البيئة وأثرها في العقول
يستمد الإنسان تصوراته، وتتربَّى إدراكاته على حسب ما يراه، ويحيط به من المشاهدات والمعقولات، وعلى قدْر بلوغ ذلك من نفسه واستيلائه على حواسِّه، تكون درجة الإدراك لديه، فإذا كانت المشاهدات كثيرة مختلفة، كانت قوة الموازنة وحب الاستطلاع والرغبة في البحث أعظم وأدعى إلى نمو العقل والإدراك، وكبرت في نفسه ملكة التمييز بين الأشياء، وصار ذلك شبه خلق له؛ فيصبح وقد تربى على نوع خاص من الذكاء والملاحظة، وتشكلت نفسه وإدراكاته ومعلوماته بهذا الشكل الخاص، الذي ينبئ عن حياته العامة التي كانت له في هذه البيئة الخاصة، وكانت تصوراته وتشبيهاته مأخوذة عن ذلك، وأفكاره ومعقولاته صورة من الاجتماع الذي عاش فيه، وأثرًا من آثار تلك البيئة، وباختلاف البيئة يكون اختلاف الناس في عقولهم وإدراكاتهم وتربيتهم؛ فليس مَن يعيش بين العلماء كمَن يعيش بين الجهلاء، ولا مَن نشأ في بيت كريم كمَن نشأ بين السوقة والسفلة.
لذلك كان من عمل الناقد أن ينظر إلى هذه الأسباب؛ ليتمكن من الحكم على آراء الكُتَّاب والمفكرين حكمًا صحيحًا، وليعرف أسباب المؤثرات الفعَّالة، فالذي عرَّفَ البلاغة «بأنها ما بلغ بك إلى الجنة وعدل بك عن النار» كان متأثرًا بالبيئة الاجتماعية الدينية التي عاش فيها؛ فلا يصح أن يؤخذ هذا التعريف كما هو، وإلا ما هي الصلة بين البلاغة وبين الجنة والنار؟ والذي قال: «إن دراسة الأدب بأجمعه من تاريخ وفنون، ومن شعر ونثر، إنما هي وسيلة لفهم كتاب الله — تعالى» لا يصح أن يُعَدَّ من الأدباء؛ لأن أديبًا من الأدباء الذين يفهمون الأدب، ويقولون إنه صورة النفوس والعقول وحالة من أحوال الاجتماع لا يقول ذلك. وإنما هذه نتيجة التربية العقلية عند فقهاء المسلمين، الذين اشتغلوا بالأدب وجمعه وعُنوا به من أجل ذلك، ونشروا هذا الرأي وأشاعوا هذه الفكرة، فأخذها الناس عنهم كما هي بدون بحث ولا نقد. وكان يمكن الرجوع إلى الأدب وبلاغة العرب لفهم ما في كتاب الله — تعالى — بدون أن يكون ذلك الغرض الفذَّ من دراستها. ولكن أدباءنا وأكثرهم من الفقهاء صرفوا همتهم إلى الوجهة الدينية فقط. هذا أثر للبيئة الاجتماعية وأثر اتجاه العقول والأفكار اتجاهًا خاصًّا، وهذا يفسر معنى صلة هذه الأسباب بالأدب والنقد.
الإنسان كما قلنا ثمرة البيئة الطبعية والاجتماعية، والأدب والبلاغة من شعر ونثر ومن كتابات اجتماعية وفلسفية وغيرها — من أثر العقول والقرائح — ثمرة من ثمار الإنسانية، ونتيجة تربية العقول والنفوس. فإذا كانت الأمة في مبدأ تربيتها العقلية وأول نشأتها كالطفل لا يعرف إلا ما يقع عليه نظره، ولا يدرك إلا ما يحيط به، أصبحت معلوماتها منحصرة في ذلك، وخيالاتها مقصورة على ما ترى وتسمع حولها. فإن لم تكن محبة للبحث والتنقيب ولا راغبة في الاستطلاع، بقيت في هذا النوع من التربية الأولية. وبعض الأمم يموت ويعيش وهو في شباب الحياة وطفولة التربية؛ لأن البيئة الاجتماعية لم تدفعه إلى حب الاستطلاع، ولم تولِّد فيه البحث في معرفة الجمال وفهمه.
والعرب في عيشتهم وحياتهم البدوية الصرفة، لم يخرجوا عن الدائرة التي وضعتهم فيها طبيعة بلادهم، ولم يرَوْا غير هذه الصحراء الواسعة وما توحيه إلى النفوس من العظمة والهيبة والغموض الذي تضل فيه الظنون. ثم هذا البسط «اللانهائي» الذي يحمل على الظن بأن الحياة لا تتغير، وكأن الإنسان يُخلق ويموت وهو على حال واحدة من العيش، وأن هذه الحياة البدوية الساذجة هي كل شيء، وأن الشجاعة والكرم والمروءة هي كل فضيلة، وكأنه ليس وراء ذلك من فخر، وكأن العصبية والإغارة على الأعداء والانتصار عليهم هي كل ما يُفهم من معنى الشجاعة، وأن العربي في حريته واستقلاله أفضل إنسان وأكرم نفس وأرقى مخلوق. كذلك تكوَّنت خيالات العربي على ما يرى وما يحيط به من حيوان ونبات، ولم يكن لديه من الفرصة ما يمكنه من معرفة أحوال الأمم الأخرى، فنشأ قانعًا بما لديه، راضيًا بحالته؛ لأنه ظنها أفضل وأكمل من غيرها، فلم يرغب في تغيير حالته الاجتماعية ولم يأخذ عن غيره؛ لأن ذلك لم يكن متيسرًا له في حالته الأولى، ولأن الحاجة لم تحمله على ذلك؛ لاقتناعه بما لديه من كل شيء حتى في العلوم والمعارف، ولأنه كان يرى سعادته في هذه الحال، والإنسان إن لم تدفعه الحاجة لا يميل إلى العمل ولا يحب التعب. كل ذلك أثر البيئة الطبعية والاجتماعية عند العرب، وهي بنفسها التي نراها في بلاغاتهم وأشعارهم، فقد امتلأت خيالاتهم بما كان يحيط بهم، ولم تتعدَّ أفكارهم البيئة التي كانوا يعيشون فيها، فكان إذا وصف أو شبَّه أحدهم شيئًا أخذ خيالُه وفكرُه ممَّا يحيط به، وذكره على سذاجته؛ لأنه كان يميل في الافتنان والصناعة إلى إلهاماته وما توحي إليه فطرته، فكانت السذاجة تظهر في كل شيء من كلام وشعر وخيال، ومع أن هذه السذاجة البدوية هي عيب الشعر العربي؛ لأن الحقائق «العريانة» كما يقولون ليست مقبولة لدى كل نفس، ولا يتذوقها كل إنسان، خصوصًا في الشعر والبلاغة؛ إذ لا بد من الافتنان في إظهار المعاني المقصودة، ولا بد أن يعتري المتفنن من الحيرة والشك في الوصول إلى أغراضه ما يحمله على البحث والتنقيب حتى يصل إلى ما يقرب من الإتقان والكمال والإبداع. مع أن هذا هو عيب الشعر العربي البدوي، فهو أيضًا كل ما فيه من الجمال؛ لأن السذاجة الفطرية أو الكلام المطبوع الذي تظهر فيه طبيعة الإنسان كما هي، له نوع خاص من القبول والاستمراء، وقد تدعو هذه الحال إلى الإعجاب.
فانظر هذه التشبيهات وأثر البيئة فيها وما رسمته في نفس الشعراء، مثل ما قال بعضهم وقد حلق رأسه:
وقالوا: إن هذا البيت من المعاني المحدثة المقبولة لدى الأفكار والعقول؛ فالحال السياسية والحال الاجتماعية والحال الفكرية، لها أثر عظيم في البلاغات والأدب؛ لأنها سائرة وراء الاجتماع «حذو النعل بالنعل» كما يقول المثل العربي. وقد ظهر بعض هذه الآثار في الشعر العربي؛ لأن الشعر هو كل الأدب العربي، أو هو مجموع الصورة العامة لبلاغة العرب ولحركات أفكارهم. والبيئة الاجتماعية أقل أثرًا وظهورًا من البيئة الطبعية فيه؛ بدليل أن الاجتماع تغيَّر تغيرًا عظيمًا، وتناوبته الممالك والدول، والشعر العربي لم يتغير في جملته ولم تعتوره أطوار الاجتماع، بل كان الشاعر الحديث يسطو على المعنى القديم، فيَصقله في قالب جديد من الألفاظ، ويكسوه ثوبًا آخر ليُنسب إليه. ونحن لا نرى هذا أثرًا للاجتماع، وإنما هو ضرب من رقي الخيال؛ لأنه لا يدل على حالة الاجتماع السياسية ولا على أي نوع من حياة الأمة. وكان من الممكن أن نرى تقلبات الدول والحوادث الكثيرة التي ملأت تاريخ المسلمين ظاهرة في بلاغاتهم، ولكنا لم نرَ في بلاغات العرب أصدق وأدل على الاجتماع من الشعر الجاهلي؛ لأن الشعر إذ ذاك كان بمثابة الحديث والمسامرات اليومية والكلام الاعتيادي، وفي مدة الأمويين كان يدل على شيء من الحالة الاجتماعية دلالة إجمالية، وكان أثر البيئة الاجتماعية ظاهرًا بعض الشيء في المدح والذم بين الشعراء، وفي قصائدهم إلى خلفاء بني أمية، ولم يكن دالًّا تمام الدلالة على الحياة؛ لأن هذه كانت مناقشات شخصية لأهواء شخصية، وكان أكثر ذلك ناشئًا من ميل الشعراء إلى التكسب، ولم يكن في الشعراء أو لم يكد يوجد بينهم من كان ذا أغراض اجتماعية ترمي إلى إصلاح الاجتماع، أو إلى تربية الأفكار وتهذيبها. وكل ما كان من الصدق في نفوس الشعراء كان عبارة عن عواطف نفسية، يرجع أكثرها إلى شيء من العقائد الدينية أو إلى تأييد مذهب سياسي وكراهة أحد البيوتات الحاكمة؛ كما مدح الفرزدق زين العابدين في قصيدته المعروفة، عندما تظاهر بعدم معرفته هشام بن عبد الملك، لِما رأى من إقبال الناس على عليِّ بن الحسين، فقال: «من هذا الشاب الذي تبرُق أسِرَّة وجْهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي وجوهها؟» فقال الفرزدق: «هذا الذي تَعْرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ» … إلخ القصيدة. ومع ذلك فقد كان الشعر مدة الأمويين أقرب إلى الجد منه إلى التسلية والمجون، وكانت لا تزال الصبغة العربية ظاهرة فيه وفي مجموع أوصافه؛ من الصراحة وحرية القول وعزة النفس وغيرها من الأخلاق العربية.
أما في زمن العباسيين فقد ظهر أثر البيئة في نوع خاص من الشعر؛ لأن بيئة خاصة أثرت في الشعر، وهي بيئة المجون واللهو والطرب، وأشهر شعراء هذا العصر كانوا من هؤلاء، كأبي نُوَاس وبَشَّار وابن الضحاك وغيرهم ممَّن أكثروا من وصف الغلمان والخمر ومجالس اللهو. وكانت هذه حال البلاغة في العصر الأول العباسي، ممَّا لا يكاد يخرج عن التسلية والمجون، وكانت مجالس الخلفاء والأمراء غاصة بالغناء والمغنِّين، وكانت الأشعار التي تُغنَّى لا تخرج عن وصف الحب والغرام والخمر، وكانت المجامع في ذلك العصر أشبه بالجنان ونعيمها. وشجع الخلفاءُ والأمراءُ الشعراءَ على ذلك؛ فانكبَّ هؤلاء على هذا النوع من الشعر الوجداني، وانتشر الغناء، وكانت مجالسه حافلة بالأدباء والشعراء (تشبه المجتمعات التمثيلية عندنا اليوم). ولم يؤثر انتشار الفلسفة في الشعر إلا في أواخر الدولة العباسية عند مثل المتنبي وأبي العلاء؛ أي عندما أخذت العقول تنضج وترقى، وترى وتفهم من الأدب غير ما كان يراه ويفهمه الأولون. غير أن هذا العصر لم يطُل، ولم تكد تظهر فيه المواهب العربية وأثر الإسلام في الرقي، حتى وقفت حركة العلم والأدب، وهزمت العجميةُ العربيةَ بسيلها الجارف، فوقفت حركةُ العقول والأفكار.