أنواع البلاغة
البلاغة أو الكلام البليغ فن من الفنون الجميلة الفطرية للإنسان؛ لأنه مدفوع بطبيعة
الحاجة إلى التفاهم، وسائرٌ بفطرته إلى التعبير عمَّا يجول بخاطره من سرور وحزن وآلام
ولذة
وارتياح. وكل متكلم يرغب في أن يكون له سلطان على نفوس السامعين، وأن يحملهم على تصديق
ما
يقول، والإنسان حسَّاس يتأثر بصناعة الكلام، وتفعل فيه براعة المتكلم، وحسن العبارة ما
لا
ينال منه البرهان والتعقل. والكلام من وسائل الاستيلاء على العقول، وتقابل النفوس بعضها
ببعض، ونشر الحقائق والأدلة والبراهين. وبقدر ما تكون براعة المتكلم أو الكاتب في الوصول
إلى إفهام السامع ما يريد، وبلوغه المعنى الذي قصد، يكون كلامه أمتن، وتكون عبارته أبلغ
إلى
النفس؛ ومن هنا سُمِّي الكلام بليغًا.
ولكنَّ بلوغ هذا المراد صعب، واختيار الألفاظ الدالة على المعاني المقصودة دلالة تامة
عسير، وكل إنسان له استعداد خاص، وميل لنوع من التعبير يوافق طبعه، وينطبق على مزاجه.
والمعاني كثيرة مختلفة، والألفاظ الدالة عليها تختلف في وضوح الدلالة ودرك المعنى؛ ولذلك
اختلفت التعابير، وتباينت الدِّلالات. وتتفاوت ضروب البلاغة بتفاوت الاستعداد الفطري،
وقوة
العقول، وقالوا: «اختيار المرء قطعة من عقله.»
ولكن ليس كل إنسان أهلًا لأن يكون بليغًا؛ لأن البلاغة هبة فطرية واستعداد نفسي، فليس
أصعب من أن يصل الإنسان إلى التعبير عمَّا يرى أو يشعرُ، تعبيرًا دالًّا على الحقيقة
دلالة
تامة؛ لأن الإنسان يتفاوت قوة وضعفًا في ذلك، كما يتفاوت في إدراك المبصرات على حسب قوة
نظره وضعفه. فقد يتألم آلامًا شديدة تكاد تذهب بقواه، وتستولي على جميع حواسه، ومع ذلك
لا
يمكنه أن يفسر ما يشعر به إلا بكلمات معدودات محفوظات، يقولها أيضًا من كدَّر صفوَه إنسانٌ
لا يحبُّ مجلسه، أو غاب عنه صديق وهو في انتظاره منذ ساعة أو ساعتين، وقد يظفر الإنسان
بأمنيته، ويحصل على ضالته المنشودة، ولا يستطيع أن يعبر عمَّا في أعصابه من الهياج،
وعمَّا في نفسه من السرور، إلا بإظهار الارتياح، وبسط الجبين، ممَّا يحصل عند من لاقى
صديقًا له في الطريق فهشَّ وبشَّ في وجهه.
والبلاغة إما أن تكون عبارة عن إظهار ما يجول في نفس الإنسان، من عواطف وإحساسات
وخيالات
وغيرها، ممَّا يدل على شخصية الكاتب أو المتكلم فحسب، وإما أن تكون صورة غير صورة نفس
الكاتب أو الشاعر؛ أي صورة من الحياة العامة للإنسان — أو جزءًا من تاريخ الإنسانية،
كما
يقولون — فالأولى هي البلاغة الوجدانية
١ والثانية هي البلاغة الاجتماعية.
هذا هو التقسيم الفنِّيُّ في البلاغة، وهذه هي أنواع البلاغة، وعلى حسب ما تكون البلاغة
جزءًا من الحياة العامة لكل إنسان وفي كل زمن، يكون الكلام أثبت، وتكون العبارة أمتع،
وتكون
الكتابة أبقى وأخلد؛ لأن البلاغة التي تنَالُ من كل نفس هي التي تبقى، والأفكار التي
تجِد
لها عند كل إنسان أذنًا واعية لا تَبْلى، وذلك لا يكون إلا إذا صادفت شيئًا عامًّا ينزل
من
كل نفس، ويصح أن يقبله كل فكر، ولا يثقل على الطبائع. وهذا هو سبب ارتياح النفوس للحِكَم
والمواعظ؛ لأنها تنَالُ من كل نفس وتتسرب إلى كل فؤاد، وهو السر في رأي مَن فضَّل أشعار
الحكمة في مثل قول النابغة الذُّبياني:
ولستَ بمُستَبْقٍ أخًا لا تَلُمُّه
على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المهذبُ
وقَدَّمَ أبا الطيِّب المتنبي وأبا العلاء المعرِّي؛ لأنهم جاءوا بالحكمة في أشعارهم،
وتكلموا عن بعض طبائع الإنسان وعقائده الكامنة في كثير من الأشخاص. مثل هذه البلاغة في
القول تبقَى ما بَقِيَ الإنسان.
٢
والناظر لأول وهلة في اللغة العربية يجدها خالية من هذا النوع، الذي له أثر في نفس
كل
إنسان؛ لأن بلاغة اللغة العربية في جملتها تعبر عن نفس قائلها لا غير، ولا تكاد تخرج
عن
شعور الشاعر وتصوُّرات الكاتب؛ لأن العواطف هي أصل الشعر العربي والباعث عليه.
٣ ومن هنا كانت له هذه المتانة والقوة في التعبير؛ إذ الإنسان أخلص ما يكون إذا
دفعه شعوره إلى القول، ومتى أخلص الكاتب أو الشاعر فيما يقول، كان أثره أقوى في النفس
وأدعى
إلى الإعجاب، وكان جمال القول أظهر، وكانت البلاغة أصحَّ وأبْيَن، وهذه ميزة الشعر الجاهلي؛
لأنه يكاد يكون خاليًا من المبالغة والكذب، صادرًا عمَّا في نفس الشاعر وعقائده.
ولكنَّ العواطف محدودة، وشعور الإنسان بالفرح والسرور والغضب والرضا لا يكاد يتغير.
ومهما
وجد الإنسان من ضروب التعبير في ذلك، فإنها توشك أن تنفد، ليس للخيال فيها مجال واسع؛
ولذلك
يكثر فيها تكرار المعنى الواحد؛ إذ الغرام وشكواه، أو البكاء والنحيب، أو المدح والذم،
أو
الوصف والتشبيه، ذلك كله ذو معانٍ سرعان ما تنفد من قائلها؛ ولذلك تجد المعنى الواحد
مكررًا
عند نفس الشاعر في قصائد متعددة، يسترها خلاف الألفاظ الظاهري.
ومن هنا أيضًا جاءتِ السرقة في الشعر؛ ذلك لأن المعاني والخيالات محدودة، وفكر الشاعر
محدود، فلا بد للشاعر من تكرار المعنى والسطو على معاني غيره يُلبسها لباسًا آخر من
الألفاظ؛ فتجد العاشق يخاف الرقباء ويشكو الجفاء والهجر، ويتألم من طول الليل، ويبكي
ألم
الفراق. على أن هذه المعاني تختلف باختلاف شعور كل إنسان، وقد يجد فيها الشاعر مجالًا
واسعًا.
٤ ولكنَّ شعراء العرب لم يُبيحوا لأنفسهم هذه الحرية في القول ولا في الخيال، بل
وقفوا أنفسهم على اتباع طريقة الشعر القديم، وأخذ يقلد بعضهم بعضًا في المعنى الواحد،
ولا
أنبئكم بما في باب «سرقة الشعر»؛ فقد يجد الإنسان المعنى الواحد عند عشرات من الشعراء
مكررًا.
ومع هذا فقد ظنَّ العرب أن شعراءهم طرقوا كل معنًى من قديم، ووصلوا إلى كل خيال
٥ فوضعوا من أول الأمر القواعد والقوانين في ذلك، ورسموا المعاني وحددوها، وحصروا
أنواع الشعر والخيال، وجعلوا لها خطة وقانونًا. كما فعل قُدامة في كتابه «نقد الشعر»،
وتبعه
في ذلك مَن جاء بعده. وروى ابن رشيق «في العمدة»: أن قواعد الشعر أربعة: الرغبة، والرهبة،
والطرب، والغضب. فمع الرغبة يكون المدح والشكر، ومع الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف،
ومع
الطرب يكون الشوق ورقة النسيب، ومع الغضب يكون الهجاء والتوعد والعتاب الموجع … وقيل
لأحد
الشعراء: أتقول الشعر اليوم؟ فقال: والله ما أطرب ولا أغضب ولا أشرب ولا أرغب، وإنما
يجيء
الشعر عند إحداهن. وردَّ بعضهم الشعرَ كله إلى نوعين: مدح وهجاء، قال: «فإلى المدح يرجع
الرثاء والافتخار والتشبيب، وما تعلق بذلك من محمود الوصف، كصفات الطلول والآثار والتشبيهات
الحسان، وكذلك تحسين الأخلاق، كالأمثال والحكم والمواعظ، والزهد في الدنيا والقناعة،
والهجاء ضد ذلك.»
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: قلتُ لأعرابي: مَنْ أشعر الناس؟ قال: مَن إذا مدح
رفَع،
وإذا هجا وَضَع. فكان الشعر عند العرب وجدانيًّا على حسب تقسيمهم وفهمهم له، وهذا من
مميزاته؛ لأنه كله على هذا النحو، حتى في الشعر الحماسي؛ فإنك إذا قرأتَ أخبار الحروب
وجدتَ
شخصية الشاعر ظاهرة فيها؛ لأنه يفتخر بشجاعته وبحسبه، وذلك يجعل الشعر أقل أثرًا في نفس
القارئ ممَّا إذا تجرد الشاعر عن نفسه، ودخل فيما يصح أن يكون صورة من صور النفوس
الأخرى، وحالة من الأحوال العامة، بخلاف الشعر الاجتماعي.
٦
لسنا الآن في موقف يسمح لنا أن نشرح هذه البلاغة العامة أو الاجتماعية شرحًا وافيًا،
ولكنا أردنا أن ندل عليها دلالة إجمالية؛ ليتبين الفرق بين البلاغتين. وليس لنا ولا لإنسان
أن ينكر أن هذا النوع من البلاغة لا يوجد عند العرب وجوده في بلاغات الأمم الأخرى. أجَلْ،
إن الحِكَم والمواعظ تملأ أشعار العرب. ولكنَّ هذا النوع من البلاغة النفسية
٧ (بسكلوجية) لا تكاد توجد عند العرب، وإن وجدت فهي قليلة نادرة نُدُورَ وجود
الشعر القصصي؛ لأن «تحليل» نفس من النفوس الإنسانية لا يكون، ولا يمكن أن يكون، إلا في
القصص الطويلة التامة. والشعر العربي لا يعرف القصص الطوال، وإن وُجدت قصيدة أو قصيدتان
في
ذلك فلا يصح أن يُحْكَمَ به على الشعر العربي؛ لندورته. ويكفي في ذلك أن أصبح الغزل افتتاح
كل قصيدة، كذكر الغرام ووصف الدِّمَن، وبكاء الأطلال؛ حتى صار ذلك طابعًا من طوابع الشعر
العربي، وإن كان الشاعر لم يعشق عمره، ولم يتذوق للغرام معنًى، ولو كان المقام لا يصح
فيه
ذكر العشق.
٨
غير أن هذه هي طريقة الشعر العربي وذلك أسلوبه، فلا يُعَاب عليه ذلك، كما أن شعراء
اليونان كانوا يبدءون شعرهم بمناجاة ربة الشعر؛ لأن هذا أثر يدل عليهم ويميزهم من غيرهم؛
كذلك الشعر العربي سواء بسواء.
ومهما يكن من شيء، فإنا إذا بحثنا في الشعر العربي عن قصص طويلة مستوفاة لا نجد لها
أثرًا، كما نجد ذلك عند جميع الأمم الأخرى، وقد قال بعض المستشرقين: إن العرب كجميع الأمم
السامية لا يعرفون الشعر القصصي الطويل، وإنه من طبيعة الساميِّ أن يختصر القول اختصارًا،
ويقصد إلى الحكمة فيضعها في كلمة أو كلمتين، ويعمد إلى الفكر الكبير فيسطره في بيت أو
بيتين، وإنه من شروط الشعر عنده أن يشتمل كل بيت على معنًى تام، ويكون قائمًا بذاته.
قالوا:
ولذلك كثرت الأمثال والحِكَم عندهم.
ولعلَّ العرب في جاهليتهم لم تنضج عندهم صناعة الشعر نضجًا كافيًا. ومهما قيل من أن
المعلقات لا يصح أن تكون من أوائل الشعر العربي؛ لما بها من الصناعة والإتقان — وذلك
يستلزم
أن يكون الشعر قد تخطَّى زمنًا طويلًا، وأدرك أطوارًا مختلفة — فإنَّا لا نزال نرى فيها
سذاجة ظاهرة، وصناعة أولية. وإذا جارَيْنا بعض المستشرقين القائلين بأن كثيرًا من الشعر
الجاهلي دخيل، كانتِ السذاجة ممتدة في الصناعة الشعرية إلى ما بعد الإسلام. والحق أن
طبيعة
السامي غير طبيعة الأمم الأخرى من حيث الخيال والتصور، فقد سلك مسلكًا آخر في طرق التعبير
غير ما سلكه غيره، ولم يلتفت لمجاراة الأمم الأخرى في بلاغتهم، ولم يسمح له حب لغته
والإعجاب بها، أن يقلدهم، أو أن يزيد شيئًا لم يكن من مخترعاته، ولا من مميزات لغته؛
فاكتفى
بما عنده وقنع بما في يده.
وتقسيم العرب للشعر لم يكن من حيث الأغراض العامة كما قسمناه، وإنما قسموه من جهة
النوع،
أو من جهة أغراض الشاعر نفسه: كالمدح والذم، والوصف والنسيب، إلى آخر ما هناك. وجاء النقاد
فآثروا هذا التقسيم، ولم يفكروا في تقسيم آخر، كما فعل أهل أوروبا في تقسيم الشعر إلى:
«أبيك» وإلى «ليريك» … إلخ. بل كان تقسيمهم جزئيًّا لا كليًّا. وذهب بهم ذلك إلى البحث
في
البيت الواحد أو البيتين، وأكثروا من البحث في اللفظ والديباجة؛ فقسَّم ابن قتيبة في
مقدمة
كتابه «الشعر والشعراء» أنواع الشعر «إلى ما جاد لفظه ومعناه، وإلى ما جاد معناه وساء
لفظه.» إلى آخر ما قال هناك. وذكر قدامة بن جعفر في كتابه «نقد الشعر» شيئًا مثل هذا:
كنعت
اللفظ «بأن يكون سمحًا، سهل مخرج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة مع الخلو من
البشاعة.» ونعت الوزن ثم نعت القوافي … إلخ. وذكر «أن أغراض الشعراء وما هم عليه أكثر
حومًا،
وعليه أشد رومًا، هو المديح والهجاء، والنسيب والمراثي، والوصف والتشبيه …» وأخذ يذكر
نعوتَ
وشروطَ هذه المعاني، وكذلك قلَّده مَن جاء بعده. فسار الأدباء على هذا النحو، ولم يفتح
النقاد بابًا جديدًا في الشعر، بل ألزموا الشعراء أن يقفوا أثر المتقدمين في موضوعاتهم
وأساليبهم، وهذا من الأسباب في وقوف حركة البلاغة عند العرب. فإذا لم تحصل هناك أنواع
جديدة، خصوصًا في الشعر
٩ فلأن المتأخرين اقتفَوْا أثر المتقدمين فلم يبتدعوا ولم يبحثوا للبلاغة نفسها،
وإنما جعلوها وسيلة لا غاية.
ومن أسباب عدم وجود الشعر القصصي عند العرب عدم نظر العربي في الاجتماع نظرة عامة؛
لأن
العربي كان يهتم بنفسه وبفوائده الشخصية، ومن هنا جاءت مسألة العصبية، والغرض منها حماية
الشخص ضمن قبيلته، وحالته المعيشية تجبره على ذلك، وعيشته البدوية وما فيها من القتال
والنزاع سَيَّرت أفكاره في طريق خاص.
والشعر القصصي النفسي يحتاج إلى شيء من التعمُّل والكلفة، ودقة النظر والفكر، وشيء
من
المعاني الفلسفية الاجتماعية؛ لأنه يستلزم إظهار البلاغة في معنًى فلسفي، بمثل ذلك يمكن
أن
يفيد الشعر؛ لأنه يصور النفوس تصويرًا تامًّا، ويصور الحياة صورة حقيقية أو قريبة من
الحقيقة، وهذا ما قصده العرب من وضع الحِكَم والأمثال في البيت والبيتين من الشعر. ولكنَّ
ذلك لا يفيد الفائدة التي في القصص، وقد أصبح من اللازم الآن أن يضم الكاتب أو الشاعر
على
كلامه وأفكاره صفة الأشخاص الجسمية أبطال قصصه؛ ليجسِّم المعنى في نفس القارئ أو السامع،
ولتكون أقرب إلى الحقيقة وأدعى إلى العظة.
كل هذا يحتاج إلى الرويَّة والفكر، والعربي لا يعرف الرويَّة في القول، ولم يتعود
كدَّ
القريحة، كما قال أبو عثمان الجاحظ: وكل شيء للعرب إنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام،
وليست هناك معاناة ولا
مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف هَمَّه إلى الكلام، وإلى رجز
يوم الخصام، أو حين أن يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة
والمناضلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى
العمود الذي إليه يقصد؛ فتأتيه المعاني أَرْسَالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا،
ثم لا يعيده على نفسه، ولا يدرسه أحدًا من ولده.
وكانوا أُمِّيِّين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر
وأكثر، وهم عليه أقدر وأقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع،
وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفُّظ،
ويحتاجوا إلى تدارُس، وليس هم كمَن حفظ عِلْم غيره، واحتذى على كلام مَن كان قبله؛
فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم والتحم بصدورهم واتصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد
ولا تحفظ ولا طلب.
١٠
هذه هي حقيقة البلاغة عند العرب وجِماع القول فيها،
١١ وهذا يخالف طريقة الشعر القصصي المعروفة الآن، التي اتخذها الأدباء والكتَّاب
والشعراء قاعدة لهم، بل إن الشعر القصصي المصطلح عليه الآن المسمى عندهم «أبيك» — وهو
ما
نسميه نحن بالشعر الحماسي — خاص بالحروب وسِيَر الشجعان، وما يُلاقونه في حياتهم من الأسفار
والحوادث، كما في قصة «الأودسى» لهومروس، وكما في «أنشودة رولند» الفرنسية، التي فيها
وصف
حرب من حروب شالمان.
والشعر القصصي من لوازمه تسلسل المعنى لاتصال الأبيات بعضها ببعض، وذلك يخالف أصول
الشعر
العربي وصناعته، قال ابن خلدون في باب صناعة الشعر: «وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه؛
حتى كأنه كلام مستقل عمَّا قبله وما بعده، وإذا أُفرد كان تامًّا في بابه في مدح أو تشبيب
أو رثاء، فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته، ثم يستأنف في البيت الآخر
كلامًا آخر كذلك، ويستطرد للخروج من فن إلى فن، ومن مقصود إلى مقصود.»
وجملة القول أن الشعر العربي ميزته الأولى أنه شعر وجداني، يمثل العواطف والإحساسات
الشخصية، وأنه احتوى في جملته على أنواع كثيرة، وأن هذه الروح الشعرية الفطرية هي سبب
ما
فيه من المتانة وخفة الروح، وموافقته لكثير من الطبائع؛ فإن أكبر مظاهر البلاغة العربية
الأولى هو الشعر، وأكبر منابع الشعر الفطرة والوجدان والخيال والحياة العامة. فالشعر
القديم
وجداني فطري في أصله ومأخذه، اجتماعي في صورته وشكله؛ لأن به كثيرًا من أثر الاجتماع
العربي. ولكنَّ الشعر القصصي والشعر التمثيلي بالمعنى المعروف الآن عند الأدباء في بلاغات
الأمم الأخرى لا وجود له عند العرب.
١٢
على أن هذا ليس بمعيب للشعر العربي؛ لأن لكل أمة منزعًا، ولكل شعب خيالًا خاصًّا،
وطريقة
خاصة في التصور والإدراك والصناعة، وشعر العرب في نوعه لا يُضارَع ولا يُجارَى في أمة
أخرى.