من هو البرنس المؤلف؟
في اليوم الثامن من شهر يناير سنة ١٨٩٢ نُعي المغفور له المرحوم توفيق باشا خديوي مصر، إلى ولدَيْه البرنس عباس والبرنس محمد علي وهما يتلقيان العلم في مدرسة ترانزيوم النمسية.
وبعد مرور أيام، تمتعت عيون أهالي القاهرة بمشاهدة الأميرَيْن الشابَّيْن، وقُرئ الفرمان السلطاني بتنصيب كبيرهما أميرًا على «عرش الفراعنة»، وتفرغ الصغير للتمتع بالبعد عن المناصب والتداخل في شئون السياسة.
ولا يزال اسم البرنس محمد علي أقل الأسماء ظهورًا على صفحات الجرائد المصرية بالنسبة إلى ما يُنشر عن كبار المصريين، ونزلاء وادي النيل من الماليين والحكام والسياسيين حتى العمد والمزارعين.
وقد رُزق منذ خروجه من المدرسة بمن صوَّر له صحافيي مصر بشكل دفع به إلى إقفال أبوابه في وجوههم والامتناع عن مساعدتهم بماله، ولم يشترك إلا في جريدة مصرية عربية واحدة، يقال إنه لا يقرأ فيها حرفًا مع فرط ميله للاطلاع على ما تخطه أقلام رجال الصحف الغربيين، وشهرته باحترام كل ذي علم وأدب من الأزهريين، ففي أيام الأعياد يطوف على بيوت شيخ الإسلام والمفتي وقاضي أفندي مصر وغيرهم من الأئمة مهنئًا، ولا يسمع أن أحدهم مريض حتى يكون في طليعة عائديه، ولا يزوره فرد منهم حتى يردَّ له الزيارة بعد ساعات، وهي نعمة من الأمير يتمتع بها الكثيرون من كبار المصريين، فإنه لا يسأله كبير أو عظيم أن يشرفه في احتفال بزواج حتى يلبي دعوته ويتقدم الجميع في افتتاح البوفيه؛ حيث يتناول — في معظم الأحايين — كأسًا من شراب السكر المعطر بماء الورد.
ولكن قد لا يمرُّ عام دون أن تكرر الجرائد اسم البرنس محمد علي في معرض «السياسة»، فمنذ أربع سنوات تقريبًا قالوا: إن شقيقه اتفق مع جناب اللورد كرومر على تعيينه حاكمًا عامًّا على السودان، وبنوا على هذه الإشاعة العلالي والقصور.
ولا يعلن خبر سفره لقضاء فصل الصيف في أوروبا حتى يقولوا إنه انتدب لمفاوضة جلالة السلطان في مسألة طشيوز أو منصب القبوتخداي أو غير ذلك من التخرصات والأوهام التي قلما خطرت للبرنس الجليل على بال، حتى إنه قد سُئل غير مرة أن يستعمل مركزه للتداخل في بعض الأمور العمومية أو الخصوصية، فأبى، كما أنه لم يرضَ أن يتولى رئاسة لجنة من اللجان الكثيرة التي يؤلفها الوطنيون للاحتفال بعيد الجناب العالي الخديوي أو جلالة السلطان.
خلا أن مركزه الكبير يدعوه مضطرًّا لحضور كل احتفال كبير، إما مع سمو شقيقه أو بالنيابة عنه، وعلى الأخص في الاحتفالات التي تُقام لأغراض خيرية في دور القناصل والفنادق العظمى.
وقد ناب عن سمو الخديوي في الاحتفال بتشييع جنازة المرحومة الملكة فيكتوريا وتتويج جلالة الملك إدوار السابع، فأدهش المعزين والمهنئين في الاحتفالَيْن بآدابه وكمال تربيته التي بهرت الطبقات كافة في الأستانة وبرلين ولندن وباريس، وأصبح وله مكانة سامية لدى جلالة السلطان عبد الحميد وغيره من الإمبراطرة والملوك، وفي مقدمتهم جلالة الإمبراطور فرنسوا جوزيف صاحب النمسا والمجر، ونال منهم عددًا يُذكر من الأوسمة والنياشين.
ويؤخذ مما كتبه في رحلته أنه يجتهد دائمًا في التخفي ما دام بعيدًا عن مصر، غير أن تَخَفِّيه لا يمنع الكثيرين من الإشارة إليه بالبنان أثناء غدوه ورواحه، وبالأخص في بولفارات باريس وغاب بولونيا وبعض مدن الحمامات.
وإذا وفد على مصر ضيف من كبار الملوك أو الأمراء، فقد اعتيد أن يُرى الجناب العالي الخديوي مع ضيف بلاده في العربة الأولى ثم البرنس محمد علي في العربة التي تليها مع زوجة الضيف.
ولا يزال البرنس مع عنايته بصحته نحيفًا، وربما كانت نحافته راجعة إلى كونه عصبي المزاج، وقد ادَّعى بعضهم أنه مصاب بالنوراستني، غير أن هذا القول لا يصدقه من عاشر الأمير وأدرك لطف محادثاته ورباطة جأشه لدى الملمات وقدرته على الرقص ساعات عديدة في حفلتي «البال» اللتين تقامان سنويًّا في سراي عابدين والوكالة الإنكليزية بقصر الدوبارة.
وقد ذكرت الصحف مرة أن البرنس عازم على التزوج بفتاة أميريكية، وكررت مرارًا أن والدته خطبت له إحدى بنات السراي السلطانية، ولكن لم يصدق شيء من هذا كله، كما أنه لم يُعرف بعد سبب امتناعه عن الزواج.
وللبرنس في الماسونية مقام خطير بلغه عن جدارة واستحقاق، وقد رشح غير مرة لتولي أكبر مناصبها في مصر، ففاز عليه صاحب العطوفة إدريس بك راغب، ويُعزى هذا الفشل إلى امتناع الأمير عن طرق الأبواب التي يعرفها مزاحمه ورغبته عن التقيد بخدمة تحتاج لدوام الاجتماع بمن تأبى سجاياه الاختلاط بهم.
وكان الأمير يسكن في حي الإسماعيلية أمام فندق «سفوي»، فلما رأى ازدحام الحي بالعمارات التي تحجب عنه النور والهواء باع سراياه لإحدى شركات الأراضي، وبنى بدلها قصرًا جميلًا في جزيرة الروضة يحيط به الماء من كل ناحية وتصل بينه وبين العاصمة قنطرة خصوصية.
ومع اشتهار سمو الخديوي بالحرص والاقتصاد والجد في تنمية المال، فإن أخاه البرنس لم يُعرف عنه حتى الساعة شيء من ذلك، فهو لا يباشر أعماله المالية والزراعية بذاته بل فوَّض الأمر فيها إلى جماعة من الخبيرين تابعين للدائرة الخاصة، فهم يديرونها له بما عُرف عنهم من الاجتهاد والأمانة بينما تجده منصرفًا إلى الاستمتاع بخصوصياته وقضاء الوقت مع أصدقائه وخلانه ومعظمهم من غير الأمراء؛ إذ بينهم عدد يذكر من الأطباء والمزارعين وأبناء التجار والأعيان.
ويُرى دولته خارج قصره في أغلب الأوقات راكبًا عربة بالأجرة تمر سراعًا دون أن يشعر به أحد رجال البوليس أو الجالسون في القهوات.
جمعت الصدفة يهوديًّا وعمدة في «سبلندد بار» فقال اليهودي لجليسه: ما لي أرى البرنس محمد علي باشا يطوف في الأزبكية كل مغيب شمس متدثرًا بعباءة في عربة من عربات الأجرة؟
فأجابه العمدة: لدولته في لبس العباءة والتخلي عن الأوتوموبيل والعربات الخصوصية غايتان؛ إحداهما: إفهام المرابين ما آلت إليه حال الأهالي من الفقر بعد الغنى والعسر بعد اليسر، حتى صار الأمير المقدم فيهم وشقيق سيد القطر يتدثر بالعباءة، ويكتري مركبات الأجرة مثل العامة وصغار الموظفين، والأخرى: التقرب من العمد والفلاحين بتقليدهم في لباسهم والتطبع بأخلاقهم وعاداتهم، وكلتاهما على ما حققه البحث والاستقراء من أنفع الوسائل لإسعاد الأمة واحترام الأمراء. ا.ﻫ.
على أن إسطبل البرنس عامر بعدد كبير من الجياد والعربات على تعدد صنوفها، منها عربة عالية «كوتش» تجرها ثلاثة خيول كان يركبها منذ سنوات ويسوق جيادها بيده، ولغرابة شكلها وسيرها بسرعة البرق انتقدته جريدة مصباح الشرق نقدًا مرًّا، فعدل عن الخروج بها في شوارع المدينة.
وكان يكثر من ركوب الأوتوموبيلات، ولكنه لا يُشاهد بها مُسرعة بعد أن قتل تحت عجلاتها طفلًا في شارع الأهرام وأعطى ذويه مبلغًا من المال وعددًا من الأفدنة، ومع ذلك لم يسلم من وخز الأقلام على صفحات الجرائد المحلية المتطرفة.
وقد اشتهر دولته في العام الماضي بحديثه مع المسيو «دوجرقيل»، فصرح له فيه بغطرسة الشبان الإنكليز الذين يأتون مصر مع اشتهار أبناء جنسهم في وطنهم باللطف ودماثة الأخلاق.
وكذلك توالت عنه الكتابات لحديثَيْن قيل إنه شافه بهما صحافيًّا ومحاميًا شهيرَيْن على مشهدٍ من السامعين، ولكن لم يقم دليل على صحة ما نُقل عنه.
ولم يكن أحد يعرف أن الأمير كاتب مفكر حتى ظهر كتابه هذا، وكانت إحدى الجرائد الأسبوعية هي البادئة بنشر فصل منه نقلته عنها مجلة سركيس وغيرها من الصحف، فتوالت طلبات الأفاضل على إدارات الجرائد والمكاتب العمومية بالسؤال عن الكتاب، فرُدوا خائبين؛ لأن عدد النسخ التي طبعت منه كان محدودًا ووزع على أصدقاء الأمير وكبار موظفي دائرته.
وللقارئ الكريم بعد هذا البيان أن يطالع الكتاب فيرى منه ما رأيت، وهو أن الأمير من خيرة الذين زاروا أوروبا من المصريين وعرفوا كيف يكتبون عن غرائبها والسلام.