رحلة الصيف إلى بلاد البوسنة والهرسك
الشروع في السفر إلى بلاد البوسنة والهرسك
لما أن قضيت سياحتي في أوروبا عام ١٩٠٠ وانثنيت من باريس معرِّجًا على «ويانا» عاصمة بلاد النمسا، شرعت هناك في رسم خطة أسير على مقتضاها، فعنَّ لي أولًا أن أجعل مبدأ سيري إلى بلاد البوسنة والهرسك من «ويانا» إلى «بودابست» عاصمة بلاد المجر ثم منها إلى «بنيالوقا» ومنها إلى «ياسي»، فإلى «طراونيق» ومنها إلى «سراجيفو» عاصمة بلدان البوسنة، ثم أستأنف منها السفر إلى «مسطار» عاصمة الهرسك ثم منها إلى «منكوويتش» ومنها عن طريق البحر إلى «قطارو» كيما أشرف على مرائي الطبيعة البيضاء في بلاد الجبل الأسود وعلى الخصوص عاصمتها «ستينيا» لعلي أنفح الروح بنفثة من نورها البليل، وأتنسم جوَّها الصاحي ونسيمها العليل، ولكن مع الأسف لم يسمح لي الدهر من الوقت بأكثر مما يسع زيارتي لبلاد البوسنة وتجوُّلي في أطرافها ووقوفي بطرائفها، وإرسال النظرات إلى مجالي الطبيعة تتغادى بين الأنجاد والأغوار، وتتهادى بين الأغصان والأزهار.
من أجل ذلك أضربت عن السير على هذه الخريطة وتغانيت بالسياحة في بلاد البوسنة؛ إذ كان مبدأ سيري إليها من «ويانا» إلى «بودابست» ومنها إلى «زابتكا» فمنها إلى «بوسنه برود» ومنها إلى «سراجيفو» فإلى «طراونيق» فإلى «ياسي» ومنها إلى «بنيالوقا».
مبارحة فينَّا إلى بلاد البوسنة
في صباح اليوم الثامن من شهر سبتمبر عام ١٩٠٠ عزمنا بحول الله ومعونته على مغادرة فينا قاصدين إلى بلاد البوسنة والهرسك، التي كانت يومئذ محط رحالنا ومرامي آمالنا؛ وإذ ذاك ما كان أجدر فندق «امبريال» الذي أكرم منزلنا وأجمل مثوانا بنظرات وتأملات يصحبها الأسف على مفارقة مناخه الجميل، وكان في انتظارنا بالباب مركبة وهي وإن كانت من مركبات الكراء غير أنها لا تقل في حسن المنظر وجمال الزخرف عن غيرها من العربات الخصوصية، وما كدنا نمتطي متنها الوثير حتى أخذت تنهب بنا الأرض نهبًا، وعجيب أن تسير مثل هذا السير الحثيث على بلاط «ويانا» الذي عفت آثاره فأصبح من تقادم العهد عليه عوجًا وأمتًا! وما زالت كذلك تنتهب طرقات العاصمة وشوارعها حتى إذا لم يبقَ بيننا وبين «المحطة» إلا قيد عشرة أمتار رأينا الحوذي قد أبطأ في السير وقلل من السرعة ولا نعرف لذلك سببًا، اللهم إلا أن ميدان «المحطة» الفسيح كان مزدحمًا بجماهير الناس وغاصًّا بجماعات المسافرين، وقد قضى حسن نظام الحكومة أن تحفظ مع هذا التزاحم راحة المسافرين مما عساه يحدث لهم لو تركت العربات وسرعتها وخلت الحوذيين وشأنهم، وعند ذلك تقاضى الحوذي منا أجره وهو اثنان ونصف من الفولورينات، فأخذه وعلائم البشر تلوح على جبينه.
وأذكر أننا قطعنا ما بين الفندق «والمحطة» في مدة لا تربو عن العشر دقائق بفضل السرعة التي ذكرناها آنفًا، ولما أن دخلنا المحطة وهي محطة الحكومة المسماة «استتابنهوف» التي منها يؤخذ الطريق إلى بلاد المجر، التفت فلمحت ترجمان الفندق الذي كان قد سبقنا مع الحاشية إليها، وهنا أذكر ما فات القارئ من تعرُّف من كان معي في تلك الرحلة، وهم صاحبي العزيز محسن بك راسم، وثلاثة من المهنة وهم محمد جعفر الشماشرجي، والخيال المشهور «دولت» الجركسي، ومحمد آغا الكروجي، وتخيرنا هذا الأخير؛ لأن أصله من الجبل الأسود وله إلمام بلغة السلاف ليكون ترجمانًا لنا فيما نحتاج إليه مما تتعاصى معرفته علينا من لغة القوم.
قطار السكة الحديد
وحينما وافت الساعة الثامنة والدقيقة الخمسون كان قطار الإكسبريس الذي يمرُّ في طريقه ببودابست متجهًا إلى بلاد البوسنة، متأهبًا للمسير متهيئًا للرحيل، وكنا أرسلنا ترجمان الفندق من قبل ليحجز لنا محلًّا من المحال الخصيصة في عربات ذلك القطار، بما لا يزيد عن ثلاث أنفس، ولكنه جاء بعد آسفًا وأخبرنا بأنها قد ضاقت على الراكبين بما رحبت، وأن ليس لنا مجال فيها ولا نصيب منها، أما حاشيتنا فإنها سكنت إلى الدرجة الثانية، وأما أنا وصاحبي فما لبثنا نفكر كيف نصنع ولا مناص من السفر، حتى هُدينا إلى أن نحبو القومساري بشيء من النقود هو في مجاري عاداتهم أشبه بالضروريات، وما هو إلا أن نزعت بالرجل همته وخفت به حلاوة العطية فرادنا إلى حجرة تَسَعُ ست أنفس بدلًا من ذوات الثلاثة، فاستخلفنا والحمد لله الفضة بالنضار، واستبدلنا الدرهم بالدينار، ولم يزل بنا حتى أغلق بابها لكيلا يشاركنا فيها غيرنا، فسرنا منه ذلك كثيرًا وزادنا سرورًا ما نُمي إلينا من أنا سنلازم تلك الحظيرة حتى حدود البوسنة، مع أن العادة في هذا السفر قد جرت بتنقل الركاب ثلاث مرات في غضون المسافة.
على أنا لم نَكُ لنطمئن على مجالسنا تمام الاطمئنان خشية أن يدفع الزحام ببعض المسافرين إلى مساهمتنا في تلك الحجرة الرحبة بالرغم عن رقابة القومساري لنا واحتفاظه بنا، وحرصه على أن لا يصل إلينا ما نكره وأن لا نرى ما نحب، ولقد كان أن بعض الناس جاء إلينا وحاول أن يزج بنفسه بيننا، ولكن ما نشب يحاول أن رأى له متسعًا فيما زيد أخيرًا على عربات القطار؛ إذ اتفق من حسن الصدفة أن ناظر «المحطة» قد اضطر بسبب وفرة الركاب إلى أن يضم إليها ما فيه الكفاية لركاب الدرجة الأولى، وتلك لعمر الله عناية عظمى ما كان أحوج جماعة المسافرين في راحتهم إليها، وقد استغرق هذا العمل من الزمن ما أفضى إلى تأخير القطار عن ميعاده المعتاد نحو أربع وأربعين دقيقة، والذي كان يشارف عربات الدرجة الثانية والقطار مندفع بقوة البخار، يرى النمساويين الذين جرت عادة أغلبهم بأن لا يتفوقوا إلى هذه الدرجة يتغادون في سراديبها ويتراوحون في دهاليزها، وما فتئ ابن البخار يشق بنا أحشاء القفار حتى وصلنا إلى حدود بلاد المجر في زمن غير بعيد، وهنا استودعنا في بلاد النمسا ذلك القومساري الذي ذكرنا عرفه وبينَّا لطفه وأطرفناه باثنين من الفولورينات، وهي طريقة مقبولة في عرفهم قلما تجد واحدًا منهم يأباها، فانبعثت فيه روح نشاط جديدة كان منها أن ختم خدمته وتوَّج جميله بوصاية رصيفه المجري الذي خلفه عند ملتقى الحدود، فلما زارنا ذلك الخلف أول مرة للتفتيش عن التذاكر قرأنا فيه عنوان بلاده واستطلعنا منه طلع معشره؛ إذ كان ضخم الجثة أسمر اللون طويل الشارب، وكان مما يلفتني إلى هذا الرجل أني وجدته يلبس في يديه قفازين أبيضين، فاستغربت وليس موضع الغرابة إلا كونه مع هذا من عملة السكة الحديدية! ولقد لاقانا هذا القومساري من بشاشة الوجه وطلاقة المحيا بما لا نرتاب معه في أننا سننال من تعهده لراحتنا ما نلنا من أخيه النمساوي، وكان ما يتدفق في أفئدتنا من السرور به أضعاف ما يلوح على وجهه من البشر بنا، وكنت وصديقي محسن بك نتجاذب آونة أطراف الحديث، ونتوارد طرف السمر — وما ألذ التحادث في السفر — وآونة نلزم الصمت ونسرح في مسارح الخيال، حتى نام صديقي ونمت، وما أحوج المسافر إلى النوم والراحة، ولكن كيف ينام من ليس مطمئنًا في مقامه ولا حرًّا في منامه، بل كيف يملك راحته مسافر وفي القطار مثل رئيس المفتشين ذلك الرجل الجافي الطبع، الغليظ القلب، فإنا بعد أن أخذنا مضاجعنا باغتنا أي مباغتة، وفاجأنا أي مفاجأة، نعم فاجأنا بما ينبو عن الأدب وما لا يجمل بالمعاملة، وحظر علينا إقفال الباب من الداخل، فكان ذلك سببًا في كدر صفونا وامتعاض نفوسنا، حتى وصلنا إلى «بودابست» وقد بلغ منا التبرم به والتذمر من أخلاقه حتى إنا لنتحرش به تحرش الأسد بالفريسة، ولكن ما عسانا أن نصنع ولا حيلة لنا إلا امتثال ما أنبه عليه وأشار إليه، على أنه لم يصل إليه منا بارة سوء، اللهم إلا إذا كان التحلم معه وإسلاس القول له بعث في نفسه روح الشر، فركب معنا متن الغرر، وقد قيل الحلم يفسد من أخلاق اللئيم بقدر ما يصلح من أخلاق الكريم.
كأني بالقارئ يلاحظ عليَّ تعرضي لذكر دقائق الأمور وجزئياتها، وما أدراه أن صغائر الأشياء عنوانات جلائلها، والفرد الواحد قد يكون نموذجًا لكل شعبه، وإذا كان غرضنا أن نقف على عادات القوم وأخلاقهم، فلا سبيل لالتماسها إلا من أفرادهم ولا سيما صغارهم الذين لا يحسنون المواربة ولا يجيدون المماراة، فيتسنى للمستطلع أن يستجلي منهم ما يريد أن يستجليه صافيًا نقيًّا لا تشوبه شائبة الغرض، وقد قيل: إن قلب الجاهل وراء لسانه، كما أن لسان العاقل وراء قلبه.
ومما أذكره أنه لما حان وقت الظهر ونحن في أثناء الطريق جاء إلينا الخادم المخصوص بعربة الأكل ليسألنا عما نحتاج إليه، ولعلمي من العادة هنالك أن السياح يذهبون إلى الطعام على دفعتين أوفدتُ خدمي في الدفعة الأولى التي كانت توافق الظهر تمامًا، أما أنا وصاحبي فانتظرنا أمد الثانية التي تكون الساعة الواحدة والربع بعد الظهر.
في غرفة الطعام
حتى إذا ما جاء ذلك الوقت سارعنا إلى عربة الأكل، ولم يكن فيها إذ ذاك إلا سيدة ومعها ابنتاها، ويظهر عليهن أنهن من البيوتات الكريمة والأسر الخطيرة في بلاد المجر لما على وجوههن من مسحة الشرف وسيماء الإمارة، وما كدنا نسكن إلى مجالسنا حتى وافانا الخادم الذي ظن أننا فرنساويون حينما سمعنا نتكلم باللغة الفرنساوية، فأوعزنا إليه أن يأتينا «بشوربة» فأمهلنا زهاء نصف ساعة كان في غضونها يغدو ويروح بغاية السرعة؛ لأنه على ما كان يظهر لي هو القائم وحده بحاجات المسافرين؛ ولذلك كان يتصبب عرقه ويتقاطر على وجهه فيضطر إلى تجفيفه بغلالته حتى اشمأزت نفوسنا من هذا المنظر، على أن «الشوربة» التي أحضرها بعد لم تكن بالسائغة، وقد أردفها بسمك كان كذلك غير مقبول، فتنحينا عنهما — لا بطرًا — وطلبنا خبزًا بغير إدام عسانا أن ندفع به الخلة ونسد به الرمق، وفيما أنا أتَلفَّتُ إذ وقع نظري على خادم آخر وادع في مكانه لا عمل له إلا فتح الزجاجات، وأظنه حبس نفسه ووقف شغله على هذا العمل ليفلت من عناء الخدمة التي يكابدها رصيفه.
وبعد هنيهة لمحت على الكونتيسة علائم الرغبة في أن تنفرد هي وكريمتاها إلى طاولة على حدة، وحينذاك أوعزت إلى صديقي أن يدعوهنَّ إلى «ترابيزتنا» حتى نتنحى عنها إلى غيرها، غير أن هذا الرأي لم يصادف عنده الذي كنت أرجوه منه ولم يبلغ من نفسه ما بلغ من نفسي، فاعتذر إليَّ بأن حاجتنا ونحن مسافرون داعية إلى الاحتفاظ بهذه «الترابيزة» في سفر لا يقل طول مسافته منذ هذه المشورة إلى منتهاه عن أربع وعشرين ساعة، وخصوصًا أن مستهل سياحتنا ومطلع سفرنا كان — كما عرف القارئ أولًا — لكثرة الزحام مدعاة إلى القلق ومنآة عن الراحة، ويعلم الله أن رأي صديقي لم يكن ليثني رأيي ولا ليفل غرار رغبتي وخصوصًا بعد ما رأيت من حسن شيمها وجميل صنيعها، فإني لما طلبت إلى الخادم خبزًا في المرة الثانية لمحت واحدة من ابنتيها تشير إلى والدتها، ولا يعلم إلا الله حينذاك ما كانت تقصد إليه، ولكنا ما لبثنا أن أهدت إلينا الكونتيسة سلة فيها خبز فعرفنا مغزى إشارة تلك الفتاة الرءوفة إلى والدتها الشفيقة العطوفة، وكانت تلك الهدية المقبولة والمنحة المبرورة أدعى إلى خجلي وأبلغ في أسفي وتمنيت لو أني كنت البادئَ بالمعروف.
وقف القطار على محطة «بست» فنزل إليها قصادُها من الركاب، وخلف من بعدهم خلف من المسافرين الذين كانوا وقوفًا على رصيف «المحطة» ينتظرون هذا القطار، فخشينا لكثرتهم أن يضيق القطار بهم فيضطر بعضهم إلى مزاحمتنا في محلنا، فنقع هنا فيما كنا نتوقاه هنالك، وقد قام من هذه «المحطة» قبل قيام قِطارنا اثنان آخران أحدهما إكسبريس الشرق الذي يكون مبدأ سيره من باريس ويمر على ذلك البلد متجهًا إلى إسلامبول، والثاني يبتدئ منها قاصدًا إلى «بوخارست»، ولما نزح كل من القطارين براكبيه التفتُّ فلم أرَ في فناء «المحطة» غير نفر يسير، منهم ثلاثة يلبسون الطربوش على عادة الشرقيين، فصبوت إلى معرفتهم وظهر لي أنهم من بلاد البوسنة وأنهم على نية الأوبة إلى أوطانهم، وقد امتطوا متن الدرجة الثانية — ولم تكن وابورات النمسا لتشتمل إلا على الدرجتين الأولى والثانية — فصادف ركوبهم؛ حيث يركب خدمنا، وبعد قليل علم أولئك البوسناويون «البكوات» ممن كان معهم من الخدم أننا شرقيون، ثم تدرَّج بهم التبحث عنا إلى أن سألوا عما إذا كنا مسلمين أو لا، فأجيبوا بأننا مسلمون، هنالك انساب أولئك النفر في الخدم يؤنبونهم تأنيبًا ويبكتونهم تبكيتًا على ترديهم شعار الغربيين وتنحيهم عن شارة الشرقيين، هذا ما كان بلغني من رفيقي محسن بك الذي أرسلته لاستطلاع أمرهم، وكنت احتطت لمثل ذلك من قبل ونبهت على خدمي بأن لا يشعروا بنا أحدًا، ولكني مذ سمعت من رفيقي ما جرى خشيت أن يكونوا نسوا ذلك التنبيه فأعلموا القوم بحقيقتنا، لكن والحمد لله زال ما كنت أخشاه حين علمت بأنهم لم يعرفوا عنا إلا أننا تجار.
وكنت ونحن في بلاد المجر على جناح الطائر الميمون الذي كان كثير الرسو على «المحطات» أنتهز الفرص في اختلاس النظرات لأرى رجال تلك البلاد بشعرهم وأزيائهم التي تختلف — بالطبع — باختلاف جهاتهم، كما كنت أرى ذلك في غير هاتيك البلاد، ولكن مع الأسف لم يقع نظري هنالك إلا على فتيات أحداث كنَّ يتراوحنَ ويتغادين في تلك «المحطات» ليبعن المسافرين ما بأيديهنَّ من صنوف العنب والخوخ، حتى وصلنا إلى «زابتكا» ومن هذا البلد ينقسم القطار إلى قسمين، والمسافرون يتناولون وقتذاك طعام العشاء، غير أني وصديقي لم نشارف الخوان في ذاك الآن، بل أجلنا ذلك العشاء إلى وقت المغرب حاسبين أنا نجريه في بلدة «جالا» التي وصلناها، وكان للحديث الفضل في قطع المسافة إليها من غير ما نصب ولا لغوب، وما وصلناها حتى عمدنا إلى فتح باب غرفتنا وكنا أسرع ما يكون تحدُّرًا إلى محل الأكل في «المحطة»، وما كنا لنسرع إلا لأن القطار لا يقف ثَمَّةَ أكثر من ربع ساعة.
دخلنا إلى المطعم وإذا الشوربة تنتظر سائغيها والسمك يترقب آكليه، وهنالك صحفة لحم مصنوع «بالصلصة» ويسمى هذا عندهم «بالجولاش» صنف معتنى به في طعومهم، وهو أشبه شيء بما يسمى في عرف المصريين «بالياخني»، وقد وجدنا في هذا الصنف من طيب النكهة ولذاذة الطعم ما أضربنا به عن غيره من الشوربة والسمك، بل قد بلغ منا استحسانه أن ذهبنا بأنفسنا إلى محل المطبوخات وترجينا طاهيه أن يزيدنا منه ويكثر، ولكن مع الأسف ألجأنا الإفراط من طعمه إلى الإفراط في شرب الماء الزلال، ريثما نكسر به شِرَّة الحرارة التي أثارها في جوفنا هذا المأكول اللذيذ، ولست أدري أن لذاذة هذا المطعوم ما جاءت إلا بما يضيفون إليه من التوابل الحارة كما يفعل السودان بطعامهم المشهور المسمى لديهم «بالويكه».
ثم نادى منادي «المحطة» حيث أذن القطار بالمسير، فسارعت لأقضي ثمن المأكولات الذي كنت أحسبه كثيرًا بالنسبة إلى وفرتها، فلم يتقاضوا إلا مبلغًا يسيرًا في جانب ما طلبنا من الأكل الكثير!
القيام إلى محطة «جالا»
سار الوابور بسم الله مجراه، واندفع كأنه السهم يشق كبد الفضاء وليس له من هدف إلا بلاد البوسنة، وكنا نشرف من خلال النوافذ ونرسل النظرات إلى أراضي تلك البلدان فنجدها متبسطة ميثاء لا تقل في استوائها عن أراضي الوجه البحري في مصر، وما كاد الليل يحلق بجناحيه في السماء وينشر ديباجه الحالك في ثنيات الفضاء حتى بدا محيا القمر وكأنه ملك فخم، أناف بسراة قصره، وأشرف على رعيته من خلال ستره، فأرسل عليهم ما شاء أن يرسل من هبات آلقة وأيادٍ بيضاء، وما أجمل هذه المناظر في نفس المغترب المسافر، ثم لم يمضِ على مسير القطار أكثر من ساعة حتى دانينا نهر «الدانوب»، وإذ ذاك خارت عزيمة البخار ووهت قوة قوائمه فرقًا من منظر ذلك النهر المهول الذي لا يقلُّ بعد ما بين شاطِئَيْه عن مثلَي النيل عند «كوبري» كفر الزيات، وهنا يذهب العجب بالقارئ كل مذهب إذا قلنا له إنه ليس على ظهر ذلك النهر «كوبري» ولا ممرٌّ ولا قنطرة ولا معبر، والقطار لا محالة واصل، من الساحل إلى الساحل، يسبح على مهل، أم يجري على عجل، أم يطير في الهواء؟ وقد يعيا به حمله! أم يقتعد متن الماء؟ وقد يهوي به ثقله! ذلك ما كان يأخذ بالألباب ويذهب بالأحلام، ولكنهم قد قالوا إذا عُرف السبب بطل العجب، وليت شعري لقد كانت العلة هنا أغرب والسبب أخفى وأعجب، فلم يزل بنا القطار حتى استوينا إلى شاطئ النهر وما هو إلا أن وافت إليه سفينة بخارية حتى حاذت مكانه ووصلت بقضبانها قضبانه، وإذ ذاك آوى القطار إليها واستوى بجملته عليها، ولا يستطيع واصف أن يشرح ما بلغت تلك السفينة من الطول والمتانة وغير ذلك، مما يدل على تمام الحذق في الصنعة وكمال الإتقان في الإبداع بأكثر من أنها وسعت ذلك المسافر الطويل وحملت على عاتقها هذا العبء الثقيل، دون أن تضيق ذرعًا بامتداده العظيم، ولا أن تتأثر لحمل جسمه الجسيم، وما استوى على متنها القطار حتى أخذت تمخَر العُباب، وتشق بجيزومها جوانب الحباب، فاختلط الحابل بالنابل، واشتبه علينا المحمول بالحامل، وسرت الجارية وقد ألهب أحشاءها من النار السعير، وإن أعيا قدميها من الماء الزمهرير، حتى إذا وصلت إلى الشاطئ الآخر ووقفت منه موقفها من الأول ألقت رحلها ووضعت حملها، فأعملت يد سائق القطار مفتاحه فسار الهويناء يسل ثيابه من ثيابها، ولقد كنا من ساعة امتطى القطار متن الجارية بنت البخار نرسل النظرات تلو النظرات فنستطلع في مرآة الماء ما كنا نقرؤه في صحيفة السماء، فكان من فوقنا نجوم غرَّاء، ومن تحتنا كواكب زهراء.
وما أجمل القمر وهو بين هاتيك الكواكب كأنه القائد الحاذق تحف به الأجناد يلحظ بعينيه النجلاوين كل مكان، ويرمقه شغفًا به كل إنسان، فما كان أجلى الطبيعة وأجملها في مجاليها البديعة، وما كان أحرى المشاهدين لكل هذه المناظر الباهرة بالاندهاش وأجدرهم بالعجب والاستغراب، ولا سيما الذين لم يجتلوها غير هذه المرة فكان تعجبهم منها أكثر واستغرابهم لها أشدَّ وأكبر، ومنهم رفيقي الذي ما كنت أنظر إلى وجهه إلا قرأت فيه آيات الدهشة ورأيت عليه سمات الإعجاب.
الوصول إلى حدود البوسنة
ولما أن وافت الساعة الحادية عشرة ونصف قبل الظهر، وصلنا بمعونة الله إلى محطة «بوسنة برود» التي هي حدود بلاد البوسنة وفيها ينتقل الركاب إلى قطار آخر ولكنه يسير على خطوط ضيقة كالخطوط الزراعية في بلادنا، وقبل أن يحين موعد القطار الثاني ذهبت لأبحث عمن يتقاضى قيمة الفرق ما بين الدرجة الأولى في القطار الذي بارحناه ومضاجع النوم في القطار الذي سنركب فيه، فهُديت إلى أن ذلك يكون عند العامل المخصوص بصرف التذاكر، وعند ذلك عمدت إليه فألفيته مشتغلًا ببعض المسافرين الذين سبقونا لمثل مآربنا، فوقفت بحكم الضرورة أنتظر ريثما ينصرف هؤلاء، وفي غضون ذلك كنت أجد مستخدمي «المحطة» مرتدي الثياب التركية حتى خلتني وأنا بينهم في بلاد عثمانية أو بين معشر أتراك، وقد لفت نظري هنالك رجل ناف بطوله على المترين وعرفت أنه حرسي من أنه كان يلاحظ النظام، وأذكر أنه لم يقع نظري في تلك الجهات على رجل في طوله، أما من كانوا يتوافدون على «المحطة» من الأهالي فملابسهم في الغالب كملابس الكرجيين — وهي السلطة والسروال — غير أنهم يتعممون بعمائم حمر، وقد لاحظت على فتيانهم أنهم يضعون العمائم على فودهم فتكسو ناحية من الرأس وتدع باقيها مكشوفًا حاسرًا، وأظن أن منشأ ذلك هو الإعجاب بزهو الحداثة ومخيلة الشباب، وينتعلون في أقدامهم أحذية كأحذية «أولاد البلد» عندنا وهي المسماة «بالمراكيب»، غير أنها غريبة في شكلها؛ إذ كانت ذات نعل سميك ممتد بطول القدم، يقوم على جوانبه سياج من الجلد وهو أقل ارتفاعًا من المعروف هنا، ويختلف في ملابس الأغنياء عنه في ملابس الفقراء بفرق قليل، هو أن أولئك يضعون في زمن البرد عليه غطاء من الجلد آخذًا من رءوس الأصابع إلى ما يداني مفصل القدم، وهؤلاء يتخذونه من الخرقة ونحوها، وعلى كل حال يشدُّ ذلك الغطاء بأربطة على ظهر القدم، وكنت أرى في نفس أولئك القوم وداعة وفي أخلاقهم لطفًا وفي عرائكهم لينًا، ولعل ذلك كان من أنهم لا يمرُّ بهم السياح كثيرًا كما يمرُّون بغيرهم فيجدون منهم ائتلافًا وبهم ائتناسًا.
وبينما نحن على إفريز — رصيف — المحطة نروح ونجيء ريثما يحين وقت الركوب، وإذا رجل من أهالي تلك البلاد يتأثر قصصنا ويتبع حركاتنا، يسير إذا سرنا، ويقف إذا نحن وقفنا، فما ارتبنا في أن هذا الرجل من المخبرين السريين، ولعله يرقبنا لكونه رآنا لابسي «الطربوش»، ويجوز أنه لو لم يرَنا على ذلك الزي لم يتتبعنا كل ذلك التتبع.
ثم إنه اقترب منا وسألنا عن أسمائنا وبلادنا، فما وسعني إلا أن أخبره بأسماء صاحبي وحاشيتي، أما أنا فأعطيته اسمي الذي تعوَّدت أن أتسمى به في سياحاتي وهو «محمد أحمد بك»، وبعد ذلك سألنا عما إذا كانت هذه أول سياحة لنا في بلاد البوسنة، وهل نحن متوجهون بعد إلى «مسطار» عاصمة الهرسك؟ … وإنما عُني بهذين السؤالين وخصوصًا الأخير منهما لواقعة حال لا نرى بأسًا من ذكرها، وهي أنه موجود في «مسطار» كما هو موجود في غيرها مدارس للرهبان، ويدرسون فيها علومهم ويبثون عقائدهم، وفضلًا عن ذلك فهم يدعون إلى النصرانية من يقع تحت أيديهم من المسلمين، وقد وقع أن تديَّن بدينهم ثنتان من النساء المسلمات، واستدعى ذلك أن دب الهرج والمرج في جماعة المسلمين هنالك وبلغ منهم الغيظ والتذمر مبلغًا عظيمًا، ولكنهم رأوا من العقل والأناة أن يرفعوا شكواهم إلى جلالة إمبراطور النمسا الذي لم يرَ أن يهدئ نفوسهم ويسكن ثائرتهم إلا بالسكوت عنهم، وأن يغلق في وجه تلك الفتنة هذا الباب، فلم يجبهم على شكايتهم بجواب، فحسب ذلك الرجل أننا جئنا من تركيا بهذا الصدد؛ ولذلك كان يدأب بسعيه على كشف الحقيقة ويتبحثنا بما لا يقل عن سعي المخبرين ولا أظنه إلا كذلك، ولما لم تكن «مسطار» مما عولنا على ارتياده في خطتنا الثانية أخبرناه بعدم ذهابنا إليها واكتفائنا من هذه السياحة زيارة بلاد البوسنة، فبرقت أسارير الرجل وظهرت على جبينه علائم الفرح والسرور، وأخذ يحيينا كما يحيي رب البيت أضيافه، وطفق يشرح لنا مزايا السياحات وما يعترض المسافر من التعب والراحة، وما في بعض البلدان الأوروبية من غرائب التحف وعجائب الطرف، فقلت له: أرح نفسك. فبما أزل لنا المغفور له والدنا من النعمة تطوَّفنا بلاد أوروبا وجلناها شرقًا لغرب، وجبناها شمالًا لجنوب، ووقفنا على ما فيها وعرفنا ما بين دفتيها، وكان حديثنا باللغة الألمانية، وكنت ألاحظ أن بين جوانح الرجل دعة وفي معاملته لطفًا وأدبًا.
ركوب قطار البوسنة إلى سراجيفو
ولما أزف الترحل ودعنا الرجل وودعناه وركبنا القطار؛ حيث وافانا القومساري وذهب بنا إلى المحل المعدِّ لنا، وإني مبين للقارئ كيفية عربات النوم في بلاد البوسنة وما ألاحظه عليها، أما تلك العربات فقد ذهب البسناويون في شكلها وهيئتها مذهب الأمريكانيين في عربات «بولمن كار» تقريبًا، وكانت العين الواحدة تشتمل على أربعة مقاعد أخذ كل منها بزاوية من زواياها الأربع، ولم تدع إلا الطريق الذي يرسم بينها شكلًا صليبيًّا بقدر ما يسع مرور الراكبين، وليس على المسافر عند إرادة النوم إلا أن يعمد إلى تلك المضاجع فيقلبها فيستحيل كل اثنين منها إلى سرير واحد للنوم، وقد أعدوا على كل سرير وسادة وغطاء خاصًّا بالسفر ويسمى «برغان» وستورًا إذا أرسلها المضطجع تكون حجابًا بينه وبين غيره، بحيث لا يراه أحد كأنه في غرفة منزله، ولقد كنت أعالج أقفال باب العربة قبل أن يسير القطار حتى نطمئن بعدم دخول أحد إلينا، غير أني لم أتمكن من ذلك لأن غرفتنا كانت ممرًا إلى غيرها، فأبت ضرورة المرور إلا أن يبيت الباب مفتوحًا وأن لا نبيت إلا قلقين، ومما ألاحظه أنه لم يكن في ذلك القطار — على كثرة عرباته — إلا محل واحد للغسيل وآخر لقضاء الحاجة مع أن حاجة المسافرين داعية إلى أكثر من ذلك، كما أني كنت ألاحظ أن ركاب الدرجة الأولى في بلاد البوسنة كركابها في بلاد النمسا قليلون، ولعل ذلك كان سببًا لتقليلهم من عربات هذه الدرجة؛ إذ كنت أرى القطار الذي تبلغ عرباته نحو العشرين ليس فيه إلا اثنتان من الدرجة الأولى، سار القطار وأنا منبسط النفس منشرح الصدر لما علمت أني سأملك راحتي في مدة السفر التي كانت من وقت قيام القطار إلى حين وصوله لا تقل عن ثماني ساعات.
وما توسد صديقي محسن بك وسادته حتى أغرق في النوم وحتى إني كنت أسمع له غطيطًا عاليًا، وأما أنا فحينما أويت إلى سريري ورأيت أن الستار الذي كان يخيل إليَّ أنه حجاب منيع بين النائم وغيره لا يكفي في ردِّ البصر وستر ما وراءه عن عيون الناظرين، ولا سيما الذين يهمهم التجسس على أحوال الناس وترقيب حبياتهم أسفت أسفًا عظيمًا، ومن ذا الذي لا يبلغ منه الأسف مبلغه مني إذا بات وقد أمسى هدفًا لسهام الأنظار، وغرضًا لما عساه يعرض في السفر من الأخطار، ولما حضر القومساري استودعته تذاكرنا حتى لا تكون داعيًا إلى تردده علينا بقصد التساؤل عنها، غير أنا استعضناها منه بتذاكر مرور نجتاز بها أبواب «المحطة» إذا نحن وصلنا وأنبهناه إلى أن يوقظنا عند الساعة الثامنة صباحًا، ثم انصرف ممتثلًا إلى حيث شاء، فلم يبقَ إلا أن أعمد إلى إطفاء سراج الغرفة لعلي أجد من وراء ستور الليل الحالك ما أتغانى به عن ستور القطار، فأنام مستريح الخاطر مطمئن البال «وقد تعودت أن أنام وليس في ردهتي شعاع»، وماذا كان يفيدني إطفاء المصباح ومصابيح السماء تملأ بأشعة ضيائها الفضاء، ونور البدر الساطع يخطف بأشعته الآلقة أنظار الرائين، وبالجملة فكل ما تداركته من ضروب الحيطة للنوم والهجوع قد ذهب أدراج الرياح، ومما أطال أرقي وزاد في قلقي أن السرير لم يكن مستوفيًا شرائط الراحة حتى أفضت بي الحال إلى أن أبيت بملابسي العادية إلى أن بدت تباشير الفجر، وحين ذلك أشرفت برأسي من خلال النافذة لعلي أتلقى هبات الصَّبا وأقابل نسمات الصباح، وأستجلي ما شاق من مناظر الطبيعة التي تخيلت مع حسنها ونضارتها أني في بلاد سويسرا «وما أشبه الليلة بالبارحة»؛ لولا أن سويسرا تمتاز بسعة نطاقها، وامتداد رواقها، وجبالها السامقة المتوجة بالثلوج المتراكبة، ولقد كان الطقس وقتئذ باردًا، والضباب مخيمًا في الآفاق بَيْدَ أنه كان خفيفًا.
عادات وأخلاق
وكان يروقني رؤية الشبان الذين كانوا يمرون أسرابًا وعلائم الشجاعة تبدو على وجوههم وأزياؤهم فطرية بسيطة غير أنها جميلة، مكشوفي الصدر لا تتهيب ضلوعهم تغيرات الطقوس ولا تقلبات الأجواء، يقتادون بأيديهم أعنة خيولهم التي تغدو وتروح تحت الأحمال الثقيلة على طريق زراعي منتظم الشكل معتدل القوام ممتد بحذاء السكة الحديدية، وخيولهم تلك شبيهة بخيل المهاجرين قصيرة الارتفاع طويلة الشعر ضامرة الجسوم ليست من الحسن والبهجة في شيء، ومع كل ذلك فهي قديرة على احتمال الأثقال وتجشم الأعمال الجسام، وأما حجمها فكنت أراه وسطًا بين الخيل القصيرة في بلاد اليونان والخيل في بلاد العرب، وكنت أرى من وقت لآخر جملة من الخيول ترعى في مراعيها وهي مطلقة لا تثقل أرجلها القيود ولا أعناقها الأغلال، وعلى ظهور بعضها سروج منجورة من الخشب على هيئة غريبة وعلى ظهور البعض أغطية بسيطة، والأهالي الذين يقومون بحراسة بهائمهم ليلًا يأوون إلى أكواخ وقتية يبنونها بجذوع الشجر وصنوانها وهي تشبه في هيئاتها منازل أبناء الصرب؛ حيث إن جزءًا كبيرًا من سكان البوسنة أصلهم صربيون، غير أن ملابس أهالي البوسنة كلهم على طراز واحد من غير تمايز بين الصربي العنصر والبوسنوي العنصر والمكان، والذي يراهم لا يشك في أن فيهم وداعة ومسالمة مع ما فيهم من بسالة الأتراك وشجاعتهم، وأما حيواناتهم الداجنة كالخيل التي ذكرناها آنفًا وغيرها من البقر والثيران والضأن والمعز فصغيرة الحجم ضئيلة الجسم، وقد كنت ألاحظ على فلاحيهم أنهم كسالى لا تبعثهم عزمة ولا تنهضهم إلى الشغل همة، والذي يقف على أراضي القوم وينعم النظر في جودة معدنها وخصوبة تربتها وتهيئتها للزراعة ولا يبصر فيها بذرًا ولا نباتًا لا يتمارى في فتور عزماتهم، ويدرك سر تأخرهم وتركهم مصادر أرزاقهم، وموارد أقواتهم تناديهم فلا يجيبون!
وطريقتهم في دراسة القمح وشبهه بسيطة عليهم شاقة على خيولهم؛ إذ ليس لديهم «نوارج» ولا هم يعرفون آلات للدراسة، بل إنما يدرسون بسنابك الخيل، وكيفية ذلك أن يقف أحدهم ويأخذ بزمام فرس أو فرسين ويسوقهما حتى يرسما عليه دائرة هو مركزها والغلة من تحت أرجلهما، ولا تزال كذلك حتى يتم الغرض.
ولا شك أن في تلك الطريقة صعوبة كبرى ومشقة عظمى على تلك الخيل البائسة التي حداها سوء بختها وشؤم طالعها على أن وقعت في أيدي أولئك الغلاظ القاسين.
أما حراس أغنامهم مدى نهارهم ففتيتهم الأحداث، وهيئة الرعاة في تلك الأصقاع كهيئتهم في بلاد «البلقان»، أما النساء المسلمات فيلبسن «الفرجية» من الطراز الذي كان على عهد المغفور له السلطان عبد العزيز، وينتقبن ببراقع تستر كل الوجه، غير أن لكل واحد فرجتين بإزاء العينين بقدر ما تسع خيوط النظر؛ ولذلك كان من النادر أن يرى الإنسان وجوه أولئك السيدات، وينتعلن «الجزم السواري» ومن عاداتهن أن لا يخرجن من بيوتهن ولا يتجاوزن خدورهنَّ إلا للحاجات التي تستدعي الضرورة خروجهن فيها كالسياحات مثلًا، وقد كنت ألاحظ أن أطفالهم صفر الشعور غير أن ذلك لا يصاحبهم إلا وهم في دور الحداثة، وإذا ما شبوا اسودت شعورهم، ومما يُمدحون عليه رعايتهم لصحة أبنائهم واعتناؤهم بنظافتهم، وقد فاتني أن أذكر أن رجالهم يجدلون شعورهم ويضفرونها حتى تصير خصلة واحدة يرسلونها على القفا أو ناحية من الرأس، وهي شبيهة بضفائر «التتار» «والصينيين» ولا أظن إلا أن تلك العادة سرت إليهم من «المنجول» أو «الها» أو «التركمان» الذين لا بد أن بعضهم مرُّوا بتلك الأقطار وسكنوها حينا من الدهر حتى سرت منهم إلى أهليها تلك العادة.
ولقد كنت كلما وقع نظري على مناظر تلك البلاد وراقني جمالها الطبيعي وسرني ما اشتملت عليه من محاسن الأشياء وطرائفها يبلغ مني الأسف، ويذهب بي الجزع على تلك البلاد التي كانت محوطة بسيادة الأتراك مشمولة بحكمهم، وقد سلخت منهم وتأمر عليها سواهم.
أما جبالها فلم تبلغ في الارتفاع والمنعة مبلغ غيرها، ولا يلزم الذي يحاول طلوعها أن يكون أصله من سكان «الألب»، ولكنها جميلة الشكل بديعة المنظر تعتليها حواجز كثيرة أغلبها قصيرة الارتفاع، وقد أقيمت ثَمَّةَ لتكون سياجًا لها يعلو تلك الجبال من المزروعات، ومما لا أعرفه إلا في تلك الجهات أن كل شيء فيها قصير اللهم إلا الرجال، ومن العجب أن يقع نظري على ناس لا يزيدون على الست أقدام طولًا مع أن نساءهم كغيرهن من المتوسطات في نساء العالمين، وتوسطهنَّ في الطول لا يمنعهنَّ من أن ينجبن أولادًا يطاولون آباءهم، وقد مررنا ببلدة تسمى «دبك»، ومررنا كذلك بقرى كثيرة؛ لأن الوابور كان كثير الوقوف حتى على المحطات التي ليس وراءها إلا قرية صغيرة لا تزيد أبنيتها على الثلاثة مساكن؛ وذلك لأن معظم الركاب كانوا في الدرجة الثالثة، وكنا نجد الفلاحين كثيري الركوب والنزول بين تلك القرى، وكنت أرى النساء الصربيات هنالك على ملاحة فائقة وجمال رائع، دقيقات الخصر نحيلات القوام، شديدات حمرة الوجوه لكثرة ما يجري فيها من الدم، الذي يدل على جودة الصحة ووفرة العافية، وهنَّ يلبسن السراويل، والمتزوجات منهنَّ يضعن على رءوسهن قلنسوة بسيطة على شكل «العزازية»، واللائي لم يتزوجن يلبسنها مطرزة محلاة بشغل «الإبرة» ومرصفة بالنقود الصغيرة، وبالجملة فالأزياء العمومية لا تخالف أزياء الشرقيين، والغريب أن ما يضعن على رءوسهن يشبه تمامًا ما يلبس بنات قبيلة أولاد النائب في الجزائر مع ما بين أولئك وهؤلاء من البعد الشاسع والبون العظيم!
قويت شوكة الشمس وأخذت سهامها تمزق جسم الضباب الذي أسلفنا أنه قد مدَّ رواقه على تلك الأرجاء وأخذت تظهر من تحته المناظر جلية واضحة، فكنت أرى الفلاحين وهم رائحون وقد أودعوا مآكلهم في سلَّات كبيرة وأوثقوها على ظهور الحيوانات الشبيهة بالحمر التي يُبالغ في تحميلها الأحمال حتى لا تظهر هي من تحتها، وينتقلون بها من مزرعة إلى مزرعة.
ومن غريب ما رأيت في أولئك القوم أنهم يركبون خيولهم وهي مسرجة بسروج من الخشب على شكل «جمالون»، وبذلك يكون الراكبون مضطرين لأن يتحدروا منها إلى أعناق الجياد، وتلك السروج تشبه في شكلها سروج الجمال في مصر، وقد أخذ تلك الطريقة عن البوسناويين «اسلاوون» الفارس الأمريكاني المشهور ونقلها إلى بلاد أوروبا، فاستفز ذلك غضب الأهالي حتى كادت تستيقظ الفتنة بين القوم.
وكنت كلما مضت من النهار فترة أجد الغادين والرائحين على الطريق الزراعي قد كثر عددهم وزادت حركتهم، وأبصر الخيل وهي تسير فرادى أو قطارًا آخذًا رأس كل واحد بذنب الذي أمامه كما يُرى ذلك كثيرًا في جِمال المصريين، ومما يلفت نظر السائح ويستدعي عجبه قلة المساكن مع سعة الفضاء، مما يدل على قلة السكان في تلك الأصقاع، وإني لأحدق في المساكن الصغيرة فأُلفيها نظيفة جميلة الهندام، وهي تحتوي غالبًا على طابقين؛ الأسفل منهما مبني بالحجر، والأعلى مدعوم بالخشب، وهي معروشة بسقف من الخشب موضوع على شكل «جمالوني» ليكون فيه منحدر للمطر، كما هو الشأن في مساكن الجهات التي يكثر فيها هطول الأمطار، والأهالي هنالك يتحرون بناء المساكن في المواقع الجميلة، كأن تكون على ربوة مخضلة أو بجانب بحيرة مترعة أو وسط غابة ملتفة الأغصان أو على شاطئ نهر ملتطم الأمواج، ثم هم يكثرون من عدد النوافذ في الطَّوَابِق العليا كما يزينونها «بالتراسينات» الجميلة، ولما أن وافت الساعة التاسعة صباحًا والدقيقة الخامسة والعشرون وصل القطار بمعونة الله وفضله إلى «سراجيفو» عاصمة بلاد البوسنة، وعندئذ نزلنا مسرعين إلى «المحطة» لأن الجوع كان قد بلغ منا وقتئذ ما لم تبلغ مشقة السفر؛ ولذلك أوعزت إلى صاحبي محسن بك بأن يسرع في تجهيز حاجتنا، وتركنا متاعنا عند محمد آغا، وقد صعب علينا أن نهتدي من تلقاء أنفسنا إلى الباب الذي يجوز الناس منه إلى المدينة؛ حيث إن كل الكتابات المرقومة على الأبواب مرسومة باللغة البوسنوية ولا خبر لنا بها، ولكن هدانا إليه رجل من سكان تلك البلاد كان مرتديًا بمثل ملابس العثمانيين غير أنها قريبة من ملابس الأكراد، فلما انتهينا خارج «المحطة» وجدنا كثيرًا من الناس ينتظرون مجيء القطار الذي برحناه ليذهبوا فيه إلى «مصطار» عاصمة الهرسك، أما عربات الكراء التي كانت في ميدان «المحطة» لانتظار المسافرين وقتئذ، فمع كونها لا تزيد عن عشر فإنها لا تنال من استحسان الراكب إلا كما تنال عربات بعض المدن في القطر المصري مثل طنطا وبنها، وقد رأينا فيما بين الحوذيين رجلًا يؤخذ من شكله أنه مسلم فضلًا عن كونه كان هادئًا وادعًا، فقصدناه من بين رفقائه، وأشرنا إليه أن يذهب بنا إلى فندق أوروبا وهو يبعد عن «المحطة» ثلث الساعة للراكبين.
مدينة سراجيفو
ولقد رأينا المدينة كمدائن أوروبا سعة وانتظامًا، وحيث أعدوا لاستعمارها ما استطاعوا وتركوا بين الأبيات من الفضاء ما كفل بظهور مناظرها وتجلِّي مخابرها، ويجري في طرقاتها ترامواي بخاري ليكون وصلة بين «المحطة» وقلب المدينة، وهناك ترامواي كهربائي كالذي يعهده المصريون غير أن سائقه يقف في وسطه لا في مقدمه كما هو الشأن هنا.
أما ذلك الشارع الممتد من «المحطة» حتى ميدان المحافظة فواسع رحيب، وهو منقسم إلى ثلاث طرائق؛ إحداها خصيص بالترامواي، وآخر بجانبه للعربات، والثالث للدراجات والخيالة، وعلى جانبي ذلك الشارع العدد الكثير من القهوات وحوانيت التجارة تعلوها مساكن عالية وبيوت سامقة يحتوي الواحد منها على أربعة طَوَابِق.
وما زالت مركبتنا تعدو بنا فنستقبل منظرًا وندع آخر حتى رأينا ثكنة — قشلاق — عظيمة فخمة الهيئة ضخمة البناء، ولمحنا في فنائها بعض الضباط وقوفًا أمام باب حديقة صغيرة، وقد أخبرنا الحوذي أن هذا الباب طريق إلى مجتمع الضباط وناديهم الخاص بهم، فتجاوزنا ذلك القشلاق، وكنا إذا تلفتنا يَمْنة أو يَسْرة نرى فوق التلال المعاقل المنيعة والقلاع الحصينة حتى غادرنا ذلك الشارع وأخذنا طريقنا في الشارع الموصل للفندق، فرأينا فيه من الأهالي والضباط الجم الغفير والجمع الكثير.
ولما كان المستخدمون هنالك يرتدون الأردية العسكرية كان يُخيل للناظر ولا سيما إذا كان من الغرباء أن هناك حملة عسكرية أو هو بين جيش عرمرم … وإنا لنطوي بمركبتنا هذا الشارع طيًّا؛ إذ وقفت العربة تجاه الفندق الذي أسرعنا إليه، وإذا ببابه صاحبه — وهو رجل مجري — واقف في انتظارنا ومعه رئيس الخدمة الذي كان يتظاهر بجانب سيده بمظهر الرئاسة، فطلبنا أن تُعدَّ لنا غرفتان متداخلتان، غير أن كثرة الزحام الذي سنتكلم على سببه بعد لم تبلغنا مثل هذا المطلب، فلم يتسنَ لهم أن يعدوا لنا إلا غرفة نمرتها ١٠ لي، وأخرى نمرتها ٤ لصاحبي، فحمدنا الله على وجود غرفتين خاليتين ولو غير متجاورتين، فذلك خير من عدم وجودهما مطلقًا، ولما أزفت الساعة العاشرة صباحًا طلبنا شايًا ولبنًا ندفع بهما الجوع؛ إذ كنا لم نفطر بعد، فجاءنا رئيس الخدم وحيث سمعني أتناجى وصاحبي باللغة الفرنساوية أراد أن يكلمنا بها مع أنه لا يحسنها بل ينطق بها ركيكة سقيمة، وكان لا يظن أننا نعرف الألمانية التي هي شائعة في تلك البلاد، كما كنا نظن أننا لو عدلنا في حديثنا عن الفرنساوية إلى الألمانية لعدل معنا إليها، غير أننا أخلفنا ظنه فتكلمنا بها، وأخلف ظننا إذ استرسل في فرنساويته الركيكة التي كان يحاول بها — والله أعلم — المماجنة واهمًا أنه يشرح بذلك صدورنا ويسر أفئدتنا، وفي غضون ذلك وصل خدمنا إلى الفندق وساوموا صاحبه في أُجر محلاتهم حتى عرفوها ولم يخبروا أحدًا أنهم تابعون لنا، ثم أحضر لي محمد جعفر الشماشرجي خريطتي — شنطة — في غرفتي، وأردفه واحد من خدم الفندق ليأخذ منا التعاليم المعتاد أخذها من المسافرين، فتناولت رقعة وكتبت فيها: إن محسن بك من أهالي مصر، وإنه ليس بموظف، بل يعيش بفضل ماله ومحض ثروته. وكتبت عن نفسي: إني «محمد أحمد بك» من سكان طنطا في القطر المصري، وإن معنا ثلاثة من الخدم.
وبعد أن سألنا ما شاء أن يسأل وأجبناه بما شئنا أن نجيب، أرسلت من يَتَفَقَّد واحدًا من أخدان التلمذة في مدرسة النمسا، عسى إن نحن ظفرنا به أن يكون دليلًا لنا فيما نروم أن نعرفه، ورائدًا لما نحب أن نكشفه في ذلك البلد، وهو صديقي العزيز محمد باكر بك الذي أُخبرت بعد مع الأسف أنه موجود ببلدة أخرى تسمى «طوظله»، تبعد عن «سراجيفو» التي نحن فيها نحو ثلاث ساعات. وإن لي صديقًا آخر وهو المسيو «بترويش» كان حائزًا على وظيفة قنصل في بلدة تسمى «أولونه» من أعمال بلاد الأرناءُود، وإنه لم يكن موجودًا بسراجيفو غير أني أُخبرت أن أخاه الصغير موجود هناك فأرسلت إليه من يدعوه لزيارته في الفندق، فانطلق الرسول وعاد مخبرًا بأنه سيحضر بعد ساعة ونصف، فوجدت في هذا الظرف ما يسع أن أستريح من وعثاء السفر وأغيِّر ملابسي التي كان غمرها الغبار بملابس أخر، وأن أستعمل أيضًا «حمام القدم» لولا أن المتاع الذي كنت أنتظر مجيئه تأخر أكثر مما كنا نظن حتى أغضبني ذلك، ودعتني الحال إلى أن أمرت محمد آغا بأن يستأجر عربة ويذهب بها سريعًا إلى «المحطة» ليتعجل ذلك المتاع، أما عربة الفندق التي تنقل إليه أمتعة المسافرين، فقد عرفنا أنها لا تحضر إلا بعد وصول القطار الثاني حتى تأتي بمنقولات القطارين جميعًا، ولما كانت المسافة التي تسع ذهاب محمد آغا ورجوعه لا تقل عن أربعين دقيقة، رأيت أن أشغلها بنزع ملابسي، وفيها حلقت ووضعت على شاربي آلة تثبيت الشعر، وأدليت قدمي في الماء الساخن — حمَّام القدم.
المستر بيترويتش
وفيما أنا كذلك؛ إذ جاء رئيس خدم الفندق وأخبرني بأن المسيو «بيترويتش» نفسه قد حضر وأنه يُرِيد الدخول إليَّ والتسليم عليَّ، فأوعزت إلى هذا الرسول بأن يتمهل بالضيف ريثما أجفف قدمي وألبس ثيابي، فما انثنى حتى رجع ثانية يخبرني بأن الزائر لا يرى بأسًا من مقابلتي كيفما كنت، فلم أرَ كذلك مانعًا من التصريح له بمقابلتي والحال على ما وصفنا؛ حيث كان الزائر صديقي وقريني المسيو «بترويتش»، فجاء الضيف ولكني لم أجدني أعرفه بل ولا أحسبني رأيته مدى عمري؛ إذ كان هذا شابًّا ملتف اللحية! وليس يعلم إلا الله مبلغ دهشتي وحيرتي عند لقاء شخص لا أعرفه على تلك الصورة، ولكن ما عساي أصنع بعد الذي كان فاضطررت إلى استقباله والحفاوة به ورجلاي مرسلتان في الماء والعباءة فوق منكبيَّ، وقبل أن آخذ معه بطرف الحديث قدمت إليه معذرتي عن مقابلته على تلك الحال. وحين اطمأن قلبي بأنه أخو صديقي المتغيب أخذت أسأله عن إخوته كيف شأنهم وفي أي البلاد هم؟ فأجابني بأن أخاه الكبير لا يزال في بلدة «أولونه» والثاني في «زابتكا» وهذه تبعد عن سراجيفو نحو أربع ساعات، ولقد كان يدور بيننا ذلك الحديث والرجل ما زال لا يعرف من يخاطبه، حتى رغب إليَّ في أن أعطيه اسمي ليخبر به أخاه على لسان البرق ويعلمه بوصولنا إلى تلك العاصمة، فلم أرَ بُدًّا من أن أوقفه على اسمي الحقيقي، غير أني أظهرت له رغبتي في أن لا يشعر بنا غير أخيه أحدًا، وما كدت آتي على هذا البيان حتى نهض قائمًا واستأنف السلام وقال: «أذكر يا مولاي أني الآن ماثل بين يدي شقيق سموِّ الجناب العالي الخديوي»، وإذ ذاك لم يسعني إلا أن أقوم كذلك لأرد له تحيته الجديدة ورجلاي ما زالتا مرسلتين في الماء، ثم جلست وجلس، وكان الحديث يدور بيننا على موضوعات شتى كنت أجد في خلالها غاية السرور والانشراح، وخصوصًا لما كنت أستشف من ذلك الزائر وحديثه ذكرى العهد الأول والسنين الخوالي التي كانت تجمع شتاتنا ونحن إذ ذاك في طور الحداثة، وتضم شملنا هناك وعائلتنا، وكان من حديثه أنه أصغر إخوته عمرًا، وأن سنيه لم تزد على أربع وعشرين، مع أن الذي يراه لا يرتاب في أنه نيف بعمره على ثمانية وثلاثين عامًا! ثم استأذن في الانصراف، ولم يكن شغل مجلسنا هذا أكثر من ربع الساعة، ولم يبرح الغرفة إلا بعد أن بسط لي رغبته في أن أنزله منزلة إخوته وأحله محلتهم من العشم فيه والثقة به، وأن يكون تحت إرادتي ما دمت موجودًا في ذلك البلد، فشكرت له تلك الأريحية، وكنت قد طويت العزم على أن أجعل مبدأ تطوافي في اليوم الثاني خشية أن أشق عليه إذا أنا جعلته في اليوم الأول، وما أريد أن أشق على الرجل وقد رأيت فيه من اللطف والوداعة ما ارتحت له واستأنست به، غير أنه أبى إلا أن أضرب له موعدًا قريبًا لمصاحبتي في ارتياد هذه المدينة، ولجَّ في طلبه بما لا يسعني معه إلا موافقته، فوعدته بأن يحضر إليَّ بعد ساعتين ونصف، فانطلق حيث يريد وقد آن وقت الظهر الذي هو ميعاد غدائنا فسارعت لألبس ثيابي وانثنيت راجعًا قاصدًا محل الخوان، وما جاوزت الغرفة إلى الطريق الذي أمر فيه بردهة صديقي محسن بك حتى رأيت رجلًا يبلغ عمره زهاء الخمسين يقصدني، ولم أكن لأدري وقت ذاك ما يبتغي مني، وقد قرأت على جبينه أنه خاتل خادع وما هو إلا أن ناولني بطاقة يعرِّفني فيها باسمه وأنه ترجمان، وما عرفت من اسمه لأول وهلة وقع نظري على التذكرة إلا أنه «حسين»، وبعد ذلك طفق يبين لي أنه يعرف كثيرًا من المصريين وبينهم عزت بك السكرتير التركي للجناب العالي الخديوي، فقلت له: إليك عني الآن، وإنا لطالبوك إن شاء الله عند ما تدعو الحاجة إليك.
ولما أعدت نظري إلى تلك البطاقة وجدت أن اسمه المرقوم عليها هو «حسين أولموتث باشا»، وعلمنا ممن يعرفونه أن سبب انتحاله هذا الاسم كونه سجن في البلدة المسماة «بالموتث باشا» حينما احتل النمساويون بلاد البوسنة، وكان مطبوعًا على ظهر التذكرة أسماء المشاهد التي يجدر بالسياح أن يزوروها، وقد أفادني كثيرًا هذا البيان؛ حيث انتخبت من بين تلك الأماكن الجهات التي استحسنت أن أزورها صحبة المسيو «بيترويتش» وسجلتها على بطاقة من بطاقات الزيارة، وهي هذه: الأول «انتيقخانة البلد»، والثاني والثالث «جامع بيجوفا ومدفن خسرو بك»، والرابع «مدرسة الشريعة»، والخامس «معمل الأبسطة»، والسادس «كنيسة الصرب القديمة»، والسابع «بزار»، والثامن «معمل الدخان»، والتاسع «الدراويش الذاكرون»، والعاشر «كورسيلوك»، والحادي عشر «كوبري المعيز».
ولما لاقيت محسنًا بك أخذت بيده وسعينا لنتعرف غرفة الطعام حتى انتهينا إلى بهو قاتم الجوِّ قليل الضياء، كان أكبر تذكار لنا بغرفة الطعام في «فينا»، وحينما دخلنا وجدنا به كثيرًا من المستخدمين وعددًا من الضباط بينهم جملة من الميرالات الفخام الهيئة الضخام الأجسام، وقد أخذ كل واحد من هؤلاء برأس خوان يحف به جماعة من صغار الضباط الذين رأيناهم يبدون أدبًا وخضوعًا وملقًا لرؤسائهم، ولقد استدعى دخولنا إليهم استغرابهم منا والتفات أنظارهم إلينا؛ حيث رأونا ونحن اثنان من الشبان قشيبا الملبس أنيقا الهندام، لابسا «الطربوش»، فخليناهم وقصدنا طاولة وجلسنا إليها ولم يكن تعجبهم منا بأشد من غرابتنا من كيفية مأكلهم، فلقد وقرت أسماعنا من صلصلة «الشوك» وقعقعة الملاعق كأنها الموسيقى في نقر الطبول ورجع الأبواق!
أما كل شيء هناك من طعام وآنية، بل ونظام الخدم وأدائهم مهنتهم فكان رديئًا مبتذلًا، وليس أقبح من أنه إذ جاء قوم من الآكلين، ولم يجد لهم أولئك المهنة محلًّا خاليًا من الزحام، زجوا بهم في زمرة الجالسين فساهموهم في أَخونتهم الضائقة بهم، ومن المضحك أن صاحب اللوكاندة كان يحاول التشبه بأصحاب الفنادق الكبيرة فيشق صفوف القوم ويسعى بينهم عله يتسمع شيئًا مما يطريه به الحاضرون، ومن يمن طالعه وحسن حظه أنه لم يعج بنا ولم يمرَّ علينا، فكان يسمع منا ما يأنس به سمعه، ويرتاح له طبعه! وإذ تحرج صدري بما كنت أسمع من لجب القوم وطنينهم وما ألاحظه من أعمالهم، فضلًا عما أجده من رداءة المطعومات، لم أرَ مَحيصًا من أن أترك غرفة الطعام وأغتدي إلى غرفتي بسلام عساي أجد من السكون والوحدة ما يريحني من ذلك العناء، ويسري عني بعض ذلك الحرج، ولما وافت الساعة الثانية ونصف تمامًا حضر المسيو بترويتش فتلقيته وسلمت عليه مصافحة وقدمت له رفيقي محسنًا بك، ثم أزمعنا النزول وقد أطلعته على تلك البطاقة المبينة فيها أسماءُ المواطن التي تخيرت زيارتها، وعند ذلك نصح لي جنابه بأن نأخذ معنا ذلك «الترجمان».
مشاهد المدينة
نزلنا وإذا عربة المسيو بترويتش في انتظارنا أمام باب الفندق وهي تشبه بعض الشبه عربات فينا، وإن كانت لم تبلغ مبلغها من الحسن ولم تأخذ ما أخذت تلك من الزخرف والرواء، وسائقها ذو شاربَيْن طويلين، يقودها جوادان من الخيول المجرية مجذوذة نصف أعرافها والنصف الآخر منفوش على الأعناق، والعربة من طراز «فكتوريا» وهي ذات كرسي صغير أمامي غير أنه تجاوز بصغره المعهود في سائر العربات، فحاول المسيو بترويتش أن يجلس إلى هذا الكرسي ليأخذ صاحبي مجلسنا من صدر العربة الرحيب، غير أن محسنًا بك سارع به ذوقه وسبق به أدبه إلى أن ركب ذلك الكرسي دون صاحبه المسيو بترويتش، ولكنه جسيم وهو لا يبلغ مع ذلك شيئًا من الراحة على ذلك الكرسي الصغير.
جامع بيجوفا ومدفن خسرو بك
سارت بنا المركبة حتى جامع بيجوفا الذي جعلناه أول محطٍّ لزيارتنا، وهو وإن كان رسمه «الفوتوغرافي» أحسن من مبناه، وصورته أتقن من مغناه، غير أنه لا يسعنا أن ننكر نظافته ونقاءَه.
دخلناه فوجدنا معشرًا من الصلحاء قائمين يصلون، وآخرين يتوضئُون من «حنفيات» كبيرة تتدفق بالأمواه بين الأغصان الملتفة والأشجار الباسقات، ومما راقنا من مشتملات ذلك المسجد قبلته ومنبره، فإنهما على زخرف ورواء متناسبي الوضع متناسقي الصنع، والمسجد إذا جن الليل يضاءُ بثريات الكهرباء، وهو مفروش ببساط نفيس جميل المنظر حباه به سَري إسلامبولي، ومن هناك توجهنا إلى مدفن خسرو بك فوجدناه منقوشًا «بالبوية» الجديدة ذات الألوان الجميلة، وقد عُلق على جدرانه كثير من الألواح المكتوبة في مواضيع شتى بخطوط متنوعة، حتى إذا أخذنا مأربنا من التفرج عليه، أجزنا الرجل الذي ألبسنا الخفاف المعدة للسائحين الذين يزورون مثل هذه المعاهد الطاهرة وحبوناه «بالبخشيش».
مدرسة الشريعة
وركبنا قاصدين ذلك المعهد الذي يسمونه «بمدرسة الشريعة»، ولقد كنا كَلفين به شغفين بزيارته، حتى إذا وصلناه رأيناه كسراب بِقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجد شيئًا، ومن كان يبصر فوتوغرافية هذا البناء وإحكام تصويره لا يشك في أنه راسٍ راسخ سامٍ سامق ألقى بقدميه إلى الماء، وشمخ بأنفه إلى السماء، ولكن رأينا ولا حول ولا قوة إلا بالله أن سماعك بالمعيدي خير من أن تراه، ومدرسة الشريعة أسمى من أن يكون هذا منظرها وذاك مخبرها.
وصلنا وإذا الجدار مرقوش بالجير، وقد يكون على بعض الأبنية ناصعًا مصقولًا، ولكنه هنا ليس بذي الصقل ولا النصوع، ولم نجد عليه من شيات الزخرف إلا طبقة خفيفة من «البوية» الفاتحة اللون، وهذا منظره من الخارج، على أننا لم نبتئس به ولم نيأس من أن نجد من حسن باطنه ما لا نأسف معه على قبح ظاهره — وإن كان الكتاب يُقرأ من عنوانه.
دق الباب «حسين» الترجمان ففتحه رجل بسنوي بَدين وتنحى جانبًا، فدخلنا ساحة المدرسة، فألفينا عرشها قائمًا على أقبية متوكئة على عمد بشكل المساجد في مصر، وفي وسطها فسقية بها عدة أنابيب معدة لوضوء التلامذة إذا هم شاءوا.
ولقد كنا رأينا المقصورة في الرسم الفوتوغرافي كأنها واسعة رحيبة، ولكنا ويا للعجب ألفيناها لا تبلغ مساحتها على الحقيقة أكثر من ستة أمتار طولًا في خمسة عرضًا! أما تلك الحديقة التي زهت صورتها فافيكة غرَّر بها قلم الرسام، والله يعلم أن ليس هناك طلع ولا زهر ولا غصن واحد يميل إذا ذهبت النكباءُ ويميد إذا جرى النسيم!
ورأينا هناك مصلاة في صدرها قبلة بسيطة، وبعد أن وقفنا ثَمة هنيهة صعدنا إلى الطابق الثاني، وأول ما وقع نظرنا على غرفة لأحد الأساتذة وأخرى لبعض التلامذة، ثم عطفنا على الفصل الأول فداخلني السرور حينما رأيت «التختة» مسطورًا عليها درس عربي، فوقفنا كذلك حينًا ثم قصدنا حمامات التلامذة التي كنا نظن أنها واسعة جميلة كافية لضروريات الاستحمام كافلة لشرائطه، فوجدناها — فضلًا عن كونها لا تزيد على اثنين — أضيق من صدر الأحمق وعيش المكدود! وليس فيها إلا خمس حنفيات لا أحسبها تفي بشيء من ذلك الغرض، فخليناها وقصدنا غرفة الأساتذة التي هي منتداهم ومحضرهم، فألفيناها واسعة جميلة، غير أنا رأينا فيها ما عجبنا منه وهو ثلاث خرائط مرسومة عباراتها باللغة الألمانية! ومنها دخلنا إلى حجرة ناظر المدرسة وفي هذه قُدِّم لنا البروغرام — نموذج الدروس — فإذا هم يدرسون اللغة العربية، ومجلة الأحكام، والشريعة الإسلامية، واللغة البوسنوية، والتاريخ، ولكنا مع الأسف وجدناها ألفاظًا لا نصيب لها من المعاني ودوال لا حظ لها من المدلولات، وحيث كنت أميل إلى أن أضم إلى بيان رحلتي شيئًا كثيرًا من معلوماتي عن العلوم التي يتدارسونها هناك، فرأيت أن أكبر معوان على ذلك اطلاعي على كتبخانة المدرسة التي كنت أظن أنه قد أُدرج في مطاويها العدد الكثير من المصاحف القديمة الخطوط والكتب المتنوعة الفنون، والأسفار التي لم تكن في بلادنا من مواد التاريخ والأدب وعلوم الأخلاق والفقه الإسلامي وعلوم الحكمة، ولكن ماذا رأيت؟ رأيت أن مكتبة المدرسة لا تضم بين جوانحها أكثر من مائتين وخمسين كتابًا كلها من المؤلفات الحديثة، وهي وإن كانت تؤدي تلك المواد المسطورة في البروغرام سطحية بسيطة، فهي ولا مرية غير كافلة بتنمية مداركهم وتبحرهم في العلوم وتعمقهم في المباحث بالقدر المطلوب.
الكنيسة الصربية
ولما أمضينا هنالك حينًا من الزمن ودعنا المدرسة وآلها، ومنها ذهبنا إلى الكنيسة الصربية القديمة فوجدنا بها ألواحًا بديعة النقوش مزينة بأنواع «البوية» الجميلة الشكل المتقنة الصنع، حتى إذا دخلناها نضونا طرابيشنا عن رءوسنا رعاية لإحساس المسيو بترويتش ووجدانه الديني، وأي كلفة علينا في مثل هذا العمل وفيه غبطة لصاحبنا وكرامة لجانبه؟ ولقد وجدنا الكنيسة غاصة بجماهير الناس وجلُّهم من الفلاحين بين رجال ونساء يلبسون جميعًا ملابس يوم الأحد التي يعتنون عادة بتنسيق نظامها وتنميق هندامها، وكانوا يتواردون فرادى على الرسوم والتماثيل المقدسة عندهم ويتناوبون تقبيلها والتمسح بها الواحد تلو الآخر، وما بصر بنا خادم الكنيسة وميزنا من بين أولئك القوم بأزيائنا وملابسنا حتى سعى أمامنا يشق غمار المحتشدين ويخلي لنا بينهم الطريق، على أن مثل ذلك غير سائغ في معابد المسلمين.
أسواق سراجيفو
حتى إذا جلنا جولات في أطرافها وتشبعت عيوننا من مناظرها ووقفنا على كل ما فيها خرجنا قاصدين «بزار» الذي ألفيناه بسيطًا لم يبلغ مبلغ الأسواق المهمة، وهو شبيه بخان الخليلي في مصر، دخلنا وإذا مسرب ممتد ولم يكن على جانبيه إلا الحوانيت التي يُباع فيها الجزم وبعض الأحذية الحمر الأدم — ساربك — ما بين بسيطة الشكل ومزخرفة الهيئة مُزدانة الأديم، وفي جانبه مسرب آخر لتشغيل الآنية النحاسية والصواني وفناجين القهوة والصحون وما أشبه ذلك، ولم يكن بين تلك المصنوعات ما يلفت نظرنا ويستجلب رغبتنا إلا زهادة الأثمان وهوادة التجار وعدم طماعية نفوسهم، ووجدنا هناك من المنسوجات والحرائر المطرَّزة ما لا تذهب بنا العناية به والاستحسان له أن نفصله للقارئ تفصيلًا، والذي كان يروقنا وينال غاية إعجابنا وسرورنا أنه مكتوب على ناصية كل حانوت باللغة التركية «يعيش السلطان»، ومن هنا ذهبنا إلى الكنيسة اليونانية القديمة التي كانت موجودة قبل احتلال الأتراك لتلك البلاد وأصبحت اليوم سوقًا حافلة بالمتاجر آهلة بالبيع والشراء، وهي شبيهة أيضًا «بخان الخليلي» غير أنها لم تصل إلى غناه ولم تبلغ مبلغ ثرائه، ولم يكن فيها من حركة الأخذ والعطاء والبيع والشراء ما هو هنا في «خان الخليلي»، وأكثر تجار هذا «البزار» من جماعة الإسرائيليين الذين يجتلبون بضائعهم من «فينا» بأثمان زهيدة، وأغلب تلك البضائع من الأقمشة الجميلة الصبغة الواضحة الألوان وجوارب ومناديل على أضرب وأشكال، وإقبال الفلاحين هناك على تلك الأشياء عظيم وابتياعهم لها كثير، وإن أولئك التجار اليهود يظهرون لزبائنهم من البشاشة وطلاقة المحيا والملاطفة في القول والمسالمة في المساومة، وإنهم في خدمتهم وطوع إشارتهم ما يبعث بالنشاط ويدب بروح الإقبال عليهم في أعراق المشترين «وكذلك يفعل التاجر الحكيم»، وأهم متجر بين تلك الحوانيت لرجل بوسنوي مسلم وهو يبيع بعض العروض التي كانت متداولة شائعة بين الناس قبل ظهور التمدن الحديث، مثل أغطية الترابيزات المزركشة والفوط المطرزة بالمقصب، وما يشبه ذلك، وإنه مع الأسف لم يصبح بين الناس من يهتم باقتناء مثل هذه الأشياء التي أضحت من قبيل الآثار، مع كونها لا تزال للآن تنم على بهجتها وتشف عن حسنها وروائها وسط هذه المنسوجات الحديثة العهد.
ولولا أني كنت في مؤَخرات سياحتي وأخشى نفاد ما بقي معي من النقود — وكثيرًا ما يقع مثل ذلك للمسافر مهما عظمت ثروته — لكنت تزودت من هذه الأشياءِ بالقدر الكثير، لعلمي بأن الرغبة ستتجه فيما بعد إليها لعدم وجودها، وقد نُمي إليَّ أن بعض عائلات المسلمين وبعضًا من الصربيين هم الذين يشتغلون هذه الأشياء الدقيقة التي بلغت من الإتقان إلى ما يُستدل منه على حسن الاعتناء بها وهي أحسن بكثير مما يُرى عندنا من قبيل هذه الأصناف.
وما زلنا كذلك نتفرج على تلك العروض حتى أخذنا مئونتنا من انتقادها فبرحنا ذلك السوق وقد اضطررنا بسبب ضيق الأزقة لأن نسعى مشاة بين تلك الأماكن، على أنه قد يدرك الماشي ما لا يدرك الراكب، ومن ثم أرسلنا بالعربة إلى الفندق، وفيما نحن سائرون في طريقنا مشيًا؛ إذ صادفَنا محلٌّ لمبيع الأسلحة فقصدناه لعلنا نعثر فيه على شيء من السكاكين الأرناوودية، ولكنا لم نجد إلا ثمانية مسدسات بالغ الصناع في نقش مقابضها الفضية، وخمس «يتجانات» وأربعة أسياف ماضية الحدِّ مصقولة الفِرِنْد جميلة الطبع متقنة الصنع، ولم أصدف عن ابتياع شيء منها إلا مظنة أن أجد في محل آخر ما هو أجمل شكلًا وأتقن صنعًا.
مدينة هيشا
ثم رجعنا إلى الفندق وهناك سألنا المسيو بترويتش عما إذا كنا نرغب في زيارة «هيشا» وهي موطن الحمامات التي عُنيت بها الحكومة وبنتها على مصاريفها بأمر الحاكم الكونت «كلي»، ذلك الرجل النابغة الذي كنت أبجله وأحترمه كثيرًا بسبب ما يُعزى إليه من أن جميع المرافق والإصلاحات التي حدثت في بلاد البوسنة إنما جرت على عهده، وكانت مشمولة بهمته ملحوظة بعنايته، وكنت أعرف من قبل أكبر بنيه وبني إخوته، ولقد كنت غير مرتاح الضمير في «سراجيفو» حيث لاحظت فيها أن الأهالي المسلمين وسراة الصربيين كانوا لا يحفلون برجال الحكومة ولا يقيمون لهم وزنًا.
وأخبرني صديقي المسيو بترويتش بأن المسلمين وأولئك الصربيين متحرجو الصدور من حكومتهم؛ إذ يرون أنها تسيء السلطة بينهم وتعاملهم بالشدة والقسوة؛ ولذلك فالمسلمون يرومون أن ينضموا تحت لواء الأتراك، والصربيون يرمون إلى أن تسوسهم الحكومة الصربية، وما أظن إلا أن ذلك ناتج من حصر سلطان الحكومة في بلاد البوسنة وقصر نفوذها عليها لأنها غير قادرة بالطبع على توزيع سلطتها في أطراف البلاد وتقسيمها على جميع أجزاء المملكة، وأن تعصب الكنيسة لمما يزيد في نفار أولئك الأهالي ويثير من غضبهم على حكومتهم؛ إذ قد بلغ من فعالها وتعصبها الديني أن تدعو من يقع تحت أيديها، وتجتذب من تظفر به من بنات المسلمين والصربيين لاعتناق دينها والتمذهب بمذهبها، وسأذكر إن شاء الله في خلال هذه الرحلة ما يحضرني من الملاحظات على تلك الكنيسة. ثم وجدنا في هذا اليوم من سعة الوقت ما يكفينا لزيارة «هيشا» فلبينا طلبة المسيو بترويتش وقطعنا المسافة إليها في زهاء الثلاثين دقيقة، وقد وافق وصولنا وصول قطار مشحون بالكثيرين من مستخدمي الحكومة والضباط على اختلاف درجاتهم وتفاوت مراتبهم، ورأينا كما يُرى عادة في كل الجهات احترام صغار هؤلاء لكبرائهم وتوقيرهم إياهم؛ ليحرزوا رعايتهم وينالوا رضاهم، ثم رأينا هناك احتفالًا خيريًّا أقامته جمعية السيدات تسلية وإيناسًا للكونتيسة «كلي» التي يسميها حزب المعارضين بنائبة الملكة، ولا أظن إلا أن تلك الأموال التي تُجمع من مظاهر هذا الاحتفال سيخص مصرفها بالفقراء البائسين من الكاثوليكيين.
وما كنت لأجد من نفسي جنوحًا للذهاب إلى ذلك المحفل، فأضربت عن مشاهدته ورحت أمضي ورفاقي ما بقي من الوقت في زيارة الحمامات التي حينما أشرفنا عليها وجدنا بعضها «طينيًّا» والآخر «كبريتيًّا»، ولكننا لم نجد في هذه رائحة الكبريت شديدة كما هي في غيرها، ويُستدل من ذلك على أن مياه تلك الحمامات لم تبلغ في جودتها ما بلغت مياه الحمامات في حلوان، وفي وسط حديقة الحمامات يتدفق ينبوع ماء كانت درجة حرارته ٦٠ سنتغراد، وهنالك رأينا الناس يتهافتون على شربها، فعمدت إلى تقليدهم؛ حيث شربت منها، ولكنني من شدة ما كنت أحس من حرارتها لم أميز لها طعمًا … وحين انتهينا إلى الضواحي رأينا حديقة كبيرة تبلغ مساحتها ثلاثة أفدنة، وشاهدنا ثَمة في وسطها «قفصًا» مسجونًا فيه دبتان صغيرتان كانت رائحتهما غاية في الكراهة فتركنا الحديقة، وعندما دانينا معهد الاحتفال الذي أسلفنا ذكره عرفت لأول نظرة أرسلتها أن سواد المحتفلين من أرباب الوظائف الرسمية، وذلك مما يؤيد خبر صديقي المسيو «بترويتش».
وإذ كنا سائرين في طرقات هذه البلدة رأيت عن بعد فندقًا عظيمًا يدلُّ ظاهره أنه معدٌّ لراحة المسافرين ورفاهيتهم، ويعلم الله إنْ كان باطنه كذلك أو لا لأني لم أدخله … ولما اغرورقت مقلة السماء ركبنا العربة وأزمعنا الرجوع إلى «سراجيفو»، فأخذت الخيل تعدو عدوها حتى إذا اقتربنا من الفندق الذي نحن نزول به بصرنا بمحل صغير فيه بضائع شرقية جميلة، وعندما هممت بالنزول للتفرج على هذه العروض وابتياع ما يروقني منها، نصح لي صديقي المسيو «بترويتش» بأن لا أنزل ولا أساوم في شيء من هذا المحل قائلًا: إن صاحبه رجل يهودي ماكر يبتز نقود الشارين بحيلته وختله، ولا يبيعهم بضائعه إلا بأثمان باهظة. غير أن تلك النصيحة لم تكن لتثني عزمتي ولا لتنقض زماعي، فنزلت وكان الليل قد أقبل وألبس الجوَّ جلبابه الحالك، فأوقد رب الحانوت لمبة «بترول» كبيرة، ووجدت أن أكثر تلك المعروضات قد رأيتها من قبل في معرض باريس، وحينئذٍ سألته إذا كان يوجد لديه ملابس جميلة؟ فأجابني بأن واحدًا من الناس أوصاه «ببدلة» تساوي مائة وخمسين «فولورينو»، وأخذ يروج بضاعته بقوله إنها فرصة ثمينة! وإن شراء مثل هذه «البدلة» صفقة رابحة! وأظهر لي أن في مكنته إحضارها في مساء هذا اليوم، إلَّا أنه لم يفِ بعد بوعده، ثم انثنينا إلى الفندق وهناك دعوت المسيو «بترويتش» لأن يتناول معنا فنجانًا من الشاي، وبعد ذلك ودعنا على نية أن يئوب إلينا في يوم الغد، ثم نهضت إلى غرفتي لأكتب خطابًا أرسل به إلى «باريس»، وشرعت بعد ذلك في تسطير رحلتي مصممًا على أن أقدم أول نسخة منها للجناب العالي الخديوي، وما زلت أترسل فيها حتى الساعة الثامنة، وحينذاك أدركني الملل من التحبير فطويت القرطاس ودققت الجرس دقة لأدعو الخادمة؛ حيث إن خدم الفندق من النساء، والعادة في ذلك الفندق أنه إذا أُريد استدعاء خادمة يدق الجرس مرة واحدة، وإذا أريد نداء البواب يدق مرتين، ولا يتوهمن القارئ أن ضيف هذه اللوكندة بين الجواري الكُنَّس والخُود الآرام، بل ليعلم أنه بين سعالي شيب، دُرْد الثنايا، هنَّ في سنِّ اليأس أو أربين على عمر الجدات.
جاء وقت العشاء ولم تَرُق لديَّ فكرة معاودة بهو الطعام، وحيث إن فنادق البوسنة لا تحتوي إلَّا على عدد قليل من الغرف ليس بينها شيء من «الصالات» أمرنا بإحضار الطعام إلى غرفة النوم التي اضطرتنا هذه الأسباب إلى الأكل فيها، وبعد ذلك عدت إلى كتابة رحلتي، غير أني لم أصبر طويلًا لعدم تدربي على مثل هذا العمل، ولم أجد أحسن من أن أضطجع على سريري، وخصوصًا أني كنت محتاجًا إلى الراحة عقب يوم طويل أمضيناه في عمل كثير وتعب كبير، وكنت أحسبني إذا أنا اضطجعت أنال راحة ما كان أحوجني إليها، وأن أنام بمجرد الهجوع، ولكن مع الأسف كان السرير حافلًا بسكانه وما كان أحفاهم بمنزل ضيوفهم وأكرمهم لمثوى جيرانهم، فلقد حسبت أنهم كانوا كلفين بضيافتي عندهم مولعين بمجاورتي إياهم، ومن أجل ذلك لم يزايلني السهاد ولم تذق مقلتاي لذة الإغماض، وما كان أشبهني بذلك الفتى الأعرابي الذي أصبح يتشكى لأبيه وخز البق وأفاعيل الأرق؛ حيث يقول:
وماذا عسى أن يصنع مثلي مهما احتاط لنفسه وارتاد أحسن المواطن وأرفع الفنادق، إذا كان أعلاهنَّ قدرًا وأغلاهنَّ قيمة في بلاد البوسنة لا تزيد أجرته في الليلة عن اثنين ونصف من «الفولورينات»، وهي قيمة لا يبتئس بها ابن سبيل، ولا تغلق بابًا في وجه إنسان حتى تكون منازل الكبراء منيعة عن كل نزيل لا ممنوحة كما هي لكل قبيل! ثم قمت في باكورة الصباح لأقضي الحاجة البشرية، وكان المحل فضلًا عن كونه قليل الضياء حديد الرائحة الكريهة التي ربما أفضى فرط كراهتها إلى الاختناق، ومما زاد الطين بِلَّة أن «سيفون» المحل كان فاسدًا فلم أستطع به دفع شيء من ذلك الأذى، وقد جعلوا بدل أن يستعملوا الورق المعتاد استعماله في مثل ذلك أن يستعملوا الإعلانات القديمة! وتلك لعمر الله أمور لا طاقة بها لمن لم يتعوَّدها، ولكن لما كنت بسبب كثرة الأسفار قد تعوَّدت بعض التعوُّد مثل هذه الأشياء الغريبة لم يسعني إلا الصبر والسكوت عليها، وبعد قضاء ما يلزم عادة من النظافة ونحوها تناولت طعام الفطور وخرجت من غرفتي إلى غرفة محسن بك، وفيما أنا في الطريق قابلني الإسرائيلي صاحب الحانوت الآنف ذكره ومعه «البدلة» التي كان وعدنا بإحضارها، فأشرت إليه بأن يدعها في غرفتي ووعدته بابتياعها إذا هي وافقتني، فما تركها وانصرف إلى سبيله حتى حضر «حسين الترجمان» الذي أفهمني بأن صانع هذه «البدلة» إنما هو رجل مسلم من سكان تلك الجهة، وأنه في إمكانه أن يشتريها منه مباشرة بنصف الثمن الذي طلبه اليهودي، فلم أرَ إلا أن آمر محمدًا آغا بأن يرد إلى اليهودي بضاعته، وفي الوقت نفسه ذهب حسين إلى صاحب «البدلة» المسلم ليوعز إليه باستردادها من ذلك اليهودي الخاتل، وأن يشتريها منه رأسًا، ثم لم تمضِ ساعة حتى جاء صاحب «البدلة» بها مبينًا أنه مستعد لبيعها بأي ثمن كان، فنقدته سبعة جنيهات، ولبستها أمامه ليستظهر عيوبها التي وعد بإصلاحها وإعادتها في الساعة العاشرة العربية، وبعد هنيهة حضر المسيو «بترويتش» وكنت وقتئذٍ مشتغلًا بتحرير بعض الخطابات فكلفت محسنًا بك بمقابلته ليعتذر عني إليه، وأخذت أفكر فيما يلزم شراؤه لتلك البدلة من نحو حزام وحذاء وجورب ملون من صنعة الفلاحين هنالك، ورأيت أن أنوط هذه المأمورية بحسين الترجمان الذي لا أظنه رجع من هذه الغنيمة بلا جدوى.
وعندئذٍ تذكرت الأسلحة ولم يكن ليعنيني شراء البدلة وأدواتها بأكثر من شرائها؛ إذ إنها من أهمَّ الأشياء عندي وأحب الأمور إليَّ، فأرسلت الترجمان ثانية ليشتريها من ذلك «الدكان» الذي أسلفنا أنه قريب من الفندق، فعاد يصحبه صاحب «الدكان» ومعه جملة من الأسلحة العتيقة، ولم يكن ذلك المُتَّجِر بلابس للطربوش، فظننا أنه مسيحي، فسأله محمد آغا عن أثمان مبيعاته التي أحضرها، وأخذوا يساومونه فيها رجاء أن يخفضوا من أثمانها، ولكني لِما رأيته من حال الرجل وقلة بضاعته مما كان يستدعي المرحمة به كنت أود أن لا يشددوا عليه ذلك التشديد، ثم سأله محمد آغا عن دينه فدهشنا كثيرًا عندما قال إنه مسلم! فقلنا له إذا كنت مسلمًا فلماذا لا نراك تلبس الطربوش على عادة المسلمين؟ فقال: إن «الكلبك» الذي أنا لابسه أهداه إليَّ أخي الذي هو الآن ملازم في أورطة «الارتغلول».
وحيث كنت أرغب في انتفاعه أردت أن أشتري شيئًا من بضاعته، ولكن لما كانت الأسلحة التي جاء بها إلينا كبيرة ولا حاجة لنا بها سألته هل يوجد عندك أسلحة صغيرة؟ فقال: لا، ولكني أعلم أن واحدًا من البكوات لديه «يتجان» صغير، فإن شئت أتيتك به، فرغبنا إليه في ذلك، ثم ما لبث أن جاء ومعه ذلك السلاح الذي وافق غرضي وطابق رغبتي؛ إذ كان ماضي الحد دقيق الصناعة قديم الاختراع؛ ولذلك صممت على ابتياعه منه حالًا موقنًا بأني عثرت على ذخيرة ثمينة وكسبت صفقة رابحة، ونقدته في ثمنه أربعة جنيهات، فأخذها راضيًا شاكرًا، على أننا لو شددنا عليه شيئًا لقنع بأقل من ذلك، وأما محسن بك فقد اختار لنفسه «يتجانًا» بلغاريًّا وشراه بثمن بخس دراهم معدودة، وهو وإن لم يكن مزخرفًا في الظاهر إلا أنه كان متينًا فِرِنْده ماضيًا غراره لينًا متنه، حتى إذا لويناه ما شئنا انثنى حتى التقى طرفاه، وإذا نحن أفلتناه عاد مثقفًا مستقيمًا كما كان.
ثم إني وصاحبي أردنا أن نظهر لهذا الرجل شيئًا من المهارة والحذق فيما نعلم من هذا القبيل، أما محسن بك فقد عمد إلى ما اشتهر به من كسر العصي ونجح في عمله غاية النجح، وأما أنا فقد جرَّبت سلاحي الذي اشتريته في قطع تفاحة ملففة بمنديل من الحرير وشق أغصان قائمة أطرافها على حافتي فنجانين من فناجين القهوة، فدهش الرجل من هذا العمل وكاد لا يصدق بما حصل وتهلل وجهه وأخذ منه الإعجاب كل مأخذ؛ إذ رأى أن القائمين بهذا العمل الحاذق هما من أبناء دينه وملته!
وكان هذا الرجل مصابًا بانتفاخات وأورام أشفقنا عليه منها، فنصحنا له بأن يستطب لدائه ويسرع بإعمال «عملية» ربما يكون من ورائها خلاصه من هذا الداء العضال، وإنها عليه لهينة سهلة، فأخذ يبين لنا سبب تلك الإصابة وهو أنه وقت حرب الصرب كان يتصبب في يوم عرقًا وشرب وهو على تلك الحال من ينبوع ماء بارد كأنه مثلوج، فأصيب بتلك الإصابة الشعواء، وقد عرض نفسه على أطباء «فينا» الذين شخصوا داءه وأخبروه بأن في «العملية» خطرًا ربما أفضى إلى الموت؛ إذ إن في تلك النقطة عرقًا متصلًا بالمخ؛ ولذلك استسلم للداء وقنط من رحمة الدواء، وعندئذٍ أسفنا أسفًا عظيمًا لعدم وجود الدكتور الشهير «زنباكو» باشا؛ لأن في إمكانه أن يبحث في هذا المرض بحثًا دقيقًا بما أوتيه من الحكمة والخبرة التامة ريثما يقف على حالته ويرشده إلى خير علاج.
فجاوز الرجل حظيرتنا وخرج شاكرًا مثنيًا، ثم طلبنا الغداء وعندما علمت أن طاهي الفندق مجري طلبت إليهم أن يَأْتونا «بجولاش» متحققًا أن طعامًا واحدًا تلتذ به النفس ويرتاح له الذوق خير من تلك الصحاف الكثيرة التي نَبَتْ عنها طباعنا في الأيام الخالية، وبعدما أخذنا غايتنا من الطعام رأيت أن أسترسل في كتابة رحلتي، ولكن عرضت لي هواجس تعارض أفكاري الأولى، وترددت بين أن أكتب وأي فائدة لي من وراء الكتابة التي يلزم منها أن أتعرض لأمور سياسية! على أني أكلف نفسي أن أكتب بلغة لا ألمُّ بها تمام الإلمام، ومن ثَمَّ يكون عملي غرضًا لألسن الناقدين أو أمسك، وكان حقًّا عليَّ أن أوقف أصدقائي على تفصيلات سياحتي؛ إذ كان ذلك يهمهم كثيرًا، وقد كنت أرجو أن الجناب العالي الخديوي يوافقني على هذا العمل ويحثني عليه ويستنهضني إليه، فاستخرت الله وطردت وسواس التثبيط وأمطت عن نفسي رداء الكسل، وغلبت عليَّ فكرة الهمة والعمل، ونهضت لأكتب ما شاء الله أن أكتب، وإذا بالمسيو «بترويتش» الذي وافى مع الميعاد تمامًا.
أنتيكخانة سراجيفو
فأخذ كل منا عصاه بيده ومضينا لزيارة ما كان فاضلًا مما يستحق الزيارة، وفي عزمنا أن نبدأ بزيارة الأنتيكخانة الأهلية، وكانت عربة المسيو بترويتش «الكومبيل» في انتظارنا، وحيث ألفيناها أصغر من العربة «فيكتوريا» التي ركبناها أول مرة، رأينا أن نمضي غرض محسن بك، واستأجرنا عربة لاندوه كانت نمرتها «١»، وسرنا قاصدين إلى الأنتيكخانة حتى ألقى الحوذي عصاه أمام بيت يظهر عليه أنه من منازل السكنى ذوات الغلة، فنزل أولًا المسيو «بترويتش» وقرع الباب فلم يُجاوب هذا القارع إلا بنبيح كلب مزعج، فظهر أننا أخطأنا دور الأنتيكخانة ولم نصب بابها، وعندئذٍ طلب المسيو بترويتش أن ننتظره في فسحة المنزل، وسارع إلى عروج السلم ليتحقق ما إذا كانت الأنتيكخانة مغلقة أو مفتحة الأبواب، فرآها لحسن حظنا مفتوحة، وما طلب منا أن نصعد إليه حتى أجبناه بكل همة ونشاط.
صعدنا وإذا المتحف في الطابق الثاني وفي مدخله يرى الإنسان صورًا وتماثيل من الشمع وقد ألبسوها ملابس مختلفة، وعلى كل واحد منها بطاقة تدل على تاريخ ما عليها من اللبوس، والذي لفت أنظارنا أكثر إنما هي أردية السيدات المسلمات سكان «مصطار» إذ كنَّ مع لبس الفرجية يضعن على رءوسهنَّ من ذلك النسيج الأسود ما يشبه شعار الراهبات، وعلى وجوههنَّ براقع ساترة لكل الوجه بحيث لا يرى المتبصر شيئًا مما يليها أصلًا.
ثم توجهنا إلى الجزء المختص بالأشجار، وأحسنها كان معروضًا في معرض باريس، ومن ثم ذهبنا للجزء المختص بالنقود والمسكوكات، ثم رأينا في صناديق من الزجاج بعض الأعلام والبنود التركية والبوسنوية القديمة من عهد الاحتلال التركي لتلك البلاد، وكان على تلك البنود عبارات مرسومة وكتابات مرقومة كما هي العادة، ومما عجبت له أني رأيت أمرًا من بعض قدماء السلاطين لحكام البوسنة يأمره فيه بالسير على بعض القوانين، وهذا الأمر مكتوب على ورق سميك، وهو وإن كان بعيد العهد قديم التاريخ إلا أن ناظره لا يشك في أنه جديد لم يخلق ولم يتبذل! …
معمل الأبسطة
ولما أتممنا زيارتنا لهذا المُتحف، قصدنا معمل الأبسطة الذي كنت مسرورًا من توجهنا إليه حاسبًا أن أشتري منه شيئًا لمنزلي، ولكن خالفني حسباني حينما قال لي المسيو «بترويتش» إن تلك البسط تُباع بقيم باهظة وأثمان فاحشة؛ لأن الحكومة خصت نفسها باحتكار هذا الصنف وهم يبيعون المتر المربع منه بخمسين «فولورينو» مع وجود مثلها في أزمير ولا يتجاوز ثمن المتر فيها ثمانية فرنكات!
أما رئيس المعمل فيزعم أن غلاء القيمة وعلو الثمن إنما هو ناتج من زيادة العناية بتلوين الأصواف؛ لأن الألوان التي يصبغون بها في ذلك المعمل مأخوذة من مواد طبيعية وليست هي من الألوان الصناعية «كالأنيلين»، وبهذه الوسيلة تحفظ بهجة الألوان، وتصان جدَّتها على مر الأزمان. أما المعمل فمركب من أربع غرف وفي كل واحدة منهنَّ نحو الخمسين من الصربيات، وأما من جهة العدد والآلات فهي عادية، وكان في جملة ما يشتغلونه السجاجيد العجمية، وقد رأيت عشرين من أمهر العاملات يشتغلن طنافس الحرير.
معمل التبغ
وبعدما زرنا قاعات المعمل ووقفنا على كل ما فيها وجدنا أن الأسعار كما أسلفنا باهظة، فلم يتسنَّ لنا أن نشتري من هنالك شيئًا، فغادرنا ذلك المعمل واقتفينا فابريقة التبغ — الدخان — التي تبعد عنه نحو خمس دقائق، وعندما وصلنا اضطر المسيو «بترويتش» إلى أن يدعنا ويذهب ليستأذن لنا رئيس «الفابريقة» في الدخول، فدعينا إلى الدخول في غرفة ذلك الرئيس الذي رأيناه شيخًا يناهز الخمسين من عمره، على أن هذه السن لم تنتهِ عن الخيلاء بنفسه والإعجاب بصناعته التي وهم أنه أمهر إنسان فيها، ولقد استقبلنا هذا الرجل بالحفاوة والتعظيم وأبى إلَّا أن يجلسنا إلى طاولته الخاصة، وقدَّم لكل منا سيكارًا، وابتدأ الحديث يجري بيننا وكان خاصًّا بالدخان والسجائر، فزعم هو أن سجائر البوسنة خير من سجائر مصر في الإتقان ودقة الصناعة! وعزز مدَّعاه بأن نفرًا من تجار السجائر في مصر زاروا مصنعه وامتدحوا سجائره وأثنوا على دخانه، وإني وإن لم أكن من شرَّاب الدخان ولا بالذي يميز بين طيبه ورديئه ومستملح السجائر ومستقبحها غير أنه لم يسعني الإذعان لتلك الدعوى ولا السكوت عليها، وأنا أعلم من جهة أخرى أن سجائر مصر هي أشهر سجائر العالم، فقلت له: إذا كانت السجائر المصرية هي أجود سجائر العالم وأشهرها، أفلا تكون على الأقل أحسن من سجائر البوسنة؟ أما دعوى كون جماعة من تجار مصر امتدحوها فشهادتهم إنما تفيد محض حسنها وفضلها لا أحسنيتها وأفضليتها! حتى إذا أخذ الحديث مأخذه أومأ إلى وكيله وأرفقه بنا ليكون دليلًا لنا في هذا المعمل، وكان ذلك الوكيل باش الوجه طلق المحيا، فانطلق بنا وأول ما رأينا محل الدخان وهو ورق؛ حيث كانوا ينقدونه ليميزوا الخبيث من الطيب، وكان ذلك الدخان على صنفين، أحدهما أصفر رفيع خشن نقي وهو وارد من «هرسكوفين» من بلاد الهرسك، والآخر شديد السمرة وهو أكثر خشونة من الأول وهذا وارد من بلاد البوسنة، حتى إذا أتموا نقض تلك الأوراق وأكملوا نقدها حملوها إلى قاعة ثانية؛ حيث تُفرم بالعدد الخاصة بذلك، ووراء تينك غرفة ثالثة وكل عملتها من النساء وهنَّ ينقسمن إلى قسمين، فبعضهنَّ يكدس الدخان الجيد في علب من الصفيح، والأخريات يلففنَ الدخان المعتاد في الورق بأقدار، وهذا الأخير شراب المتوسطين من الناس وعامتهم.
ورأيت في الدور الأول طبقة كبيرة تشتغل فيها جماعات النساءِ بعمل السجائر، وكل منهنَّ قد خصت بشيء، وقد رأيت من مهارة أولئك العاملات وحذاقتهنَّ ما أدهشني من إتقان أفمام السجائر وأطرافها، وعند نزولنا قصدنا زيارة المخازن وهناك أخبرنا الوكيل بأن ألمانيا هي أهم مصدر لتلك السجائر، والألمانيين أكثر الناس لها ابتياعًا، والواقع أن هذه «الفابريقة» قد بلغت من الأهمية مكانًا عظيمًا، وأنها لتحوي في موضوعها أهم المبتكرات وأحدث المخترعات، وبعد أن سلمنا على الرئيس وشكرنا له حسن صنيعه ودَّعناه وعدنا إلى الفندق، وهناك استسمحنا المسيو «بترويتش» وشكرناه شكرًا جزيلًا وأثنينا عليه ثناءً جميلًا للطفه وأدبه ووجوده في صحبتنا وتحت إرادتنا هذه المدة، ولم يمكنا وقتئذٍ أن نثني عزمه ولا أن نمنعه عن تكلف الحضور إلى المحطة لتوديعنا.
وقبل أن نطلب طعام العشاء استحسنت أن نبادر لأخذ تذاكر السفر، ولكني أُخبرت من البوَّاب بأن التذاكر لا تصرف أبدًا مقدَّمًا، وأن على المسافر أن يأخذها بنفسه من المحطة ساعة قيام القطار.
باكر بك
ثم إني فكرت في أن أفاجئ صديقي محسنًا بك بعمل يستغربه، وهو أن أطعمه طعامًا شرقيًّا «فلفلًا محشوًّا غير حار»، وبينا نحن في أثناء الأكل سمعنا دقًّا على الباب، وإذا الطارق صديقي العزيز باكر بك «طوظلي»، فسارعت إلى لقائه وأنا في غاية السرور به والجذل بمقدمه، وكان قد كبرت سنه عما أعهده به — طبعًا — وقدَّمته لمحسن بك وناهيك بالفرح الذي خامر أفئدتنا؛ إذ رأينا بعضنا مرَّة ثانية على بعد اللقاء وطول العهد وشط المزار وتنائي الأقطار!
ولا يمكنني أن أصف للقارئ ما طرأ من التغير على ذلك الشاب الذي أصبح ثابتًا بعد أن كان يغلبه نزق الحداثة وعنفوان الشباب، نزَّاعًا إلى التنقل والتريض، ولكنه كان فردًا وقد أصبح ربًّا لأسرة وعائلًا لأولاد.
ونظرًا لبسالته وإقدامه انتخبه أبناء ملته ليكون زعيمًا لهم ورئيسًا عليهم.
وقد أظهر لي باللفظ اليسير تعس المسلمين وشقاءهم في تلك البلاد، فكان قوله سببًا في كدرنا وانقباض صدورنا، وليبرهن على استياء المسلمين وعدم رضائهم، أطلعني على عريضة تشكٍّ مقدمة للإمبراطور وهي مذيلة بالمئات من الإمضاءات، ثم أعرب لي عن استغرابه من وجودي في بلاد البوسنة في ظرف لا يراه يسمح لي بمفارقة الحضرة الفخيمة الخديوية؛ إذ كان يُشاع في أنديتهم ومجتمعاتهم أن بين جلالة السلطان الأعظم والجناب العالي الخديوي خلافًا قائمًا، وأن العلائق بينهما على ما لا يحب المخلصون من الفتور! وتلك لعمر الله أفيكة من ولائد السوء يغرَّر بها سماسرة الشر ليوهموا جماعة المسلمين أن النفار مستحكم بين أمرائهم حتى لا يسكنوا يومًا للسلام ولا يعلقوا حبال آمالهم بحكومة الإسلام!
فأكدت لصديقي أني لم أعرف تلك الإشاعة إلَّا منه، وأنها ليست من الحقيقة في شيء، ثم سلمنا عليه وذهبنا إلى غرفة النوم كي نستيقظ في الصباح ولا سيما نحن نعلم أن جناب المسيو «باكر» كان تعبًا من حركة السفر الطويل الذي قضى في مسافته عشر ساعات، ركب منها أربعًا متن السكة الحديدية وستًّا في العربة، فكان النوم إذ ذاك أحب إليه من كل شيء.
السفر من سراجيفو إلى ياسي
ولما أصبحنا ذهبت إلى غرفة محسن بك لأنبهه إلى أن الواجب علينا الآن هو المبادرة بالذهاب إلى «المحطة» قبل أن يحين ميعاد السفر؛ لنباشر بأنفسنا ما يلزمنا من نحو شحن الخدم لمتاعنا وغير ذلك، ثم انثنيت إلى غرفة «باكر بك» لأودعه فألفيته مشتغلًا يلبس ثيابه؛ إذ كان في نيته أن يصاحبنا بقدر ما يستطيع، إلَّا أني لم أرَ في الوقت ما يسعني لانتظاره، فأخذت محسنًا بك واستأجرنا عربة «لاندوه»، وكان معنا حقيبتان — خرجان — رأينا من الحرص عليهما أن نصطحبهما، كيف لا وفي أحدهما نقودنا وفي الآخر ما نحتاج إليه من العقاقير؟
وصلنا إلى «المحطة» قبل قيام القطار بعشرين دقيقة، فأسرع محمد آغا بشحن أمتعتنا ورجع طالبًا مني المصاريف وقد تأهبنا للسفر ووجدنا كل ما يلزمنا حاضرًا، ثم إن باكرًا بك لحق بنا إلى «المحطة» وكان هندامه وملبسه آنق منه بالأمس وألطف، ثم خلانا ومكث غير بعيد ليفطر، وحين رجوعه أخذنا نتغادى ونتراوح على رصيف «المحطة» حتى أزفت ساعة الرحيل، وكنت أعجب بأننا ثلاثة من الشبان نلبس «الطربوش» ونرتدي أثمن الملابس وأفخر الثياب بين أولئك التاعسي الحال أخلاق الأسمال الذين كانت أنظارهم متجهة إلينا محدقة بنا، وخصوصًا عندما رأونا ركاب الدرجة الأولى في هذا القطار دون سائر الناس.
سار القطار وما فتئ يطوي الأرض بأقدامه الحديدية طيًّا حتى وصلنا بعد ساعة ونصف إلى «محطة» صغيرة، وهنا نزل باكر بك ليركب منها قطار الساعة التاسعة والنصف قافلًا إلى مدينة «سراجيفو»؛ حيث كان وجوده ثَمة ضروريًّا ليترأس جمعية هناك، وقد أظهر لنا من عبارات الجزع على مفارقتنا والأسف لعدم إمكانه مصاحبتنا مسافة أطول من التي قضاها معنا، وأعقب ذلك بأن ترجَّاني في أن أرفع احتراماته للجناب العالي وتركنا، فصرت وصاحبي محسن بك فردَيْن بعدما كنا معززين بثالث، وقد وجدنا من وحشة فراقه ما كنا نتناساه ونتسلى عنه بمشارفة غضارة النباتات ونضرة المزارع، التي كان شكلها ومناظر الطبيعة العمومية من «سراجيفو» إلى «طراونيق» على نسق واحد.
مدينة طراونيق
أما «طراونيق» هذه فبلدة جميلة قائمة على ربوة ومنظرها حسن آخذ، ولقد رأيناها مسوَّرة بسياجات منيعة ومحاطة باستحكامات قديمة العهد تحف بها الألوف من صنوف الأشجار، ويشقها نهر «فورباس» فيشطرها شطرين ويقسمها قسمين، وعندما وقع نظرنا على هذا المنظر البديع والمشهد النضير أسفنا أي أسف؛ إذ لم يكن في مكنتنا أن نمضي في هذا البلد يومًا واحدًا، مع أني كنت أميل كثيرًا إلى زيارتها؛ إذ كانت مقر الولاة ومنتجع الحكام يوم كانت تلك البلاد من أعمال الدولة العلية، وكنا نرى وسط تلك الأشجار الباسقات من كثرة المساجد ما استدللنا منه على أن جل سكانها من المسلمين، ومن الغريب أن هناك كنيسة كبيرة كاثوليكية، وأن الحكومة خصتها من بين المعابد برفدها؛ إذ هي تصرف عليها سنويًّا — هبة منها ومنحة — ما يربو على الثلاثين ألفًا من الفلورينات، وهي مشيدة وسط بلد جل سكانه من المسلمين … ومن هناك لم يكن في طريقنا ما يلفت أنظارنا، اللهم إلَّا أننا كنا نقترب آنًا فآنًا من سفوح الجبال المتتابعة، وقبل وصولنا إلى محطة «ياسي» بنحو عشر دقائق شاهدنا «فابريقة» كبيرة لصنع «الكربيت»، وتلك المحطة آخذة بناحية تبعد عن المدينة بمسافة، أما وصولنا إلى البلد فكان حيث الساعة الثالثة والدقيقة اثنتان وأربعون، وكنت لما أن ألقى القطار عصاه إلى المحطة وأمنت على متاعنا أتربص أنا وصديقي أوَّل مركبة تصادفنا لنصل على عجل إلى الفندق، مخافة أن يضيق بمن يقصده قبلنا من السياح.
في مدينة ياسي
ورأينا تلك البلدة — كسائر بلاد البوسنة — كيان استحكاماتها القديمة، ويمرُّ الداخل إليها ببوَّابة عتيقة البناء، إلَّا أنها حسنة الهيئة جميلة المنظر، وعندما وصلنا إلى الفندق الذي كان قريبًا من هذه البوَّابة، وجدنا صاحبه واقفًا ينتظرنا ببابه تظهر عليه علائم القوَّة والشدَّة، وهو مع ذلك باش الوجه باسم الثغر، أما ذلك الفندق فكان لا يحتوي إلَّا على سبع عشرة غرفة، وحينما استقبلنا صاحبه أعدَّ لنا غرفتين في الدور الأول وغرفة ذات سريرين بخصوص اثنين من خدمنا في الدور الأرضي، أما الخادم الثالث فقد اضطر للسكنى في غير ذلك الفندق لعدم وجود مناخ له فيه، وبعد أن تناولنا الشاي توجهنا لرؤية منحدر المياه المسمى بيازي؛ حيث يتدفق عليه نهر «بليفا» الذي يصب في نهر «فورباس» منحدرًا من ارتفاع ثلاثين مترًا، وتتشعب مياهه إلى عشرة جداول، وما كان أشبه هذا المنظر بما شاهدته في بلاد النرويج، وأذكر أنه كان في صحبتنا ساعتئذٍ محمد آغا الذي كان دليلنا في هذه المعاهد، وبعدما استجلبنا هذه المناظر الطبيعية البديعة مررنا بالحديقة المغروسة بصنوف الخضر، ويطلق عليها أهالي ذلك البلد اسم «البستان الكبير»، وإنهم ليعدونها كذلك.
وحيث لم يكن لنا خبر بتلك الطرائق ولا عهد لنا بها من قبل، اقتربنا على غرَّة من كوخ فيه كلب عقور رائع الهيئة مملوء شراسة وغدرًا، وعندما بصر بنا أخذ ينبح نباحًا عاليًا ويعوي عواءً مزعجًا، فذعر محسن بك ذعرًا ونفر يحسب أن الكلب مطلق، ولكنه والحمد له كان مقيدًا موثقًا، ثم انثنينا إلى الفندق وهناك سألنا صاحبه عن الأمكنة التي يجدر بنا أن نزورها، فدلنا على المغاور التي لم نجدها بعد من الأهمية في شيء ولا فرق بينها وبين غيرها من الكهوف في كل الجهات، فانصرفنا إلى مشاهدة الكنيسة الفرنسيسكانية وفيها رأينا في صندوق من الزجاج رفات «استفانو الأول» رأس ملوك البوسناك وأولهم.
قلعة ياسي
ثم إن صاحب الفندق أوعز إلينا أخيرًا بمشاهدة القلعة القديمة، فاستحسنا هذه المشورة وآثرناها على كل ما رأينا من المشاهد، وحيث كانت القلعة مملوكة للحكومة ولا بد لمشاهدتها من استئذان قومندان البلد الذي كان وقتئذٍ مشتغلًا بالمناورات العسكرية، واتفق من حسن الصدفة أن مفاتيح القلعة كانت مودعة عند بوَّاب الفندق، وإنما كان سبب استيداعها عنده كون ذلك الفندق تابعًا للحكومة أيضًا، فأذن لنا في الذهاب إليها والتفرج عليها، ولقد لاحظنا أن سكان البيوت التي على حافتي الطريق يشرفون علينا ويتطالون إلينا من خلال النوافذ ونحن صعود إلى القلعة، وإذ وصلناها فتح لنا ذلك البوَّاب، وإذا هي تحتوي على أربع غرف مبنية بالخشب وهي مستودعات للمهمات العسكرية، وبيتين أحدهما مستودع للمهمات والآخر مستعمل لخزن علف البهائم ومئونتها، وفي الداخل رأينا على أثر القلفة القديمة «لوحة» من الرخام مرسومًا عليها صليب وحوله كتابات مرقومة، فسألنا مرشدنا في هذا المعهد عن سبب وضع هذا «اللوح» بهذه الصورة، فأخبرنا بأنه في تلك البقعة قُبر رأسا مسيحييْنِ، وأخذ يقص علينا تاريخ قتلهما ودفنهما؛ حيث زعم أن الأتراك هم الذين قتلوهما وشهروا بهما تشهيرًا، ففصلوا رأسيهما وقطعوا لسانهما وجدعوا أنفيهما وصلموا آذانهما ثم شكوا رأسيهما على رمحين.
ثم ذهبنا غير بعيد من تلك البقعة؛ حيث أرشدنا إلى باب هناك مرسوم عليه النصف الأعلى من هيكل إنسان مجدوع الأنف وعلى رأسه شعار، وزعم مرشدنا أنها صورة أحد الملوك، وأنه كان موجودًا على ذلك التاج صليب مرسوم، والذي محا ذلك الصليب وجدع أنف ذلك المتملك، لا بد أن يكون هم الأتراك!
وأما أنا فلا أظن إلَّا أن تلك الصورة تمثال واحد من الشجعان الباسلين وقد يكون مجريًّا أو كروسيًّا، ثم أرشدنا في تلك البقعة أيضًا إلى برج مدعيًا أنه كان محبس المظلومين الذين كان الأتراك يزجون بهم في أعماقه ويدَعونهم خماصًا ظماء حتى يموتوا جوعًا أو يهلكوا عطشًا!
وبالرغم عن اعتقادي أن كلام هذا المرشد «الغويِّ» محض فضول، لا حاجة له من الصدق، فإن ذلك الرجل أثار غضبي بمِرائه، وكدر صفوي بافترائه؛ لما رأيت من أنه كان يتغفل مخاطبيه ويُلبس عليهم الحق ويزين لهم البطل! لأن ذلك البرج الذي ادَّعى إفكًا أنه كان سجن المظلومين على عهد الأتراك إنما هو جزء من القلعة متصل بها متمم لها، وهو من استحكامات الدفاع التي كانت مستعملة كغيرها في ذلك الحين، وإنه أصبح اليوم منفصلًا عنها لأن أثر الحائط الذي يدل على اتصالها به لا يزال موجودًا يُرى وإن درسته الليالي وحطمته الأيام، وبعدما استجلينا المعاهد قفلنا راجعين، وفيما نحن منحدرون صادفنا في طريقنا بعض السيدات المسلمات وكنَّ يسترنَ بالنقاب كل وجوههنَّ كما بينا ذلك في جملة عوائدهنَّ، وفوق ذلك رأيناهنَّ يبالغنَ في التستر ويغالينَ في الاستخفاءِ بتحويل وجوههنَّ إلى الحائط وبتحويل جميع الأجسام حتى لا يبدو منهنَّ شيء، وإن ذلك لناشئ من فرط الحياء والحرص على الأخلاق الإسلامية والعوائد الشرقية.
أما الدليل فما رآهنَّ يفعلنَ ذلك حتى سخر منهنَّ وضحك من عملهنَّ وأخذ يهذي قائلًا: «إن أولئك الناس لغريبو الطباع، وأشد غرابة أنه إذا سعى المرء وزوجه في طريق كهذا وصادفهما أحد حاولت المرأة الاستخفاء خلف بعلها!» فاشمأزت نفسي من هزوء ذلك الرجل وامتعضت بما كنت أرى عليه من احتقاره عوائد المسلمين الذين تجمعني وإياهم صلة الملة، وتربطني بهم وشيجة الدين، ولم يسعني وقتئذٍ إلَّا أن أدافع عنهم جهد المستطيع، فقلت له: تعلم يا هذا أن لكل قوم عادة يرون من أوجب الواجبات عليهم احترامها وتقديسها، وإنهم لينصرونها على كل العوائد حتى ولو كانت سخيفة مرذولة وكان غيرها قويمًا مستحسنًا، ولو أنك أنصفت من نفسك لم تنتقد غيرك وأنت تعلم أن العادة إذا خامرت النفس واستحكمت فيها صارت كأنها إحدى طبائعها، على أنك لم تأمن أن يكون لك ولقومك ما يؤخذ عليكم من الأخلاق المنكرة، والعادات المستهجنة، وما لو بحث فيه أولئك الناس لأضحكهم منكم، أكثر مما يُضحككم منهم، ولاستدعى استهزاءهم بكم أشدَّ من سخريتكم بهم، فأولى لك وأحرى بك أن تكف عن انتقاد الناس وتقصر عن تهجين عوائدهم وتقبيح خلالهم. ثم إننا رجعنا إلى الفندق مصممًا على عدم الخروج، وهناك عدت إلى كتابة رحلتي حتى الساعة السابعة والنصف، ثم قصدت غرفة الطعام؛ حيث أزِف وقت العشاء، فرأينا كذلك هناك بعضًا من مستخدمي «ياسي» وآخرين من سكانها، ولكن ما رأيناه من جماعة المستخدمين كان قليلًا، بسبب أن سكان البلد لا يزيدون عن أربع آلاف نسمة.
جاء الطعام وكنا نحسب أنه شهي مقبول، فإذا هو إذا نحن نعتناه بأنه أقبح من طعام «سراجيفو» نكون قد أطريناه وبالغنا في مدحه، ومن ثَمَّ لم يهنأ لي أن أتبلغ منه شيئًا، فلم ألبث إلَّا قليلًا وعدت إلى غرفتي لأستعيض من راحة النوم ما فقدته من لذاذة المأكل، وكان يمكنني أن أسهر لولا أن البلد لم يكن فيه من رسائل السمر ما يدعو إلى السهر.
منظر غضير
وفي صباح اليوم الثاني عشر عزمنا على التريض في جهة «جزيرو» وكانت المسافة بينها وبين «ياسي» بضعة كيلومترات، وتلك لعمر الله نزهة لا يستطيع واصف مهما بالغ أن يشرح حسنها أو يبين جمالها، أما أنا فليس يمكنني أن أصفها للقارئ بأكثر من أني أقول: لو أننا صادفنا أضعاف ما كابدناه من المشقة والنصب في بلاد البوسنة وعلى الخصوص في «سراجيفو» في سبيل الوصول إلى مثل تلك الرياضة لما كان من المشقة في شيء؛ إذ كانت الراحة تامة والرفاهية مستكملة، وهنا أوقف القارئ على بعض الشيء في هذا المعهد النضير والمُجلى الآخذ بمجامع القلوب.
هناك بحيرة مترعة يكوِّنها نهر «بليفا» ويمدُّها بمائه الغزير وما أشبهها ببحيرة «برنس» في بلاد سويسرا؛ لولا أن ما يحيط بها من سلاسل الجبال أصغر شموخًا وأقل ارتفاعًا من الجبال الحافة ببحيرة «برنس»، أما مياهها فكأنها النسيم رقة أو هي ألطف، واللجين بياضًا لولا أنها أنصع وأشف، وكان يبدو لي أنها بعيدة العمق عويصة القرار، ثم إن النهر الذي يخرج منها يتحدر من جملة متحدرات ويتخلله الألوف من الجزر التي كان الماء المعين يتعرَّج بينها ويتلوَّى حولها كأنه ظهور الأصلال، وتشرف عليه الأشجار الكثيرة تتمايل أغصانها وتتمايس أخواطها، وأي منظر لعمري أقرُّ للأنظار من جنات تجري من تحتها الأنهار، وكان الماء المتحدِّر من الربى الوطيئة أقل بفرق محسوس منه في الأجزاء العالية، وهناك كان الماء كذلك يمرُّ بين تلك الجزائر التي يكوِّنها للنظر تَخلل الماء بينها، وناهيك بمنظر قد عاونت يد الطبيعة في إحكامه يد الصنعة الفائقة، حتى لقد بلغ من ابتهاجي به وانشراحي منه أن انتقش في صحيفة نفسي، وأخذ له مكانًا فسيحًا من صدري، فلا أراني أنساه طول دهري، وقد اقتنعت منه بهذا الجزء واكتفيت به عن غيره، وصممت على أن لا أتوجه إلى «جزيرو» التي كانت تنتظرنا بتمام هذا المنظر النضير وختامه، ثم انثنينا إلى الفندق، وأجزت خدمنا أن يذهبوا إلى تلك البحيرة لينالوا من حسن ذلك المجلى البديع ما استجليناه، ويشاهدوا من منظره الرائع ما قد شاهدناه …
ثم إننا أوصينا صاحب الفندق بعربة كبيرة لنركبها إلى «بنيالوقا» حيث لا تربط بينها وبين «باسي» سكة حديدية، وبعد هنيهة توجهنا لزيارة السوق الذي كان أشار علينا صاحب الفندق بزيارته فصرنا إليه، وكنت وصاحبي نمشي مشية عسكرية لابسي الطربوش وكان طريق سيرنا من الشارع الكبير، وفيما نحن كذلك، قابلنا واحد «مُلَّا» وسلم علينا عن بُعد إشارة باليد، فرددنا له سلامه وأجبناه بمثل تحيته عن قلب مخلص ونية صادقة، وكنا ننظر إلى الشيوخ الكبار الذين كانوا يصادفوننا في الطريق فنجدهم يتهللون بنا بشرًا وسرورًا؛ إذ كانوا ينظرون إلينا فيروننا طلقي المُحيا، باسمي الثغور، ونحن على أحسن ما يكون من القيافة والهندام، وبينا نحن نمشي إذ صادفنا مسجد وعنده مقابر مرقوم عليها كتابات، فوقفنا عندها حينًا، وكان ممن دفن في هذه المقابر اثنان من الشجعان الباسلين وهما جابي حاج مصطفى بك وابنه، أما الأهالي الذين كانوا يمرون في ذلك الطريق فما رأونا كذلك حتى أقبلوا علينا والتفوا حولنا، فبعد أن كنا نخافت بالقراءة جهرنا بها وأعقبناها بتلاوة فاتحة الكتاب مستمطرين بها الرحمة على أولئك الأموات، ثم ذهبنا إلى السوق الذي لم نرَ أنه من الأسواق المهمة الجديرة بالفرجة؛ إذ لم يكن فيه إلَّا حوانيت بعض الفاكهانية والقصابين — الجزارين — فقفلنا قاصدين الفندق.
متتبع غريب
وإذ نحن نسير بدت منا التفاتة إلى الوراء، فرأينا رجلًا يتبعنا وهو يلبس الطربوش والجكتا غير أنه لم يكن حسن البِزَّة ولا لطيف الهِنْدام، وكان طويل الجسم عظيم القامة وليس له من شكله ولباسه ما يشعر بأنه من أرباب المجد ولا ذوي الحسب، ولا من أهل الغنى واليسار، فداخل نفوسنا من أمر هذا الرجل ريبة، ولما لم يبقَ بيننا وبين الفندق إلا خطوات قليلة اقترب منا وسلم علينا سلامًا تركيًّا، وأخذ يتكلم معنا من تلقاء نفسه، أما نحن فلما لم نكن نعرفه من قبل أوجسنا في نفوسنا خيفة منه، وكان من كلامه أن سألنا أولًا عما إذا كنا شاهدنا جميع مشاهد «ياسي» وأتينا على كل مناظرها؟ فظننت من هذا السؤال أن الرجل يرمي إلى مرافقتنا ليكون دليلنا في تلك المعاهد، ولكن لما رأينا من تبذل هيئته وقبح قيافته جاوبناه أننا لم نُبقِ شيئًا من البلدة حتى زرناه، ولم ندع معهدًا فيها حتى وافيناه، وكان ذلك بمرأى ومسمع صاحب الفندق الذي استغرب منا ذلك، وكأنه أنكر علينا خطابنا لهذا الرجل على هذه الصورة، فقال لي همسًا باللغة الألمانية: إن هذا الرجل لمن خير رجال «ياسي» وضواحيها ومن أذكاهم فؤادًا وأطولهم نجادًا. فأفرخ ذلك الكلم روعنا وسرى عنا ما كنا نجد، أما الرجل فما علم من تبادل الحديث بأننا من أبناء دينه حتى أخذ يشكو إلينا بثه وحزنه مما تسومه الحكومة من الغبن في المعاملة، وحيث خشينا أن نجري معه في هذا الحديث ونحن وقوف أمام باب الفندق أشرنا إليه أن يرافقنا إلى حيث منحدر المياه؛ إذا كان لم يرَ بأسًا من ذلك، فهناك يخلو لنا الجوُّ ونتكلم بما شئنا بكل ارتياح واطمئنان، فمشى أمامنا وتبعناه في طريق صغير حتى وصلنا إلى بقعة من الأرض كاسية بالحشائش والأعشاب.
حديث مع أحد أعيان ياسي
وهنا وقف وقال: ألا تدرون أن هذه الأرض التي تحت أقدامكم كانت مقبرة للمسلمين، وقد هدمت أجداث الجزء المرتفع منها تمهيدًا لأن تتخذ فيما بعد للأبنية والعمائر؟ وأما هذا الجزء الذي تشاهدونه من البلد المنحصر في سور المدينة القديمة فالذي يسكنه هم جماعة المسلمين فقط، وذلك المنزل الكبير هو منزلي، وإني أكون شاكرًا ممتنًّا إذا تفضلتم فأجبتم دعوتي بتشريفي في هذا المساء، اللهم إلَّا إذا كانت هناك ضرورة تدعوكم إلى أن تمضوا ليلتكم هذه في «ياسي»، فشكرنا له هذا المعروف وأعربنا عن أسفنا؛ حيث كنا اعتزمنا على الرحلة بعد الظهر ولا يمكننا مع ذلك إجابة دعوته، ثم إنه لفتنا إلى برج هناك صغير مربع الشكل وأخبرنا بأن الأتراك كانوا اتخذوه مسجدًا، ونحن الآن نريد ترميمه وإصلاحه لنعيده إلى سيرته الأولى، غير أن الحكومة بعصبيتها أبت إلَّا رفض طلبنا بدعواها أن هذا البرج فيما مضى كان جزءًا من كنيسة يونانية!
فسألته وإذا كان البناء من هذا البرج ولا محالة متداعيًا، فلم تتركونه وتبقونه على ما هو عليه ليكون أثرًا من الآثار، فإن ذلك خير من أن تضمه الحكومة إلى الكنيسة؟ وحيث إن الحكومة منيعة الجانب قوية الأركان، وإنها على ذلك لشديدة الأخذ، فلا سبيل لكم إلى مناوأتها، ولا فائدة تعود عليكم من وراء مضادتها ومخاصمتها، بل ربما كان في ذلك من الضير والضر ما أدهى وأمر، وكان الرجل يسمع ما ألقي عليه بكل إصغاء وانتباه ولم يقطع عليَّ حديثي ولم ينبس في غضون ذلك ببنت شفة، وبعد ما ألقيت عليه من النصائح والعظات أخذ يفهمني سبب مباغضتهم للحكومة ومناهضتهم لها، بأن ذلك ليس لمجرَّد منعها إياهم من تعمير البرج وإحالته إلى المسجدية، بل إنهم يخشون أن تحيله الحكومة إلى كنيسة؛ حيث إن جماعة «الفرنسيسكانيين» كانوا يساومون أرباب الأبنية المجاورة له وينقدون الناس في سبيل شرائها أثمانًا باهظة! ثم إنه شرع يرينا الكيفية التي سلخت بها الأوقاف منهم، وإذ رأيت أن الحديث سيدخل بنا في دور جديد مفيد انثنيت إلى الفندق ودعوته كما هي العادة الشرقية ليتعاطى معنا فنجانًا من القهوة ريثما يقص علينا هذا القصص، فدخلنا غرفتي واسترسل في حديثه قائلًا إن والده ترك له وقفًا تبلغ غلته السنوية ألفًا من «الفولورينات»، وجعل مصرفها خاصًّا بسقايات ياسي — سبل الماء — وقال: ليس يعلم إلا الله مبلغ استغرابنا ودهشتنا أنه لا يدري أين تصرف هذه الأموال وكذلك كل شيء من هذا القبيل! ثم إن أوقافنا التي كان لا يقل ريعها عن عشرة في المائة أصبحت بسبب استحواذ المصارف — البنوك — عليها لا تجود إلا باثنين فقط! وأما من جهتنا معشر البكوات عيون البلاد ومياسيرها وأصحاب الأملاك فيها فقد ضربوا على أيدينا وغلوها عن التصرف المطلق في ممتلكاتنا.
وإن عقاراتنا منقسمة إلى قسمين؛ أحدهما تحت تصرفنا التام، والقسم الآخر قد جُعل تحت تصرف الملتزم الذي يكون من قبل الحكومة، ولا يمكننا تغييره ولا إخراج أملاكنا من بين يديه حتى ولو كنا لم نساومه ونتفق معه على شيء! ثم إن هذا المستأجر المستأثر لا ينقدنا إلا ثلث الحاصلات، والثلثان الباقيان يكونان من حظه وخاصة نفسه، وما كنا لنشكو لو أن أولئك المستأجرين أهل جد وعمل يشغلون في الأراضي شغلًا نافعًا، فتنمو مواردها وتكثر حاصلاتها، ولكن ما حيلتنا وهم كسالى لا يشتغلون وأكثرهم من جماعة المسيحيين، ومن سوء الحظ يتفق أن أولئك المستأجرين يكونون من الأغنياء والمثرين الذين لا يعنيهم إلا تربية دوابهم وتنمية مواشيهم، وما لنا نحن ولذلك؛ حيث لا فائدة تعود على الملاك من ورائه.
تلك أعمالهم التي أوقعتنا في الحبالة ونحن ولا شك صائرون إلى العَيْلة والفقر، فنكون مع المكدودين البائسين مع كوننا أرباب مزارع وأصحاب ضياع! وهؤلاء علماؤنا ومتفقهونا قد أصبحنا لا نجد منهم اثنين يعرفان ما يجب عليهما تلقاء عامة المسلمين، وسبب ذلك فيما أعلم أن أكثر متعلمينا متظاهرون للحكومة بالوداد والإخلاص، وقد قطعوا ما كان بينهم وبين الأتراك من الصلات والعلاقات، والحكومة كذلك تخشى أن تعيِّن في مناصبهم من تعرف أنه من النبهاء الحاذقين؛ إذ لو فعلت ذلك لما أمكنها أن توقف ميلهم ولا أن تمنع جنوحهم إلى الأتراك، وإنكم لا بد عرفتم مما شاهدتموه في «سراجيفو» تأخرنا، وأدركتم تقهقرنا حتى لقد صرنا إلى ما ترون، وحتى إن النساء اللواتي كنَّ يحافظن على شرفهنَّ ويبالغنَ في الحرص على عوائدهنَّ أخذنَ ينسلخن عن تلك الأخلاق شيئًا فشيئًا، ولسنا نعلم عنهنَّ ذلك إلَّا من يوم ساستنا الحكومة الحالية، وإن في «سراجيفو» التي كنتم بها من مثل ذلك ما يؤيد قولي، وهكذا صار يقص عليَّ أسوأ القصص ويضرب لي الأمثال على سخائم حالهم وانصرام حبالهم، وأن الخطة التي صارت عليها الحكومة معهم قد بذرت فيهم بذر الشقاق وألقت بينهم العداوة والبغضاء، فانقسموا شيعًا وتفرقت كلمتهم أيدي سبا، وما كانوا ليعلموا من قبل أن تلك الحكومة تسوِّل لهم عملها وتملي لهم من ختلها وخداعها ما تنال من ورائه مقصدها وتحصل على مأربها، حتى تصدَّعت ألفتهم وشطت نواهم.
ثم سألته عن تلك العظام التي أسلفنا أنا رأيناها في كنيسة «الفرنسيسكانيين» وقد أودعت في صندوق من الزجاج، فقال: لعلهم قصدوا بذلك استجلاب رغبة الأهالي واقتياد قلوبهم، والفلاح من هؤلاء فضلًا عن شعوره الوطني فإنه مجبول على تكشف الأشياء مفطور على استظهارها، ولا شك أن وجود مثل هذا الهيكل مما يجتذب أفئدتهم إلى تلك الكنيسة، وإن مما لاحظته أن جماعة الصربيين والمسلمين البوسنويين قد مُلئت أجوافهم غيظًا وأفعمت صدورهم غلًّا، ولم يجدوا إلا الصبر مفزعًا واليأس مع هذا الأسى خير معوان، وبعد هذه المحادثة الطويلة تبادلنا بطاقات الزيارة كما هي العادة عند التعرف راجيًا أن أقوم له بخدمة في المستقبل، ولكني ما عرَّفته باسمي الحقيقي، ولو أني عرَّفته لأطنب في بسط شكواه وأسهب في وصف بلواه، بل ربما أسمعني في ذلك ما هو أعجب وأغرب، ثم إنه غادرنا منشرح الصدر متسليًا بما قرأه على وجوهنا من آي التألم له والتوجع عند حديثه.
ولما أن جاء وقت الظهر نزلنا إلى غرفة الطعام لنتناول شيئًا منه قبل السفر، إلا أني كنت بما سمعت ضائق الصدر …
مبارحة ياسي إلى بنيالوقا
وما وافت الساعة الثانية عشرة والنصف حتى كانت عربة السياحة التي سبق أننا أوصينا بها في انتظارنا، وهي تشبه عربات سويسرا، وتحتوي على أربعة مقاعد من الداخل واثنين على سطحها وواحد بجانب الحوذي، وفي مؤخرها صندوق حديديٌّ لوضع الأشياء ذات القيمة، ويقودها جوادان من الخيول المجرية، وفي هذا الوقت شُحن المتاع الذي ربما كان يتعذر شحنه بأجمعه لولا همة محمد جعفر وإرغامه أنف الممانعين، فوضعت الطرود الصغيرة في ذلك الصندوق الحديد، ثم إن الخدم جلسوا إلى الأمكنة التي عينتها لهم في تلك العربة، فجلس محمد آغا بجوار الحوذي وجعفر ودولت على سطحها، وأما أنا وصاحبي فكنا داخل «اللاندوه» الذي كان شطرها مفتوحًا ولم يمكننا إقفاله بالكلية بسبب ما معنا من المتاع، ثم جلسنا ننتظر سير العربة حتى سئمنا الانتظار، وما كان أشبهها وقتئذٍ بقطارات إيطاليا التي تظل واقفة بركابها بعد أخذ إشارة القيام زمانًا طويلًا …
سرنا وكان صاحب النزل واقفًا لوداعنا وهو باش الوجه مبتسم الثغر، وإذ نحن مارون بحديقة صغيرة رأينا ذلك البك الذي أسلفنا حديثه ينتظرنا ليودعنا كذلك، فودعناه وسرنا بسلام.
بارحنا «ياسي» هذا البلد الذي لم نكن لنُسَرَّ بمفارقة بلاد البوسنة بأكثر مما كنا نأسف على فراقه، فلقد وجدنا من حسناته ما ذهب بسيئات غيره إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، ولئن كانت كل بلاد البوسنة ذنوبًا فلقد رأينا لها من «ياسي» أحسن العذر وأجمل الغفر.
استطراد في السياحة
على أني ويعلم الله كنت بين تلك الحوادث كأحسن ما أكون لذة وسرورًا؛ إذ إني استفدت بمزاولتها وممارستها من الدروس النافعة الجمة والفوائد الكثيرة ما لولاها لم يكن أبدًا، والذي كان يحببها إليَّ ويسهلها عليَّ إنما هو كلفي بالعلم وشغفي باستكشاف ما يكتمه ذلك الوجود الكبير في صدره ويطويه هذا العالم الخطير تحت جناحه، فلما أصبحت أراني أضم إلى علمي بمشاهد أوروبا وما تحويه جوانحها من الغرائب والعجائب علمًا جديدًا بهذه الأقطار النائية وما طوت، وتلك البلدان القاصية وما حوت، لا أجدني أبالي بمفاجأة الحوادث مهما بلغت ولا بمناوأة الكوارث كيفما عظمت، بل إن الذي يهمه العلم لا يجد الفائدة تامة ولا يحصل على الغرض كاملًا، إلَّا حيث يتلقى دروسه عن أفواه تلك الحوادث، وإلَّا حيث يثبت أمامها، ويجلس بين يديها وهو ولا ريب لا ينال من علمها ومعارفها إلَّا ريثما تبلغ هي من قوته وثباته، نعم ولا ينتفع بها في مآربه إلا قدر ما يعطيها من إقدامه ونشاطه، وقد قيل:
أما والإنسان يخشى مقابلتها ويتهيب لقاءها، فقد وقف به ضعفه، وقعد به عجزه، حتى إنه ليرى أن يمسك بالسماء أو يأخذ بزمام الجوزاء أسلس له من موافاتها وأسهل عليه من مداناتها، فتكون نتيجته الخسار وغايته الحرمان.
الإنسان بطبعه جنوح إلى رؤية الغريب، ميال لاكتشاف الجديد «ولكل جديد لذة»، وقد يصادف هذا الميل من الظروف والمقتضيات ما يقويه ويقوِّمه، حتى يصير طبيعة مفطورة وجِبِلَّة راسخة، كما قد يعتوره من العثرات والموانع ما يوهيه ويوهنه، ولربما ذهب به ومحا من النفس أثره، ولقد غالى بعض الناس في أمر السياحة والاكتشاف حتى وقفوا لها نفوسهم وقصروا عليها أعمارهم، فاستفادوا وأفادوا علمًا بالبلاد وإحاطة بطبائعها دروسًا نافعةً في أخلاق الناس وعوائدهم، وإن وراء ذلك من التمدن والتمدين ما لا يخفى على أحد، والحق أن أعظم فتح يُعرف في هذه القرون الأخيرة لم يكن الشأن فيه للرماح المثقفات والقسي المعطفات، كلا ولا للأسنة القواطع والنصال اللوامع، بل الفضل كل الفضل راجع ولا مرية إلى السياحة والاكتشاف، نعم قد تتفاوت المشارب وتتباين الأغراض في القصد إلى السياحة، إلا أني أشبه بمجموع أغراضها ومزاياها بالنخلة، فكل ما فيها من جذع وفرع وطلح وطلع وصنو وقنو طيب نافع مفيد، كما وأني أشبه السائح في ظعنه وإقامته بالمخترع يقصد إلى عمل مخصوص في نفسه حتى إذا هو مارس الطبيعة وعالج تراكيبها وتحاليلها، وأعمل فكره في خواصها ومزاياها ظهر له «عرَضًا» في غضون عمله من نفيس الأسرار وغريب الخواص ما لا يرى غرضه شيئًا في جانبه «ورُبَّ عرَض فضل جوهرًا».
سافرت إلى بلاد البوسنة لأغراض ثلاثة؛ الأول: تغيير الهواء وتبديل المناخ ومشارفة مناظر الطبيعة. الثاني: التدرب بالسياحة في تلك البلاد على اجتياز ما هو دونها مدنية وأقل حضارة. الثالث: معرفة عوائد القوم واكتناه أحوالهم والوقوف على أخلاقهم. فرأيت هنالك بطريق «العرَض» من مهام الأمور وعظائم الآثار ما لم تكن مقاصدنا الأولى معه شيئًا مذكورًا، وخصوصًا ما يتعلق بالمسلمين في أموالهم وآمالهم ومعارفهم وعلومهم وحياتهم السياسية إلى غير ذلك مما هو مبسوط في هذه الرحلة.
عود إلى بدءٍ
هذا والغريب أن الحوذي لم يكن لينبه المارة بنفخ البوق ولا قرقعة السوط — الكرباج — كما هو المعروف من الحوذيين في مثل ذلك، بل إنه كان يصفر بصفارة صغيرة، ثم لما جاوزنا البلدة وسرنا في الخلاء أسرعت المركبة؛ حيث الطريق مستوٍ معتدل، وهو آخذ في طوله بموازاة نهر «فورباس»، وما زلنا نقطع المزارع والحقول ونمر ببلاد صغيرة، حتى دخلت بنا العربة نفقًا في الجبل يبلغ طوله مائة وخمسين مترًا، وقد أضاءوه بلمبتي «بترول»، وتلك أول مرة مررت بالأنفاق واجتزت فيها بطون الجبال، وتركنا هذا النفق إلى أودية ضيقة جدًّا حتى كان يُخيل إلينا أن الجبلين متلاصقان، وإذ ذاك رأينا نهر «فورباس» يتحدَّر بقوَّة عظيمة، ثم أسلمتنا تلك الأودية إلى نفق آخر ولكنه لم يبلغ طول الذي قبله، ثم عبرنا النهر على قنطرة حديدية تباطأ الحوذي عندها في السير، ولست أدري لِمَ ذلك والجسر كان صلبًا متينًا؟ وما زلنا نسير تارة عن يمين النهر، وطورًا عن شماله، وكنا نرى عناية القوم بتنظيم الطريق شديدة عظيمة؛ إذ كنت أرى من وقت لآخر الفلاحين وبعضهم منهمك في تكسير الحجارة وتجهيزها، والبعض الآخر مهتم بتطهير المجرى المحاذي للطريق، وبعد مضي ساعة ونصف أخذ الحوذي يمشي الهوينى حتى وقف على ينبوع ماء هناك مخصوص يسقي الدواب، ومن هذا الينبوع سقى الحوذي خيله واستأنف السير، فدخلنا بين جبلين حسبناهما لشدَّة قربهما متلامسين، وأجمل ما رأت عيني هناك منظر الأشجار الكبيرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، وأذكر أنه لم يقع نظري على أسمك جذوعًا ولا أسمق فروعًا منها في بلاد البوسنة، وأنها مع كثرتها وتنوعها لا يوجد بينها شجر «السرو»، والذي كان يزيد في حسن ذلك الشجر أنه كان لمحض الطبيعة وليس ليد الصناعة مدخل في تنسيقه؛ إذ كنا نرى بعضه طريحًا على الأرض وبعضه هشيمًا تذروه الرياح، والبعض منه مُلقى في مندفع المياه، ثم إن الميت منه كاسٍ بالنبات الطبيعي المسمى في عرف العامة «بعش الغراب» وهو نبات ذو شوشة بيضاء شبيهة بأجراس الكنائس، ولقد عجبت كثيرًا لرؤية تلك الأشجار التي لم أرَ غراسًا بلغ في طوله وضخامته مبلغها، وكان لي منها أعظم درس في الدويبات الصغيرة التي تنخر الأشجار وتنفذ في مسامها، ووقتئذٍ تذكرت صديقنا الدكتور زنباكو باشا؛ حيث إنه مغرم بمشاهدة الأشجار، وطالما تشكى من الإهمال في تعهد الأشجار المغروسة على حافتي شارع الأهرام في مصر وعدم العناية بها.
أما تلك الدويبات فمنتشرة انتشارًا عظيمًا، حتى إنها لم تقنع من مئونتها بتلك الأشجار على عظمها ووفرتها، بل تجاوزتها إلى الخشب التي أقيمت حجازًا على حافتي الطريق، مع أنها يابسة ومنتقاة من أجود الأخشاب وأصلها كيما تعيش زمنًا طويلًا، ولكن أنَّى لها ذلك وقد وجدت فيها السرفة مأوى طيبًا وطعامًا سائغًا! وقد سبق أني رأيت هذه الدويبات الصغيرة في مصر تنخر الأشجار وتتخذ فيها المنافذ حتى تأتي عليها، فإذا ما كبرت كانت «الفراش» الحيوان الذي يعرفه المصريون «بأبي دقيق»، وكان يشق على نفسي رؤية تلك الأشجار العتيقة مصابة بهذا الضرر العظيم والتلف الجسيم؛ حيث كنت أرى بعضها وقد تآكلت فروعه ولم تبقَ إلا جذوعه، والبعض مصابًا في شق سليمًا في شق آخر، وأكثر تلك الأشجار إصابة وأبلغها تلفًا ما كان قريبًا من النهر أو مدانيًا للطريق، ولست أدري إذا كان هذا الداء تسرب إلى الغابات لعدم وصولي بعد إليها، أما المنظر فكان بعد ذلك طبيعيًّا محضًا والطريق موحشًا طامسًا، وكانت الجبال معرَّاة من النبات لعلوِّ كعبها عن الأشجار، أما شكلها فكان عموديًّا بحيث يتعذر تسلقها، ولا أحسب أن هناك موجبًا للعناية بذلك الطريق الذي يمتدُّ إلى مسافة ٧٥ كيلومترًا إلا جمال المنظر وحسن المخبر، وأما الأهالي الذين كنا نصادفهم في طريقنا حتى النمساويين المترئسين أشغال الطرق فمؤدَّبون جدًّا، وهم يسلمون بكل خشوع واحترام على من يمرُّ بهم من جماعة السياح.
وفيما نحن سائرون قابلنا ضابطًا من «الهوسار» ممتطيًا درَّاجة، وخادمه يسعى خلفه، وفي أثرهما مهران يعدوان وراءهما ويقتفيان أثرهما خطوة بخطوة كأنهما يعقلان، وقد ظنَّ الحوذي أن هذا الضابط إنما يدرِّب نفسه على ركوب العجلة، ولكنا رأينا ونحن في منعطف الطريق جملة من العربات تحت ملاحظة بعض الجاويشية وفي مقدمها بعض الجنود يقودون عددًا من المهاري لا نحسب إلا أنها من نتاج إصطبلات الحكومة، ولقد ارتاحت نفسي وانشرح صدري برؤية تلك الأمهار حتى إذا هي أجلت، مرَّت نحو الأربعين عربة من عربات الجهادية وهي تابعة لجملة آلايات من الجيش، وفيها بعض المهمات مثل السرر الحديدية وكمية من العلف كالتبن والشعير، وكل عربة من هاتيك مخفورة باثنين من جنود الآلاي التابعة له العربة، وهؤلاء أدُّوا لنا السلام العسكري فرددنا لهم بكل احترام.
أما خيولهم فكان يزيد حسن نظافتها في كمال رونقها وجمال منظرها، والكثير منها كان حروريًّا خفيف الحركة، وبالجملة فتلك الخيل المسوَّمة جديرة لعمر الحق بأن تكون أنعم بالًا وأسعد حالًا مما رأيناها فيه، وبعدما جاوزنا تلك العربات التي كانت تتزحزح جانبًا إذا نحن مررنا بجانبها، وتدع لعربتنا من الطريق المكان الفسيح، رأيت بغتة على بعد مائة متر تقريبًا نسرًا كبيرًا هابطًا على غصن شجرة، وكان حجمه لا يقل في نظري عن حجم الحدأة ثلاث مرَّات، فاقتربنا منه حيث كان مجثمه على بعد ستة أمتار من الطريق، على أن النسر الملوكي لم تأخذه روعة ولم يبدِ حراكًا، فدلفنا إليه بضع خطوات وأوقفت العربة، وحيث لم يكن عندي تصريح بحمل السلاح هناك سألت الحوذي هل يتاح لي أن أطلق مسدسي لما كنت عالمًا بشدَّة قانون بلاد البوسنة بخصوص حمل السلاح، وسبب ذلك أن الأهالي قوم شديدو العبوس لا يكاد يفتر لهم ثغر وهم يميلون بطبائعهم إلى المشاغبة والمحاماة عن نفوسهم بأية وسيلة كانت، غير أني لعدم ضياع الفرصة وانصرام الوقت أخرجت مسدسي من قرابه والنسر لا يزال ثابتًا، وهو منا على قيد عشر خطوات، ولقد كنت أظن أنني أصيبه بسهولة، ولكن كيف ذلك والنسر أبلغ منا حيلة وأشدُّ مكرًا؛ إذ تدارك نفسه وطار حتى نزل إلى الشاطئ الثاني من مجرى النهر، فكان حينئذٍ قصيًّا على السهم بعيدًا عن الرمية، والخطأ إنما كان من أتباعي الذين اشتدَّت ساعتئذٍ جَلَبَتهم وعلت صيحتهم، وأما أنا فقد بلغ مني الأسف على ضياع الفرصة وإفلات تلك القنيصة بما أن هذا النسر كان جميل المنظر حسن المرأى، وهو يشبه العصفور المسمى «كوندور» بأمريكا الجنوبية، أسود الأديم غير أن رقبته كاسية بالريش الأبيض، وكذلك برجليه قطعتان بيضاوان، ولقد رأيناه يصف على النهر صفيفًا ويضرب بخافيتيه على سطح الماء بكل خفة، فعلمنا أنه من النوع الذي يغتذي بالأسماك.
أما الحوذي فلأجل أن يخفف أسفي ويهون عليَّ بعض الشيء أكد لي أننا سنجد في طريقنا كثيرًا من مثله، فاستأنفنا السير مستمرين في طريقنا، فرأينا عن بعد محلًّا من الخشب — كشك — فدل لنا أننا في منتصف الطريق وهو عبارة عن محطة تُستبدل فيها الخيول التي أخذت شوطها بغيرها، وهو أودة بسيطة وأمامها بعض طاولات — مقاعد — من الخشب، وعليها سقف مرفوع خشبي أيضًا ليمنع ما عساه ينزل من المطر وغيره عن جماعة السياح الذين يريدون الإيواء إلى هذا المكان للراحة أو تناول شيء من الطعام، ووجدنا عند صاحبه ثلاثة أقفاص فيها عصافير كبار، وكنت أعرف ما في اثنين منها — وهي من النوع الذي يشدو ويتغنى — وأما العصفور الذي في القفص الثالث فقد علمت أنه من صيد تلك البلاد ولكن لست أدري من أي الأنواع هو، وقد تناولنا في الفرصة التي كانوا يعدون فيها العربة فنجانًا من الشاي وأكلنا خبزًا ومربى، وقد لج صاحب المحل وشدَّد كثيرًا في أن أعاود زيارة تلك البلاد في السنة المقبلة، وليكثر من رغبتي كلمني في صيد السمك وأخبرني بأنهم يصطادون في هذه النقطة من صنوفه صيدًا عظيمًا ربما زاد عن الصيد المشهور في بلاد «الإيكوس»، ثم استطرد فتمدح بذكر الصيد والقنص هناك، وأكد لي بوجود «التيس البرِّي» الوحشي والنسور والدببة الصغيرة وغير ذلك، وبعدما مكثنا زهاء العشرين دقيقة ركبنا العربة ثانيًا وسرنا متجهين إلى «بنيالوقا» وكنت مشوقًا لتحقق ما أخبرني به ذلك الرجل «البقال» الذي غادرناه من أن في إمكاننا عند مغيب الشمس رؤية سرب النسور في تلك المنافذ المنحوتة في الصخور التي هي أوكار ملوك الهواء «النسور» ووكناتها.
وكلما مشينا رأينا الطريق يزداد وحشة وبعدًا عن التنظيم، حتى كان بعدُ طبيعيًّا محضًا، والحق أن يد التمدن لو لم تلمس تلك البقاع، لكان من الصعب الشاق على الإنسان المرور بين تلك السلاسل من الصخور التي يكوِّن تلاصقها ومجاورتها لبعضها المئات من المغاور الرحبة والكهوف الواسعة التي يمكن أن يسع الواحد منها خمس عشرة نسمة، وكان لون تلك الصخور بسبب هطول الأمطار الكثيرة عليها قاتمًا، وعند مغيب الشمس تنبهت إلى رؤية النسور حسبما أخبرني ذلك الرجل، وحدَّقت نظري فرأيت حقيقة على باب كل نافذة نسرًا، وعلى سبيل المفاكهة والتسلية أردت أن أذعرها، فعمدت إلى الغدارة — المسدس — وأطلقت ثلاث طلقات على ثلاث نوافذ، فرأيت جملة من النسور تبلغ العشرين قد حلقت في الجو فزعةً مع تلك الثلاثة التي زجرتها من منافذها بالسهام زجرًا، ومن الأسف أننا لم نكن مستعدين لهذه القنصية حق الاستعداد ولم يكن بين أيدينا ما يلزم لها، ثم إننا تركنا الجزء الجبلي الممتلئ بالسهول والحزون إلى سهل منبسط، وسرنا في وادٍ ممتد حتى مررنا «بكروبه» وقد أرانا الحوذي في تلك النقطة تلًّا مملوكًا لأحد البكوات في «بنيالوقا»، وزعم أن في هذا الجبل أيسر الصيد وأحسنه في كل بلاد البوسنة، ولكن مع الأسف لم يكن صاحبه بالذي يعرف الصيد أو يميل له، وبعدما سرنا طويلًا دخلنا واديًا يظهر أنه مملوك «لبيك» آخر، وهذا الوادي محفوف بغابتين عظيمتين وهما مملوكتان للحكومة، ولما كانت الحيوانات التي تصاد فيهما قليلة فهي إنما تعوِّل على الانتفاع من تينك الغابتين بقطع أغصانهما وقلع جذوعهما لاتخاذ الأخشاب منها.
وفيما نحن سائرون سلم الحوذي على رجل من «البوسناك» لابس للطربوش، وكان حينئذٍ يتوضأ، فسألت الحوذي عنه فأجابني بأنه أحد أنجال «البيك» صاحب هذه الأراضي، ولقد رأينا الجزء المنزرع في تلك الأرض صغيرًا بالنسبة لما لم يزرع منها، ثم مررنا بأربعة بلاد صغيرة وما كدنا نفوتها حتى شاهدنا عن بعد «بنيالوقا».
في مدينة بنيالوقا
وإذا هي بلدة قد استعاضت في طولها ما تركت من عرضها؛ إذ كانت ممتدَّة في وادٍ قليل العرض عظيم الطول، ولما أن دخلناها لم نجد فيها إلَّا شارعًا واحدًا آخذًا من أولها إلى آخرها، فسرنا في ذلك الشارع حتى انتهينا إلى آخره، وهناك كان الفندق الذي نزلنا به، وإذ دخلنا من بابه رأينا صحنه «كحوش» الدواب في بلادنا؛ إذ كان مرتعًا للدجاج والبط والديكة، وقد استودعت زواياه بعض عربات النقل، فأخذنا صاحب هذا الفندق الذي كان ينتظرنا على بابه إلى محالنا، فرأيت الغرفة التي خُصصت لي واسعة وفيها سريران، وكانت غرفة محسن بك على عكسها وليس فيها غير سرير واحد، أما الخدم الثلاثة فقد اكتفوا بأودتين ثنتين، وبعد أن استرحنا قليلًا وغسلنا وجوهنا نزلنا قاصدين إلى غرفة الطعام للعشاء، ولكن أين هي تلك الغرفة التي حاولنا معرفتها فلم نجد لها في ذلك النزُل عينًا ولا أثرًا! حتى هدينا إليها في جهة يفصلها عند الفندق شارع! وفضلًا عن ذلك فقد رأيناها أودة قذرة وهي مضاءَة «بالكبريت»، فطلبنا من الطعام ما تهيأ فقدِّمت لنا قطعة من اللحم المطبوخ «بالصلصة» وكانت لذيذة الطعم، فأملنا أن كل الصحاف تكون على هذه النسبة، وبعد العشاء صعدت إلى غرفتي التي كانت مضاءة «بالشمع» ليس إلَّا، وإنه ليشق على الإنسان أن يبصر في مثل تلك الردهة الواسعة التي لا يقوى عليها مثل هذا السراج الضيئل.
ولما كنت مضطرًّا إلى الكتابة في رحلتي طلبت إلى الخادمة أن تأتيني «بلمبة» بترول فأظهرت اهتمامًا بهذه المهنة غير أنها جاءت بعد «بلمبة» في منتهى القذارة، ويعلم الله أن تلك الخادمة نفسها كانت بعيدة من الحسن بريئة من الجمال، ولكيلا تدع من القبح شيئًا كان صوتها جهيرًا مزعجًا.
جلست أسطر في رحلتي، ولكن لما كنت أجد من التعب لم أستطع مع الكتابة صبرًا، فلم يسعني إلَّا تحرير صحيفتين فقط، ثم عمدت إلى النوم، ولكن لسريان الضوضاء إلى أذني من سكان الردهة المجاورة لم يتيسر لعينيَّ الإغماض، وخشيت أن أبيت كذلك طول ليلي، ولكن ولله الحمد غلب سلطان النوم على جيراني فنمت كذلك آمنًا مطمئنًا.
وفي الصباح نهضت لأزور البلد كما هي عادتي، فرأيت أن أسأل أولًا بوَّاب النزُل الذي كان رث الهيئة قذر الثياب عن المعاهد التي يجمل بالسياح أن يزوروها، فأجابني بأنه لم يكن هناك ما يختلف إليه ويتفرج عليه سوى دير «الدومينيكان» وفابريقتهم، وإن هي وايْمُ الله إلَّا إحدى الأحابيل التي ينصبونها للأهالي والأشراك التي يتصيدون بها الناس «للكنيسة»، وإذ علمت أنه ليس ثَمة ما يهمنا زيارته صممت على الذهاب إلى «المحطة» للاستفهام عن مواعيد القطارات وأخذ التذاكر أيضًا.
وحيث كانت تلك «المحطة» قريبة من الفندق ولا حاجة بنا إلى الركوب إليها سعينا لها مشاة، وهناك وجدنا واحدًا من مستخدميها نحيف الجسم فأشار لنا بإصبعه إلى جدول السكة، ونصح لنا بأخذ قطار الساعة السابعة صباحًا، الذي يصل إلى «أجرام» حيث تكون الساعة ثمانية والدقيقة ٣٢، ثم جلسنا إلى كراسي من الخشب ننتظر — بغير رجاء — مرور عربة؛ لأن هذا البلد خلو من العربات، اللهمَّ إلَّا تلك المركبات المبسوطة المملوكة للفنادق والمخصوصة بالبعض من سراة الأهالي، فطلبنا أخيرًا إلى صاحب الفندق أن يحضر لنا عربة وهو عهد بهذه المأمورية إلى رجل هناك خلق الثياب ينتعل في قدميه «مركوبًا» أخنى عليه الدهر حتى غادر فيه للريح مخترقًا ومجالًا.
وإن هذا الرجل لأشبه ما يكون بزمرة اللصوص، وإني إن كنت رأيت من الفقراء والمساكين عددًا كثيرًا إلَّا أني لم أرَ فيما بينهم من هو على شاكلة هذا الرجل ولا في هيئته وصورته.
استدعاء فجائي مخوف
وكان ذلك في وقت الصباح، ولما أن كان هناك وقت فسيح قبل الغداء عدنا إلى الفندق وصعدت إلى غرفتي لأستريح هنيهة، وبينا أنا كذلك سمعت إنسانًا يقرع الباب، فأذنت له في أن يدخل، وإذا به رجل من رجال البوليس طويل القامة، فاستغربت مفاجأته على غرَّة لغير مناسبة، فسألته ماذا تريد منا؟ ولأي شيء جئت إلينا؟ فخاطبني باللغة الصربية، ولما لم أفهم من كلامه مراده استحضرت محمد آغا ليترجم لي خطابه ويبين غرضه، فعرفت أنه رسول المحافظ إلينا ليطلبني وصاحبي إلى دار المحافظة في الساعة الثالثة بعد ظهر هذا اليوم! فقلت له: إنا طائعون ومتقبلون لهذا الأمر، وسنكون إن شاء الله في دار المحافظة عند الوقت المحدود. ثم ذهب الرجل على ذلك، وأما أنا وصاحبي فقد استغربنا ذلك الطلب الذي فاجأتنا به المحافظة، وإنه لا مقتضى هناك ولا سبب! ولكني أدركت أن الخادمة التي كنت طلبت منها «اللمبة» بدل الشمعة قد رأتني وأنا أكتب على ورق أبيض كبير فأبلغت المحافظة أو من يبلغها ذلك أننا من الجواسيس؛ لأن المستخدمين في تلك البلاد الصغيرة لهم مع الحكومة معاملة من هذا القبيل، ثم إننا بعد أن تناولنا طعام الغذاء قلت لمحسن بك: يلزمنا الآن أن نلبس «البدلة الردنجوت» لنكون على هيئة رسمية، وإذ ذاك أمرت الخادم الجركسي بأن يحرس متاعنا ويحتفظ به، وخصوصًا الصندوق الذي أودعنا فيه نقودنا اللازمة لسياحتنا، وفي ذلك الوقت نفسه أرسلت صورة ثلاثة تلغرافات منها واحد لسراي الإمبراطور، وآخر لسفير الدولة العلية، والثالث لسفير الدولة البريطانية، وذلك لأجل الاحتياط مما عساه يحصل لنا من الحبس أو المشاكل.
وقبل أن تحين الساعة الثالثة بخمس دقائق ركبت أنا وصاحبي العربة وأخذنا معنا محمدًا آغا الذي تركناه بعيدًا عن المحافظة ليراقبنا ويلاحظ من بُعد ما ربما يحدث لنا، ولما أن وصلنا إلى دار المحافظة استقبلنا سبعة من رجال البوليس، فنزلنا ووقفنا ننتظر حينئذٍ ماذا يقولون لنا، ولكنهم لم يقولوا شيئًا حتى مضى ربع الساعة ونحن واقفون على سلم الباب، ولم نرَ منهم شيئًا سوى أنهم كانوا محيطين بنا إحاطة السوار بالمعصم، فتكلمت معهم باللغة النمساوية قائلًا: يا أيها الناس إنا كنا مطلوبين في الساعة الثالثة، وها هي الآن ثلاثة وربع، فخبرونا عن سبب ذلك الطلب، وإني:
ولما لم يفهم خطابي أحد منهم وهم جميعًا سكوت لا ينطقون، عدلت عن الكلام باللغة النمساوية إلى الكلام باللغة التركية لعلهم يفهمون فقلت: يا هؤلاء أليس منكم رجل يتكلم باللغة التركية؟ فنهض من بينهم رجل هرم قائلًا: إن المحافظ الذي هو قومندان البوليس ومأمور المركز بل وكل شيء لم يأتِ حتى الآن، وعن قريب يجيء، فترجيته في أن يأتينا بكراسي نجلس عليها ريثما يحضر ذلك المحافظ؛ حيث لم نكن من الذين قتلوا ولا أجرموا أي جرم كان، فقال: أما إذا كنت تريد الجلوس والراحة فعليك بالقراقول، مشيرًا إلى أودة قذرة، وما كاد يتم حديثه حتى قدم جناب المحافظ «بسلامته» وإذا هو رجل عبوس الوجه وعليه تظهر إمارة الكبرياء والعظمة، وكان يمشي وراءه حين دخل دار المحافظة كلب كبير وما أدراك ما المحافظة؟ هي طبقة واحدة لا تحتوي إلَّا على أربع غرف!
ولما مضى خمس دقائق من دخوله أرسل إلينا من ينادينا إليه، فدخلنا عليه وكان جالسًا إلى مكتبه وكلبه تحت قدميه وعلى يمينه مسدس، فالتفت وراءنا فوجدتُ عسكريًّا واقفًا على باب ذلك المحل، ثم رأيت كل شباك عليه كذلك عسكري يحرسه، أما المحافظ فقد أوقفنا أمامه كما يقف المذنب المجرم، وأخذ يسألنا من أنتم؟ ومن أين جئتم؟ ولأي شيء أتيتم بلاد البوسنة والهرسك؟ وكم يوم أقمتم في تلك البلاد؟ ولما كنت موجودًا أمام أحد موظفي الحكومة في بلد كانت آخر محطة في بلاد البوسنة لم أرَ بأسًا من التصريح له باسمي الحقيقي، بل رأيت أن الواجب في هذا المقام هو ذلك، فقلت له: إني أنا الأمير محمد علي باشا شقيق الجناب العالي خديوي مصر، وإن هذا صاحبي محسن بك راسم نجل أحد كبراء بلادنا ومن ذواتها المقيمين بالإسكندرية، فلم يصدق بكلامنا ولم يقتنع بتعريفنا، بل طلب منا أن نبرز إليه «البزابورت»، فقلت له: إني حينما سألت في «فينا» عما إذا كان يلزمنا استصحاب «بزابورت» في بلاد البوسنة أو لا، قالوا لا حاجة لكم به ولا داعي إليه؛ حيث إن بلاد البوسنة تابعة لبلاد النمسا، فخاطبني بشدَّة وحدَّة قائلًا: أما البزابورت فإنه يلزم دائمًا في بلاد البوسنة والهرسك، فقلت له: إذا كان الحال كذلك فلمَ أباحوا لنا الدخول في الحدود؟ على أنهم قد سألونا عندها عن مدة إقامتنا في تلك البلاد، وسألونا أيضًا عن عنصرنا ولم يسألونا عن ذلك البزابورت، ولو كان كما تدعي لازمًا في كل بلاد البوسنة والهرسك دائمًا لكان أول مسئول عنه، ولكان أولى بالسؤال من كل ذلك! كل هذا والرجل لم يقتنع، فأدركت أنه لا يزال يسيء الظنَّ بنا ويفهم أننا من أولئك الجواسيس أو شيء نحو ذلك، وعندئذٍ قلت له: يا جناب المحافظ إني لمستغرب من أنكم تعاملون بهذه المعاملة القاسية أناسًا لا يمكنك أن تستدل على شرف نفوسهم وكرم عنصرهم بأكثر من أنهم يسافرون المسافات القاصية والأقطار النائية في أعلى درجات السكة الحديدية، خصوصًا إذا كان معهم ثلاثة من الخدم يركبون في الدرجة الثانية التي يركب فيها أكابر مستخدمي الحكومة النمساوية، وينزلون في أرفع الفنادق ويتخيرون أعظم غرفها، ذلك فضلًا عما يلوح على وجوههم من سمات المجد وعلامات الحسب، أفلا يكون كل هذا دليلًا على أنهم من أشراف الناس وخيرهم؟
فقال: إن بلاد «المسكوف» كثيرًا ما أرسلت من أعاظم رجالها وأمرائها لتثير عواطف الأهالي الصربيين الموجودين في بلاد البوسنة وتهيجهم على الحكومة، أليس من الجائز أن تكونوا من مستخدمي الدولة العلية أرسلتكم لمثل هذا الغرض؟ وإنه إذ لم يكن لديكم ما يثبت لي حقيقة من أنتم ولا ما يستدل به عليكم، فلا يمكنني أن أطلق سراحكم ولا أن أخلي سبيلكم، اللهمَّ إلَّا إذا جاءني نبأ من البلاد التي سحتم فيها يفيد أمركم، ويبين لي حالكم، وقد ساعدني الحظ إذ وجدت وأنا أفتش في جيبي ورقة قد كتب فيها سفير النمسا بباريس لمستخدمي الكمارك النمساوية، ينهاهم فيها عن أن ينقضوا المتاع المختص بشقيق سموِّ الجناب الخديوي الذي يسافر متسترًا باسم «محمد رستم بك» وفي معيته محسن راسم بك وثلاثة من الخدم، فقلت له ألا يكفيك في إثبات ما ذكرنا أن أقدِّم لك ورقة من أحد رجال حكومتك، بل من أعاظم مستخدميها؟ فقال: نعم. فأبرزت له تلك الورقة التي ما كاد يراها إلا خلى سبيلنا.
وعند ذلك قلت له: يا سعادة المحافظ إنك بلغت منا ما أردت، وإنا كذلك نحب أن نبلغ منك ما نريد وليس ذلك إلَّا أن ننصح لك ألا تتسرع في أمرك وألَّا تشتطَّ في حكمك، فلقد أفضى بك تسرعك إلى أن تعامل الأمراء معاملة الوضعاء، وأن تؤاخذ الأبرياء مؤاخذة السفهاء، أرأيت لما أمرت بحضورنا في الساعة الثالثة بعد الظهر هل تأخرنا أو جئنا طائعين، أينبغي إذن أن يحيط بنا سور من عسكرك كأننا اقترفنا إثمًا أو أتينا منكرًا، ذلك فضلًا عن وقوفنا منتظرين نحو ثلث الساعة أمام الباب فوق المرمر، ولا يخفى عليكم ألم الانتظار خصوصًا في ذلك الموقف البارد! ثم أمرتم بالدخول وكانت أودتكم غاصة بالكراسي أفلا كان يجمل بك ونحن ضيوفك وقوم غرباء في بلادكم أن تأذن لنا في الجلوس، وأبيت إلَّا أن نقف منك موقف المذنبين، وأن نكون عندك في مكان المجرمين؟ وما أدراك أني بسبب ما لحقني من الكدر أشكوك إلى حكومتك النمساوية التي نشأتُ فيها وتربيت في بلادها، وأعرف عظماءها وكبراءها، وأخي صاحب الأسرة الإمبراطورية، وفوق ذلك فإني أعرف ابن والي بلاد البوسنة «الكونت كلي» وكان معي في فصل واحد أيام التعليم في فينا، فكنت تُساء من وراء ذلك إساءة بالغة، وتُضَرُّ ضررًا عظيمًا، ولكن لتعلم أننا من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، ولكي أبين لك أن العفو من شيم الأمراء وأخلاقهم، وأنهم أقرب إلى الصفح منهم إلى الانتقام فقد عفوت عنك وسامحتك. ثم غادرناه ورجعنا إلى الفندق ضاحكين من تلك الحادثة التي فاجأتنا على غير انتظار.
ختام السفر والرجوع إلى مصر
وفي صباح اليوم الثاني حيث كانت الساعة السابعة ركبنا القطار الذي وصلنا فيه إلى «أجرام» عاصمة بلاد «قرواسيه»، ومن تلك البلدة ركبنا القطار الذي يوصلنا إلى «تريستا»، ومن هناك أبحرنا قافلين إلى أوطاننا، وهنا يجدر بي أن أشكر من صميم فؤادي «سعادة صديقي المفضال محسن راسم بك»؛ حيث إنه حفظه الله رافقني فأحسن المرافقة، ووافقني فأجمل الموافقة، وقد شاطرني ما عانيته من تعب ومشقة، وما عاينته من راحة وسرور في طول ذلك السفر الذي أسفر لي عن حسن شمائله وجميل خلاله وكرم أخلاقه ورقة عواطفه، ولا غَرْوَ فذلك ما كنت أنتظره من شاب مهذب قد تربى في حجر النعمة والسعادة، ونشأ في مهد الفضيلة والكمال.
كلمة الختام
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ يا من بيدك الهداية والعصمة من الغواية، أبرأ إليك يا ذا القدرة والطَّوْل من القوَّة والحَوْل، وأعوذ بك من نزعات اللسان ونزعات الجنان، وأستمنحك العفو من سقط الكلام وفلتات الأقلام، فلسنا من أهل البراعة في اليراعة، ولا من عياهل التعبير في التحبير، وندعوك أن لا تؤاخذنا ببادرة، ولا تعاملنا يا مولانا إلَّا بما أنت أهله من العفو والكرامة، فأنت أهل التقوى وأهل المغفرة، اللهمَّ إنا نحمدك حمد من أرسلت إليه من جميل نعمائك، وأفضت عليه من جزيل آلائك، ما ضعف عن تقفية ذكره، وعجز عن توفية شكره، فإنك يا ربنا أجلُّ وأعلى من أن تُفيد من ثناء عبدك على عطائك ورفدك، وإن فيما أثنيت على نفسك تعالت أسماؤك ما لا يبلغ العباد حدُّه، ولا يستطيعون على مرِّ الأدهار عدُّه، فأنت مفيض الخير ومنك الثناء، وأنت مصدر الحمد، ومن لدنك العطاء، وأشكرك بما تعينني على أدائه من صيغ الثناء والحمد على ما قويتني وهديتني إلى سياحتي هذه، التي لولا معونتك وفضلك ما نقلت إليها قدمًا ولا جرَّدت لها قلمًا، ولكن أبى إحسانك سبحانك إلَّا أن أنلت مسلمًا يحب المسلمين مأموله، وساعدته بمحض كرمك على أن يطالع بنفسه أحوالهم، ويكتنه أخبارهم، ويتبحث آثارهم، فإذا وجدهم في عافية وسرور شاركهم في جذلهم وشاطرهم في سرورهم، وإن هو رآهم على ما لا يحب من وهن العزيمة وانشقاق العصا، قاسمهم كدَّهم وساهمهم كدرهم، وعلى كلتا الحالتين إذا هو رأى بعضهم على الطريقة المثلى عضدهم وحثهم، أو ألقى غيرهم على المحجة السوءَى نصح لهم ووعظهم بقدر ما تمكنه الأحوال وتسمح له الظروف.
ولقد ارتحلت إلى بلاد البوسنة فرأيت — ولله الحمد — مسلميها على أحسن ما يكون من القوَّة والمَنَعة والحب لدينهم، والتمسك بأخلاقهم والتشبث بعوائدهم، نعم وإن يكن داهمهم صرف الليالي، وعكست حظهم الأيام، فأصبحوا مُسودين لسواهم بعد ما كانوا كرماء سادة، وأمسوا مسوسين لغيرهم بعد أن كانوا عظماء قادة، فلا شك أن حفاظهم وإباء نفوسهم وشمم أنوفهم وأخذهم بعصبيتهم ستدين لهم إن شاء الله رءوس الأيام، وتسمو بهم بحول الله إلى أرفع مقام، على أن الذي يَعْجُم أعواد المسلمين ويستجلي عوائدهم وأخلاقهم سواء في مشارق الأرض أو مغاربها على اختلاف ألسنتهم وألوانهم لا يتمارى في أخذهم بتلك الأسباب، وسيرهم على هذه المبادئ، حتى كأنما رمى بآمالهم أجمعين عن قوس واحدة.
ترى المسلم الهندي مثلًا مشغوفًا بأخيه المغربيِّ متمنيًا له السعادة، كما ترى البوسنوي كلفًا بأخيه العثمانيِّ راجيًا له السيادة، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ لا يثنيهم عن ذلك الولاء الكبير والإخلاص المتناهي اختلاف الأجناس وتباين العناصر، بل ولا شط الأقاليم وبُعد ما بين المواطن «إذ لا وطنية في الإسلام».
كأن بلاد الإسلام وهي متبعثرة على سطح المسكونة منقسمة شعوبًا وقبائل قد تماسكت جوارحها واتصلت جوانحها بأسلاك الكهرباء، وما ذلك إلَّا سرٌّ من أسرار الله، وصل ما بين تلك الأفئدة المتنائية بأوثق رباط حتى كأنما الإسلام جسم واحد، تدب في أعضائه النامية روح واحدة، فإذا لكز صدره في المشرق تصدع جانبه في المغرب، أو اشتدَّ ظهره في دار السعادة قويت شوكته في دار السلام، إِيه لو رأيت أيها المسلم الكلف بدينه معشر المسلمين يتنسمون الأخبار عن أحوال إخوانهم النائين، وكل قبيل لبريد الإسلام يتلمسون الأنباء ويتحسسون زَورة المسلم القصيِّ، حتى إذا هم ظفروا بمقدمه احتفوا به والتفوا حوله يتلقطون كلمه ويتسقطون لفظه، يسائلونه عن عشيرته ويستنبئون منه أحوالها، عساهم يسمعون خبرًا جديدًا يكون علالة لأكبادهم الحرَّى وأفئدتهم المجروحة، أو لعلهم يشيمون بارقة أمل في نهوض الإسلام بعدما أوهت قوائمه الليالي وفتت سواعده الأيام. أسألك اللهمَّ وأبتهل إليك أن تجبر كسرهم، وتقوِّم أمرهم، وتجمع كلمتهم، وتؤلف بين قلوبهم، وتثبت أقدامهم، وتؤيدهم بروح منك، وأن تقويهم على العمل والجدِّ حتى يقوموا بأودهم ويفوزوا في هذا المعترك، معترك الحياة، واحفظ اللهمَّ ملوك الإسلام والأمراء الكرام رافعي منار الدين وحماة الشريعة الغراء، وأيد سلطانهم وأَعْلِ كلمتهم وقوِّ شوكتهم وصولتهم، وأدم ملكهم ودولتهم، خصوصًا صاحب المقام الأسمى ووارث الخلافة العظمى حامي حمى الملة والدين، وناشر لواء العدل بين العالمين، رب التاج والصولجان مولانا الغازي في سبيل الله السلطان عبد الحَمِيد خان، لا زال النصر عقيده وحليفه، والعز ضجيعه وأليفه، ما دام لسان في فم إنسان، واحرس بعينك التي لا تنام صاحب السموِّ مؤسس أركان الحرية وموطد دعائم السلام، الساهر على إصلاح أمور أمته، والعامل على ارتقاء شئون رعيته، من عمَّ فضله وعدله القاصي والداني، خديوي مصر مولانا عباس باشا حلمي الثاني، متع الله رعيته برعايته، وحقق لها ما في أمنيته، وصَلِّ اللهمَّ وسلِّم على مهبط وحيك ومبعث رسالتك وحجتك على عبادك، الداعي إلى الخير بأمرك والشفيع عندك بإذنك، سيدنا محمد النبي الأميِّ، وعلى آله وأصحابه الذين عززوه ونصروه وجاهدوا معه في الله حق جهاده، وباعوا مهجهم في سبيله وضحوا نفوسهم لمرضاته حتى قويت دعامة الدين، وعز مكانه وامتدَّ سلطانه، اللهمَّ اهدنا إلى طريقهم وأجرِنا على سنتهم، واقبل صالح أعمالنا، واعف عن زلاتنا، واحشرنا برحمتك في زمرتهم حتى نظفر بالغاية من حُسْن الختام.