الفلسفة كأسلوب حياة
لو لم أُعبِّر عن آرائي في العدالة بالكلمة، فإني أعبِّر عنها بالفعل.
على الرغم من ادعاء الوجودية أنها مفهوم جديد غير مسبوق، فإنها تجسد تقليدًا راسخًا في تاريخ الفلسفة في الغرب، يعود على الأقل إلى زمن سقراط (٤٦٩–٣٩٩ق.م)؛ ألا وهو مزاولة الفلسفة باعتبارها «اعتناءً بالنفس». فتركيز الوجودية ينصب على الأسلوب اللائق للتصرف لا على مجموعة مجردة من الحقائق النظرية؛ لذلك، يعترف الجنرال الأثيني لاشيز — في إحدى محاورات أفلاطون التي تحمل اسم لاشيز — أن ما يعجبه في سقراط ليس تعاليمه، وإنما التوافق بين تعاليمه وحياته الخاصة. ويحذِّر سقراط نفسه المحكمة الأثينية في محاكمة إعدامه من أنهم لن يجدوا بسهولة شخصًا آخر مثله يعلمهم أن يعتنوا بأنفسهم أكثر من أي شيء آخر.
ازدهر هذا المفهوم عن الفلسفة وسط الرواقيين والأبيقوريين في العصر الهيليني؛ إذ انصب اهتمامهم بصورة أساسية على القضايا الأخلاقية وتبيُّن الأسلوب المناسب لأن يعيش المرء به حياته. وكما قال أحد الباحثين القدماء: «كانت الفلسفة عند الإغريق تشكيلية في طبيعتها أكثر منها تثقيفية.» كان الفيلسوف أشبه بطبيب الروح الذي يصف السلوكيات والممارسات اللائقة التي تعزز الصحة والسعادة.
لا شك أن الفلسفة بوصفها سعيًا وراء أبجديات الطبيعة البشرية والكون كانت منتشرة بين الإغريق القدماء، وكانت أحد مقومات الاعتناء بالنفس. وقد أدى هذا المنهج النظري إلى نهوض العلم، وهو الذي سيطر على تعليم الفلسفة في العصور الوسطى والحديثة. وفي واقع الأمر، يشيع اليوم اعتبار كلمة «نظرية» مرادفًا لكلمة «فلسفة» عمومًا، كما في تعبيرَيِ «النظرية السياسية» و«النظرية الأدبية»، حتى إن تعبير «الفلسفة النظرية» يعد نوعًا من التكرار غير الضروري.
في قلب هذا التمييز بين شكلَي الفلسفة (ضمن أشياء أخرى) هناك استخدامان مختلفان لكلمة «حقيقة»، وهما: الاستخدام العلمي والاستخدام الأخلاقي. الأول معرفي ونظري بدرجة أكبر، والثاني أكثر تشكيلًا للذات وعملي بدرجة أكبر، كما في «كن صادقًا مع نفسك». وبينما لم يحدد الاستخدام الأول شروطًا لنوع الشخص الذي يجب أن يتحول إليه المرء كي يعرف الحقيقة (في نظر فيلسوف القرن السابع عشر رينيه ديكارت، يستطيع الآثم أن يفهم معادلة رياضية تمامًا مثل القديس)، فإن النوع الثاني من الحقيقة اشترط على المرء كي يستطيع بلوغه ضبطًا معينًا للنفس؛ أي مجموعة من الممارسات تجاه الذات مثل: الاهتمام بالتغذية، والتحكم في القول، والتأمل المنتظم. كانت المسألة متعلقة بالتحول إلى نوع معين من الأشخاص، وفق أسلوب الحياة الخاص الذي جسده سقراط، وليس بالوصول إلى وضوح معين في الحجة أو الرؤية على النحو الذي اتبعه أرسطو. فعلى مدار تاريخ الفلسفة، هُمش الاعتناء بالنفس شيئًا فشيئًا واقتصر تدريجيًّا على مجالات التوجيه الروحي، والتكوين السياسي، والاستشارة النفسية. كانت هناك استثناءات مهمة لهذا الإقصاء للحقيقة «الأخلاقية» عن المجتمع الأكاديمي. وكتاب «اعترافات القديس أوجستين» (٣٩٧ بعد الميلاد) وكتاب «خواطر» لبليز باسكال (١٦٦٩) وكتابات الرومانسيين الألمان في مطلع القرن التاسع عشر؛ هي أمثلة لأعمال شجعت على هذا الفهم للفلسفة باعتبارها اعتناءً بالنفس.
في إطار هذا المنهج الأوسع يمكن اعتبار الوجودية حركة فلسفية، ويمكن النظر إلى الوجوديين على أنهم هم من أحيوا هذا المفهوم ذا الصبغة الذاتية عن «الحقيقة»؛ الحقيقة التي نعيشها بمعزل عن الاستخدام العلمي والموضوعي للمصطلح، وكثيرًا في تضاد معهما.
ليس غريبًا أن تكون لدى كلٍّ من سورين كيركجارد (١٨١٣–١٨٥٥) وفريدريك نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠) — «رائدَي الوجودية» في القرن التاسع عشر — مواقف متضاربة تجاه فلسفة سقراط؛ فمن ناحية، كان يُنظر إلى سقراط كمدافع عن نوع من العقلانية يتخطى القيم التقليدية والشخصية الخالصة إلى معايير أخلاقية عالمية، وهو ما أشاد به كيركجارد وانتقده نيتشه. لكن كليهما احترم «قفزته» الفريدة عبر فجوة العقلانية بين أدلة الخلود الشخصي واختياره قبول حكم الإعدام الذي أصدرته المحكمة الأثينية. (حوكم سقراط وأُدينَ بتهمتَي الإلحاد وإفساد عقول الشباب بتعاليمه). بعبارة أخرى: أدرك كلا الفيلسوفَين أن الحياة لا تتبع التدفق المتواصل للحجة المنطقية، وأن المرء عليه غالبًا أن يخاطر بتجاوز حدود المعقول كي يعيش الحياة بكل معانيها. وكما علق كيركجارد، قدم الكثيرون أدلة على خلود الروح، لكن سقراط — بعد افتراضه أن الروح «قد» تكون خالدة — خاطر بحياته وفي ذهنه هذا الاحتمال. لقد شرب السم كما أمرته المحكمة الأثينية، وهو يتحدث طوال الوقت مع أتباعه عن احتمال أن حياة أخرى «قد» تكون في انتظاره. اعتبر كيركجارد هذا مثالًا على «الحقيقة الذاتية». وكان يقصد بهذا القناعة الشخصية التي يكون الشخص مستعدًّا للتضحية بحياته من أجلها. وفي كتابه «اليوميات»، كتب متأملًا: «المسألة هي إيجاد حقيقة صحيحة في نظري، إيجاد الفكرة التي يمكنني أن أعيش وأموت من أجلها» (١ أغسطس ١٨٣٥).
(١) الوضوح ليس كافيًا
كتب جاليليو يقول: إن كتاب الطبيعة كُتب برموز رياضية. وبدا أن التطورات اللاحقة في العلم الحديث تؤكد هذا الادعاء؛ فقد بدا أن ما هو قابل للوزن والقياس (تحديد كميته) يستطيع أن يمدنا بمعرفة موثوق بها، في حين أن ما لا يقبل القياس يُترَك لعالم الآراء المجردة. مجَّدت الفلسفة الوضعية هذا الرأي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ إذ أصرت العقلية الوضعية على أن ما هو «موضوعي» مرادف لما هو قابل للقياس وما هو «مجرد من القيم». كان هدفها هو استخلاص الذات من التجربة للوصول إلى «رأي لا مرجع له» يتسم بالموضوعية الخالصة. أدى هذا إلى عدد من الاكتشافات المهمة، لكن سرعان ما اتضح أن مثل هذا المنهج غير متسق؛ فقصْر ما يمكن معرفته على ما يمكن قياسه كان في حد ذاته قيمة لا يمكن قياسها. بمعنى أن اختيار هذا الإجراء كان في حد ذاته «قفزة» نوعية؛ أي يستتبع الإيمان بمجموعة من القيم التي لم تكن في حد ذاتها قابلة للقياس.
علاوة على هذا، فإن استثناء ما لا يقبل القياس مما يعد معرفة ترَك بعضًا من أهم أسئلتنا ليس بلا إجابة فقط، لكن أيضًا غير قابل للإجابة. فهل قيمنا وقواعدنا الأخلاقية ليست سوى تعبير عن تفضيلاتنا الشخصية؟ إذا أعدنا صياغة ما قاله عالم الرياضيات والفيلسوف برتراند راسل، وهو أبعد ما يكون عن الوجودية: هل يمكن أن يصدق أحد حقًّا أن الاشمئزاز الذي ينتابه عندما يشهد القسوة غير المبررة هو ببساطة تعبير عن حقيقة أن ذلك تصادف أنه لا يروق له وحسب؟ كان هذا هو مذهب «الانفعاليين» في النظرية الأخلاقية، التي أحيانًا يطلق عليها «النظرية الانفعالية للأحكام الأخلاقية». لقد دُفعوا إلى هذا الاتجاه بسبب قبولهم لقصر الوضعيين للمعرفة على ما يمكن قياسه. لكن هل نحن حقًّا مؤهلون لنوع المعرفة الخالصة التي يطلبها الوضعيون من العلم؟ ربما يمكن إعادة تقديم الفرد المدرك إلى هذه المناقشات دون المخاطرة بموضوعيته. لكن سيعتمد الكثير على مراجعتنا لتعريفنا للموضوعية، وكذلك على اكتشاف استخدامات أخرى لكلمة «حقيقي» إلى جانب «قبول الوضعيين بالتجربة الشعورية». وقد استجاب الوجوديون ضمن آخرين لهذا التحدي.
يضرب جان بول سارتر (١٩٠٥–١٩٨٠) مثالًا لهذه الاستجابة عندما يقول: إن النظرية الوحيدة التي تصلح اليوم عن المعرفة هي تلك التي تقوم على هذه الحقيقة الفيزيائية الميكروسكوبية القائلة: المُجرِّب جزء من المنظومة التجريبية. ما كان يدور في عقله هو ما يطلق عليه «مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج» في الفيزياء الذرية الذي ينص — في تفسيره المعروف على الأقل — على أن الأدوات التي تمكِّننا من رصد مقدار زخم إلكترون مداري وموضعه تتدخل في عملية الرصد بحيث يمكننا أن نحدد إحدى السمتين فقط، لا كلتيهما في آن واحد. بالمثل، قد يعترض المرء على أن الفعل المجرد المتمثل في التدخل في حياة قبيلة «بدائية» يمنع الباحث في علم الأعراق من دراسة هؤلاء القوم بحالتهم الفطرية. أدت مثل هذه الاعتبارات إلى تقويض مفهوم الوضعيين عن المعرفة بوصفها قابلية القياس. لكنها حجبت أيضًا رأي العقلانيين عن الواقع باعتباره خاضعًا على سبيل الحصر لمنطق «إما/أو» دون مساحة للتفاوض. مثال آخر على هذا الأمر هو الضوء، الذي يتسم بصفات تشير إلى أنه موجة وأخرى تشير إلى أنه جسيم، ومع هذا يبدو أن هاتين السمتين تنفي إحداهما الأخرى، وهو ما يجعل السؤال: «هل الضوء موجة أو جسيم؟» غير قابل للإجابة وفق منطق «إما/أو» التقليدي؛ إذ يبدو الضوء كلا الشيئين، وفي الوقت نفسه ليس أيهما على وجه حصري. هنا نحتاج نوعًا آخر من المنطق لفهم هذه الظاهرة. وقد ظهرت أمثلة عديدة أخرى من مجالَي الفيزياء والرياضيات في مطلع القرن العشرين تناقض ادعاءات الوضعيين والعقلانيين عن المعرفة والعالم.
(٢) التجربة المعاشة
دخل الوجوديون في هذا العالم ذي الملاحظات والتقييمات المحدودة والنسبية بدافع «شخصنة» أكثر الظواهر موضوعية في حياتنا. ماذا — على سبيل المثال — يمكن أن يكون أكثر موضوعية وحيادية من الزمان والمكان؟ حتى وجهة النظر المنقحة عن الزمكان التي تقدمها لنا نظرية النسبية تعتمد على مرجع مطلق أو ثابت؛ ألا وهو سرعة الضوء. فنحن نقيس الزمن بالدقائق والثواني، ونقيس المكان بالياردات والأمتار. يبدو هذا أيضًا كميًّا؛ ومن ثَم موضوعيًّا في عرف الوضعيين. ومع هذا يضيف المفهوم الذي يطلق عليه الوجوديون اسم الوقتية «الوجدانية» بُعدًا كيفيًّا وذاتيًّا لظاهرة الوعي بالزمن. في نظر الفيلسوف الوجودي، فإن قيمة ومعنى كل بُعد وقتي من الزمن المعاش مرتبطان بمواقفنا واختياراتنا. بعض الناس — مثلًا — مضغوطون دومًا للوفاء بالتزاماتهم، في حين هناك أناس آخرون لا يجدون ما يشغل وقتهم. يجري الوقت بسرعة حين تكون مستمتعًا، لكنه يمر ببطء عندما تكون متألمًا. وحتى النصيحة الكمية بحسن استثمار أوقاتنا، من وجهة النظر الوجودية، هي توصية لمراجعة وتقييم قرارات الحياة التي تشكِّل أولوياتنا الوقتية في المقام الأول. لو أن «الوقت هو الجوهر»، ويصر الوجوديون على أنه كذلك، فجزء من كينونتنا إذنْ هو الأسلوب الذي نعيش به وجودنا «الحالي» و«المستقبلي»، والذي تشكله الكيفية التي نتعامل بها مع انخراطنا في الحياة اليومية.
غالبًا ما يعبِّر الفيلسوف الوجودي تعبيرًا دراميًّا عن هذا «الزمن المعاش». هكذا يصف ألبير كامو (١٩١٣–١٩٦٠) في حكايته الرمزية عن الاحتلال النازي لباريس — بعنوان «الطاعون» — المواطنين في مدينة موبوءة بالطاعون وخاضعة للحجر الصحي، فيقول: «عدائيون مع الماضي، ونافدو الصبر مع الحاضر، ومخدوعون في المستقبل، كنا مثل من أجبرتهم عدالة البشر، أو كراهيتهم، على العيش خلف قضبان السجن.» إن مفهوم الاحتجاز وكأنه «قضاء عقوبة في السجن» هو مفهوم وجودي بصورة واضحة. وسارتر — في تحليل ثاقب للوعي الانفعالي — يتحدث عن شخص «يقفز من أجل السعادة» كأسلوب لاستخدام تغيراته الجسمانية في استحضار احتمال إحداث موقف مرغوب فيه «فجأة»، وكأنما بفعل السحر، دون الاضطرار إلى انتظار التكشف الزمني اللازم. ومع أن سارتر ذكر هذه الفرضية في ثلاثينيات القرن العشرين، فالمرء يتذكر فورًا صورة هتلر وهو «يختال فرحًا» أسفل قوس النصر خلال الاحتلال الألماني لباريس. للوقت لزوجته الخاصة، كما قال ميشيل فوكو. والوقتية الوجدانية تجسد تدفقه.
لكن المكان الوجودي مشخصن أيضًا. يستشهد سارتر بالمفهوم الذي وضعه عالم النفس الاجتماعي كيرت لوين عن الحيز «النفسي» (المكان المعاش) كمرادف كيفي للزمن المعاش خلال وجودنا اليومي. تحكي القصة عن شخصين: أحدهما يفضل أن يقترب أكثر ما يمكن وجهًا لوجه في محادثته، والآخر يفضل الابتعاد والانعزال، فيستحثان وينفر أحدهما من الآخر في الغرفة في حفل كوكتيل عند محاولة إجراء حوار. المكان المعاش مفهوم شخصي؛ هو الطريق المعتاد الذي أسلكه إلى عملي، أو تجهيزات الجلوس التي تفرض نفسها بسرعة في الفصل الدراسي، أو ترتيب الأدوات على مكتبي؛ هو ما يسميه علماء النفس «منطقة راحتي». هذا أيضًا مرتبط بمشروع حياتي. وتعتمد كيفية تعاملي مع «الأماكن» التي تهمني على كيفية اختياري تنظيم حياتي.
هناك بالطبع اعتبارات نفسية، لكن من السمات المحددة للفكر والمنهج الوجودي أن هذه الاعتبارات تحمل دلالة وجودية كذلك؛ فهي تعبِّر عن طرائقنا في الوجود وتفتح بابًا لمعنى واتجاه حياتنا. وكما سنرى لاحقًا، مع أن العديد من الفلاسفة مالوا إلى انتقاص أو حتى انتقاد الدلالة الفلسفية لمشاعرنا وأحاسيسنا، فقد رفع الوجوديون من شأن مشاعر مثل «القلق» (الذي وصفه كيركجارد بأنه وعينا بحريتنا) وأحاسيس مثل «الغثيان» (الذي وصفه سارتر بأنه تجربتنا مع صُدْفة الوجود و«ظاهرة الكينونة»). يضعهم هذا فورًا في حوار محتمل مع الفنانين المبدعين الذين يتاجرون بحياتينا العاطفية والخيالية. في واقع الأمر، لطالما كانت العلاقة بين الوجودية والفنون الجميلة قوية، حتى إن نقادها غالبًا ما كانوا يرفضون الاعتراف بها كحركة أدبية وحسب. وبطبيعة الحال، فإن ما يثبت هذا الارتباط هو الطبيعة الدرامية للفكر الوجودي، علاوة على احترامه للقوة الكاشفة للوعي الشعوري واستخدامه «التواصل غير المباشر»، الذي سنتحدث عنه بعد قليل. لكن القضايا التي يتناولها الوجوديون، والاختلافات الدقيقة التي يحددونها، وتوصيفاتهم المتزمتة، وفوق كل هذا، حوارهم الصريح مع أبناء المذاهب الفلسفية الأخرى يجعل الوجودية بشكل واضح حركة فلسفية في المقام الأول، حتى وهم يشددون على غموض الحد الفاصل بين الخيالي والمجازي، وبين الفلسفي والأدبي.
(٣) «حقيقة تستحق الموت من أجلها»
يجعل أسلوب التفكير الموضوعي الذات عرضية؛ وبالتالي يحوِّل الوجود إلى شيء محايد، شيء متلاشٍ. وبعيدًا عن الذات يؤدي أسلوب التفكير الموضوعي إلى الحقيقة الموضوعية، وفي الوقت الذي تصبح فيه الذات وذاتيتها محايدتين، تصبح الحقيقة أيضًا محايدة، وهذه الحيادية هي بالضبط ما يمنحها صلاحيتها الموضوعية؛ لأن كل منفعة — مثل كل قرار — متجذرة في الذاتية. يؤدي أسلوب التفكير الموضوعي إلى التفكير التجريدي، إلى الرياضيات، إلى المعرفة التاريخية بمختلف الأمور، ودائمًا ما يبتعد عن الذات التي يصبح وجودها أو عدم وجودها، بحقٍّ، حياديًّا إلى ما لا نهاية.
موضوعات الوجودية الخمسة
هناك خمسة موضوعات أساسية ينظر الفلاسفة الوجوديون إلى كلٍّ منها بأسلوبه الخاص. وبدلًا من حصر «الوجودية» في تعريف ضيق، يمكن تبينها من خلال التشابه (تداخل الموضوعات وتلاقيها) بين هؤلاء الفلاسفة.
- (١) الوجود يسبق الجوهر: ما أنت عليه (جوهرك) هو نتاج اختياراتك (وجودك) وليس العكس. الجوهر ليس المصير؛ فأنت من تختار لنفسك ما تكون عليه.
- (٢) الوقت هو الجوهر: نحن أساسًا كائنات مرتبطة بالزمن. وعلى عكس زمن الساعة القابل للقياس، فإن الوقت المعاش كيفي؛ فمصطلحات زمنية مثل «ليس بعد» و«بالفعل» و«الحاضر» تختلف فيما بينها في المعنى والقيمة.
- (٣) الإنسانية: الوجودية فلسفة تركز على الإنسان. وعلى الرغم من أنها لا تعارض العلم، ينصب تركيزها على بحث الذات الإنسانية عن الهوية والمعنى وسط الضغوط الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الكبير الساعية لفرض السطحية والامتثال للتقاليد.
- (٤) الحرية والمسئولية: الوجودية فلسفة تدور حول الحرية، وقوامها يتمحور حول حقيقة أننا نستطيع الانفصال عن حياتنا لوهلة وتأمل ما كنا نفعله فيها. بهذا المعنى فإننا دائمًا «أكثر» من أنفسنا. لكننا مسئولون مثلما نحن أحرار.
- (٥) الاعتبارات الأخلاقية هي الأهم: مع أن كل فيلسوف وجودي يفهم الأخلاق — مثل الحرية — من منظوره الخاص، فالاهتمام الأساسي ينصب على تحفيزنا على تأمل جودة حياتنا الشخصية ومجتمعنا.
الوجوديون ليسوا لاعقلانيين بحيث ينكرون صلاحية الجدال المنطقي والتفكير العلمي، لكنهم ببساطة يشككون في قدرة مثل هذا التفكير على التغلغل إلى المعتقدات الشخصية الراسخة التي توجِّه حياتنا. يقول كيركجارد عن العقلانية الجدلية لهيجل: «محاولة أن تعيش حياتك بهذه الفلسفة التجريدية تشبه محاولتك إيجاد طريقك داخل دولة الدانمارك بخريطة تظهر فيها هذه الدولة بحجم رأس الدبوس.»
عندما تصبح الذاتية هي الحقيقة، يجب أن يضم تعريف الذاتية تعبيرًا عن معارضة الموضوعية؛ رسالة تذكير بمفترق الطرق، ويجب أن يعكس هذا التعبير أيضًا التوتر الداخلي [علاقة الذات بنفسها]. إليك مثل هذا التعريف للحقيقة: الحقيقة هي عدم اليقين الموضوعي الصامد في مواجهة أي عملية استيلاء على الجوهر الأكثر انفعالًا، وهي أسمى حقيقة متاحة لشخص موجود.
إنها أيضًا مسألة تغيير للاتجاه الذي يسلكه المرء في حياته، هي «مفترق الطرق». هذا ما يجعل خيار التفكير الذاتي خيارًا وجوديًّا. لو كانت المسألة ادعاءً موضوعيًّا عن إحدى حقائق أو قوانين الطبيعة، لكنا تعاملنا في هذه الحالة مع «اليقين الموضوعي» ولن يكون للوجود الشخصي أهمية. سيكون المرء ببساطة متبعًا لجميع الاتجاهات. كانت هذه ستصبح حال سقراط لو كان إيمانه بخلود الذات مجرد نتيجة منطقية توصل إليها. لكن «الحقيقة» هنا ذات طبيعة «أخلاقية». وكما يقول كيركجارد، هي مسألة «استيلاء» (تَمَلُّك) لا «اقتراب» من حالة موضوعية، بنفس الأسلوب الذي يزن به الإنسان احتمالات نتيجة معقولة أو يقرأ لافتات المسافات بطول الطريق إلى وجهة معينة. وكما يشير في مكان آخر، فلكي تكون الحقيقة ذاتية، يكون التركيز على «كيفية» ممارستنا لمعتقداتنا وليس على «ما» تكونه هذه المعتقدات. دفع هذا البعض إلى إساءة فهمه؛ فحسبوا أنه يدَّعي أنه لا يهم ما تؤمن به ما دمت مقتنعًا به. لكن مع أن كيركجارد نادرًا ما كان يدافع عن النسبية الدينية، لكونه مسيحيًّا ملتزمًا، فإنه كان مهتمًّا بمقاومة الإيمان الديني الفاتر أو الاسمي أكثر من اهتمامه بالدفاع عن المسيحية.
ليس هذا إلا جانبًا واحدًا من الجوانب الكثيرة التي تتداخل فيها الفلسفة الوجودية والبراجماتية و«التحليلية». يقدم عالم النفس الأمريكي العظيم والفيلسوف البراجماتي ويليام جيمس — مثلًا — ادعاءً مماثلًا في كتابه «إرادة الإيمان» عندما لاحظ أن طبيعتنا العاطفية لا تجعلنا نتخذ خيارًا بعينه من الخيارات المطروحة فقط، وإنما تلزمنا بذلك، وهذا وقتما يكون الخيار حقيقيًّا لا يمكن بالطبيعة حسمه بناءً على الأسس العقلية. لكن بعضًا من هذه الخيارات هي، كما أطلق عليها عالِم الأخلاق البريطاني آر إم هير، «قرارات المبدأ». لا تقوم مثل هذه القرارات في حد ذاتها على المبادئ؛ لأنها هي التي تؤسِّس المبادئ التي بناءً عليها سنتخذ خياراتنا اللاحقة في الحياة. تشبه هذه المبادئ «قواعد اللعبة» التي يختارها المرء عندما يقرر المشاركة في اللعبة لكنها لا تُطبق قبلها. فأنت لا تلتزم بهذه القواعد قبل أن تقرر أن تلعب اللعبة، ويعني قرارك باللعب التقيد بهذه القواعد تحديدًا. هذه هي نوعية الخيارات التي سميتها بالخيارات «المؤسِّسة للمعايير». وكما سنرى، هذا مشابه لما يسميه سارتر «الخيار الأساسي» أو المبدئي الذي يعطي الوحدة والاتجاه لحياة المرء. ونحن نكتشفه بواسطة تأمل اتجاه حياتنا وصولًا إلى الوقت الحاضر. إنه «خيار»، حسب زعم سارتر، نكتشف أننا اتخذناه ضمنيًّا بالفعل طوال الوقت.
(٤) فلسفة وأدب ملتزمان
كانت «الحقيقة» الذاتية التي تحدث عنها كيركجارد بشيرًا بما سماه سارتر «الالتزام» في القرن التالي. وكأن سارتر يريد الانتقاص من أهمية مفهوم الحقيقة الموضوعية، أو على الأقل تأييد معنى جديد «للموضوعية» في ضوء العلوم الحديثة، فيعلق قائلًا: «توجد فقط معرفة ملتزمة.» على الجانب الآخر، فإنه يؤيد أيضًا النظرة «الموضوعية» الكلاسيكية للمعرفة والحقيقة التي يقترحها إدموند هوسرل (١٨٥٩–١٩٣٨) وأسلوبه الوصفي للظواهر (انظر لاحقًا). إحدى الطرق للتوفيق بين هاتين النظرتين الادعاء مع كيركجارد بأن كلًّا من النظرتين تشير إلى استخدام مختلف لمصطلح «الحقيقة». في حالة سارتر، قد تكون مسألة دمج الأوصاف الظاهرية (الفينومينولوجية) في مفهوم أكثر براجماتية وجدلية للحقيقة؛ بمعنى التوفيق بين المزاعم المتباينة في وجهة نظر أسمى. سيتوافق هذا أكثر مع ظاهرة تفسيرية أو تأويلية كتلك التي طرحها مارتن هايدجر (١٨٨٩–١٩٧٦) في نهاية عشرينيات القرن العشرين (انظر الفصل السادس). أصر نيتشه على أن جميع المعارف تأويلية وأنه لا وجود لنص «أصلي» غير قابل للتأويل. بعبارة أخرى: ما يُعتبر معرفة كان تأويلًا «في أساسه». وعليه، فسواء كنت تتفق كليةً مع نيتشه أو جزئيًّا مع كيركجارد، فإن الحقيقة أيضًا قد «شخصنها» الوجوديون. وهكذا لم يعد تعبير «حقيقتي» تعبيرًا يناقض نفسه.
إن وجهة النظر الفريدة التي يستطيع المؤلف أن يعرض العالم بها لتلك الحريات التي يتمنى أن يحقق الانسجام بينها هي عن عالم مخصب دائمًا بالمزيد من الحرية. لن يكون معقولًا استخدام هذا التعبير عن الكرم الذي يستثيره الكاتب في فرض الظلم، وأن يستمتع القارئ بحريته وهو يقرأ عملًا يوافق على استعباد إنسان لإنسان، أو يقبله، أو ببساطة «يمتنع عن إدانته».
بعبارة أخرى كما سنرى: تنمِّي الوجودية ضميرًا اجتماعيًّا، إلى جانب الإيمان بأن الفنون الجميلة — أو الأدب على الأقل — يجب أن تكون ملتزمة اجتماعيًّا وسياسيًّا.
جان بول سارتر (١٩٠٥–١٩٨٠)
وُلد في باريس، وقد يكون أشهر فلاسفة القرن العشرين. جاب العالم كثيرًا، عادةً مع رفيقة حياته سيمون دي بوفوار. أصبح اسمه مرادفًا للحركة الوجودية. كتب العديد من المسرحيات والروايات والأعمال الفلسفية، لعل أشهرها مقال «الوجود والعدم» (١٩٤٣). فاز بجائزة نوبل في الأدب، لكنه رفض هذا التكريم. كان شديد الالتزام تجاه اليسارية معظم حياته العامة. وعندما مات، نزل الآلاف من معجبيه إلى الشوارع بصورة عفوية للانضمام إلى موكبه الجنائزي. ووقتها جاء عنوان إحدى المطبوعات: «فقدت فرنسا ضميرها».
(٥) الوجودية والفنون الجميلة: التواصل غير المباشر
لطالما كانت الوجودية وثيقة الصلة بالفنون الجميلة بسبب نظرتها الدرامية إلى الوجود، واستخدامها الواسع للصور القوية في نقاشاتها، ومناشدتها الاستجابة الشخصية في تواصلاتها. في واقع الأمر، عُرض على كلٍّ من كامو وسارتر جائزة نوبل في الأدب (لكن سارتر رفضها). وكان كيركجارد شاعرًا يستخدم الأسماء المستعارة والحكايات الرمزية وصورًا أخرى من «التواصل غير المباشر» ليحفِّز ارتباطنا الشخصي بالموضوع المطروح. وكان نيتشه أحد كتاب النثر العظماء في اللغة الألمانية وحكايته الرمزية عن النبي التقي في «هكذا تحدث زرادشت»، مثل رواية سارتر «الغثيان»، هي نموذج للدراما الفلسفية. وكذلك كانت روايات سيمون دي بوفوار (١٩٠٨–١٩٨٦) تعبيرًا عن آرائها الفلسفية. وكتب جابرييل مارسيل (١٨٨٩–١٩٧٣) الفلسفة بأسلوب تأملي وصفه ذات مرة بأنه تبدى على أوضح ما يكون في مسرحياته الثلاثين المنشورة. من بين الفلاسفة الذين نناقشهم، ربما لا ينطبق هذا التصنيف بالدرجة عينها من الدقة على هايدجر وكارل ياسبرز (١٨٨٣–١٩٦٩) وموريس ميرلوبونتي (١٩٠٨–١٩٦١). ومع هذا، باستثناء ياسبرز، كتب الآخران دراسات مهمة في علم الجمال، واستعان ثلاثتهم بالمنهج الفينومينولوجي الذي يعطي قيمة للنقاش بالأمثلة. أصر كلٌّ منهم على أن الفنان — خصوصًا الشاعر في حالة هايدجر، والفنان التشكيلي في حالة ميرلوبونتي — يتوقع وغالبًا ما يعبِّر كما ينبغي عما يحاول الفيلسوف تصوره. قويٌّ هو تأثير الأفكار الوجودية في الفنون الجميلة إلى حد أن البعض — كما رأينا — يفضل أن يصف الوجودية بأنها حركة أدبية. لا شك أن مؤلفين مثل دوستويفسكي وكافكا، وكُتاب مسرحيين مثل بيكيت ويونسكو، وفنانين مثل جياكوميتي وبيكاسو يجسدون العديد من السمات المميزة للفكر الوجودي.
يجد مفهوم الالتزام تجاه الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي الذي يميز كل هؤلاء الكتَّاب أنسب تعبير له فيما أُطلق عليه استخدامهم «التواصل غير المباشر» لنقل أفكارهم. يعكس المصطلح خطوة بلاغية تخفي هوية الفيلسوف الأدبية كي يستدعي توحُّد القارئ مع شخصيات العمل الأدبي عن طريق تعطيل حالة عدم التصديق لديه. هكذا استطاع كيركجارد أن يكتب تحت أسماء مستعارة مختلفة لمؤلفين وهميين، كلٌّ منهم يشير إلى وجهة نظر معينة مرتبطة بهذه الشخصية وليس بالفيلسوف نفسه تحديدًا. كما تمكن نيتشه من تأليف محاكاة ساخرة عن نبوءة مكتوبة رغم تقليله من شأن الإيمان الديني في «هكذا تحدث زرادشت». وحتى أقواله المأثورة، مع أنها تحمل اسمه، تحمل قوة بلاغية صادمة، بصرف النظر عن هواجس المرء العابرة حول مصدرها، أي نوع «الحجة» الكامنة وراءها. بالمثل، كان كلٌّ من سيمون دي بوفوار وسارتر وكامو ومارسيل قادرًا على كتابة الروايات والمسرحيات التي تعكس أفكاره بصورة ملموسة أمام جمهور عطل — في الوقت الراهن على الأقل — فتوره النقدي. وقد سئل سارتر ذات مرة عن سبب تصويره مسرحياته في الأحياء البرجوازية من المدينة بدلًا من المناطق التي تضم الطبقة العاملة، فأجاب بأنه ما من برجوازي يستطيع مشاهدة عرض إحدى مسرحياته دون تكوين أفكار مسلية «تخون طبقته». هذه هي قوة الفن في توصيل دعوة فلسفية لأسلوب حياة.
(٦) هوسرل والمنهج الفينومينولوجي
على الرغم من أن المنهج الفينومينولوجي الذي وضعه إدموند هوسرل في الثلث الأول من القرن العشرين تبناه بشكل أو بآخر الوجوديون في نفس تلك الفترة، فإن الكثيرين من معتنقي المنهج الفينومينولوجي — وربما معظمهم — ليسوا وجوديين. لكن كلهم يقبل الادعاء الأشهر والأخطر لهذا المنهج، وهو أن كل وعي هو وعي بالآخر. بعبارة أخرى: من طبيعة الوعي أن يستهدف (يقصد) الآخر. وحتى حين يكون الوعي موجهًا نحو نفسه، فإنه يكون موجهًا بالمثل نحو «الآخر». يسمى هذا بمبدأ القصدية. في هذا السياق، فإن «القصد» ليست له علاقة ﺑ «التعمد»، بل هو مصطلح فني يعكس ما هو فريد في أفعالنا العقلية؛ حيث تمتد هذه الأفعال فيما وراء نفسها ونحو الآخر.
إدموند هوسرل (١٨٥٩–١٩٣٨)
وُلد في مدينة بروسنيتز بجمهورية التشيك، وحصل على درجة الدكتوراه في الرياضيات قبل التحول إلى دراسة الفلسفة. درَّس في جامعة جوتنجين بألمانيا بين عامَي ١٩٠١ و١٩١٦، وفي فرايبورج إم برايجاو منذ عام ١٩١٦ وحتى تقاعده في عام ١٩٢٨. يعد رائد المنهج الفينومينولوجي، ولعب دورًا تأسيسيًّا في الفلسفة الأوروبية في القرن العشرين. كان مارتن هايدجر أشهر تلامذته وقد خلفه في فرايبورج. بسبب أصوله اليهودية شهدت سنوات حياته الأخيرة كربًا شديدًا مع بزوغ النازية. عقب وفاته في فرايبورج، نقل صديق له — قس بلجيكي — أرملته ومخطوطاته إلى جامعة لوفين قبل أن يتمكن النازيون من تدميرها.
حسب مبدأ القصدية، كانت هذه مشكلة زائفة؛ إذ لا يوجد وعي داخلي خارجي. فكل فعل واعٍ «يقصد» شيئًا موجودًا بالفعل «داخل» العالم (أي مرتبط عن قصد به). أسلوبنا في «قصْد» هذه الأشياء سيختلف عندما نفهمها، أو نعيها، أو نتخيلها، أو نتذكرها — مثلًا — أو عندما نرتبط بها ارتباطًا عاطفيًّا. لكن في كل حالة، الوعي هو طريقة للوجود في العالم.
فكِّر مثلًا في انطباعاتنا الذهنية. أشار سارتر في دراسة قديمة إلى أن الانطباعات الذهنية ليست منمنمات محفورة «داخل العقل» تنعكس على العالم الخارجي؛ مما يثير مشكلة التوافق بين الداخل والخارج مرة أخرى. بدلًا من ذلك، يعتبر الوعي الانطباعي أسلوبًا «للاغتراب» عن عالم مدركاتنا الذي يُظهِر سماته المميزة عند الوصف الفينومينولوجي الدقيق. لو تخيلنا تفاحة سبق أن رأيناها — على سبيل المثال — فإن وصفًا دقيقًا للتجربة سيكشف كيف يختلف التخيل عن رؤية نفس هذه التفاحة؛ لسبب واحد: أن التفاحة المتخيلة لا تحمل إلا تلك السمات التي نختار أن نعطيها لها، على عكس التفاحة المرئية. والانطباعات الذهنية بهذا الشكل لا تعلمنا شيئًا. هكذا هي الحال مع بقية أفعالنا الواعية؛ حيث يكشف كلٌّ منها سماته المميزة عند الوصف الفينومينولوجي.
لكن لأن الوعي «يقصِد» موضوعاته بطرق مختلفة، يمكننا استخدام منهج الوصف الفينومينولوجي المسمى «الاختزال الاستحضاري» أو «التنويع التخيلي الحر للأمثلة» للوصول إلى الحد أو الجوهر الواضح لأيٍّ من هذه التجارب الواعية المتنوعة. وهذه المهمة التخيلية المتعلقة بالوصف الدقيق لما «يُعطى» للوعي في حالات «عطائه» المتنوعة هي ما يفضلها الوجوديون عند بناء حججهم المتماسكة. وقد قال هوسرل ذات مرة، هدف المنهج الفينومينولوجي ليس الشرح (بإيجاد الأسباب) وإنما دفعنا إلى الرؤية (بتقديم الجوهر أو رسم الحدود الواضحة).
تأمل هذين المثالين: قد تقوم رسامة جنائية برسم صورة مجرم كي يتعرف عليها شاهد العيان. وحسبما تضيفه أو تلغيه من ملامح في الصورة، سيوافق شاهد العيان أو يعترض على مدى التشابه إلى أن يقول عند الوصول إلى أفضل نتيجة: «نعم، هذا هو الجاني؛ هذا كان شكله.» هذا تشبيه بسيط للوصف الاستحضاري الذي يستعين بالتنويع التخيلي الحر للأمثلة للوصول إلى الرؤية، أي الإدراك الفوري للشيء المقصود.
دعونا نتناول في مثالنا الثاني «حجة» فينومينولوجية شهيرة من مقال سارتر «الوجود والعدم»، التي أعتبرها صورة أقل فنية للاختزال الاستحضاري: يتلصص أحدهم عبر ثقب المفتاح على زوجين، حتى يسمع فجأة ما يعتقد أنها خطوات أقدام خلفه. خلال نفس هذا الفعل، يشعر أن جسمه أصبح «موضوعًا» لوعي آخر. إحساسه المتصاعد بالحرج، ووجهه المتقد احمرارًا، هما مرادف لحجة مزدوجة عن وجود عقول أخرى (لغز فلسفي قديم) وعن جسمه باعتباره عرضة للتجسيد الموضوعي بصورة لا يتحكم فيها. حتى لو كان المتلصص متوهمًا (كان مصدر الصوت هو الرياح التي تداعب الستائر أمام النافذة المفتوحة مثلًا)، فستظل التجربة تبرر إيماننا بالعقول الأخرى بشكل أسرع وبيقين أكبر مقارنة بأي حجة يطرحها التشبيه، الذي هو الدليل المعياري لمعتنق التجريبية. هذا مصدر قوة «الاختزال الاستحضاري» الناجح؛ فهو يرصد الجوهر أو الحد الواضح في تجربةِ ذاتٍ أخرى باعتبارها ذاتًا، وليست موضوعًا وحسب.
يكمن موطن قوة هذه الحجج ونقاط ضعفها المحتملة — فيما يتعلق بالوصف الفينومينولوجي أو التنويع التخيلي الحر للأمثلة — في تركيزها على تسميته «الحد الواضح». هذا نوع من الرصد الفوري لوجود «الشيء نفسه»، حسب قول هوسرل، وهو شبيه ﺑ «لحظة التجلي» التي نمر بها في نهاية مسألة منطقية أو رياضية (يحمل هوسرل درجة الدكتوراه في الرياضيات). المفترض أنه لو كان الوصف محددًا بدقة، فسيرى السائل الشيء بوضوح من تلقاء نفسه. أما نقطة الضعف المحتملة بالطبع فهي أنه — استجابة للادعاء «لا أراه» — لا يستطيع متبني المنهج الفينومينولوجي الرد إلا بأن يقول: «حسنًا، انظر عن كثب.» لكننا، في الحقيقة، غالبًا ما نفهم المقصود؛ إذ ننجح في رؤية «الجوهر» الثابت عبر الأشكال المتغيرة المتعددة. هذه الحجج القائمة على الأمثلة لا تمد الوجودي فقط بأسلوب التفكير المادي الذي يسعى إليه، بل إنها تكاد تتوسل من أجل التجسد في الأدب التخيلي والأفلام والمسرحيات.
ذكرتُ أن العديد من معتنقي المنهج الفينومينولوجي لا يؤمنون بالوجودية. والعكس صحيح أيضًا؛ فمع أن فلاسفة الوجودية في القرن العشرين تقبلوا مفهوم هوسرل عن القصدية لأنه فتح بابًا واسعًا لمنهجهم الوصفي، فقد رفضوا سمة أخرى في فكره اللاحق بسبب تعارضها مع معنى الوجودية، وهي مشروعه عن «تعطيل» الوجود. تحدث هوسرل عن السلوك الطبيعي، الذي قد يوصف بأنه دون فلسفي وساذج في تقبله غير النقدي لعالم التجارب اليومية الواقعي. أصر هوسرل، في سعيه إلى تحويل المنهج الفينومينولوجي إلى علم شديد الحسم كالفلسفة نفسها، على أنه يجب على المرء تعطيل الإدراك الساذج للسلوك الطبيعي والتغاضي عن — أو تعطيل — مسألة وجود أو كينونة الأشياء الخاضعة للوصف الفينومينولوجي. أطلق هوسرل على هذا اسم «الاختزال الفينومينولوجي»، أو «التوقف»، وتصور أنه قادر على إعاقة الاعتراضات الشكوكية التي يخضع لها السلوك الطبيعي. وقد اعترف بأن المرء يستطيع القيام ﺑ «اختزال استحضاري» للسلوك الطبيعي والوصول إلى نوع من النفسية «الاستحضارية». لكنه برهن لاحقًا أن هذا ترك سؤالًا شكوكيًّا بلا إجابة: «هل ما تصفه حقيقي في العالم الواقعي؟» كان هدف هوسرل أنك إذا قمت بهذا الاختزال الإضافي وعطَّلت «مسألة وجود» الأشياء محل السؤال (أي التغاضي عن مسألة ما إذا كانت الأشياء موجودة «في الحقيقة» أم أنها «داخل العقل» وحسب)، فإنك تجرِّد الشاك؛ الذي يشك في قدرتك على بلوغ «الواقع» أبدًا، بتوصيفاتك. هدف الاختزال الفينومينولوجي هو ترك كل شيء كما هو «باستثناء» الأشياء التي يجري «اختزالها»، والمسماة الآن «الظواهر». عندما تعطِّل مسألة الوجود، فإنك تحتفظ بكل التجارب وما يتعلق بها من أشياء كنت تعرفها سابقًا (الإدراكات الحسية، والصور، والذكريات، وغيرها)، لكن باعتبارها الآن مرتبطة بالوعي؛ أي كظواهر. بطريقة ما، أنت تتمتع بنفس اللحن الذي تتمتع به خلال السلوك الطبيعي لكن بمقام موسيقي مختلف. فبعد أن صرت محصنًا ضد الشك — الذي كان قوة سلبية تحرك الفلسفة منذ زمن الإغريق — يمكنك الآن القيام بتحليلات وصفية دقيقة لأي ظاهرة مهما كانت. ستوضح التوصيفات نفسها الفرق بين التفاحة المرئية — مثلًا — والتفاحة المتخيلة. تبدو هذه طريقة مبتكرة لتهميش الشك الفلسفي والتأكيد على معرفتنا اليقينية بالعالم. كان هذا حلم هوسرل.
يقدم الوجوديون سببين لرفض الاختزال الفينومينولوجي الذي طرحه هوسرل؛ أولًا: أنه يجعل علاقتنا الأساسية بالعالم نظرية أكثر منها عملية، كما لو أننا وُلدنا نظريين ثم تعلمنا العملية. أصر تلميذ هوسرل — مارتن هايدجر — على العكس؛ أي إننا كنا أصلًا «في العالم» بفضل اهتماماتنا العملية، وإن الفلسفة يجب أن تحلل هذا الوعي «دون النظري» بهدف الوصول إلى الوجود. بالمثل، أصر سارتر — كما رأينا — على أن كل المعرفة «ملتزمة». كما تحدث ميرلوبونتي عن «قصدية فاعلة» معينة لأجسادنا العائشة كانت تتفاعل مع العالم قبل تصورنا التأملي له. حتى هوسرل، في سنوات حياته اللاحقة، بدا وكأنه يعترف بهذه الادعاءات عن طريق تقديم مفهوم «عالم الحياة» باعتباره الأساس دون النظري لتفكيرنا النظري.
بَيْدَ أن الاعتراض الأساسي للوجوديين هو أن الوجود نفسه ليس «جوهرًا» خاضعًا للاختزال، كما صاغ ميرلوبونتي عبارته الشهيرة «الاختزال [الفينومينولوجي] الكامل أمر مستحيل» لأنك لا تستطيع «اختزال» الموجود «المُختزِل». يمثل الفرد الموجود ما هو أكثر من «صفاته» التي قد يتمنى المرء تحديدها في مفهوم نظري. وقد احتج سارتر قائلًا إن هناك «ظواهر وجودية»، مثل تجربتنا الشعور بالغثيان، تكشف أننا موجودون وأننا لا نحتاج إلى الوجود «صدفتنا». إلا أن هذه التجربة ليست إدراكية، وإنما هي مسألة إحساس أو وعي وجداني؛ أي مسألة تحديد الأوصاف والطباع.