النقد الأدبي
يقرأ الإنسان ليفهم، ويفهم ليكون له رأي فيما يقرأ، وكل إنسان له استعداد خاص في الفهم وطريق خاص في الإدراك، وذوق خاص في قدْر الكلام والحكم على الأفكار؛ ولذلك تعددت المذاهب وتفاوتت طرق البحث.
القراءة والفهم والتفسير والحكم هي أصول النقد وهي حَدُّه أيضًا؛ إذ لا يمكن حد النقد حدًّا تامًّا لعدم اندماجه في قانون عام؛ لأنه ليس علمًا من العلوم التي لها قواعد خاصة، وإنما هو فن من الفنون التي تُضبَط بالعلوم وتتقدَّم بتقدمها، فإنه مبنيٌّ على قوة الذكاء وسلامة الذوق، وذلك ليس داخلًا تحت قانون عام، فضلًا عن أنه لا بد من ظهور أثر الناقد الشخصي في حكمه على ما يقرأ؛ لأنه إنما يحكم على غيره بمزاجه الخاص؛ ولذلك كانت الفروق كثيرة بين آراء النقاد؛ لأن النقد صورة من صور عقولهم المختلفة.
ويختلف النقد باختلاف الموضوعات والأغراض المقصودة منه، فقد يكون من غرضه دراسة الأساليب، أو دراسة نفوس الكتَّاب أو دراسة الأفكار والآراء، فهو متغير لا يثبت على حالة واحدة ولا يلزم قاعدة واحدة، فليس علمًا من العلوم؛ لأن العلوم لا بد أن تكون قواعد عامة، تنطبق على جزئيات كثيرة، بدون أن يكون للنفوس أثرٌ فيها. والنقد غير ذلك، فهو قبل كل شيء أثر من الآثار الخاصة للعقول، يبحث عن آراء الكُتَّاب ولا سيما خواصهم الذاتية، والتصورات والخيالات والإدراكات كانت متعددة مختلفة، على حسب المواهب والطبائع؛ فلا بد أن يكون النقد الذي هو فهم العقول المختلفة والإدراكات المختلفة أيضًا مختلفًا، غير مقيد بقانون ولا قاعدة؛ ولذلك كان كل نقد قاعدي قابلًا للطعن وعرضة للنقض؛ لأن النقد القاعدي أو المذهبي يرمي إلى تقييد العقول والأفكار، وحملها على اتباع طريق واحد في الفكر والتصور والخيال، وإلى الحكم عليها حكمًا عامًّا بطريقة واحدة.
على أن الإنسان يرى في نفسه من الاستعداد للفهم وطرق البحث اليوم ما لم يكن له بالأمس، والقارئ تمر بذاكرته أفكار الكاتب وتتراكم، ثم يتناسى ما قرأ وما تأثَّر به. فإذا أعاد قراءة الكتاب الواحد مرة أخرى، كان حكمه عليه غيره في المرة الأولى، فالأفكار تتغير والحكم يتغير بتغير المؤثرات.
ولا يصح أن يُبْنَى النقد على الأذواق الخاصة؛ لأن الذوق استحسان ما يحبه الإنسان ويميل إليه، وهذا غير ما يُراد من النقد؛ إذ النقد الصحيح «تحليل» فكر شخص آخر غير فكر القارئ نفسه، واندماج الإنسان في نفس غيره ليفهمه بفكره ويدرك عقله بعقله، والذوق «تحليل» نفس القارئ وفكره لمناسبة ما يقرأ، وبسبب ما يجده ممَّا هو في نفسه في كلام غيره؛ إذ شعور القارئ بسروره ورضاه عمَّا يقرأ، هو في الحقيقة ناشئ من أنه وجد ما يحبه وما يميل إليه، وذلك شيء من خواص نفسه وميولها الذاتية. فكأنه إنما وجد فيما يقرأ نفسه لا نفس الكاتب، وأعجب بميوله وآرائه لا بميول الكاتب وآرائه، أو أنه وجد إنسانًا آخر صوَّر نفسه بالصورة التي هي عليها، ووجد أفكاره يعبر عنها غيرُه. فهو إذا فهم ذلك فإنما يفهم نفسه ويرى صورتها، كالشاعر أو الكاتب الغرامي، يذكر صور النفوس العاشقة، وما تتذوقه من الآلام، فيقرؤها العاشق ويتلذَّذ بها ويتذوق ما فيها؛ لأنها صورة نفسه، وإن كانت صورة نفس مريضة أكلها اليأس ونال منها البؤس. ولكنه راضٍ عنها لأنه يجد فيها ما يجول بخاطره. وكالذي يحب الشعر الحماسي مثلًا فإنه يعجب به، ويريد أن يحمل الناس على الإعجاب به؛ لأن له ذوقًا خاصًّا في فهم هذا النوع، وإقدار هذا الكلام قدره، وكالخُلُقي يحب الحكمة والموعظة فيحكم بهذا الذوق على كل ما يقرأ ويسمع؛ من هنا تعددت المذاهب في النقد. فإذا كان مرجع ذلك الأذواق الخالصة إذن لضلَّتِ الأفهام ولحارت العقول. فليس في حكم القارئ بالحسن أو بالقبح شيء من الحقيقة أو على خلافها، متى كان ذلك مبنيًّا على الأهواء الصرفة؟ وليس ذوق الناقد في كتاب يقرؤه إلا استحسان الكتاب أو استقباحه، وليس ذلك إلا اتفاق فكر القارئ وميوله مع فكر الكاتب وميوله. ولكنَّ الذوق والنقد عند ذوي العقول السليمة يستمد بعضُهما من بعض، ويساعد أحدُهما الآخر، ويعمل كل منهما على حفظ أثره في نفس القارئ، بحيث لا يضل بينهما، ولا يكون خاضعًا خضوعًا تامًّا لأحدهما، فيبطل أثر الآخر، بل يتذوق ما يعجبه ممَّا هو في نفسه، ولا يمنعه ذلك من الإعجاب بما هو مخالف لطبيعته.
مثل هذا الذوق يتكوَّن بالقراءة والدرس، ويكتسب شيئًا من اللين والمرونة وقبول الجديد؛ لأن الذوق خُلُق من الأخلاق القابلة للتهذيب والتنقيح والغَنَاء بالقراءة والدرس والفهم؛ بحيث يكون ذوقًا مبنيًّا على التجربة ممَّا قرأ الإنسان وفهم من العلوم والفنون، فالذوق الصحيح ينضج ويتربى بالنقد، والنقد يتهذب بالذوق؛ لأنه مُعين ومساعد على الفهم وتفضيل الشيء على الشيء؛ فلو أن إنسانًا خلا من ذلك كان حب الاستطلاع لديه ناقصًا؛ لأنه إن لم يكن في نفسه ذوق ثابت لنوع من الأنواع، مبني على التجربة، ولم توجد في نفسه ملكة التفضيل والتفرقة بين الأشياء؛ كان سواء عليه أقرأ هذا أم هذا، وخفي عليه كثير من المميزات، وكانت الفائدة من القراءة لديه أقل ممَّا لو كان له ميل خاص، وربما خرج من الكتاب الذي يقرأ بدون فائدة ولا أثر، وهذا مشاهَد معروف. أعطِ أحد المهندسين أو الأطباء أو الذين لا يميلون إلى الأدب ولا يحبونه، قصيدة من القصائد المتينة، أو قصة أدبية ممتعة ليقرأها، ربما قرأها وفهمها ولكنه يخرج منها بدون أثر في نفسه؛ لأنه ليس له ذوق خاص في هذا النوع، فلا يهتم بأنْ تصل نفسه، أو أن يصل إلى نفسه سر هذا الكلام. ودعْ إنسانًا لا يحب التمثيل ولا يميل إليه، يحضر «قطعة» تمثيلية مملوءة بضروب الفنون ونقد الاجتماع، دعْه يسمع قطعة لموليير أو لشكسبير أو لجيت، ثم ابحث في نفسه عمَّا أخذه من مجلسه، تجدْه لم يتأثر بشيء، ولم يستفد فائدة كبيرة؛ ذلك لأنه ليس في نفسه تفضيل لهذا النوع، كذلك تكون القراءة الخالية من الرغبة والميول الخاصة عبارة عن اطلاع عام، ومشاهدات عامة لا تبقى في نفس الإنسان ولا توقظ من حركة الفكر. فالذوق الصحيح يساعد النقد على الإعجاب بالشيء أو على كراهته، أي إنه من الوسائل التي تمهد للنقد الحكم على الفنون وآثارها.
نرى من ذلك أن النقد الخالص الذي ليس للذوق فيه أثر هو نقد ناقص أو نقد جافٌّ، وأن الذوق الخالص من أثر النقد، ومن أثر التجربة العلمية والاطلاع — أي الذي هو الاستسلام إلى ميل الشخص فحسب — لا يُرقِّي العقل، ولا يُساعده على نمو قوة الإدراك، ولا يصل بالإنسان إلى كشف الحقائق.
قلنا إن النقد ليس علمًا من العلوم، بل هو فنٌّ من الفنون التي مرجعها استعداد النفوس في الفهم والإدراك. ولكن هذا ليس كافيًا في تعريف النقد، أيستسلم كل إنسان لفكره في الحكم على ما يقرأ ويسمع؟ أيَكِل الأمر إلى الذوق لا غير؟ ألا يكون النقد شيئًا آخر غير هذه الفوضى في الحكم والإدراك؟ أليست هناك طرق ومذاهب تحدد ذلك، وتبين الخطأ من الصواب في أحكام الناقدين؟ وإذا كان شيء من هذا فعلي أي أساس يُبْنَى؟ مهما يكن من شيء، فالذي لا يصح إنكاره هو أن هناك حقائق فنية، كما أن هناك حقائق علمية، فالقارئ لقصيدة أو لقصة تاريخية يجد أثناء قراءته من الحقائق الفنية، ما يجده العالِم أو الفيلسوف من الحقائق العلمية أو الفلسفية، نريد بالحقائق الفنية سرَّ البلاغة الذي تشعر به النفوس، وبه تكون قيمة الكاتب والكتابة، ونريد بالحقائق الفنية جمال القول وجمال الفكر وجمال الصناعة، ثم نفس الموضوع بما فيه من الصور الإنسانية، التي يجد فيها القارئ كثيرًا من النفوس والأشكال المختلفة لحياة العقول. يقرأ الإنسان القصيدة أو القصة البلاغية، فيشعر بشيء في نفسه لم يكن له قبل قراءتها، هذا أثر جديد حدث عنده، أو حقيقة من الحقائق ظهرت له فيما قرأ. ومهما وجد من الاختلاف والتناقض في فهم هذه الحقائق الفنية، وفي الحكم على الكتب والمؤلفين؛ فذلك لا يدل على عدم وجودها، وإنما يدل على اختلاف طرق الفهم. على أنها حقائق نسبية ككل شيء في الوجود من أثر الإنسان.
فالنقد هو البحث عن فهم هذه الحقائق، وهو توضيح وترتيب ما في الكتابات من الأفكار والآراء والأساليب، ثم الحكم على ذلك. والناقد الحاذق مَن يكون عالمًا بالموضوع وبمنزلته من العلوم والفنون الأخرى، بأن يكون حَدَّدَ وعَيَّنَ لنفسه طريقة خاصة في الفهم، ثم بعد ذلك يُبدي رأيَه النهائي فيما قرأ. فإذا قرأ قصيدة من القصائد عرف من أي نوع هي: أمِن الشعر الوجداني، أم من الشعر الاجتماعي، أم من الشعر التمثيلي؟ فإذا حكم عليها بأنها من الشعر الوجداني، لا بد أن يكون عارفًا بخواص هذا النوع من الشعر وبموضوعه وبصناعته وبكل ما يميزه من غيره، ثم لا بد أن يقيس ذلك على طريقة خاصة قد عيَّنها لنفسه، يجعلها كمقياس عام له يقيس به ما يقرأ، بأن يكون له مذهب يبني عليه أحكامه: كأن يكون من مذهب البيانيين الذين يحكمون على الكتابة على حسب ما بها من أنواع البيان: كالاستعارة، والتشبيه، وأنواع البديع، أو من الذين يحكمون عليها بما فيها من المعاني الجيدة والأفكار الصحيحة، أو ممن يبنون مذهبهم على البحث في الكتابة من جهة صلتها بالاجتماع، أو ممن يحكمون عليها من جهة مطابقتها للحقائق، وغير ذلك من المذاهب الكثيرة؛ وبهذا يمكن الحكم على الكتابة من شعر ونثر بناء على طريقة ثابتة، مبنية على أساس ثابت، وهذا ما يسمونه بالمذاهب الأدبية في النقد، أو أنواع النقد الأدبي، وطرق النقد كثيرة متعددة سنذكر منها شيئًا، ونبيِّن المذاهب المختلفة فيها.
فالنقد في جملته لا يخرج عن وصف الكتابات «وتحليلها». ولكنَّ النقد البياني واللغوي والنقد المبني على القواعد النحوية والصرفية أصبح الآن غير كافٍ في الحكم على كبار الكتَّاب ومواهبهم، ولم يعد فهم الكتابات الأدبية الآن قاصرًا على الحكم بدون نظر إلى الصلة التي بينها وبين الكاتب وأحواله النفسية وتربيته العقلية، ثم إلى صلة ذلك كله بالاجتماع. أي إن النقد الأدبي أصبح الآن ممزوجًا بالتاريخ العام، وبالتاريخ الخاص بنفوس الكُتَّاب وحياتهم الشخصية، وهذه خطوة خطاها أخيرًا النقد الأدبي في القرن التاسع عشر.
إذن فلا بد من البحث في الصلة بين الكاتب وكتابته والاجتماع، ولا بد من معرفة البلد الذي وُلِدَ فيه الكاتب، والجو الذي تربى فيه، والزمن الذي عاش فيه، وحالته الصحية، ومزاجه وسيرته، والتربية التي حصل عليها، ومعرفة أصله وقبيلته، والأوصاف العامة لها. وإذا كان عاش عيشة مرضية سهلة، وكان من أهل الرفاهية واليسر، أم عاش عيشة فقير مجد مجتهد في الحصول على قوام حياته؟ ثم لا بد من معرفة حالته النفسية وكيف كان يفكر، وكيف كانت ميوله الدينية، ومقدار نصيبه من العواطف، وأحوال الغرام، وكيف كان ميله للمجون واللهو، وكيف كان يتصور الجمال ويفهم الفنون، وما في كتاباته من «شخصياته»، وغير ذلك مما يساعد على معرفة حالة الكاتب النفسية والجسمية؛ لضرورة ذلك كله في الوصول إلى فهم استعداد النفوس وما فيها من أثر الذكاء؛ إذ كما أن البلاغة لا تكون دائمًا صورة الاجتماع، فليست أيضًا دائمًا دليلًا على نفوس الكتاب؛ ولذا يجب البحث عن الأسباب التي تدعو الكاتب إلى ما كتب وإلى خروجه عن طبيعته، ولا يمكن ذلك إلا بمعرفة الأسباب السابقة.
- (١)
أن يكون الناقد واقفًا تمام الوقوف على نوع الكلام الذي يدرسه، وعلى جملة آراء الكاتبين فيه؛ بحيث يمكن أن يميزه من غيره، وأن يحكم عليه بناء عن خبرة تامة بآراء النقاد والمختصين بهذه الموضوعات.
- (٢)
أن يكون له طريقة يبني عليها حكمه، وأصول يرجع إليها في ذلك: كأن يكون مبناها صحة الأساليب أو صحة الفكر، أو رقي الخيال أو صلة البلاغة بحوادث خاصة.
- (٣)
البحث عن صحة ما في الكتابة بواسطة صلتها بالكاتب والاجتماع، وتأثير ذلك في الكلام والصناعة.
هذا هو جِماع القول في النقد الأدبي، وسنذكر المذاهب المختلفة في ذلك.