، وإنما لأن «الحملة» عليه قد توقفت.
وارتاح شخصان آخَران ضحكَا في أكمامهما طويلًا، هما التوءمان: مصطفى وعلي أمين! فقد كان الحكيم آنذاك هو «نجم» «أخبار اليوم» اللامع. كان أكبر كتاب «الدار»، وعلى يمينه العقاد مرفوضًا لسلبيته وجموده المفرط، وعلى يساره سلامة موسى مرفوضًا لتقدميته وتطوُّره المكشوف. كان العقاد تخلَّى نهائيًّا عن ثوريته القديمة، وأصبح يرى العلم ضد الدين. وكان سلامة موسى قد وصل نهاية الشوط فأصبح يرى العلم وحده هو الدين. بينما راح توفيق الحكيم على صفحات «أخبار اليوم» يكتب مسرحيته الشهيرة «رحلة إلى الغد» ليقول فحسب: ما أفظع العلم إذا سيطر على الدنيا غدًا! كم هو مظلمٌ المستقبل الذي يخضع لتوجيه العلم والعلماء!
ولم يكُن هذا الحوار — الفلسفي! — بحد ذاته مهمًّا إلا في حدود ضيِّقة من حلقات المثقفين. ولكن الأهم أن العقاد كان قد انطوى في صومعته بعيدًا عن الفكر السياسي احتجاجًا على كافة منجزات حركة ٢٣ يوليو. وكان سلامة موسى صوتًا مدويًّا بسلامة اتجاه عبد الناصر رغم السلبيات الثانوية، لأنه الاتجاه التاريخي لمصر نحو الاشتراكية والديمقراطية. أما توفيق الحكيم فكتب مسرحية «إيزيس» باعثًا المجد الفرعوني القديم!
وقد أتاح مصطفى وعلي أمين لتوفيق الحكيم الفرص كافة لتتويجه «أبًا» فكريًّا لمصر الحديثة. ثم اختطفه هيكل إلى الأهرام ومات سلامة موسى. وبعده رحل العقاد. وصدرت تنظيمات الصحافة التي تشبه التأميم، فأحسَّ الأخَوان أمين بالزلزال، وعوت الكلاب من قبل أن تتفجر.
•••
هل معنى ذلك أن توفيق الحكيم كان ضد ثور ٢٣ يوليو؟
كلا.
هل معنى ذلك أنه «نافقها» خوفًا وجبنًا؟
كلا أيضًا! بل لعله كان الأديب الوحيد الذي يُعَد بحق كاتب النظام، من قبل أن يوجد النظام.
لم يكُن الحكيم أديبًا ثوريًّا، ولكنه كان ساخطًا على الديمقراطية الشكلية أيام الملك، هاجمها بضراوة أصابت برذاذها حزب الوفد — أكبر التنظيمات السياسية الليبرالية — وفي «عصا الحكيم» و«حمار الحكيم» و«شجرة الحكم» حملة شعواء على المجالس النيابية والوزارية والدستور، حتى إنك تتصور الرجل أحيانًا وكأنه ضد الديمقراطية!
ولكنه أيضًا، وأثناء الحرب الثانية بالذات، شنَّ هجومًا صاعقًا ضد هتلر والنازية وموسوليني والفاشية. وأجرى حوارًا بين شهريار الجديد وشهرزاد، تنبَّأ فيه بهزيمة النُّظُم العسكرية الدكتاتورية، وأكد فيه مناصرته للحضارة الديمقراطية.
ليس ذلك فحسب!
بل هاجم الشيوعية واعتبرها — من حيث الأسلوب — الوجه الآخر للفاشية، ولم يفرِّق كثيرًا بين هتلر وستالين، رغم اختلاف غايتيهما. ولكنه مجَّد روزفلت وتشرشل وديغول.
أين كان يقف إذَن؟ وهو الرجل الذي تشهد له أجهزة الأمن المصرية على اختلاف عصورها، أنه لم يلتحق بحزب من الأحزاب. رجل وقف بوضوح ضد الغول الفاشيستي وما دعاه بالخطر الأحمر على الصعيد الدولي. كما وقف بوضوح ضد حكومات الأقليات وحزب الأغلبية في الوقت نفسه على الصعيد المحلي!
أين كان؟
كان يرتدي ثياب «محسن» في «عودة الروح»، وشعاره «الكل في واحد». وكان الداعية الحقيقي لفكرة «المستبد العادل» التي ظهرت طيلة الثلاثينيات من هذا القرن في الحياة السياسية المصرية.
لقد رفض الاشتراكية شكلًا ومضمونًا، كما رفض الديمقراطية الغربية في التطبيق المصري! ولم يكُن «منظِّمًا» في حزب من الأحزاب.
هكذا رآه التوءمان مصطفى وعلي أمين — بحقٍّ — نبيًّا للنظام الجديد. إنه ليس انتهازيًّا بأي حال من الأحوال، فهذا الشكل الجديد من أشكال الحكم هو الحلم الذي كان يراوده منذ سنوات طويلة، بصورة ضبابية غائمة!
كان تأييده لحركة ٢٣ يوليو صادقًا لأنه أبوها الشرعي. وحين أراد «الأخوان أمين» أن يستغلَّا هذه الأبوة حتى النهاية، اختطفه هيكل إلى الأهرام. كانت ثورة ٢٣ يوليو تتحرك باعتدال نحو الوسط. وقد جاء وسام عبد الناصر للحكيم عام ١٩٥٧م حمايةً له من اليسار، كما جاءت الأهرام حمايةً له من اليمين.
•••
ولكن جرس التليفون دقَّ مرة أخرى في بواكير عام ١٩٥٩م في بيت توفيق الحكيم. دقَّ — في الواقع — أكثر من مرة.
قال له الخط الثاني: الرئاسة تسأل توفيق بك ما إذا كان يمكن أن يشرب الشاي مع السيد الرئيس بعد الظهر. وارتجَّ الأمر على الحكيم وطلب مهلة دقائق للرد، لأنه كان في «الحمام» واتصل مباشرة برئيس تحرير الأهرام الذي دبَّر الأمر كله، فأجابه هيكل: أبدًا … الرئيس عاوز يشوفك. طبعًا سمعت باللي حصل. عاوز يسمع رأيك.
قبل ذلك كان نجيب محفوظ على الخط الأول، قال له: يا توفيق بك، أناشدك التدخل لثقة الرئيس بك، ومودته لك وتأثُّره المُعلَن بروايتك، أناشدك التدخل لإنقاذ سمعة النظام من هوس أجهزة الأمن التي اعتقلت خلال الأيام الماضية بعضًا من صفوة المثقفين في البلد. يا توفيق بك، يوسف السباعي أنقذ عبد الرحمن الشرقاوي، فقد كان اسمه مكتوبًا في القوائم. كامل الشناوي ذهب بنفسه إلى عبد الناصر لينقذ أحمد رشدي صالح، حتى سعد الدين وهبة أنقذ عبد القادر القط. وقد غضب الرئيس حين تبيَّن له بالفعل أن الشرقاوي وصالح والقط لا علاقة لهم بالتنظيمات الحزبية. كلمتك الآن يا توفيق بك يمكن أن تنقذ العديدين، أرجوك!
ورغم معرفة نجيب محفوظ بالتسجيلات المباحثية للتليفونات فقد كاد يجهش بالبكاء وهو يقول: النظام نفسه في خطر يا توفيق بك. أشك في أن الرئيس يعلم كل شيء. وحتى لو كان يعلم فقطعًا لا يدري بالتفاصيل: تفاصيل الأسماء وتفاصيل ما يحدث.
وجاءه صوت توفيق الحكيم وقورًا ثابتًا: يا نجيب دول بيقبضوا عليهم لأسباب مالهاش علاقة بالفكر والأدب … دول لهم صفتين، صفة المثقف وصفة السياسي، إحنا ندافع بس عن المثقفين، لكن الناس اللي عايزة السلطة ما لنا وما لهم؟
وصمت نجيب محفوظ على الطرف الآخَر. ولم يدق تليفون الرئاسة من جديد في بيت الحكيم، فقد استطاع هيكل أن يبرِّر موقفه للريِّس بأن الرجل عجوز ولا يدرك من الأمور التي تجري شيئًا، ومن الأفضل لسمعته أن يكون بعيدًا حتى لا يتهمه أحد أو يشك فيه.
واستغرب عبد الناصر طويلًا … فقد كانت بين يديه قائمة أعدَّتها المخابرات العامة بأسماء مجموعة من أساتذة الجامعات وكبار الأدباء، يريد أن يستمع إلى رأيه فيهم!
وقد أراد الحكيم أن يغسل يديه كبيلاطس البنطي من دماء الأبرياء، فكتب عام ١٩٥٩م مسرحيته الشهيرة «السلطان الحائر». ذلك السلطان غير الشرعي، والذي لا بد وأن يكتسب شرعيته بصوت الشعب والقانون، لا بالسلطة والسيف. كان واضحًا رغم الديكور الملوكي الذي أضفاه على المسرحية أنه يقصد النظام المصري الراهن، وأنه يثق إلى أقصى الحدود بجمال عبد الناصر، ولكنه يحذره من الوزير والقاضي والمؤذن والسيف، ويضطره لقبول الغانية الفاضلة وحكم القانون.
وطلبه نجيب محفوظ بالتليفون مهنئًا، يقول: الحمد لله على أن الرقابة وافقت … باقي «أولاد حارتنا». كانت هذه هي الرواية الأولى لنجيب محفوظ التي يمكن أن تكون محكًّا لعلاقته بالحكم … فالثلاثية التي بادرت بنشرها مجلة «الرسالة الجديدة» بين عامَي ١٩٥٤ و١٩٥٦م، ثم صدرت كاملة في ثلاثة أجزاء عام ١٩٥٧م اقتصرت على تناول المرحلة الواقعة بين عامَي ١٩١٧ و١٩٤٤م أي إنها توقفت تاريخيًّا قبل حركة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م بثماني سنوات. أما «أولاد حارتنا» فقد عالجت بالرمز الديني المهذَّب قضية الاشتراكية والعلم. رفضتها الرقابة أولًا، وثار عليها الأزهر ثانيًا، وتمكَّن هيكل من حل وسط عجيب، هو نشرها مسلسلة في الأهرام دون نشرها في كتاب.
وظلَّ أصدقاء نجيب محفوظ من الكتَّاب والنقاد يختفون الواحد بعد الآخَر. كانت ندوته الأسبوعية في كارينو أوبرا وسط القاهرة (كازينو صفية حلمي) كل يوم جمعة. وكان من اليسير ملاحظة التناقص التدريجي في عدد روَّاد الندوة منذ أول العام الجديد ١٩٥٩م إلى ۲٨ مارس (آذار) من نفس العام إلى يوليو (تموز) إلى العام التالي ١٩٦٠م. اختفى من الندوة — حضورًا وذكرًا وتباعًا — محمود العالم، ولويس عوض، ولطفي الخولي، وأمير إسكندر، وصلاح حافظ، وفيليب جلاب، وشوقي عبد الحكيم، وطاهر عبد الحكيم، وفتحي خليل، وسعد التايه، وألفريد فرج، ونبيل زكي، ومئات … مئات غيرهم، يعرفهم الأقلون ويجهلهم الأكثرون.
وتكهربَ جوُّ مصر! إن ثمَّة شيئًا رهيبًا يحدث، ولكن في صمت. تجاوز العدد المئات وبدأ العد بالألوف. صفوة العقول، وخيرة المناضلين وأصلَب الوطنيين.
ولا أحد يتكلم! وإنما حملقت الدنيا كلها وطالت الألسن على آخرها، حين راح أحد اللصوص الظرفاء يطارد الأغنياء في عقر دورهم، يأخذ منهم ولا يقتل. والشرطة تحاول عبثًا الإمساك به. وأصبح بطلًا في المخيلة الشعبية يتتبع الناسُ أخباره لحظة فلحظة وقلوبهم بين أيديهم يضرعون إلى المجهول ألا يقع في أيدي البوليس. وانضمت إحدى الصحف الكبرى إلى قافلة الشرطة تتعقب «المجرم الخطير» وترصد لمَن يعثر عليه — نيابةً عن وزارة الداخلية — مكافأة خيالية. أما الجماهير، فبعضهم كان يحميه، والغالبية كانت موزعة بين السؤال عن آخِر «غني» سرقه والسؤال عن مصيره. إلى أن تواجه الغريمان عند إحدى المغارات بحلوان: الشرطة في الخارج، و«اللص» في كهفه يمسك مسدسًا ويقسم أنه لن يستسلم، وكم كانت شماتة الشعب وفرحته طاغية حين أَطلَق على رأسه الرصاص! أحسَّ الجميع أنه انتصر، شعروا أن «عدوهم الحقيقي» هُزم.
وشرع نجيب محفوظ يكتب «اللص والكلاب»! أما توفيق الحكيم فعلَّق قائلًا: هو إيه اللي بيحصل في البلد؟ الوحدة مع سوريا هي السبب. إحنا ما لنا ومال العرب يا ناس؟ هو احنا فاضيين للغم ده؟ ولَّا احنا غاويين مصايب بس؟!
كانت هذه فعلًا نقطة الخلاف الأساسية وربما الوحيدة بين توفيق الحكيم وجمال عبد الناصر. لم يعلنها، ولكنه بالتأكيد كان يضمرها ويجهر بها سرًّا بين خلصائه. بينما كان خلاف الشعب المصري مع عبد الناصر مغايرًا. كانت «الأجهزة» هي الغول الحقيقي الذي يهدِّد كافة المنجزات من الاستقلال إلى الوحدة إلى التأميم. كان الشعب موقنًا بأن هذه الأجهزة تتآمر على عبد الناصر نفسه، بضرب العزلة الجماهيرية من حوله، ببث الكراهية في إجراءاته، بإقامة الحاجز الأسطوري بينه وبين صوت الشعب وضميره.
ولولا أن عبد الناصر كان في بلغراد عام ١٩٦٠م لَمَا علم … فوجئ باليوغسلاف يتحدثون عن مناضل شيوعي مصري كبير هو «شهدي عطية الشافعي» قد اغتيل في سجن أبي زعبل تحت سياط التعذيب. وكان أول عمل قام به عبد الناصر فور عودته إلى مطار القاهرة أنْ تقدَّمَ ببلاغ — باسمه الشخصي كمواطن مصري — إلى النائب العام يطلب التحقيق في الجريمة المذكورة!
وتوقفت حمامات الدم في السجون والمعتقلات المصرية، بعد أن استشهد على أيدي الجلادين المدرَّبين والمرضى، المناضلون فريد حداد، ومحمد عثمان، ورشدي خليل، وغيرهم كثيرون. وما زالت آثار السياط وكسر الأحجار وضرب الشوم على ظهور وأجساد الغالبية الساحقة من المناضلين المصريين.
وحتى …
حين صدرت قرارات الإفراج من رئيس الجمهورية قبيل منتصف عام ١٩٦٤م كان الصراع ضد المعتقلين والمسجونين السياسيين في الذروة التي أودت بحياة المناضل لويس إسحاق قبيل أيام من الخروج الكبير.
وكان توفيق الحكيم في ذلك الوقت يكتب مسرحية «طليعية» في غموضها بعنوان «يا طالع الشجرة»، بينما راح نجيب محفوظ بعد «اللص والكلاب» التي جعل فيها اللص «فدية الملايين»، راح يكتب «السمان والخريف» ليجعل من اليسار رمزًا للطريق الوحيد أمام التطور، ويكتب «الطريق» باحثًا عن الحرية والكرامة والسلام، ويكتب «الشحاذ» مستجديًا الحقيقة، ويكتب «ثرثرة فوق النيل» رافعًا مظلمة الحكيم القديم إيبوور إلى الفرعون الجديد، ويكتب «ميرامار» ناعيًا السقوط مستهولًا الفاجعة.
وإلى جانب نجيب محفوظ، كانت هناك قلة من الفرسان الذين غامروا بوضع الجرس في رقبة القط؛ بعضهم همس للرئيس بالحقيقة، والبعض الآخَر ساعد الأُسَر الجائعة والعائلات المشرَّدة والأرحام الثكلى و…
ولم يكُن المناضلون الذين عُذِّبوا إلى حد الموت يهتفون بسقوط عبد الناصر … قلة نادرة هي التي فعلت لزمن قصير، وعادت بسرعة إلى صوابها. وإنما كانت الغالبية — في ظلمة الأقبية وأفران الدم — تراه بطلًا قوميًّا. بل رأته إحدى الكتل الكبيرة مع بعض رفاقه «مجموعة اشتراكية في قمة السلطة».
لماذا كان الذين في قاع الجحيم يهتفون بحياة عبد الناصر، ولا يزالون إلى اليوم هم الذين يدافعون عنه؟ وأين … أين كان توفيق الحكيم؟
ببساطة لم تكُن القضية عند هؤلاء جراحًا شخصية. كانوا يرون الاستقلال والسويس والسد العالي والإصلاح الزراعي والتحضير والتأميم والتصنيع الثقيل ومجانية التعليم تستحق التضحية حتى الموت. وكانوا يرون الجحيم بعيون مفتوحة على الصراع الاجتماعي الضاري في باطن المجتمع وعلى قمة السلطة على السواء. ولم يكُن السجن والتعذيب والإفراج والقتل إلا جانبًا من هذا الصراع.
ولست أنسى مطلقًا جمال عبد الناصر في أواخر عام ١٩٦٩م حين اجتمع بأسرة «الطليعة» في مؤسسة الأهرام، وقال لنا بالحرف: لولاي … لكنتم حتى الآن في الجبل. يقصد صحراء الواحات ومعتقل أبي زعبل بطبيعة الحال.
ليس معنى ذلك أنه بعيد عن المسئولية، فقد كان الانفصال وهزيمة ١٩٦٧م من الدروس التاريخية العنيفة التي تلقَّاها في حياته. وكانت مجزرة أيلول (سبتمبر) ۱۹۷۰م بمثابة الدرس الأخير الذي انتهى بوفاته.
لقد دفع عبد الناصر الثمن فادحًا، لأنه رغم تجسيده العميق لأكثر الأجنحة تقدُّمًا في سلطة ٢٣ يوليو، فإنه لم يكتشف الصيغة الصحيحة للتحول الديمقراطي عن سلطة الإقطاع والفئات العليا من البرجوازية المصرية. ومن ثَم لم يكتشف الصبغة الصحيحة للتقدم الاجتماعي.
ولكنه — كما قلتُ — دفع الثمن غاليًا. ترك وراءه أعظم المنجزات (عروبة مصر وتطورها نحو الاشتراكية) في مهب الرياح … وقد دفع الكثيرون الكثيرون، الثمن مضاعفًا حين جرءوا بنبالة الشهداء على مواجهته.
ولم يكُن توفيق الحكيم من بينهم!
إما أنه كان يصمت أو أنه كان يقول كلامًا يرادف الصمت … وحين تكلم في المرات القليلة التي خلع فيها البيريه وألقى العصا، ماذا قال؟
قال مع التأميم «الطعام لكل فم» وكتب «شمس النهار» ممجِّدًا قيمة العمل متفائلًا بمستقبل العلم. ثم كتب عام ١٩٦٦م «بنك القلق» مشيرًا إلى أجهزة القهر والطغيان. وعند انتخابات الرئيس الثانية كتب في الأهرام: لقد انتخبته منذ ثلاثين عامًا، لافتًا النظر من جديد إلى بطل «عودة الروح». وحين رحل كتب أولى القصائد مطالبًا له بتمثال في أكبر ميادين العاصمة، يتم نحته وفق مسابقة عالمية بين الفنانين الكبار، ويسهم في إقامته كل مواطن.
وكان الحكيم — في يقيني — صادقًا كلَّ الصدق حين اتخذ هذه المواقف، وقال هذه الكلمات. إنه «كاتب النظام» الأول، سواء أكان بدعوته الباكرة إلى نظرية المستبد العادل، أم بموافقته العلنية والمستترة والضمنية لخطوات ٢٣ يوليو.
الوحدة العربية فقط كانت «الشوكة» في حلق الحكيم، وعندما انكسرت بالانفصال عادت مباركته لِمَا يجري أشد.
لم يفتح فمه بكلمة عن «الثقافة والحضارة» حين اعتقلتها الأجهزة في سراديب الموت. وحين طلب منه السلطان المشورة اعتذر بالشيخوخة وقلة الحيلة. وحين أطلعه البعض على قمصان الدم أشاح بوجهه عن اللون الأحمر قائلًا إنه يفرِّق بين الثقافة والسياسة.
من هنا، بالضبط تسقط أهليته لرفع الدعوى التي أقامها في مقاله السياسي الرخيص والمبتذل «عودة الوعي».
إنه ليس شاهدًا، ولا صاحب حق. وإنما هو بالدقة «المسئول الأدبي» عن النظام الذي يدينه، ولا تعنينا في القليل أو الكثير أكذوبته اللفظية التي يقول فيها: «أرجو من التاريخ ألَّا يبرئ شخصًا مثلي، يُحسب في المفكرين، وقد أعمته العاطفة عن الرؤية ففقد الوعي بما يحدث حوله.»
هذا النقد الذاتي الزائف ليس أكثر من شَرَك ينصبه لكلٍّ منا.
وقد سقط البعض منا للأسف في المصيدة. جميع الذين ناقشوه الحساب أخطئوا الحساب … فهذا هو هدفه أو هدف الذين وراءه … لقد أفردت الأخبار، وأخبار اليوم، وآخر ساعة، والمصور، صفحاتها للرد، ورد الرد، ورد رد الرد، وهكذا لمجرد ترسيخ الانطباع الذي تُوحي به السطور والكلمات والأحرف وحتى المساحات البيضاء.
لا تناقشوا مقال «عودة الوعي» فهو بالمقاييس كافة لا يستحق النقاش … وإنما تأملوا معي هذه الحدوتة أو الحكاية، «كان يا ما كان رجل حكيم يحذِّر المشي وسط الشارع، يتكئ على ظِله جانب الحائط، يتنكَّر بالعصا والبيريه حتى يظنه العقلاء مجنونًا، والمجانين عاقلًا، عاش عمره في التبات والنبات وخلَّف صبيانًا وبنات. وحين بلغ ثلاثة أرباع قرن من الزمن المثلج وسط غابة مشتعلة، خلع ثيابه كلها دفعة واحدة، ووقف وسط الطريق عاريًا يصرخ في المارة بأعلى صوته: جلا جلا … أنا حكيم الزمان وكل أوان. فلم يصدِّقه البعض، وتمتموا بلا مبالاة: نوع جديد من الحواة. وصدَّقه آخرون وقالوا …»
ولم تكتمل الحدوتة أو الحكاية، ولكني سمعت أحدهم يغمغم بأسًى وحزن عميقَين: لقد سقط كاتب عظيم!
