جمال عبد الناصر
برغبة «سامية» من أمير الكويت، بدأت قصة أغرب من الخيال … كان الأمير هو آخر من تسنَّى له عناق جمال عبد الناصر من الرؤساء والملوك العرب … وقد ترك فيه نبأ الرحيل المفاجئ للرئيس المصري أثرًا نفسيًّا عميقًا، فما كاد يهبط بطائرته الخاصة مطار الكويت بعد ظهر ۲۸ سبتمبر (أيلول) ١٩٧٠م حتى همس في أذنه أحد الرجال أن عبد الناصر يُعاني الآن لحظات الاحتضار … وبعد ساعات قليلة وصله الخبر رسميًّا أن الرئيس مات!
ربما كان الأمير هو أول الزعماء العرب الذين عرفوا بحقيقة الأمر … وكانت قُبلة عبد الناصر على خده ما زالت تنضح بالعرق!
مضت أيام العزاء بطيئة ثقيلة، والذكرى جاثمة على صدر الأمير، ويُقال إن أرَقًا حادًّا أصابه في تلك الفترة، فاستعصى عليه النوم ليالي طويلة. وأفضى إلى بعض أصدقائه في القاهرة بالمشاعر المريرة التي لا تفارقه، وقال إنه على استعداد كامل للمساهمة في أي تخليد للرئيس الراحل.
ثم اشتبكت أسلاك التليفون بين القاهرة والكويت اشتباكًا عنيفًا ومتلاحقًا …
كان الخط الأول لأحد الأجهزة المصرية، يكلِّم على الخط الآخر الفنانة المصرية الكبيرة مديحة يسري، وكان يقول: هل لدى شركة الموارد الثقافية والترفيهية استعداد للقيام بعمل جاد خلال أسبوع؟
وأجابت مديحة بصوتها الوقور الناعم: أي خدمة يا فندم … تحت أمرك.
سألها باحترام: هل تعرفين الشاعر صالح جودت؟
قالت بهدوء: طبعًا يا فندم.
في لهجة آمِرة مهذَّبة اختتم الحديث: اتصلي به!
كانت مديحة يسري وقد اعتزلت السينما وجرَّبت بعض أشكال التجارة المشروعة في القاهرة، قررت أن تجرِّب حظها في شركة فنية بالكويت، تقوم أساسًا بالتسجيلات الإذاعية وغير الإذاعية … برفقة مجموعة من رجال المال والأعمال في كلٍّ من الكويت والقاهرة. ولم يكُن «الصوت» الذي كلَّمَها جديدًا عليها، ولا كان صالح جودت صديقًا جديدًا. وطلبت صالح جودت على الفور: أيوه يا صالح … إزي أخبارك … قالوا لي أتصل بيك … خير إن شاء الله!
خير يا دوحه … الأمر وما فيه إني ألفت كتابًا عن الرئيس الراحل. وبيقولوا انِّك ممكن تنشريه وتسجليه كمان … بصوتي يعني … إيه رأيك؟ ما تفكريش في الفلوس من ناحيتي …
اندهشت مديحة قليلًا، فهي تعرف أن صالح جودت رغم كرمه الشهير لا يفرط في حقوقه المادية مطلقًا، بل هو يتخذها مقياسًا لتقديره المعنوي. ولكنها حين تسلَّمَت المخطوط، كان صالح جودت قد تسلَّم شيكًا قيمته ستة آلاف دينار كويتي. وقد أصرَّ على ألا يفتح حسابًا به خارج مصر، فتقاضي ١٢ ألف جنيه مصري في القاهرة.
وبدأ المسئولون عن النشر يقرءون المخطوط، وكان تقريرهم أنه جاء مطابقًا للمواصفات وفيًّا بالاتفاق المعقود بين الجهة الكويتية والجهات المصرية، ملبِّيًا «الرغبة السامية» لأمير الكويت.
كان عنوان الكتاب «قصة كفاح البطل جمال عبد الناصر». وقد نهج فيه المؤلف نهجًا تسجيليًّا، فاستعرض حياة الرئيس منذ الطفولة إلى الوفاة.
وكان أحد المسئولين عن نشر المخطوط وتسجيله على أشرطة ممَّن يمكن أن نُطلق عليهم اسم «الناصريين المتطرفين»، فقد هز رأسه معلِّقًا: إنه كتاب رائع لدرجة أنني أشك في موافقة صالح جودت على وضع اسمه فوق الغلاف. صالح جودت ليس منافقًا كما يظن البعض، لأنه غنَّى للملك ومحمد نجيب وعبد الناصر. إنه يريد أن يعيش، ولكن قلبه وعقله ضد عبد الناصر، فكيف يسمح لنا بتوقيعه على مثل هذا الكتاب؟
وأجابت مديحة يسري: ليس توقيعه فحسب، وإنما صوته أيضًا. المطلوب أن يسجله بصوته على شريطين، فالكتاب مُعَد للقراءة والسماع. سألها الأخ الكويتي ببراءة: وما الحكمة في التسجيل الصوتي؟ إنه ليس قصيدة أو أغنية أو تمثيلية. واكتفت مديحة بأن تجيب: هذا هو المطلوب، اسألهم أنت!
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) ۱۹۷۰م صدر الكتاب مطبوعًا مسجَّلًا على شريطَين، وكُتب على ظهر الغلاف «اسمع هذا الكتاب على شريطين (كاسيت)، كلٌّ منهما ٦٠ دقيقة». وأنه من إنتاج «شركة الموارد الثقافية والترفيهية. ص.ب۲۲۸ الكويت» بصوت صالح جودت وتنفيذ مديحة يسري. ولم يُذكر سعر الكتاب، ولم يُطرح علنًا في الأسواق، ولكنه وُزِّع بطريقة سرية على بعض الناس، ولم يَعرف عنه الجمهور الواسع شيئًا.
ماذا كتب صالح جودت، وماذا قال بصوته؟ قبل ذلك افتتَحَت الكتابَ قصيدةٌ باسم «سمير غبور» جاء فيها عن «الجماهير» يوم رحل القائد:
ثم يبدأ صالح جودت «قصة كفاح البطل جمال عبد الناصر» بقوله (ص۹): «عاشت مصر أجيالًا طويلة في انتظار البطل …»
وكانت الأقدار تصنع هذا البطل منذ حين، وتعده للوثبة الكبرى التي انطلقت في ٢٣ يوليو في سنة ١٩٥٢م». واستطرد قائلًا إن مصر أنجبت في تاريخها الحديث كثيرًا من الأبطال كعمر مكرم وأحمد عرابي ومصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول، ولكنهم جميعًا كانوا زعماء محليين ينادون «مصر للمصريين» أما جمال عبد الناصر «فقد نظر إلى مصر كجزء لا يتجزأ من كيان أكبر، هو الأمة العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي» فأصبح زعيمًا عربيًّا «ثم نظر إلى الأمة العربية كجزء من عالم أكبر» فأصبح زعيمًا للعالم الثالث.
- (١)
«كان لثورة البطل على حلف بغداد أثرها في تقويضه، فقد انهارت الملكية في العراق، وسقط نوري السعيد بطل هذا الحلف، وقامت في بغداد ثورة كثورة مصر في يوليو ١٩٥٨م» (ص٤٥).
- (٢)
«وقف وقفته المشهورة في الإسكندرية يوم ٢٦ يوليو ١٩٥٦م — ذكرى طرد الملِك — يُعلن حدثًا من أكبر أحداث التاريخ المصري: تأميم قناة السويس» (ص٥٤).
- (٣)
«راح البنك الدولي ودول الغرب — وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية — تساوم وتضع القيود والشروط للمساهمة في بناء السد العالي … بينما الاتحاد السوفييتي يتقدَّم بعرض سخي يعرض فيه تقديم ما يعادل أربعمائة مليون دولار، وهو مبلغ كافٍ لبناء السد تمامًا، بغير فوائد، على أن يُسدَّد خلال ستين سنة، واطمأن البطل إلى مصير السد العالي» (ص٥٤).
- (٤)
«كانت الوحدة نتيجة طبيعية للتفاعل العربي، ولجهاد البطل في سبيل دعم الفكرة العربية وتأصيلها في النفوس لمواجهة إسرائيل والاستعمار عامةً» (ص٦٤).
- (٥)
«الشعب الذي تمثَّلَت كل آماله في البطل، حتى بعد النكسة، كان يرى أن بقاءه هو الأمل الباقي في إزاحة الغمة والسير بالسفينة إلى بر الأمان. وخرجت القاهرة برمتها، برجالها ونسائها، وشيوخها وأطفالها، غير مبالية بالظلام ولا بالغارات، وسارت إلى بيت البطل تتوسَّل إليه أن يبقى. وجاءت الملايين من كل فج عميق من أنحاء مصر تردِّد نفس الصرخة. ولم يبرح الناس مكانهم حول بيت عبد الناصر، إلا عندما طلع الصباح التالي، ورأى البطل أن آمال الأمة مُعلَّقة به، وأن الشعب مُصِر عليه، رغم النكسة، لأنه الوحيد القادر على تحويلها إلى نصر» (ص۹۳).
- (٦)
«بدأ يرأب الصدع، ويطهِّر الانحرافات، ويكفل الحريات، ويبحث عن الرجال الصالحين، ويُعيد بناء الجيش الذي ذهب أكثر رجاله وأكثر عتاده، ويوثِّق العلاقات بالاتحاد السوفييتي الذي أمدَّ مصر بكل ما يكفي لها إعادة بناء قواتها البرية والجوية» (ص٩٥).
- (٧)
«وجاء اليوم الذي شعرت إسرائيل فيه بأن ساعة الصفر تقترب، وأن القوات المصرية أصبحت قادرة على شيء أكثر من الردع، هو العبور» (ص۹۹).
- (٨)
«كان البطل يحس أن الموت يلاحقه، وأنه يريد أن ينجز رسالته الأخيرة ويوقف نزيف الدماء في الأردن، ويحفظ على الأمة العربية وحدتها، وهي أمل النصر قبل أن يموت» (ص۱۱۲).
- (٩)
«وفي الساعة الحادية عشرة من المساء … روعوا بالنبأ … روعوا بصوت أنور السادات، باكيًا، ينعى لهم أكبر الآمال في تاريخ مصر والأمة العربية. وشُقَّت القلوب، وخرجت القاهرة كلها … بكل الملايين الخمسة التي تعيش على أرضها … تبكي طول الليل … وأُضيفَت إليها جموع أخذت تزحف على القاهرة من جميع أنحاء الجمهورية، وفي جميع فجاج الأمة العربية … وظلَّت الجموع تتكاثر حول الفاجعة الكبرى، وتصل وفود الملوك والرؤساء وممثِّلو الشعوب والمجالس النيابية والهيئات الشعبية من جميع أنحاء العالم، ليشيعوه إلى مثواه، في مشهد لم يُروَّع التاريخ بأروع منه، ولا أشجع منه. وذهب البطل إلى لقاء الله. وترك وراءه أروع صفحة في سجل الخلود» (ص۱۳۷، ۱۳۸).
بهذه السطور يختتم صالح جودت «قصة كفاح البطل جمال عبد الناصر»، ولكنه أراد أن يثبت قصيدته التي كتبها غداة وفاة الرئيس، فنشر على الصفحتين (١٤٠ و١٤١) نصها الكامل نجتزئ منها بعض الأبيات فحسب. تحت عنوان «أغنية على قبر البطل» يقول:
إلى أن يقول:
مَن يتصفح الكتاب دون عناء التأمل العميق، سوف يلاحظ مباشرة أنه أشبَه ما يكون بمنشورات مصلحة الاستعلامات أو مطبوعات التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة، إنه يُدرَج بسهولة في قائمة «كتب بلا مؤلفين» فهو لا يحتاج إلى كاتب يؤلِّفه، وإنما إلى أرشيف. ولأن الكتاب قد تم إنجازه ونشره وتسجيله في شهر واحد بعد وفاة الرئيس، ولأنه أيضًا لم يُوزَّع مع الباعة، ولم يُكتَب عليه سعر النسخة، ولأنه طُبع على ورق مصقول، وامتلأ بالصور النادرة، على ورق كوشيه … فإن أحدًا لم يدرِ به. وقد كان هذا مقصودًا! إن الذين اختاروا «اسم» صالح جودت ليضعوه على الغلاف، وتعمَّدوا لأول مرة أن يسجل الكتاب بصوته على أشرطة، كانوا يضربون عصفورين بحجر واحد. العصفور الأول هو الاستجابة لرغبة أمير الكويت في تخليد الرئيس الراحل ومساهمته الشخصية في ذلك. والعصفور الآخَر هو ثقتهم بلا حدود في عداء صالح جودت لعبد الناصر، فأعدوا الكتاب وسجلوه بصوته ودفعوا له الشيك الهدية. ولم يكُن مهم لديهم توزيع الكتاب على الإطلاق، وإنما كانت «الوثيقة» هي كل ما يعنيهم من الأمر كله.
ووقع صالح جودت في المصيدة، فأضاف إلى المعلومات الأرشيفية التي وُضعت تحت تصرُّفه بعضَ العبارات الإنشائية الحماسية. وكان الصوت الذي كلَّم مديحة يسري في البداية واضحًا غاية الوضوح حين تسلَّمَت المخطوط مطبوعًا بالآلة الكاتبة ممهورًا بتوقيع صالح جودت: الأصل لدينا ولكن احتفظي بهذه النسخة أيضًا وأعيديها بعد الطبع فورًا. وجلس صالح جودت أمام الميكروفون ساعات طويلة، وهو المذيع القديم، ليسجِّل على نفسه شهادة حية إلى جانب عبد الناصر.
•••
ودارت الأيام بسرعة مذهلة … وبعد أقل من ستة أشهر كانت مصر تشهد أول نقطة تحوُّل حاسمة في تاريخها التالي لوفاة الرئيس.
كانت حركة ١٥ مايو (أيار) ١٩٧١م. وقد كان يومًا «شخصيًّا» في حياة صالح جودت، يومًا شخصيًّا إلى أقصى الحدود.
كان حماس صالح جودت لِمَا جرى في ذلك اليوم أكثر عنفًا وتوتُّرًا من حماس الآخرين. كان حماسًا مشوبًا بالحقد والثأر والخوف مرة واحدة. نفاقه الماضي لكي يعيش فضحته أحداث الساعات الأخيرة من ١٥ مايو ١٩٧١م. لم يكُن صالح جودت منافقًا حين هبَّ مذعورًا من نومه يؤيِّد ما جرى، وإنما كان مشوقًا إلى هذا اليوم غاية الشوق، لولا «سره الخفي» الذي لا يعرفه أحد! القصيدة يعرفها الجميع ويضمونها إلى قائمة أشعاره في الملوك والأمراء والرؤساء السابقين واللاحقين، أما الكتاب والأشرطة فلم يعرف أمرهما إلا الأقلون.
واشتبكت أسلاك التليفون من جديد بين القاهرة والكويت. كانت الأصوات جديدة، ولكن الأجهزة هي هي. وكانت مديحة يسري على الطرف الآخَر تقول: ليست لديَّ نسخة واحدة من الكتاب ولا من الأشرطة.
يبدو أن جهازًا آخَر سبق الفرسان الجدد في الاستيلاء على بقية النسخ والتسجيلات. ولم يعُد ممكنًا تنفيذ حكم الإعدام في الورق المطبوع أو الأشرطة، رغم أنها لم توزع على الجمهور العام: وأُسقط في يد صالح جودت والذين وراءه.
حتى كان يوم …
فتح فيه صالح جودت النار على عبد الناصر والناصرية، قبل علي أمين ومصطفى أمين والباشوات السابقين والحاليين، قبل إحسان عبد القدوس وموسى صبري وسابا حبشي ووحيد رأفت، فتح صالح جودت النار. قال ببساطة شديدة إن ثورة ٢٣ يوليو لم تتمتع بالشرعية طيلة العشرين سنة الماضية، نظامها لم يكُن شرعيًّا، وكذلك إجراءاتها وقوانينها ودساتيرها وتشريعاتها. الشرعية تبدأ من ١٥ مايو (أيار) ١٩٧١م. وفي عدد «المصور» الصادر بتاريخ ۲۱ يونيو (حزيران) ١٩٧٤م وتحت عنوان «هل تبقى الثورة إلى الأبد؟» أجاب بالنفي معلِّقًا على زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون بأنها كانت «استفتاء للشعب في رغيف عيشه وفي لون رغيف عيشه، في النظام الاقتصادي الذي عاشه منذ قيام الثورة، في الأيديولوجية التي فُرضت عليه، والأيديولوجية التي يتمنَّاها لنفسه». ويتساءل في عدد «المصور» بتاريخ ٥ يوليو (تموز) ١٩٧٤م عن كلمة اليسار «من أين جاءتنا هذه الكلمة التي روَّج له المروِّجون خلال السنوات العشرين الماضية؟» وفي عدد ١٦ أغسطس (آب) ١٩٧٤م من نفس المجلة يرى في ورقة تطوير الاتحاد الاشتراكي «جسرًا للعبور من نظام إلى نظام آخَر يحقِّق مبادئ الديمقراطية الحقة كما أرسَتْها الثورة الفرنسية» لأن الاتحاد الاشتراكي بوضعه القديم تمتد جذوره إلى «نظم الكتلة الشرقية»! ويرى في عدد ١٤ يونيو (حزيران) ١٩٧٤م أن «مصر منذ حرب أكتوبر قد قرَّرَت أن تكون مصر … مصر المصرية الخالصة». وفي العدد ٣١ مايو (أيار) ١٩٧٤م وما قبله وما بعده يحكي سيلًا من القصص والأساطير والكوارث التي لحقت بعلية القوم (لا بالطلبة والعمال والفلاحين والمثقفين) ويطالب بلجنة تتعقَّب الذين تولوا الأمور «منذ سنة ١٩٥٢م إلى اليوم». ويذكر في عدد ١٩ يوليو (تموز) ١٩٧٤م أن المقارنة بين السوفيات والغرب ظالمة للغرب «لأن الحفار الذي نستورده من الاتحاد السوفييتي يعيش سنة واحدة، بينما الحفار الذي نستورده من إنجلترا يعيش أكثر من عشر سنوات». وفي عدد ١٣ سبتمبر (أيلول) ١٩٧٤م يخاطب «جلالة الملك» حسين مؤكِّدًا «أقولها بكل تأدُّب، لأن الأيام السود علَّمَتنا أن مخاطبة الملوك والرؤساء بالكلمة الخشِنة كانت من أسباب مدلهمة سنة ١٩٦٧م … وعلَّمَتنا أن الكلمة الحلوة هي التي تقرِّب الجميع إلى مثل النصر الذي حقَّقْناه سنة ١٩٧٣م».
ويحتاج الأمر إلى مجلدات كاملة للاستشهاد بأقوال صالح جودت المأثورة في ثورة ٢٣ يوليو وإنجازات ما بعد ١٥ مايو (أيار) ١٩٧١م. ذلك أن الرجل — قبل غيره — ارتاد الهجوم على عبد الناصر من موقع الثورة المضادة، ولأن الرجل — أكثر من غيره — ظلَّ أمينًا لهذه القضية وحدها منذ ذلك التاريخ إلى الآن.
وليس مهمًّا أن صالح جودت قد تسلَّق أعلى المناصب في ظِل عبد الناصر، وأنه كان من أدوات السلطة البارزة في الحياة الثقافية، وأنه رغم وجهه القبيح كان مقبولًا من المستويات السياسية والتنظيمية والرسمية كافة، وأنه جنى أرباحًا هائلة من هذا كله.
ليس مهمًّا القول الأخلاقي بأنه تنكر لا سيادة! إنها في خاتمة المطاف «عبرة سياسية» لأية سلطة تنشد الثورة بركائز فكرية للثورة المضادة! ليس مهمًّا أن ثورة يوليو لم تضر صالح جودت في رزقه أو فكره لحظة واحدة حتى يحقد عليها كل هذا الحقد، لأن كتابه المسجَّل يرى أنها أعظم الثورات وقائدها أخلد الرجال. ليس المهم أيضًا اكتشاف «النفاق» في أمثال هذه النماذج التي تحيا حياتها صاحبة الجلالة في كل العهود وتأكل فوق كل الموائد.
وإنما المهم قبل ذلك كله وبعده: لعبة الأجهزة! إن الكتاب المحكوم بالإعدام لم يكُن تعبيرًا حقيقيًّا عن فكر صالح جودت. وإذا كان أحد الأجهزة قد استطاع الحصول على «وثيقة مطبوعة مسجَّلة صوتيًّا» دفاعًا عن عبد الناصر، فإن هذا لم يمنع صالح جودت من كتابة عشرات المقالات ضد عبد الناصر. وهو على استعداد لتسجيل هذه المقالات على أشرطة وتعبئتها في أسطوانات، وحين هدَّدَه شاب كويتي متحمِّس لعبد الناصر هو أحمد أبو مطر بالكتاب والشريطَين، قال لأصدقائه في ركن سميراميس بالقاهرة وهو يقلب مجلة «الرائد» الكويتية: لقد اعترفت ميمي شكيب أمام النيابة والمحكمة أنها تدير بيتًا للدعارة، ومع ذلك برئت ساحتها من الجرم المشهود. التسجيلات ليست قرينة ولا دليلًا.
علَّق توفيق الحكيم وهو ينظر في وجه ثروت أباظة بعينٍ، ووجه إبراهيم الورداني بعين أخرى: ولا الكتاب يصلح دليلًا.
والحكيم كما نعلم رجل قانون. ولكنه أيضًا يحب الشعر. ولعلَّ الفرق بين كتاب صالح جودت عن عبد الناصر ومقالاته ضد الناصرية، هي عند صاحب نظرية «التعادلية» كالفرق بين قصيدة صالح جودت القائلة:
وقد ظهر البيت هكذا لأول مرة، ولكنه حين أعاد طبع «ليالي الهرم» قال:
وقصيدته الأخرى — تأملوا الفرق — التي يقول فيها:
أم إن توفيق الحكيم لا يحب الشعر، ويحب أن يقارن — بدهاء — بين كتاب صالح جودت وكتابه «عودة الوعي»؟ إنهما الكتابان الغريمان، أم إن الجهات التي أصدرتهما واحدة وإنْ تغيرت العناوين والأسماء والشيكات؟
التاريخ وحده سيجيب. ولكن الغاية ووسائلها تبقى واحدة: حين مات عبد الناصر كتب أحد خصومه ويُدعى صالح جودت كتابًا عن «قصة كفاح البطل»، وبعد أربع سنوات من رحيله كتب أحد مؤيديه ويُدعى توفيق الحكيم كتابًا ضده. الكتابان صدَرَا في بيروت والكويت: الأول نشرَته وسجَّلَته مديحة يسري، والآخَر نشره محمد المعلم في دار الشروق. والكتابان — أخيرًا — لا يحتاجان إلى «تأليف» وإمعان للفكر، وإنما هما من قبيل التسجيل الوثائقي في لعبة الأجهزة.