الأدب أو البلاغة
وقد رأيْنا بعد مراجعة آراء الأدباء أن إطلاق هذا اللفظ على المعنى الذي نستعمله الآن، إطلاق ناقص لا يؤدي المعنى الذي نريده نحن؛ لأننا نطلقه على الشعر والنثر فحسب. وذلك لا يطابق تعريف الأدب عند العرب؛ لأننا نريد أن ندرس ضروب الكلام وأنواع البلاغة، والمؤثرات التي أثرت فيها. ومن رأينا أنه مهما صح من العموم والخصوص والتأويلات الكثيرة، فإنه من الغامض أو من النقص في التعبير أن نخص الأدب بهذا المعنى الذي نريد، ونسلخ عنه معانيَه الأخرى، أو نستعمله استعمالًا مشتركًا. ولم يجلب علينا ذلك إلا خطأ مشهور لم نتداركه، وعندنا من الألفاظ ما هو أولى وأوفق.
وقد حدَّ ابن خلدون الأدب، ورأى «ألَّا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها» قال: «وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته.» وفهم الأدب كما فهمه أهل زمانه، صناعة من الصناعات تُتعلم ويُتوصل إليها بالتمرين، لا أثرًا من آثار الكُتَّاب والشعراء. فقال: «هو الإجادة في فنَّيِ المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم.» وجعل من تمام هذه الصناعة «أن يجمعوا لذلك من كلام العرب ما عساه أن تحصل به المَلَكة من شعرٍ عالي الطبقة، وسجعٍ متساوٍ في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة، يُستقرَى منها في الغالب معظم القوانين العربية، مع ذكْر بعضٍ من أيام العرب، يفهم به ما يقع في أشعارهم منها، وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة.» قال: «والمقصود بذلك كله ألَّا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم، ومناحي بلاغتهم إذا تصفَّحه؛ لأنه لا تحصل المَلَكة مِن حفظه إلا بعد فهمه …» واختصر التعريف فقال بعد ذلك: «ثم إنهم إذا أرادوا حدَّ هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف …»
نحن لا نفهم الأدب بهذا المعنى العام، ولن يكون تدريسنا على هذه الطريقة العامة. ولكنا نريد أن يكون للأدب موضوع، وأن نحدَّه حدًّا إيجابيًّا؛ لذلك رأينا أن نطلق على الشعر والنثر البليغ — وهو ما نقصده من الأدب، وما يُراد من دراسته في مدارسنا — كلمة «بلاغة»، وتُعَرَّفُ البلاغة (الأدب) حينئذٍ: «بأنها الكلام الذي يدعو إلى الإعجاب من حيث الافتنان في الصناعة.» إذ لا يمكن أن نجري على التعريف القديم، وندخل في الأدب ما كان يقصده القدماء من جميع فروع اللغة العربية؛ لأننا ليس من غرضنا أن ندرس ذلك، وليس من غرض إنسان يريد أن يقرأ كلام العرب أن يصرف وقته في قراءة النحو والصرف، وعلم العروض وعلوم البيان، والجغرافيا والتاريخ وغيرها، وإنما يريد أن يقرأ النثر والشعر لا غير؛ ليقف على أسرار اللغة، وليهذب نفسه بما في ذلك من المعاني، وليعرف أغراض الكتَّاب والشعراء؛ وبالجملة ليعرف سر اللغة العربية وقيمتها؛ وذلك بقراءة الكلام البليغ نفسه من شعر ونثر، ويكفي أن يكون اللفظ متينًا، والعبارة واضحة؛ لتصل من نفس المتكلم إلى نفس السامع. كما روى الجاحظ «أن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان.» معنى ذلك أن الكاتب إذا كان مخلصًا متأثرًا بما يقول، نال من نفس القارئ وبلغ منه المراد. هذه هي البلاغة، وهكذا يجب أن تُفهم. فليس ما ندرسه هو الأدب إذا دققنا النظر في التعريف المعروف؛ لأننا نريد أن ندرس أنواع كلام العرب الذي هو الغرض من دراسة الأدب.
قال صاحب كشف الظنون: «الأدب علم يُحترَزُ به عن الخلل في كلام العرب لفظًا وكتابة.» وواضح بعد ذلك أن الأدب ليس هو المنظوم والمنثور، بل هو مجموع العلوم العربية، كما قال المؤلف نفسه: «اعلم أن فائدة التخاطب والمحاورات في إفادة العلوم واستفادتها، لمَّا لم تتبين للطالبين إلا بالألفاظ وأحوالها، كان ضبط أحوالها ممَّا اعتنى به العلماء، فدعت معرفة أحوالها إلى علوم انقسم أنواعها إلى اثني عشر قسمًا، سمَّوْها العلوم الأدبية؛ لتوقف أدب الدرس عليها بالذات، وأدب النفس بالواسطة، وبالعلوم العربية أيضًا لبحثهم عن الألفاظ العربية» (طبعة أوروبا، صفحة ٢١٧).
وما دام الأدب هو ما يُحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظًا وكتابة كما رأينا، أو هو كما قال الجرجاني في تعريفاته: «عبارة عن معرفة ما يُحترز به عن جميع أنواع الخطأ.» فلا يصح بعد هذا أن نريد منه النظم والنثر؛ لأن الأدب — كما قالوا — وسيلة لفهم الشعر والنثر اللذين هما أنواع كلام العرب، والوسيلة غير الغاية فلا بد أن نخص ما نفهمه الآن أدبًا بالشعر والنثر البليغ، ونطلق عليه «بلاغة» لتكون تسمية حقيقية لا تمس الاصطلاح القديم، بل تنطبق على تعريف البلاغة، فنقول: «بلاغة العرب» ونريد ما يريده الناس الآن من «أدب العرب».
ويمكن رفع اللبس بين البلاغة وعلوم البلاغة المصطلح عليها الآن، بالرجوع إلى قول عبد القاهر الجرجاني وأشياعه، الذين كانوا يطلقون علوم البيان على علوم البلاغة. على أن الفرق واضح بين البلاغة وعلوم البلاغة.
وقد أطلقوا على الكلام البليغ بلاغة، وقالوا: «بلاغات النساء»، وإذا قالوا: فلان بليغ، أرادوا به شاعرًا أو كاتبًا فصيح العبارة، واضح المعنى، بقلمه وبلسانه ضرب من سحر الكلام، وشيء من معرفة امتلاك الأفهام، بخلاف الأديب فإنه ليس من الضروريِّ أن يكون شاعرًا أو ناثرًا. وفي الكلام الآتي عن البلاغة ما يدل أيضًا على صحة ذلك، ممَّا رواه الجاحظ في البيان والتبيين عن بعض الأدباء: «أنذركم حسن الألفاظ، وحلاوة مخارج الكلام؛ فإن المعنى إذا اكتسى لفظًا حسنًا، وأعاره البليغ مخرجًا سهلًا، ومنحه المتكلم قولًا متعشقًا، صار في قلبك أحلى، ولصدرك أملأ. والمعاني إذا اكتسبتِ الألفاظَ الكريمة، وأُلبستِ الأوصافَ الرفيعة، تحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها بقدر ما بُيِّنَت، وعلى حسب ما زُخْرِفَت …»
وليست كل كتابة تعد من البلاغة؛ فلن يكون الطبيب بليغًا في كتبه، ولا الرياضي أو العالِم أو النباتي بليغًا في نظرياته العلمية. ولكنهم قد يكونون بُلَغاء في قطع مخصوصة، إذا تكلموا وكتبوا كتابات بليغة، يقصدون منها أن ينالوا من نفس القارئ أو السامع، بخلاف ما إذا قصدوا أن يُفيدوا إفادة علمية، أو أن يشرحوا نظرية من نظرياتهم، أو قاعدة من قواعدهم؛ لأن هذا ليس من البلاغة في شيء؛ إذ غرض البلاغة غير غرض التعليم كما قلنا.
قالوا: ولما اطلع المرحوم علي مبارك باشا على طريقة الإفرنج في آدابهم، أفصح بعض الإفصاح عمَّا يريد إلى الشيخ حمزه فتح الله، وطلب منه تدريس ذلك في مدرسة دار العلوم، فابتدأ الشيخ حمزه يؤلف ويدرس كتابه «المواهب الفتحية»، وكان يُسمِّي ذلك علوم اللغة؛ غير أنه لم يخرج عمَّا كان في الكتب القديمة، ولم يتعدَّ طرقها. وفعل مثل الشيخ حمزه فتح الله أو ما يقرب منه الشيخ حسين المرصفي، أثناء تدريسه الآداب في المدرسة نفسها. ولما عاد المرحوم الشيخ حسن توفيق من أوروبا عُهِدَ إليه بتدريس الآداب بمدرسة دار العلوم، وكان — رحمه الله — ذكيًّا أديبًا، اكتسب شيئًا من الأساليب الجديدة في دراسة الآداب أثناء وجوده في ألمانيا، فبدأ يدرس الأدب على الطرق الحديثة منذ عشرين عامًا فيما نعلم، فهو أول مَن فعل ذلك في مصر، بل أول مَن سنَّ هذه الطريقة الجديدة، وجمع في كتاب لطيف له طائفة من الشعراء مع تراجمهم بنوع خاص من الترتيب.
وانتقلت دراسة الأدب العربي من قراءة كتاب جامع لكل فنون اللغة، من نحو، وصرف، وبلاغة، وسِيَر، إلى ترجمة شعراء عصر واحد بتسلسل خاص، مع شيء من مختارات شعرهم. واتجهتِ الأفكار إلى هذا النوع من البحث والتأليف إلى اليوم، وظهر بعد ذلك كتب وملخصات لأساتذة الأدب في المدارس الأميرية، ولبعض الأدباء. ولكن لا يزال الأدب إلى الآن غير ناضج في عقول كثير منا، ولا نزال نتبع الطرق القديمة في فهم الأدب، ولم تصل بعدُ حالة تعليم الآداب العربية إلى طريقة نافعة. أما في المعاهد الكبرى فالآداب عبارة عن تراجم الشعراء مع شيء من مختار نظمهم، بدون تعرض لنقد أو تحقيق. وأما في المدارس النظامية فهو عبارة عن ملخص ذلك، ولنا العذر في هذا؛ لأن تعليم الأدب في مدارسنا لا يزال حديث العهد، فهو في حاجة إلى زمن طويل لتمحيص الطرق وتهذيبها؛ ولا غرابة في ذلك، فقد كانت مثل هذه الطرق منتشرة في أوروبا إلى عهد قريب. فإذا نحن بدأنا بها فإنما نبدأ بشيء طبعي.