تَبِعَة الشعراء والكُتَّاب
الحوادث المختلفة واستعداد الأمم الفكري، لهما أثر عظيم في سَيْر البلاغة والأدب ومساعدتهما على الرقي؛ لأن ذلك أثر من آثار الاجتماع، وللكُتَّاب أثرٌ آخر في الاجتماع، أو في الرأي العام، ليس أقل من أثر الاجتماع في البلاغة؛ وعلى ذلك نرى مقدار التبعة التي تقع على قُوَّاد الحركة الفكرية والنقاد الذين بِيَدِهم زمام العقول، وما أشدَّ هذه التبعة على الكاتب أو الشاعر! ولا سيما إذا كان فائق البراعة في طريق الإفهام، وفي الاستيلاء على نفوس القراء ومعرفة امتلاك الأفكار، فقد يكفي أن يصل الكاتب إلى درجة خاصة من البلاغة؛ ليتمكن من قيادة النفوس إلى ما يريد، وحملها على اعتقاد المعنى الذي قصد. مثل هذا الكاتب قد يكون خطرًا عظيمًا على الاجتماع، إذا كان في آرائه شيء من الخطأ، أو في مذهبه ما يخالف الإصلاح، كما أنه قد يصلح من النفوس ما لا تتمكن الحكومات بقوتها من إصلاحه، ويساعد على تقويم الأخلاق وعلى نشر الأفكار الصحيحة، وعلى ارتقاء المدنية وعلى توضيح المسائل الاجتماعية الكبرى، وعلى استنارة العقول وتثقيفها. ولكن هذه القوة هي ما يُخشَى منه على الاجتماع، وهي ما تحمل كثيرًا من الخُلُقيين على الخوف من أثرها لِما في عقول بعض الكُتَّاب من الأفكار التي قد تؤثر في نفوس القراء أثرًا غير محمود، بواسطة براعة الكاتب في جعل الصور التي يذكرها في شعره أو قصته أمرًا مقبولًا وأجدر بالاقتداء، فهذه البراعة نفسها كما أنها تدل على عبقرية الكاتب تدعو إلى الخوف منه، فتكون من أكبر العيوب لديه؛ ولذلك ذمَّ كثيرٌ من الخُلُقيين الشعر، وخافوا من أثره وحذروا منه.
وفي الحق إن جناية البلاغة على الأخلاق قد يكون خطرها عظيمًا. ولكن لا بد من الفرق بين الفنون وتقويم الأخلاق؛ إذ ليس من غرض الفنون تقويم الأخلاق لأنها تقصد إلى إظهار الجمال بأي شكل كان، وعلى أي طريقة كانت، وعلى كتب الأخلاق تقويم النفوس وتربيتها، وإلا لو أخذنا على البلاغات ما فيها من ضروب الغزل والمجون؛ لوجب أن نحذف منها نحو نصفها. وهل نجد الآن قصة أو رواية تمثيلية بدون أن يكون للحب فيها أثر كبير؟ ذلك لأن تحريك هذه العاطفة من أكبر الدواعي لحمل الناس على القراءة ودرس أفكار الكاتب وأغراض الكتابة، كما رأى ذلك ابن قتيبة في مقدمة «الشعر والشعراء» إذ قال: «لأن النسيب قريب من النفوس، لايط بالقلوب؛ لِما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد يخلو أحد من أن يكون متعلقًا منه بسبب، وضاربًا فيه بسهم حلال أو حرام.»
يقول الفقهاء: لا حياء في الدين. ويلزم أن يقول الأدباء والكُتَّاب والشعراء والفنيون: لا حياء في الفنون. كما يجب أن يقول العلماء: لا حياء في العلم؛ فإن الله — تعالى — خلق الإنسان وخلق له أنواع الجمال يتمتع بها، وتُوحى إليه من الأفكار والخيالات ما قد يساعد على عبقريته، كما أنه خلق له الخير والشر، ووهب له عقلًا يميز به الخبيث من الطيب، وترك له الحرية المطلقة في اتباع الطريقين، وبيَّن له سوء العاقبة وحسن المآب، فكما أن العلم والفلسفة يبحثان عن حقائق الأشياء بأي وسيلة، كذلك الفنون الجميلة تبحث عن إظهار الجمال بأي وسيلة، وأي طريقة كانت؛ لأنها سر من أسرار الحياة، وسبب من أسباب ترقية العواطف والنفوس؛ إذ النفوس التي لا تعشق الجمال ينقصها كثير من فهم الحياة؛ لأنها لا تدرك ما يحيط بها من جمال الكون الذي هو أبدع شيء في الوجود.
في قراءة الكتب عاملان: عامل التأثير، وعامل الإفادة. والثاني أكثر أثرًا وأبقى، فإن ما يبقى في نفس القارئ من المعلومات التي اكتسبها من القراءة أنفع وأثبت. أما التأثُّرات والانفعالات التي منشؤها العواطف فإنها سرعان ما تزول، فالكاتب الذي يصف مجلسًا من مجالس الخمر، ليس عليه أدنى تبعة إذا قام إنسان بعد قراءة كلامه فشرب كأسًا أو كأسين، كما أن الخُلُقيَّ ليس في قدرته أن يحمل الناس على اتِّباع ما يقول؛ ولذلك قيل «إنه من الواجب علينا بثُّ النصائح والإرشادات. ولكن ليس علينا حمل الناس على العمل بها.» ولو كان للبلاغة الأثر الذي يدعو إلى العمل بما فيها لكانت كتب الأخلاق كافية في إصلاح النفوس. فلماذا يكون وصف المجون سببًا في فساد الأخلاق والاجتماع؟ ولو صح حذف كل ما من شأنه أن يفسد الأخلاق، أو يؤثر فيها أثرًا سيئًا؛ لوجب على الإنسان أن يُصِمَّ أذنيه ويُغمِض عينيه، حتى لا يرى ولا يسمع نصف المخلوقات أو أكثر، ولعمل على عدم فهم كثير من الأمور التي يراها كل يوم أمامه في الحياة.
البلاغة من غرضها عَرْض كل شيء، وعلى القارئ أن يحكِّم عقلَه ويميز الخبيث من الطيب.