النزعات المختلفة في فهم البلاغة
يقرِّر العالِم نظريته ويبرهن على رأيه، ولا يكاد ينتهي من تقريره البرهان حتى تخرج الحقيقة من نفسه إلى نفوس سامعيه، وتظهر آراؤه لدى تلاميذه جلية واضحة، وتنتقل من تلاميذه إلى غيرهم، وتدخل في مائة نفس، وتملأ ألف رأس، كما خرجت من نفس قائلها، وكما قررها الأستاذ الأول، لا تؤثر فيها نفس أخرى، ولا تغيرها آثار الناس. فالقضية القائلة: «إن مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين.» والقضية القائلة: «إن الاحتكاك يولِّد حرارة.» لا تزال هي هي في كل رأس وعند أي إنسان.
ولمَّا انصرف المسلمون انصرافًا تامًّا إلى الاشتغال بتفسير القرآن الكريم، واهتم العلماء والأدباء منهم بجمع الأشعار واللغة. قالوا: إن علوم الأدب جمعاء وسيلة لفهم كتاب الله — تعالى — وقالوا: إن حكم البلاغة وحكم معرفة العلوم الأدبية الوجوب الكِفَائي، وشرفُها بشرف ما يتوصل إليه، فهي كلها علوم آليَّة (كما قال ابن خلدون في مقدمته)، كذلك كان فهم المسلمين للأدب والبلاغة، حتى لقد ترفَّع كثير منهم عن قول الشعر وذمَّه ذمًّا؛ لأن السواد الأعظم من الشعراء جعله وسيلة للسؤال، على ما كان له من الرفعة في المنزلة والروعة في المدح والذم، وكان الأمراء والخلفاء يَمْلَقون الشعراء ويخافونهم. فلم يكن الشعر والبلاغة صورة من الاجتماع العام أو الخاص، أو شيئًا جدِّيًّا في المجتمع، بل كان شِبْه ألعوبة للأهواء والأغراض وتسلية للنفوس، ولم يكن لشاعر أن يقصد إلى تربية النفوس وتهذيب الأخلاق، أو إظهار صورة عامة من صور الحياة، إلا ما جاء عفْوًا عند بعض الشعراء الزهاد والحكماء مثل: أبي العتاهية، والمتنبئ، وأبي العلاء. فكانت روح البلاغة أو الروح الأدبية كأنها في حالة اختناق؛ لأنها انحصرت في طائفتين، وكلتا الطائفتين لم تعمل على رقيها كما كان ينبغي: فطائفة العلماء والمشتغلين بالدين والعلوم العربية اهتموا بالبلاغة من أجل ذلك فقط، فكان همهم الجمع والدرس، لا لشرح هذه البلاغة من حيث إنها بلاغة، أو من حيث إنها أثر أدبي، أو من حيث إنها نتيجة جهد العقول والقرائح، بل لأنها وسيلة من وسائل حفظ اللغة وفهم مفرداتها.
أما الطائفة الثانية، وهي جماعة الشعراء والخُلَعاء، فقد كانت تتَّخِذ البلاغةَ — خصوصًا الشعر — آلةً من آلات اللهو والطرب والاستِجْداء. وحسبنا أن نرجع إلى الشعر والشعراء مدة الأمويين والعباسيين، حتى عند الحكماء منهم مثل أبي الطيب وغيره، وحتى كان فهم النقاد أنفسهم للشعر فهمًا غريبًا؛ لأنا إذا سردنا أقوالهم وآراء الأدباء، رأيناها غير محتوية على النقد «التحليلي» لمعاني الشعر، ومَن يراجع مقدمة ديوان أبي نُوَاس وكلام أبي حاتم يرَ كيف كانت آراء النقاد، وأنها ليست إلا ألفاظًا مرصوصة غامضة المعنى، يقولها كل إنسان، ليس فيها شيء من النقد الصحيح. وأبو حاتم السِّجِسْتاني توفي في أواسط القرن الثالث الهجري؛ أي إبَّان نضوج العلم والأدب عند العرب، فالذنب ليس على الشعراء ولا على الكتَّاب في ذلك؛ لأنهم كتبوا ونظموا كثيرًا وقالوا في كل شيء، وطرقوا كل باب أوحت إليهم به نفوسهم وقرائحهم. ولكنَّ حركة النقد لم تكن لديها القوة التي كانت تمكِّنها من الحكم على الآراء، وقود الحركة الفكرية، ونقل الأدب والبلاغة إلى طريق اجتماعي أفْيَد وأمْتَن وأفْضَل ممَّا سارت فيه، بل ساعدت على وقوف البلاغة من شعر ونثر، فلم تصل البلاغة العربية من التأثير في الاجتماع والتأثر منه إلى ما وصلت إليه بلاغات الأمم الأخرى.
ونعود فنقول: لو وهب الله الأدب العربي من النقاد ما نبَّه العقول إلى فهم البلاغة فهمًا اجتماعيًّا، وبحث فيها مباحث اجتماعية، وبيَّن أنها عامل من عوامل الاجتماع، لكانت في نوعها أحسن بلاغة وأمتعها؛ لِما للغة العربية من الميزة في الغناء وضروب التعبير، وجمال القول، ومتانة الأسلوب، خصوصًا الصناعة اللفظية التي لا توجد في لغة أخرى.
إن كل حركة ظهرت في بلاغات الأمم الأخرى، ونقلتها من حال إلى حال، كان منشؤها آراء النقاد وأفكارهم وإرشاداتهم، كحركة الكتابة التي ظهرت في أوروبا أثناء القرن التاسع عشر، فقادت الأدباء إلى الطرق المختلفة، وأوجدت الأطوار الأدبية المعروفة.
بمثل هذا يكون اختلاف الأذواق في فهم البلاغة من نظم ونثر. وفي القرن السابع عشر في فرنسا كان فهم الفرنسيين لبلاغتهم غيرها في القرن الثامن عشر، وغيرها الآن؛ لأن بلاغتهم كانت غريبة عنهم لا تمثل شيئًا من مجتمعاتهم، ولا من «شخصياتهم»، وكانوا يقدسون بلاغة اليونان والرومان، ويقلدونها في كل شيء حتى في الموضوعات، ولم يكونوا أدركوا بعدُ أن البلاغة صورة الاجتماع، بل فهموها صورة لنفوس عامة، لا «لشخصيات» الأمم، وظنوا أنفسهم عاجزين عن الاختراع والابتكار في ضروب القول وأساليب البلاغة، إلى أن انتشر مذهب ديكارت الفيلسوف، وظهر أثره في البلاغة، كما ظهر في الفلسفة وغيرها (راجع في هذا الكتاب الكلام على القدماء والمحدثين في فرنسا).