النقد الأدبي في فرنسا
رأينا أن نجمل القول إجمالًا في تاريخ النقد الأدبي في فرنسا؛ لنقف على سير حركة النقد وأطواره وأثره في الأدب الفرنسي، وعلى المذاهب المختلفة في ذلك، ثم نذكر بعد هذا حركة النقد عند العرب ومذاهب الأدباء لديهم.
يقولون: إن أرسطو أول من كتب في النقد الأدبي في نحو القرن الرابع قبل التاريخ المسيحي، وكتابه «فنون الشعر» عبارة عن كتاب في البيان وقواعد البلاغة، بنى عليه طريقته في النقد، وهو أول من قال «إنه يجب أن تكون أعمال الإنسان جارية على قوانين الطبيعة ونظاماتها.» وبدأ بالبحث عن عيوب الكتابات التي يثقل على النفس تذوقها، ووضع كل ثقته في علوم البلاغة؛ ليصل بها إلى كشف مخبأ الكلام البليغ. ولكنه لم يصل إلى قانون يبين الأنواع الأدبية، ولا إلى دراسة الأطوار التي تعتري البلاغة أثناء تقلب التاريخ عليها. غير أنه أرشد إلى الوسائل العامة التي يصح أن تكون طرقًا ومناهج للكتَّاب، وظهرت بعد أرسطو كتب كثيرة في النقد لا تكاد تخرج عن هذا المعنى، أكثرها من قبيل النقد اللغوي.
وكتب النقد عند الرومان في نحو القرن الثاني قبل الميلاد كانت مملوءة بالمباحث اللفظية؛ إذ كان الغرض منها تقويم ألسنة الخطباء، وإصلاح حالة الخطابة في مواقف النزال، ولم يكن اهتمامهم بشيء من أنواع الكلام إلا من أجل ذلك؛ فكان النقد عند الرومان لا يكاد يخرج عن صناعة الخطابة، فلم يكن لديهم مذهب أدبي ولا طريقة واضحة في النقد؛ ولذلك انحصر النقد عندهم في النقد اللغوي وعلوم البلاغة، وفي القواعد النحوية والصرفية؛ أي في البحث عن اللفظ وأصله وصحته، ثم في البحث عن مطابقته للمعنى المقصود، وفي طرق تأثيره في نفوس السامعين، واستمر الحال على ذلك إلى القرون الوسطى، ومر على النقد نحو ستة قرون في تلك الأزمان، وهو لم يخطُ خطوة واحدة؛ لأن العقول في القرون الوسطى كانت مقيدة بأهواء الملوك والأمراء ورؤساء الأديان، ومتى كانت الأفكار خاضعة لغيرها فإنها لا تعرف الحرية، ولا ترى طرق الإصلاح؛ ولذلك لم يكن الشعراء إلا آلة لأهواء هؤلاء الرؤساء، فلم يكن لأحدهم أن يقول شيئًا إلا لإرضاء أمير أو رئيس، فكيف يجد النقد له منفذًا أو طريقًا؟ إذ لا يمكن أن يكون الإنسان ناقدًا إلا إذا كان حرًّا في الفكر؛ لأن حركة العقول تابعة دائمًا للحركة العامة للحالة الاجتماعية.
وأول حركة للنقد الصحيح في فرنسا ظهرت في عصر النهضة، عندما اختلط الفرنسيون بالإيطاليين أثناء الحروب الكثيرة، وقلدوهم في شعرهم، وعرفوا منهم أساليب الآداب القديمة وطرق بلاغتها، وانتشر عندهم تعليم اللغة اللاتينية، واطلعوا على كتبها وترجموا منها، فاتجهت عقولهم إلى الموازنة بين أدبهم الساذج والآداب القديمة، فكان الإيطاليون أول من كشف أسرار الآداب القديمة ومخبآتها، وأدرك مطابقتها للطبيعة الإنسانية وموافقتها للتعقل، وهم أيضًا أول من وجَّه الأنظار إلى ربط الصلة بين الآداب والفنون الجميلة.
وكان أساس هذا المذهب تقليد البلاغة القديمة، وما بها من البراعة وجمال الصناعة والإتقان. وارتقت في هذا الزمن منزلة الشعر والشعراء، وعظم تبجيل الناس لهم؛ لأن الشعر كان جمال القول وموضع مظاهر الذكاء، وكان الشاعر أقوى وأبرع إنسان، كما كانت الحال عند العرب في بعض الأزمان. وانفتح أمام الأدباء باب الموازنة بين الشعر القديم وبلاغة القرون الوسطى في فرنسا، وأعجب الناس أيما إعجاب بالبلاغة القديمة، وأخذوا في تقليدها. ولم يعد الإنسان يحكم على الشعر والشعراء إلا بواسطة الموازنة بين القديم والجديد، وبُنِيَ النقد على مجاراة تلك البلاغة؛ لأنهم رأوا أن بلاغة القدماء متينة من جهة الصناعة، ومن جهة الموضوعات، ومن جهة ما فيها من تصوير النفوس الإنسانية ورسم الحياة؛ لأنها تصور الحقائق كما هي، ولأنها مبنية على الفكر والتعقل.
لهذا اشتدت رغبة الفرنسويين في تقليدها، وأسسوا لذلك القواعد، وبنوا طريقة النقد عليها، فكانت هي نموذج البلاغة ونموذج الأفكار، وربما فاق هذا التقليد والإعجاب تقليد المسلمين وإعجابهم بالشعر الجاهلي، ولا يزال أهل أوروبا في تعصبهم لليونان والرومان إلى اليوم، ولكنهم يقلدونهم في لب الموضوعات، وفي أن البلاغة يجب أن تمثل حياة الأمم ونفوس الأشخاص، لا أنهم يجارونهم في الألفاظ والعبارات لا غير. وكان مذهب رونسار مبنيًّا — كما قلنا — على ذوق «أرستقراطي»؛ بحيث تكون البلاغة من شعر ونثر شريفة العبارة، لا تحتوي على ألفاظ مقذعة، ولا على شيء من المجون، وأن يتحاشى الكُتَّاب والشعراء كل ما يخرج عن حد الأدب، أو ما يدعو إلى سوء الأخلاق، وظهر أثر هذا المذهب في كل أنواع البلاغة الفرنسية، خصوصًا في التمثيل، ثم شيد الفرنسيون على أنقاض هذه الآداب والبلاغة القديمة آدابهم وبلاغتهم لإعجابهم بها إعجابًا شديدًا. ولكنها لم تخمد منهم قوة الابتكار، ولا حب الانتقال من حال إلى حال؛ لأنها بلاغة اجتماعية متينة ممتعة، بل هذبت من أفكارهم، ورقت منهم ملكة الصناعة الأدبية، وعلمتهم دقيق الملاحظة، وهذبت من استعدادهم الفطري، وتخرَّج فيها أشهر الكُتَّاب والشعراء، ولا تزال أشهر وأمتع البلاغات؛ لأنها بلاغة نفسية اجتماعية، بليغة في معناها أكثر منها في ألفاظها وأساليبها، ولا يزال أشهر الكتاب الآن يستمدون أفكارهم وتربية عقولهم من هذه البلاغات القديمة المتينة.
ذلك أثر اطلاع الفرنسيين على الآدب القديم، وأثر احتكاك العقول والأفكار كما يقولون، وأثر مذهب رونسار في النقد؛ وهكذا يجب أن تكون قوة النقد. كل هذه الحركة جاءت من الخارج بواسطة الاطلاع على بلاغات الأمم الأخرى، والميل إلى تقليد اليونان والرومان، والمتأمل في بلاغات الأمم يرى أن كل حركة من الحركات الأدبية الكبرى ذات الأثر العظيم، هبَّت ريحها من الخارج بسبب تقابل الأفكار وتفاهمها … ولم يظهر أثر النقد في أمة من الأمم ظهوره في بلاغة الأمة الفرنسية، ويمكن أن يعد تاريخ النقد الأدبي عند الفرنسيين من أهم ما يكون في أنواعه؛ لذلك اخترنا أن ندرسه في محاضراتنا، ونذكر ما به من المذاهب التي نهضت ببلاغة الفرنسيين فجعلتها أجمل وأمتع من غيرها.
القدماء والمُحدَثون في فرنسا
كان المذهب الأدبي الذي انتشر في فرنسا منذ منتصف القرن السادس عشر إلى أواخر القرن السابع عشر، مبنيًّا على تقليد البلاغة اليونانية والرومانية القديمة، ولم يكن الإعجاب بالقديم لأنه قديم فقط؛ بل لأنها بلاغة طبعية حقيقية قريبة من تمثيل الطبيعة الإنسانية والحياة المادية والعقلية، كما لاحظ النَّقَّاد الشهير بوالو. ثم هي حقيقية في معانيها خالية من المبالغة التي تضر بالمعنى، وخالية من الخيال الذي يبعد عن الحقيقة، وقد وصل الإعجاب بالقدماء إلى أقصى ما يمكن؛ حتى لقد كان يُخيَّل إلى كبار الأدباء أنه ليس هناك موضوع يصح أن يطرقه الكتاب والمفكرون إلا ما كان جزءًا من التاريخ القديم، أو تقليدًا لشاعر أو كاتب يوناني أو روماني.
نرى من خلال هذا النزاع الذي احتدم بين القدماء والمحدثين أنه مبني على فكرة فلسفية، وإن الفلسفة أوضح وأبين فيه من الأدب؛ إذ إن الفكرة الأساسية هي مسألة التقدم والارتقاء التي هي أصل فلسفة ديكارت، المتسربة إلى الأدب، المبنية على الاهتمام بالأفكار قبل الاهتمام بالصناعة اللفظية، فإنه جعل للفكر المنزلة الأولى، وقال: إن الإتقان والإبداع هما في متانة الموضوع، وفي الأحوال العامة التي تولِّد في نفس القراء نوعًا من السرور والارتياح مما يقرءون. وقد زجَّ هذا المذهب بالبلاغة في مضايق الفلسفة، وجعله مبنيًّا على البحث عن الحقائق، بدل البحث عن مظاهر الجمال في القول. وعلى ذلك لا يكون هناك فرق بين البلاغة والفلسفة ولا بين الفيلسوف والكاتب والشاعر؛ لأن كلًّا منهما على رأي ديكارت يقرر الحقائق. غير أن الفيلسوف قد يكون أسلوبه أجفَّ من أسلوب الأديب. وكان ينبغي أن تكون هذه البلاغة المبنية على مثل هذا المذهب الفلسفي الصرف، بعيدة عن كل معنًى من معاني الجمال ممَّا هو خاص بالفنون وسبب تفوقها، وكان هذا يكون عند أنصار الجديد الذين لم يفهموا البلاغة، ولم ينظروا إليها إلا من جهة أنها تعبر وتبحث عن الحقائق. ولكن الذوق الأدبي في فرنسا كانت هذبته الآداب القديمة بما فيها من الجمال؛ ولذلك بقيت البلاغة فنًّا من الفنون الجميلة، ولم يتغلب العلم والفلسفة على محو ميزة البلاغة، وهي الجمال في القول وفي حسن التعبير، وامتزجت الحقائق العلمية بالحقائق الفنية، وأصبح البحث عن الحقائق سالكًا طرق الجمال، ولم يغير مذهب ديكارت الفلسفي من أثر الجمال وأثر الصناعة الأدبية، وأصبحت «وظيفة» البلاغة القديمة التوفيق بين الجمال وصناعة الكلام، وبين الآراء الصحيحة والحقائق الممتعة.
وقد انضم إلى أنصار الجديد الأدباء والظرفاء، الذين كانت تدور عليهم رحى المحاورات في المجتمعات، وساعدهم في ذلك النساء الأديبات، اللائي كن يعجبن من المحدثين بذوقهم الأدبي الموافق لأذواقهن؛ لأن طريقة أنصار القديم كانت ثقيلة على نفوسهن، ككل شيء متين جدِّي، والنساء يعجبهن الخفة وعدم التعمق في الأفكار؛ ولذلك كن من أنصار بيرو وفونتنل. وكان الناس في ذلك العصر في حاجة لأن تكون بلاغتهم أقرب إلى الاجتماع الذي يعيشون فيه، منها إلى الاتصال بتاريخ القدماء، فإن تقليد القدماء كان قد وصل إلى أقصى ما يمكن، والشيء إذا بلغ النهاية انقلب إلى ضده، فكان لموافقة الظرفاء، وأهل الخلاعة، والنساء الأديبات، المحدثين، أثر عظيم في الحركة الأدبية الجديدة؛ لأن ذلك كان من الأسباب التي منعت البلاغة من أن تسير في طريق فلسفي صرف، بل سلكت مسلكًا فنيًّا، وتعانق الأدب والفلسفة، وتآخت الصناعة الأدبية وفنون الكلام الجميلة التي ورثها الفرنسيون من البلاغة القديمة، مع الأفكار الفلسفية المتينة، ولبثت البلاغة ثوبًا جديدًا، وصارت ترمي إلى تمثيل الاجتماع.
وجملة القول أن سنت بوف كان يهتم «بشخصيات» الكُتَّاب والشعراء أكثر من غيرهم، فلم يكن من غرضه أن يعرف الاجتماع وآثاره من جولات الكتاب وميادين الفصاحة، بل كان يبحث عن الأمزجة الخاصة وصور النفوس من خطوات الأقلام في الصفحات والطروس، وكانت جميع أحكامه على المؤلفات أحكامًا على المؤلفين أنفسهم، وكان يقفو أثر المؤلف ويرافقه في منزله وحياته الخاصة، ويشرف عليه وهو عند أصدقائه وفي مجتمعاته، ويتجسس عليه ليقف على أسراره النفسية وعواطفه وميوله، ويعرف منه الخبيث والطيب، وعلو النفس وانحطاطها، وعقله وفكره وأهواءه …
كل هذا ليعرف الكاتب وآراءه ومؤلفاته، وبذلك أيضًا يتوصل إلى صلة ذلك بأسباب عامة تتصل بالمدنية العامة.
مذهب «تين» في النقد
نجد في الرجال الأبيض والأسود، والأصفر والأحمر، ونجد فيهم الذكي والغبي، ونجد النشيط والخامل، ونجد اختلافات كثيرة في الطبائع والعادات وطرق الفهم والتصور والإدراك والعقائد، ونظام العيش في الحياة والاجتماع وغير ذلك. ويقول العلماء والباحثون: إن لذلك أسبابًا ثلاثة: الجنس، والبيئة، والزمن. وقد نَوَّهَ بشيء من هذا ابن خلدون في «مقدمته» ونسب اختلاف الأخلاق والألوان إلى طبيعة الإقليم، ونسب إلى السودان الخفة والطيش والميل إلى الطرب، ووصفهم بالحمق، وغير ذلك ممَّا سببُه طبيعة الأقاليم الحارة. وفي كلام ابن خلدون عن العرب وأخلاقهم العمرانية والاجتماعية، ما يدل على أنه يقصد بذلك خواص الجنس وأثره في الأمم، واختلاف الأمم بعضها عن بعض بسبب اختلاف الأجناس والبيئات.
يقول تين: «الرجل ثمرة من ثمرات البيئة التي وُلد وتربَّى فيها، كالشجرة تنمو في الأرض التي نبت فيها أصلها، وإنه يمكن أن ترجع جميع الأسباب التي تكوِّن الرجل إلى ثلاثة أصلية: الجنس، والبيئة الطبعية والاجتماعية، ثم الزمن الذي تكوَّنت فيه حياته العقلية.» قال: «ولا يمكن معرفة الشخص إلا إذا وقف الإنسان على هذه الأشياء؛ لأنها الوسائل الثلاثة اللازمة لمعرفته.» وكل طرق تين في البحث بُنيت على هذه الأصول، وطريقته هذه من أهم الطرق وأنفعها؛ لأنها تحمل الناقد على دراسة ووصف الأمة التي فيها نشأ الكاتب، وإلى البلد الذي عاش فيه والمدنية التي تأثر بها.
وأصل مذهب تين بناء الأحوال النفسية من فكر وإرادة، وقوة وضعف في الرأي على أسباب جسمية؛ أي على ما يسمونه الآن «علم وظائف الأعضاء»؛ لأنه يرى أن جميع الأفكار والإحساسات متصلة اتصالًا تامًّا بحركة الأعصاب، وعنده أن الوسائل إلى معرفة الحقائق هو الحواس والإلهامات، وما عدا ذلك كذب وافتراء، ممَّا لا يصح أن يهتم به العلماء. فكانت طريقته علمية صرفة، فأراد أن يدخل الأدب والبلاغة في هذه الدائرة العلمية، وأن يجعلها من العلوم الاجتماعية. وإذ كان يبني مذهبه على التجارب العلمية، أراد أن يجعل الأدب والبلاغة إحدى هذه التجارب؛ ليتوصل بها إلى الحكم على الأفراد والمجتمع — كما أراد قبله «سنت بوف» أن يجعل دراسة البلاغة كتاريخ طبعي للأفكار والعقول — ولأن هذه الحوادث والأعمال التي تمر في المجتمع وتملأ البلاغات، هي التي يستمد منها الكُتَّاب والشعراء معلوماتهم وأفكارهم. قال تين: «… يجب أن يكون أساس التاريخ «التحليل» العلمي للنفوس، وأن ما يفعله المؤرخ لإظهار الحوادث الماضية وإيضاحها يفعله الكاتب والقصاص لإيضاح الحوادث الحاضرة … إذ ليس الضرر في الجري وراء الأحلام فقط، أو في ترك النفس تسبح في الخيالات. ولكنه أيضًا فيما ليس محققًا ولو كان محتمل الوقوع؛ لأن المخ خُلِقَ لحفظ الحقائق، كما أن البصر خلق لإدراك المبصرات إدراكًا واضحًا. ومتى اهتمت العقول بغير الحقائق دبَّت فيها الأمراض دبيبًا؛ كالعين تضطرب عند اضطراب الأشياء التي تراها؛ فالحقائق هي سلامة العقول.»
وبناء على هذا المذهب لم يعتقد تين بغير أثر الحواس. وعنده أن كل موجود عبارة عن جزء من سلسلة حركات وإحساسات.
لا شك أن الإنسان ثمرة البيئة والزمن والجنس. ولكنَّ هذه أسباب عامة، يندمج فيها كثير من الأسباب الأخرى، وليست وحدها تؤثر في نفس الشخص وتربيته. هنالك حوادث خاصة وأحوال نفسية، واستعدادات فطرية وأمراض عقلية وعصبية، وهناك قوة وضعف في الجسم والعقل، وفي التصور والخيال، وهناك أحوال كثيرة لا تُعرف إلا بدراسة الشخص نفسه منفردًا، أو بعيدًا عن كل المؤثرات العامة الأخرى. كل ذلك يجب اعتباره والرجوع إليه في «تحليل» نفوس الأشخاص وآثارهم العقلية والكتابية، وإنما مَثَل مَن يحكم على الشخص بمجموع ما يحيط به وباندماجه مع غيره، كمَثَل الطبيب يمتحن الجسم كله ليتوصل بذلك إلى الحكم على عضو خاص، بدون نظر إلى العوارض الخاصة بذلك العضو. نجد في الأمة الواحدة وفي البلد الواحد، وفي الأسرة الواحدة وفي البيت الواحد، عقولًا مختلفة وأفكارًا مختلفة وأميالًا وأهواء مختلفة، فكيف نفسِّر ذلك على طريقة تين؟ الاختلافات الظاهرة في الخَلْق بين أخَوَيْنِ من طول وقصر، وبياض وسمرة، ونحافة وبدانة، واعتدال واعوجاج، توجد بنفسها في الأخلاق من حمق ورزانة، وحلم وطيش، وتوجد في أثر العقول والأفكار من ذكاء وغباوة، وقوة في الإدراك وضعف في التصور؛ ومن هنا كانت الاختلافات العظيمة بين الأفراد في الحكم والإدراك والمبادئ والعقائد وغيرها. الحق واحد لا يتغير. ولكنَّ الخلاف في طرق الإدراك وفي النفوس واستعدادها لقبوله؛ فلا بد من مراعاة الأسباب الخاصة في معرفة الشخص، أكثر من الأسباب العامة في تكوين نفسه وإدراك حقيقتها.
من أجل ذلك يمكن أن تعتبر مباحث تين كمقدمات عامة لمعرفة الأشخاص، كما لاحظ ذلك أحد النقاد، وقال: إن هذه الطريقة واضحة في تفسير الأحوال العامة، كالحكم على شعب أو أمة بأجمعها، كما فعل تين في كتابه «تاريخ بلاغة الإنكليز»؛ إذ يصح أن يوجد في هذا الكتاب أدلة صحيحة واضحة في الحكم على الجنس السكسوني ومميزاته. ولكنا إذا رجعنا إليه وهو يبحث أو يدرس أفرادًا خاصة، وجدنا أن الأوصاف التي استنتجها يصح أن تنطبق على غيرها من جنس آخر وبيئة أخرى.
هذه الطريقة في النقد هي نتيجة فلسفة تين الإيجابية، ونتيجة أفكاره المذهبية المبنية على مذهب علمي ثابت وقواعد ثابتة، وهي نتيجة انتشار مذهب أوغست كونت وأتباعه؛ فمذهب تين الأدبي هو أثر مذهبه العلمي الفلسفي، مبني على صلة الأدب بالفلسفة والعلوم، وعلى تسرب المبادئ العلمية إلى الأدب والبلاغة، وأن البلاغة أثر من آثار العلوم، ليست عبارة عن خيالات وتشبيهات فقط، بل هي مجموع أفكار الإنسان ونتائج العقول والقرائح.
ولو أردنا أن نشرح مذهب تين بتفصيل أوسع لطال بنا البحث، وربما عاد علينا ذلك بالملل؛ لأن الرجل غير معروف عندنا؛ ولأننا لم نتعوَّد اندماج الأدب في الفلسفة، ولأن مذهبه مذهب علمي جاف لا يسوغ لنا قبوله.