البلاغة والاجتماع
هل البلاغة صورة الاجتماع؟ وهل يصح أن تتخذ حركة الكتابة من شعر ونثر دلالة على حياة الأمم الاجتماعية، وعلى مجموع صورة الاجتماع من أفكار وعقائد، وتصورات وخيال، وذكاء ودقة في الفهم، وخمول في القريحة، أو على ما في الأمم من ميل إلى الجد وإلى اللهو، وما في النفوس من قوة وضعف وإرادة، وعلى اختلاف الأذواق وفهم الجمال، ثم على العادات وغير ذلك، ممَّا يدل على شيء من التاريخ والأخلاق القومية؟
قال بعض الفلاسفة الاجتماعيين: «يُلَاحظ أنه حصل منذ هومروس تقدم تدريجي في الكتابة والشعر؛ حتى لقد يمكن أن نعتبر البلاغة صورة للاجتماع، فقد مرت بأطوار كثيرة وأنواع من الموضوعات الساذجة الخاصة بالأفراد، إلى الأنواع العامة، وتطرقت إلى الموضوعات الشريفة التي يمكن أن تمثل الجمهور.» أي بعد أن كان الكاتب أو الشاعر لا يتكلم ولا يكتب إلا عن نفسه وعيشته الخاصة، أخذت الكتابة تتسرب إلى الموضوعات الاجتماعية شيئًا فشيئًا، حتى انتقلت من وصف الأشخاص إلى وصف الجمهور والمجتمع، وقالوا: طريقة الكتابة والتعبير تدل على نفس الكاتب وحقيقته، يريدون أن الأفكار بنفسها مع أسلوبها تدل على صاحبها، وقالوا بعد ذلك: إن البلاغة صورة الاجتماع؛ يريدون أن ما يوجد من الأفكار في الكتابات من نظم ونثر يمثل الحالة الاجتماعية، ولا سيما الفكرية منها. وقالوا: إن القوانين والنظامات أثر من آثار الرجال. أما البلاغة فتمثل شخصيات الأمم، يريدون أن الكتَّاب الاجتماعيين يمثلون دائمًا في كتاباتهم الحالة الاجتماعية للأمم، ويظهرون فيها مجموع الأفكار ومجموع العادات السائدة في ذلك الوقت؛ لأن هذه الكتابات إنما تمثل أشخاصًا، وتصور أفرادًا من المجتمع، ومحور الكلام أو مغزى البلاغة يكون دائرًا حول جماعة من بيئة خاصة، فهي تمثل هذه البيئة.
وأخلاق الكتَّاب والشعراء التي تبدو في كتاباتهم إنما هي حالة من أحوال البيئة التي يعيش فيها هؤلاء الكتَّاب؛ فهم جزء من مجموع الجمهور، الذي يعبرون عن حالته، ويسمعنا صرير أقلامهم صوته.
وعلى ذلك فالحركة الكتابية هي نفس الاجتماع بما فيه؛ أي صورة أصلية للأمم، وحقيقة من الحقائق الثابتة، تمثِّل كلَّ ضروب الحياة، وحركات عقول الأفراد من علماء، وأدباء، وفنيين، وفلاسفة، وغيرهم.
ويمكننا نحن أن نضرب لذلك مثلًا بالشعر العربي مدة الدولة الأموية من الهجاء والمدح، وانقسام الشعراء إلى أحزاب سياسية، كلٌّ يمثِّل رأيًا من الآراء السائدة في ذلك الوقت، وانقسم الشعراء إلى علويين ينصرون آل علي بن أبي طالب — كرم الله وجهه — وإلى أمويين يؤيدون سياسة بني أمية، وغير ذلك.
وهل يكون أدلَّ على الحرية في ذلك الوقت من قول النعمان بن بشير، وقد دخل على معاوية أمير المؤمنين يؤنِّبه على هَجْو الأخطل الأنصارَ:
فهذا الشعر يصح أن يكون صورة صحيحة من صور الحياة إذ ذاك، ويصح أن يدل على حرية الشعب مدة خلافة معاوية. ومثل ذلك يقال في العادات والأخلاق، كقول امرأة رُزقت بنتًا، فغضب عليها زوجها وهجرها إلى بيت قريب منها، فكانت تُناغِي ابنتها بالأبيات الآتية:
فهذا أيضًا يدل على ضرْب من المعاملات، وعلى أحوال الاجتماع، وعلى ما للمرأة من رقة الأخلاق ولين الجانب. قالوا: ولما سمع زوجها هذا النشيد همَّ بتقبيلها هي وابنتها؛ فكان ذلك سببًا لرجوعه إلى زوجته. ومثل ذلك يقال في الأشعار الدالة على الكرم والشجاعة والعشق وغيرها.
وكان من رأي جماعة من الأدباء أن القصص والروايات تصح أن تكون منبعًا من منابع التاريخ، ومرجعًا من مراجعه؛ لأنك تجد فيها كل أشكال الناس؛ ففيها الطفل والشاب، والجندي والحاكم، والمالي والشريف والسياسي، بمميزاتهم وأخلاقهم النفسية والاجتماعية، وبأشكالهم الحقيقية، فقد أخذت الكتابة شكلًا علميًّا تاريخيًّا، وصارت البلاغة كتراجم لأشخاص ونفوس اجتماعية لأفراد خاصة معينة، أو بعبارة أخرى، أصبحت الكتابة تمثل أخلاق المجتمع، وتكشف حقيقته، كما أن العلوم يتوصل بها إلى تقرير الحقائق، كدرس طبيعة حيوان، أو صفة عامة في فصيلة من فصائل النبات.
هل أصحاب هذا الرأي محقون؟ وهل يؤخذ هذا الكلام على عِلَّاته؟ وهل الأشخاص الذين نراهم في جوف القصص وفي بطون الحكايات لهم صورة أصلية في الخارج؟ وهل أوصافهم وأعمالهم ووظائفهم حقيقة من الحقائق الثابتة؟ إذا بحثنا في ذلك بحثًا دقيقًا وجدنا أن هناك فرقًا ظاهرًا، وأحيانًا مخالفة واضحة بين بعض الكتابات البلاغية وبين البيئة التي نبتت فيها وخرجت منها. وسبب ذلك أهواء الكاتب الشخصية وأغراضه النفسية، أو تأييد فكرة يعمل على إثباتها ويبالغ في تقديسها.
فجمال الشعر العربي في الصناعة، وهو كذلك عند جميع الأمم خصوصًا الشعر الوجداني، فإنه يكاد يكون مبنيًّا على ذلك فحسب، فكيف يستدل بالشعر على الحقيقة؟ وقولهم: «إن الشعر ديوان العرب، به أخلاقهم وعاداتهم وأنسابهم وحروبهم» ليس معناه أن الشعر يصح أن يكون دليلًا من أدلة التاريخ العام؛ فإذا روى أحد الشعراء قصة فلا يصح أن تؤخذ على أنها حقيقة من الحقائق الثابتة، كما في كتب التاريخ، وإلا لصح أن تعتبر الأساطير الشعرية «والأمثال» حجة تاريخية، ولم يقل بذلك مفكر؛ لأن كل الشعر اليوناني القديم خرافي، وكل ما فيه من الآلهة والحروب خرافي أيضًا، وربما لم يحصل شيء مطلقًا من هذه الحروب، بل من المحقق أن أشيل وأغمنون وآلهة الشعر التي نزلت من السماء أشخاص خياليون، والقصة نفسها خيالية. بل قالوا: إن هوموروس نفسه شخص خرافي لا أثر له في الحقيقة، فكيف تكون هذه الأشعار ومثلها دليلًا على حالة الاجتماع وعلى حياة الأمم دلالة تاريخية؟ وهل يصح أن نصدق بوجود الأشخاص الذين وجدوا في أشعار الجن عند أدباء العرب؟ وأن تكون قصة «ألف ليلة وليلة» صحيفة صادقة من صحف التاريخ الإسلامي؟ أو صورة صحيحة من صور الحياة الاجتماعية في بغداد ومصر وغيرهما؟ لا نزعم أن كلَّ ما بها ضرْب من الكذب أو الافتراء. ولكن الإنسان يرى من أول وهلة أن بها مبالغات هي أثر الكتابة الخرافية، والأساطير الأدبية وأثر الصنعة، فيها أشخاص معروفون، فيها ملوك وأمراء، فيها نساء وحكام. ولكن أوصافهم أو أشخاصهم غير حقيقية.
وربما كان هذا الكذب الصناعي هو الذي يحمل القارئ أحيانًا على استمرائها، والاسترسال في قراءتها؛ لأن الأشياء التي هي غير مألوفة، كثيرًا ما تعجب الإنسان وترضي النفس التي تحب الخداع، وتميل إلى الانتقال وتحب التغيير، خصوصًا عندما يكون فيها من الأفكار والخيالات ما يحرك عواطف الشاب، ويعجب الشيوخ والكهول. وكثيرًا ما يكون تشويه الحقيقة في الفنون داعيًا من دواعي الإعجاب. لماذا يعجبنا أن نرى صورة مشوهة، ذات رأس ضخم على جسم صغير لا يمكنه أن يتحمل هذا الرأس؟ أليس ذلك لأنه غريب عنا، بعيد عمَّا نراه من الحقائق، محرِّك فينا حبَّ الاستطلاع؟ كذلك الحال في جميع الفنون. غير أن هناك نوعًا من الفنون التي تدخل في باب الحقائق، وتجعلها سائغة على النفس خفيفة الروح، سهلة القبول؛ فإن صورة يصورها المصور لإنسان، لا يمكن أن تكون غيره. ولكن ربما اقتضتِ الصناعةُ أن يضع على رأسه العمار بشكل خاص، أو أن يغير من شكل ملابسه أو لونها بعض التغيير، أو أن يجعل ارتفاع «طربوشه» مثلًا ارتفاعًا مناسبًا لِما يريد، أو أن تقضي الصناعة وضع ثلاثة أو أربعة أزِرَّة في ملابسه، وهو لم يحمل إلَّا اثنين مثلًا. هذه التفصيلات لا تغيِّر من حقيقة الشخص نفسه. غير أنه لا وجود لها، كذلك الحال في الشعر والنثر؛ ففي أشعار العرب ما يدل في مجموعه على أخلاقهم، كالكرم والشجاعة وعدم احتمال الضيم، إلى غير ذلك ممَّا ورد في شعرهم. ولكن لا يمكن أن ندرس إنسانًا دراسة تامة في شعره، نعم قد يستدل من كتابات الرجل على شيء من أخلاقه، ويمكننا أن نعرف إن كان الشاعر عاقلًا أو مجنونًا، كما يمكننا أن نعرف إن كان مخطئًا أو مصيبًا في أفكاره. ولكن هل يصح أن نحكم على إنسان بالشجاعة لأنه مدح الشجاعة؟ أو نقول: إنه كريم لأنه مدح الكرم؟ لدينا الآن مَن يصف السيف والرمح، ويمدح الشجاعة والموت في سبيلها، وهو لا يعرف أن يقبض على السيف، وتهتز فرائصه خوفًا إذا همَّ إنسان يضربه بيده لا بسيفه، وكم من شاعر وصف الخمر وهو لم يشربها، ومدح التقوى وهو لم يعرفها.
وعلى كل حال فلا يصح أن تعتبر البلاغة دليلًا صحيحًا على الزمن والأشخاص الذين ظهرت بين ظهرانَيْهم، أو أن تكون أثرًا تاريخيًّا.
نعم لا تكون الكتابة من الأدلة التاريخية لأمة من الأمم؛ لأن الكاتب لا يقصد من وضع قصة تمثيلية لحادثة تاريخية تمثيلًا خاليًا من الزيادة والنقص. ولكنه يريد إظهار رأيه وإثباته في قصته، وهذا ما يدور عليه محور التمثيل؛ ولذلك يعمل على إظهاره بأي شكل كان وبأي وسيلة كانت، هذه الزينة التي توجد على المسارح من ستائر وأثاثات وألوان وأضواء، وهذه الملابس والحركات والأشكال، قد تكون غيرها في الزمن الذي وجدت فيه القصة وربما لا تشبهها، كالكلام الكثير والمناظر المختلفة التي لا تكون من القصة في شيء. ولكنَّ المؤلف يريد أن يعجب الحاضرين، وينال من نفوسهم بهذه المظاهر ليتوصَّل إلى إثبات فكرته، أو إلى نشر حقيقة خفية بهذه الوسائل. كل ذلك لازم تقتضيه قواعد الفن وتستلزمه الرغبة في الإعجاب؛ ولذلك كثيرًا ما يغير أصحاب الفنون مناظر القصة التمثيلية إلى غيرها؛ لأنهم يرون ذلك أوفق وأدعى للجمال، ولأن الفنون ليس من غرضها البحث عن الحقائق، ذلك يرجع إلى الفلسفة والعلوم، إنما غرض الفنون إظهار الجمال.
هذا مَثَلٌ ضربناه لأن الصناعة فيه أظهر، وعدم اتباع الحقيقة فيه أبْيَن، والجري وراء أهواء الكاتب في إظهار البراعة فيه أوضح؛ لأنه مبنيٌّ على المشاهدات، ومثل ذلك يُقال في أنواع النثر والشعر، وهل مثل قول ابن كلثوم:
يدل على حقيقة؟ وهل هذه كانت حالة الاجتماع في ذلك الزمن؟ هذا من باب الفخر والحماسة وجمال القول والمبالغة، أو من التهاون بالحقائق لاقتضاء الصناعة ذلك. كل ما يمكن أن تدل عليه البلاغة من نظم ونثر، وقصص وحكايات، وروايات تمثيلية واجتماعية، هو مجموع الحركة الفكرية للأمم، والصورة العامة للميول والأهواء للمجتمع، وشيء من حركة النفوس والعقول، وبعض الأخلاق والعادات التي يمكن أن تُؤْخَذَ من بطون هذه الصحف.
وقد قال بعض النقاد: إن الحالة الاجتماعية لأمة من الأمم تُعْرَفُ من آراء النقاد أكثر ممَّا تعرف من البلاغة نفسها؛ أي إنه يمكن أن يعرف الإنسان من ملاحظات النقاد على الكتَّاب والشعراء صحة مطابقتها للأخلاق والعادات من عدمها؛ لأن النقاد يرون ما لا يراه الكاتب نفسه؛ فتكون آراؤهم أقرب إلى الصواب من آراء الكاتب، وهذه الآراء تبيِّن أفكار الكاتب وحكمه على المجتمع الذي يعيش فيه، نضرب لذلك مثلًا بحالة القصص الاجتماعية الآن: كثير من هذه القصص يمثل طبقات الناس تمثيلًا غير حقيقي، يمثِّل المرأة أو الفتاة في حالة من الأخلاق لا يرضاها لها إنسان، خصوصًا في موقف الحب والغرام، كما هي الحال في القصص التمثيلية، فلو لم تُظهِر آراءُ النقاد ما في هذه الكتابات والأفكار من المبالغات، واعتمد كل إنسان على ما يقرؤه في أخذ الحقائق منها؛ لامتلأت نفسُه خطأ من الحكم على المجتمع، وكما هي الحال للأجانب الذين يصفون البلاد من بطون الكتب لا غير، كالقصص والروايات، ويحكمون عليها بناء على ذلك؛ لهذا قيل: إن الحكم على البلاغة نفسها هو صورة الاجتماع؛ أي إن المؤرخ الذي يريد أن يأخذ شيئًا من كتابة الأمم للحكم على مدنياتها، عليه أن يجمع آراء النقاد المختلفة ويوازن بينها؛ ليستخلص منها صورة صحيحة من الحالة الاجتماعية، فقد يجد أفكارًا متناقضة مختلفة في عصر واحد؛ لأن كل إنسان له رأي، فإن لم يكن هناك تمييز بين هذه الأفكار فبأيِّها يحكم القارئ؟ وعلى أي اجتماع يكون حكمه صحيحًا؟ وماذا تكون الحال إذا حكمنا على زمن الرشيد بشعر أبي نُوَاسٍ وأمثاله، وحكمنا على الشعراء بمثل هذه الأخلاق؟ وأبو نُوَاس يكاد يكون وحيدًا في بابه مع أصحابه، كما قال حمزة بن الحسن الأصبهاني جامع ديوان أبي نُوَاس: «وقد خصَّ شعر أبي نُوَاس ممن لهج بإضافة المنحول إليه بما ليس في غيره من الأشعار، وذلك أنَّ تَعَاطِيَه لقول الشعر كان على غير طريقهم؛ لأن جُلَّ أشعاره في اللهو والغزل والمجون والعبث، كأشعاره في وصف الخمر ولغة النساء والغلمان، وأقل أشعاره مدائحه. وليس هذا طريق الشعراء الذين كانوا في زمانه، وكانوا من بعده؛ فأبو نواس في توفُّره على الهزل بإزاء عِمْران بن حِطَّان وصالح بن عبد القدوس في توفُّرهما على الجِدِّ الصِّرْف.»
هذا معنى أن آراء النقاد هي صورة الاجتماع أكثر من البلاغة نفسها. وجملة القول أن كل ما يصح أن يؤخذ من البلاغة هو الحالة العامة للأفكار، وطريق سَيْرِها في زمن من الأزمان، حتى في البلاغة الحقيقية التي تنشر الحقائق بدون زيادة ولا نقص؛ لأنه ليس الغرض منها تقرير الحقائق، بل عرض صورة الشيء عرضًا إجماليًّا وبثُّ العبرة والعظة. كما إذا وصف الكاتب رجلًا قذِرًا رثَّ الثياب حافيَ الأقدام، فإنه لا يصفه لذاته، وإنما يصفه لإظهار النفس الكامنة فيه، وكما نجد في الكتابات الحديثة الآن أثناء الكلام على شخص من الأشخاص، وصف حجرته، وما لديه من الأثاث وغيرها؛ كل هذا للتوصل للحكم على الرجل وعلى نفسه. فإذا أردتَ أن تبحث عن أمة من الأمم، فإنك لا تجدها في بلاغتها، وإنما تجد في بلاغتها أذواقها وأنواع ميولها.