الشعر الجاهليُّ
الأمة العربية من أذكى الأمم وأصفاها قريحة، وأكثرها استعدادًا للرقي. ولكنها انزوت بطبيعة بلادها في جوف الصحراء فرضيَت بحالتها، ورغبت في البقاء عليها، واكتسبت من حريتها المطلقة نوعًا من الإعجاب، ففخرت على غيرها، وحسِب البدوي نفسَه أفضلَ ما يكون إدراكًا، وأكملَ ما يكون أخلاقًا. تعوَّد الحرية في أعماله، فكان كل رئيس قبيلة مقيدًا برأي أهله وعشيرته. وكان العربي كريمًا يجود بكل شيء، وكان سيفه ورمحه ورحله كل ما يملك، يناديه أصغر إنسان باسمه فلان بن فلان، ومع أنه كان ميَّالًا إلى المساواة، وإلى هذا النوع الذي يسمونه الآن «ديمقراطية» كان يرى نفسه قد خُصَّ بمزايا ليست لغيره من الأمم الأخرى؛ مزايا في جنسه وأخلاقه، وعاداته ولغته، وكل شيء لديه، فترفَّع عن الصناعات والأعمال، ووكل ذلك إلى الخدم والموالي والعبيد، وامتاز هو بالشجاعة والكرم والذكاء، وقوة الخيال الشعري، وبلاغة الكلام.
أما العصبية فكانت أشد ما تكون عند العرب، وهي التي حفظت كيانهم، كما أنها كانت من الأسباب التي هاجتِ الحرب بينهم، فقد كان العربي يجود بكل شيء في سبيل نصرة قومه وعز قبيلته، وهو مخلص كل الإخلاص؛ لأن ذلك أصبح لديه من أغراض الحياة لحفظ نفسه وأهله.
نشأ العربي على هذه الحرية والسذاجة في العيش، ووهبه صفاءُ سمائه وصفاءُ قريحته سهولةَ الكلام، واكتسب من سهولة عيشه الرضا بما لديه، فلم يكن له هذا النوع من القلق في الفكر، الذي يدعو إلى البحث وحب الاستطلاع، وكان يتهاون بضروب الآلام شأن كل شجاع، ولم يكن يهتم بما سيكون في غده، ولا بالبحث والتنقيب في أسرار الحياة، وكل ما يُعرَف عن حكمائهم وكهَّانهم جُمَل تشتمل على نصائح، وعبارات مملوءة بالحِكَم والعبرة.
هذه الحياة الفطرية بما فيها من البساطة والسذاجة والأخلاق من كرم وشجاعة ووفاء، هي كل الشعر العربي الجاهلي، أو الشعر العربي الجاهلي هو كل ذلك. كان العربي يصف في شعره ما يراه، ويتكلم عمَّا يشعر به في نفسه من عواطف وفضائل، وقد تكلَّم وعبَّر عمَّا يجول بخاطره بنفس الشجاعة والإقدام اللذين كانا له في الحياة.
والعرب أكثر الأمم اهتمامًا بالشعر واشتغالًا به؛ فلا تكاد تجد عربيًّا إلا نطق بالشعر وقال الأبيات والقصائد، سواء في ذلك رجالهم ونساؤهم وبناتهم وصبيانهم؛ لأن الشعر طبيعة من طبائعهم، وسجية من سجاياهم، فما هو إلا أن يحرك نفس العربي داعٍ صغير أو كبير لينفتق لسانه بالكلام البليغ، وليسترسل في القول استرسالًا، فيبدع ويغرب، ويستولي على النفوس استيلاء، ويقود الجماعات ويذكي الحروب، ويصلح ذات البَيْن، ويفعل في النفس فعل الكأس.
هذا ولم يقف الباحثون إلى الآن على أثر يدل على أصل الشعر العربي ولا كيف بدأ، وما وصل إلينا من الشعر القديم، لا يدل إلا على متانة في الصناعة، ممَّا لا يصح أن يكون من أوائل الشعر.
والمظنون أن الشعر القديم لم يصل إلينا لعدم تدوينه، ولانتشار الأمية في ذلك الزمن؛ إذ لا يمكن أن يصل الشاعر إلى هذا الضرب من البيان، ولا إلى هذا الإتقان إلا بتعمُّل كبير وجهد عظيم، خصوصًا هذه الأوزان المختلفة والقوافي المتعددة. وإذا ذهبنا إلى أبعد ما قيل من الشعر الجاهلي، قبل الإسلام بنحو قرنين — على بعض الأقوال — نرى أن هذا لا يكفي لِما وصل إليه من الإتقان والإمتاع في الصناعة، ولا لوصول الأفكار لهذا الحد من الحكمة في القول كما في معلقة زهير، وشعر عدي بن زيد وغيرهما؛ لأن الأفراد لا يمكن أن يصلوا إلى ذلك إلا بعد تربية طويلة للمجموع، يتخرج فيها أصحاب المذاهب الخاصة، فلعل الشعر الجاهلي أقدم ممَّا نظن بكثير.
قالوا: وأول ما انفتق لسان العربي بالشعر كان في سَيره مع الأبل أثناء أسفاره، التي كان يقطع فيها الصحراء المحرقة الواسعة الفضاء، وهو على جمله يهتز هذه الهزات المتوالية، التي تطوي وتنشر جسمه طيًّا ونشرًا؛ فدعاه ذلك إلى الحداء ليقطع الوقت، وليخفِّف على هذا الحيوان أَلَمَ السير؛ إذ بحنوِّه إلى سماع الغناء ينسى هذا الحيوان الصبور كلَّ أَلَم، وقد ظهر في حركات سيره شيء يشبه أن يكون سببه الطرب من سماع الغناء، في ارتفاع عنقه وانخفاضه. قالوا وأخذ العربي أوزان الشعر من حركات الإبل في سيرها.
ومن المحتمل أن يكون هذا صحيحًا، وأن يكون ما دعا العربي لقول الشعر كثرة أسفاره وأتعابه من اختراق الصحراء. ولكنَّ العربي ككل الناس من جهة العواطف والإحساسات والاستعداد إلى قول الشعر. بل ظهر أن العربي أكثر الناس استعدادًا لقَرْض الشعر، وأكثر من قال شعرًا؛ لا تكاد تجد أمة أخرى أنتج خيالها من الكلام الموزون المُقَفَّى مثل ما أنتج العرب، ولا يوجد عدد من الشعراء في أمة من الأمم أكثر من عدد شعراء العرب؛ لأن الشعر كان سجية من سجاياهم، فكان لديهم أشبه بالحديث والمسامرات عند غيرهم. فلماذا لا تكون هذه الطبيعة النقية، وهذا الاستعداد السليم هما اللذان دَعَوَا العربَ لقول الشعر من أول الأمر؟ وأن الحياة البدوية والحاجة إلى الدفاع عن النفس والأهل هي التي فتقت لسانه بهذا الكلام البليغ؟ وأن مفاخره جعلته يملك أَعِنَّة الكلام، ويتصرف هذا التصرف في القول؟ وأن هذه الصبغة التي في شعره فطرية ناشئة عن أسباب كثيرة، بعضها خاص باللغة وغنائها والبيئة وما فيها.
وقد قال بعض المستشرقين مثل رينان ومَن جرى على مذهبه: إن العرب ككل الأمم السامية ليس لها أساطير في شعرها ولا في عقائدها، وإن هذا يدل على ضيق الخيال لديهم؛ لأن الأساطير والخرافات إنما هي نتيجة سعة الخيال، ونتيجة الحيرة وحب البحث والاطلاع، وإن الفكر كلما كان قلقًا متطلعًا إلى غاية أسمى وكان بعيد الغرض؛ دعاه ذلك إلى حب البحث وإلى أن يكون في حركة مستمرة للوصول إلى ما يريد، كأنه يبحث عن حقيقة خفية، وكلما أكثر من البحث ظهرت له أشياء ووقف على معانٍ جديدة، وتبيَّنت له أسرار دقيقة في الحياة، وعرف ما لم يكن يعرف قبلًا. قالوا: كل ذلك يظهر أثره في بلاغات الأمم من نظم ونثر، كما هي الحال عند الأمم الآرية كاليونان وغيرهم من الأمم الأوروبية. وقالوا: سعة الخيال، ولا يقصدون بالخيال ما نقصده نحن من المجاز والتشبيه، وإنما يقصدون سعة الخيال في تصور الحقائق وفي إدراك الموضوعات المختلفة؛ لأن أساطير اليونان كان منشؤها البحث عن الخالق وتصوُّره، فلم ترشدهم عقولُهم إلَّا إلى ضرْب من الخرافات، كتبوا عنها وألَّفوا فيها الأسفار، ونصبوا لها التماثيل، وتوسَّعوا في الفنون؛ فاستدلَّ الباحثون بذلك على قوة الذكاء وسعة الخيال وحب الجمال والافتنان فيه. وربما كان هذا من الأسباب التي حملتهم على طول الكلام، والميل إلى القصص في النثر والشعر؛ لأن هذا النوع من البلاغة ليس إلا ضربًا من سعة الخيال في التصور والفكر والتعبير؛ ومن هنا يكون تعدد الأنواع في ضروب البلاغة نظمًا ونثرًا.
الرواية في ذاتها متهمة، ولا يصح الأخذ بها علميًّا إن كانت رواية ككل الروايات. ولكنَّ المسلمين عُنوا عناية خاصة بالرواية، حتى أصبحت من الطرق العلمية؛ لأن كثيرًا من أحكام الدين مبنيَّة عليها، ولا يمكن أن تكون قاعدة علمية أثبتَ وأصحَّ ممَّا وضعوه في رواية الحديث، وما قرَّروه من الشروط في ذلك، ممَّا يصح الآن أن يكون من أحدث الطرق العلمية. ولكن هل هذه العناية بنفسها وُجدت في رواية الشعر؟ هذا ما لا يمكن الجزم به؛ بدليل ما نُسب إلى الرواة، وبدليل ما نراه من الاختلاف في ذلك؛ فإن بعض الأشعار لا يزال قائله مجهولًا. أما إذا اتَّبعنا الطرق العلمية المحضة، التي تقول: إنه لا يصح الجزم بالشيء إلا إذا ثبت بدليل قطعي، فلا يصح التصديق بذلك تصديقًا تامًّا؛ لأنه يحتمل عدم الصحة. وأما إذا نظرنا نظرة المتساهل الذي يحسن الظن، ولا يُقيِّد نفسه بالقواعد والقوانين العلمية، فإننا لا نجاري هؤلاء في شكِّهم، خصوصًا أنه في المستحيل أن تكون كل هذه الأشعار أو أكثرها مخترعة، أو منسوبة إلى غير قائلها بدون سبب ولا داعٍ إلى ذلك، وإذا كذب الرواة أو دسُّوا على بعض الشعراء شيئًا، فإن ذلك لا يمكن أن يصل إلى مقدار ما نعرفه من الشعر الجاهلي، وكيف يمكن اختراع هذا الشعر الكثير، وبه من العبارات والأساليب ما يدل على أنه بدويٌّ صِرْف؟ وأي إنسان يمكنه أن يحصل على هذه القدرة؛ ليشغل وقته بذلك وينسبه إلى غيره، وكان أولى به أن يذكره لنفسه ليفخر به؟ وأي فائدة لأي معتوه أن يتعب في التأليف ويقول: هو لفلان؟ أنرمي كل الرواة وعلماء اللغة والأدب بالكذب أو نتهمهم بعدم الثقة؛ لأن حمادًا وغيره كذب مرة أو مرتين؟ وهل يصح أن نحكم على البلد أجمع بالمرض لأن بها إنسانًا مريضًا؟
إن المستشرقين يبالغون في ذلك، كما يبالغ بعض المؤرخين في نسبة التاريخ اليوناني القديم أجمعه إلى الأساطير والخرافات، والحق أن المسألة لا تزال موضع البحث، ولا يمكن الجزم بشيء في ذلك الآن. غير أننا نرجِّح أن كثيرًا من الشعر القديم منسوب كذبًا إلى الشعراء المعروفين. ولكن هذا لا يطعن في صبغته العربية من حيث الأسلوب.