الفلسفة الإنسانية: ما لها وما عليها
أعتقد أن البطولة والقداسة لا تروقانِني حقًّا. ما يهمني هو أن أكون إنسانًا.
لو كانت هناك نزعة إنسانية اليوم، فإنها تجرد نفسها من الوهم الذي أجاد فاليري تصويره عند حديثه عن «هذا الإنسان الصغير داخل الإنسان الذي دائمًا ما نفترض وجوده».
في ٢٩ أكتوبر ١٩٤٥، ألقى سارتر محاضرة عامة بعنوان «هل الوجودية فلسفة إنسانية؟» سرعان ما أصبحت بيانًا رسميًّا بإطلاق الحركة الوجودية. من جميع النواحي، كانت حدثًا فكريًّا غذى بالتأكيد نيران الحركة التي كانت تنتشر من مقاهي ليفت بانك ومسارح المنوعات في باريس إلى أوكار مشابهة عبر أنحاء أوروبا والعالم. لخَّصت هذه المحاضرة — التي أُلقيت على جمع حاشد من الجماهير — بإيجاز ما صار يُعرف بالسمة المميزة لوجودية سارتر: الادعاء بأن «الوجود يسبق الجوهر». بالنظر إلى النزعة الإلحادية المفترَضة في رأي سارتر، بدا أن ذلك يترتب عليه أن الأفراد متروكون ليصوغوا قيمهم الخاصة؛ لأنه لا يوجد نظام أخلاقي في الكون يمكن أن يوجهوا أفعالهم وفقه، وأن هذه الحرية — في واقع الأمر — كانت في حد ذاتها القيمة المطلقة التي يمكن أن يلجأ إليها المرء (أو كما يقول هو: «عند اختيار أي شيء على الإطلاق، فإنني قبل أي شيء أختار الحرية.») كان من الممكن أن يكتشف كل هذا القدر أي شخص قرأ كتابه الأهم «الوجود والعدم»، الذي نُشر قبل ذلك بعامين. لكن هذا الكتاب الطويل والصعب لم يكن حقًّا أعلى الكتب بَيعًا، بل يمكن أن نضيف أنه، مثل كتاب داروين «أصل الأنواع»، كان يُقتبس منه أكثر مما يُقرأ.
لم يكن ما جعل هذه المحاضرة ضرورية هو أنها بسطت العديد من الملامح الأساسية لعمله الأكبر وحسب، بل إنها حاولت الإجابة عن اعتراضات نقاد سارتر الكبار من كلا الجانبين الشيوعي والكاثوليكي بأن هذه الفلسفة الجديدة كانت تجسيدًا للفردية البرجوازية، وأنها لم تراعِ مطلقًا متطلبات العدالة الاجتماعية التي تثقل المجتمع الأوروبي المنهَك بالحرب. بعبارة أخرى: كان الصوت القائد للفكر الوجودي يواجه تحديَ الإجابة عن المزاعم القائلة: إن فلسفته لم تكن إلا مخدرًا نرجسيًّا لإبعاد الشباب عن مهمة إعادة بناء مجتمع عادل من بين أطلال التراجيديا الفاشية؛ ما يعني أن الوجودية ستفقد مصداقيتها أمام العامة لو لم تستطع تقديم فلسفة اجتماعية قابلة للتطبيق وذات صلة بحياتهم.
نادرًا ما يمكن تحقيق مثل هذه المهمة في محاضرة مسائية. في واقع الأمر، تكمن مزايا وعيوب هذا الخطاب القصير في محاولته تحقيق ذلك. استعان سارتر بنظرية كانط عن المبادئ العامة (المبادئ التي أوقفها إبراهيم — أحد شخصيات كيركجارد — من أجل هدف أسمى) عندما قال إنه ما من إنسان يستطيع أن يكون حرًّا بالمعنى الملموس (وليس فقط بالمعنى المجرد المستخدَم في «الوجود والعدم» الذي يصف الفرد بأنه حر) ما لم يكن الجميع أحرارًا. وهو يصر على قوله: «عندما أختار، فإنني أختار لجميع الناس.» وفي كلمات تحمل نبرة كانطية مميزة، يدعو سارتر كل فرد أن يسأل نفسه: «هل أنا من له الحق في التصرف بالشكل الذي يجعل البشرية تنظم نفسها وفق تصرفاتي؟» بدا أن هذا يعكس حس المسئولية تجاه الآخر وحتى تجاه المجتمع ككل بشكل يختلف عن آرائه السابقة. مع هذا طرح سارتر مبدأً أخلاقيًّا آخر عندما أكد أنه مع كل اختيار أخلاقي فإننا نكوِّن صورة عن الشخص الذي نريد أن نَكونه، بل في الواقع نُكوِّن صورة عما يجب أن يكون عليه أي شخص أخلاقي، فقال: «في الحقيقة لا يوجد فعل واحد من أفعالنا، عند تكوين صورة الشخص الذي نريد أن نَكونه، لا يكوِّن في نفس الوقت «صورة» عن الإنسان الذي نحكم بأنه «يجب» أن يكون عليه.» مهما كان دور هذه المبادئ في تشكيل النظرية الاجتماعية، فلم يبدُ أن أيًّا منها يستكمل ما نشره سارتر حتى ذلك الحين. وفي ضوء عمله اللاحق عن الأنطولوجيا الاجتماعية (انظر الفصل الخامس)، تُعَد هذه الملاحظات استبصارية، لكنها تظهر في هذه المحاضرة كجسم غريب لإنقاذ المؤمن بالفردية من نقاده الماركسيين والدينيين. إننا نشهد — في الواقع — سارتر وهو يفكر بصوت عالٍ، ويتفلسف «هائمًا». لقد مثَّلت التناقضات البادية في هذه المحاضرة إحراجًا واضحًا له، على أهميتها في تسجيل تطور فكره. وفي الحقيقة، هذا هو العمل الوحيد على الإطلاق الذي أعلن صراحة ندمه على نشره. ومن قبيل المفارقة يبدو أن هذا هو عمله الفلسفي الوحيد الذي يقرؤه الجميع.
يتفق ألبير كامو مع سارتر ونيتشه في أنه مهما كانت الغاية التي يحويها عالمنا، فإن الأفراد هم من يخلقونها سواء وحدهم أو في علاقات اجتماعية، لكنه يرى هذا مصدرًا لقلقنا؛ فنحن نشتاق إلى غاية يقدمها كون يهتم لكننا لا نجد إلا سماء خاوية. ماذا نفعل في مواجهة ما يسميه ﺑ «عبثية» هذا الموقف؟ يقدم كامو عزاءً وجوديًّا في تفسيره لأسطورة سيزيف الإغريقية؛ ذلك الإنسان الفاني الذي حكمت عليه الآلهة بأن يحمل صخرة صاعدًا بها الجبل، فإذا بلغ قمته رآها تسقط، وهكذا يتكرر الموقف بلا نهاية. ومع هذا يزعم كامو أنه يعتبر سيزيف سعيدًا في اللحظة التي يعود فيها إلى استرداد الصخرة عند سفح التل. لماذا يعتبره سعيدًا؟ لأن سيزيف سما فوق قدَره، ليس بالاستسلام المتبلد بل «بالاختيار المتعمد». وبهذا يظهر أنه أفضل من هذه الصخرة الجامدة. وحسبما قاله نيتشه، فقد حوَّل «ما كان» (ماضيه ومعطيات موقفه) إلى «هذا ما أردته».
بالنظر إلى هذه الحكاية الرمزية عن العبثية المطلقة التي تتسم بها الحياة، يشير كامو إلى أن أملنا الوحيد هو الاعتراف بأنه لا يوجد أمل مطلق. ومثل الرواقيين القدامى، يجب أن نحجِّم توقعاتنا في ضوء فَنَائنا.
(١) الفلسفة الإنسانية واللاوعي
يتمثل شعار الفلسفة الإنسانية لدى سارتر، الذي يتردد صداه في أعمال كامو ودي بوفوار، في أنك تستطيع دائمًا أن تصنع شيئًا مختلفًا عما وجدت نفسك عليه. وهكذا تحوي «التشاؤمية» الوجودية مضرب الأمثال أملًا عميقًا، وإن كان محدودًا. كانت هذه رسالة كامو في مقاله «أسطورة سيزيف»، مثلما كانت رسالة نيتشه في اعتناقه للقدر. إنها النتيجة الإنسانية الرئيسية لرفض سارتر اللاوعي الفرويدي؛ لأن هذه الدوافع والقوى تسلبنا حريتنا ومسئوليتنا.
لا يتسم جميع الوجوديين بكل هذا الشك في اللاوعي؛ فقد شاهدنا شخصية القاضي ويليام — التي رسمها كيركجارد — وهي تشير إلى الاختيارات اللاواعية والقوى الغامضة. وفي ضوء ادعاءات نيتشه حول الدوافع والغرائز اللاعقلانية، يمكن أن يقدِّر المرء اعتراف فرويد بأن نيتشه سبقه في جوانب عديدة. ولو كان قيل إن هايدجر لا يبالي بالتحليل النفسي، فقد ناقش على الرغم من ذلك كثيرًا من ممارسي التحليل النفسي في مناسبات عدة بناءً على طلب صديقه المقرب — المحلل النفسي السويسري مينارد بوس. في الحقيقة، صاغ لودفيج بينسوانجر مقاربة مؤثرة للتحليل النفسي اعتمدت على مفاهيم هايدجر. أما موقف ميرلوبونتي تجاه اللاوعي فبدا غامضًا. في واقع الأمر، لقد رأى أن اللاوعي لم يكن بعدُ فكرة مكتملة لدى فرويد نفسه، وكان مؤمنًا بأن مصطلح فرويد اقترب مما سماه مفكرون آخرون تسمية أدق ﺑ «الإدراك الغامض» أو «الإدراك غير العاكس»، وهو رأي يتفق معه سارتر. على أي حال، احترم ميرلوبونتي التحليل النفسي الفرويدي طيلة حياته المهنية. وحتى معارضة سارتر الشهيرة للاوعي قابلة للشك. وقد ذكر تلميذه السابق والمحلل النفسي المرموق جين برتراند بونتاليس أنه يومًا ما سيُكتب تاريخ العلاقة التي امتدت ثلاثين عامًا بين سارتر والتحليل النفسي، وهي مزيج غامض بين شعورين عميقين متساويين من الانجذاب والنفور، وربما يعاد تفسير أعماله في ضوئها. أما كارل ياسبرز — وهو طبيب نفسي ساعده سارتر في ترجمة بحثه الأهم «الأمراض النفسية العامة» إلى الفرنسية في عشرينيات القرن العشرين — فتحدث عن «أرض الوعي الإنساني بعيدة المنال».
انتقاد المفكر الصادق لنفسه — الذي بلغ ذروته لدى كيركجارد ونيتشه بعد فترة طويلة فاصلة من الإيمان بالمسيحية — قد انحط في ضوء التحليل النفسي إلى اكتشاف الرغبات الجنسية والتجارب النمطية للطفولة؛ إنه تقنيع لانتقاد صادق وخطير في نفس الوقت للذات عن طريق إعادة اكتشاف الأنماط المألوفة في عالم من الرغبات الملحة المفترضة، حيث تعتبر المستويات الأدنى من حياة الإنسان ذات صلاحية مطلقة.
(٢) بديل للفلسفة الإنسانية؟
لم أناقش بعد فكر مارتن هايدجر بالتفصيل. يزعم الكثيرون من أتباعه أن هذا الفيلسوف الأوروبي البارز لم يكن وجوديًّا على الإطلاق. لا بد بالتأكيد من التسليم بأن اهتمام هايدجر المعلَن كان منصبًّا على معنى الوجود، وليس على المسائل الأخلاقية أو النفسية التي اهتم بها كيركجارد ونيتشه. وقد سأل في أهم أعماله «الوجود والزمن» (١٩٢٧): «ما معنى أن توجد؟» وتعكس كتاباته اللاحقة تركيزًا شاعريًّا — إن لم يكن صوفيًّا — على التخلص من العقبات في حياتنا الشخصية والثقافية لحين وقوع ما أطلق عليه اسم حادثة الوجود. بعبارة أخرى: على مدار حياته المهنية، انتقد هايدجر أولئك الذين صرفوا انتباهنا عن بلوغ الوجود عن طريق التركيز على مسائل ميتافيزيقية متعلقة بالجوهر والوجود، والسبب والنتيجة، والذات والموضوع، ونظريات حول الطبيعة البشرية.
في مقال هايدجر الشهير «رسالة في النزعة الإنسانية» (١٩٤٧)، الذي كُتب ظاهريًّا كرد على محاضرة سارتر المذكورة آنفًا، انتقد الفلسفة الإنسانية التقليدية بسبب تعريفها «للإنسان» باعتباره «حيوانًا عاقلًا» أو «حيوانًا ناطقًا». ينتقص مثل هذا المفهوم — في رأي هايدجر — من قيمة الإنسان، ويؤدي بسهولة إلى ظهور مجتمع صناعي يعرِّف الإنسان من حيث إنتاجيته، ويقيِّم كل القيم من حيث نفعها الاجتماعي أو الشخصي. يرى هايدجر أن سارتر عاجز عن الهروب من هذه الميتافيزيقا التقليدية والأنثروبولوجيا الفلسفية الناتجة عنها. تكمن عظمة «الإنسان» (أو ما يسميه هايدجر «الكائن هنا»، قاصدًا الطريقة الإنسانية للوجود) في انفتاحه على الوجود، وفي قدرته على الاحتفاظ بمكان في العالم ليمارس فيه ما سماه هايدجر بواقعة وجوده. وفي تعبير شهير مأخوذ من عمله اللاحق، يطلق هايدجر على الإنسان/الكائن هنا اسم «راعي الوجود». وعظمته في البقاء منفتحًا ويقظًا «للنداء» أو للبُعد «المقدس» هي التي تتجاوز همومنا اليومية. ينصحنا هايدجر بضرورة تعلم أن «نفكر شاعريًّا» بدلًا من التصرف بدافع ذرائعي وحسب. لو تقبل المرء هذه النصيحة، يمكن إذن النظر إلى هايدجر في كتابه الثاني على أنه مبشر بالنزعة الإنسانية «الحقيقية»: النزعة التي تركز على أقوى إمكانات الإنسان؛ وهذا هو ما ادعاه في رسالته.
مارتن هايدجر (١٨٨٩–١٩٧٦)
نظرًا لترعرع هايدجر وسط جبال جنوب غرب ألمانيا، لم يفتر حبه للطبيعة أو احترامه للحياة البسيطة. تلقى تعليمه في جامعة فرايبورج إم برايجاو، حيث عمل مساعدًا لإدموند هوسرل، واعتبر زملاؤه كتابه الأول «الوجود والزمن» (١٩٢٧) عملًا عبقريًّا؛ لأنه قدم فينومينولوجيا تفسيرية اختلفت عن تلك التي تبناها أنصار هوسرل التقليديين. ومع هذا، خلف هايدجر هوسرل — بناءً على توصية من هوسرل نفسه — في رئاسة قسم الفلسفة في فرايبورج. يبقى ارتباطه لاحقًا بالحزب الاشتراكي القومي (النازي) مثار الكثير من الجدل. إلا أن سمعته كفيلسوف بارز لا غبار عليها.
لكن يجب أن نضيف أن هذا الحديث يبدو بعيدًا كل البعد عن الموضوعات الوجودية والفرضيات التي ناقشناها حتى الآن. في واقع الأمر، يتبنى هايدجر في كتابه الأول، «الوجود والزمن»، العديد من مفاهيم كيركجارد ونيتشه ليفسر كيف نبلغ كياننا الذي لدينا عنه بالفعل قدر من المعرفة. وهو يوظف أسلوبًا «تفسيريًّا»، أو تأويليًّا، ليوضح هذه المعرفة الأساسية. ويبين ظهور هذا الفهم المسبق ارتباط فكره بالفكر الوجودي. ومع أننا سنتناول الأمر بمزيد من التفصيل في الفصل الأخير، فيجب أن ننتبه هنا إلى أن مفاهيم مثل «القلق» (القلق الوجودي) والوقتية الوجدانية — التي سبق مناقشتها — تتجلى بصورة رئيسية في فكره المبكر، وكذلك فكرة وقتنا الفاني (وجودنا المتجه نحو الموت)، أي الإدراك والقَبول الإيجابي الذي يجسد ضعفنا ويجعلنا منفتحين على معنى الوجود من خلال مواجهتنا باحتمال نهاية وجودنا.
لكن الأنطولوجيا (طريقة فهم الوجود) وليس الميتافيزيقا (دراسة التصنيفات المطلقة التي ننظم بها أفكارنا) هي ما تهم هايدجر هنا. إن القدرة الموحِّدة لفنائنا الشخصي، التي تجمع شتات انشغالنا وتلهِّينا في الهموم اليومية المعتادة، تحمل دلالة «إنسانية» استطاع سارتر التعرف عليها، حتى لو ادعى هايدجر أن الوجودي — بالتركيز على الجوانب الأخلاقية والنفسية لفنائنا بدلًا من التركيز على قدرته على كشف ما يعنيه الوجود — عاجز عن رؤية الغابة بسبب الأشجار.
(٣) الحرية الإبداعية في مقابل الولاء الإبداعي: الإنسانية التوحيدية
رأينا سارتر يذكر بإيجاز الوجوديين التوحيديين في محاضرته ثم يواصل مناقشة الوجودية بأسلوب بدا وكأنه يستبعد — أو على الأقل يُسقط من الاعتبار — الإيمان بالله. لكن ليست الفلسفة الإنسانية بأكملها إلحادية. في حقيقة الأمر، وبأسلوب مماثل لأسلوب هايدجر، يقول التوحيديون إن الإلحاد ينتقص من القيمة الحقيقية للإنسان؛ لأنه يختزله إلى مجرد منتج أنتجته الطبيعة، دون قيمة جوهرية أو أمل مطلق. مرة أخرى، هناك عوامل كثيرة تشكِّل نوع الحرية أو الاستقلالية التي ينسبها مدعي الوجودية إلى الفرد. يدعي الملحدون أن هذه الحرية مطلقة. أيًّا كانت المزايا الكاملة التي نسبها البشر إلى الله، فإنهم يصرون على أنها مكتسبة على حسابهم وأن علم اللاهوت هو ببساطة علم الإنسانيات معكوسًا. أدت فرضية نيتشه عن موت الإله إلى دعوته إلى نوع من الإلحادية البطولية يتقدم بها الإنسان إلى الأمام مثل سيزيف، رغم عدم الاهتمام المزعوم من جانب الكون.
على العكس من ذلك، يرى التوحيديون أن السمة المميزة للإنسان هي انفتاحه، ليس فقط على الوجود الهايدجري (مع أن البعض يفسر هايدجر تفسيرًا إيمانيًّا غامضًا)، لكن على إله يفهم ويهتم. من منظورهم، الحرية أصلية لكنها مصنوعة. وهم يرون العالم ووجودنا كهدية ودعوة لرد فعل مسالم. يجب أن يكون موقفنا المترتب على ذلك هو ما يسميه جابرييل مارسيل «الولاء الإبداعي» تجاه هذه الهدية. مثل هايدجر، يرفض مارسيل وثنية العالم الصناعي والتفكير الحسابي القائم عليه. (قال هايدجر إن انتصار الجانب الصناعي في مجتمعنا المعاصر واختزال كلٍّ من الطبيعة والبشر إلى مجرد «موارد» كانا النتيجة المنطقية لنسياننا الوجود على مدار عقود ورغبتنا في السيطرة؛ مما يدعم مذهب نيتشه عن إرادة القوة.) وفي مناقضة صارخة لاعتراض كامو على أي أمل مطلق، ينص تركيز مارسيل تحديدًا على معاني الأمل الإنساني، الذي يرتبط بالولاء والثقة في وعد «الآخر» لكنه ليس بضمان محسوب لقوة ما غير ذاتية. وكما لو أن مارسيل أراد بوضوح أن يعارض موقف كامو، فقد أصر على أنه من الناحية الميتافيزيقية، الأمل الوحيد الحقيقي هو الأمل فيما لا يعتمد علينا؛ أمل نابع من التواضع وليس من الكِبْر.
جابرييل مارسيل (١٨٨٩–١٩٧٣)
عاش في باريس طيلة حياته، وكان أول من أطلق لفظ «الوجودي» على سارتر. أراد أن يكون فيلسوف الملموس، وذلك كرد فعل على الفلسفة المثالية التي كانت سائدة في عصره. وباستثناء محاضرات جيفورد البارزة التي نُشرت بعنوان «لغز الوجود» (١٩٥٠)، فإن معظم كتاباته الفلسفية، بدايةً من «مذكرات ميتافيزيقية» (١٩٢٧)، كان ينحو منحًى تأمليًّا. بعد أن اعتنق المذهب الكاثوليكي، ظل محافظًا على بُعد ديني راسخ. ولكي يوضح الاتحاد الوجودي بين الفلسفة والأدب التخيلي، أشار إلى أن فكره الفلسفي قد يُكتشف بالشكل الأمثل في مسرحياته المنشورة على مدار أكثر من ٣٠ عامًا.
يستفيض كارل ياسبرز في مفهوم «الإيمان الفلسفي» الذي يفرِّق بينه وبين كلٍّ من الإيمان الديني الموحَى والإلحاد. يستتبع هذا الإيمان اعتبار «التسامي» أقوى احتمالية «لوجودنا»، ويعبِّر عن تجربة فنائنا في «مواقف محدودة» مثل: المعاناة والإحساس بالذنب والموت. وعلى نحو مشابه — إجمالًا — لفكر هايدجر عن الوجود المتجه نحو الموت، ينبهنا مفهوم ياسبرز عن الموت باعتباره موقفًا محدودًا — على سبيل المثال — إلى بُعد «وجودي» يفوق تصورنا. بهذه الطريقة، نستطيع بلوغ التسامي بلوغًا غير مباشر وليس عن طريق المجادلة العقلانية التقليدية. من وجهة نظر ياسبرز، فإن التسامي هو الآخر المطلق الذي يقوم عليه «وجودنا». ومثل مارسيل، فإنه يتحدث عن «الوجود» باعتباره هدية هذه الكينونة غير الموضوعية التي يسميها التسامي. ومثل هايدجر، فإنه يصر على أن التسامي يُظهر نفسه «للوجود» فقط (وهو ما يماثل «الكائن هنا» لهايدجر، أي الطريقة الإنسانية للوجود). وحدهم البشر هم من يفكرون في سبب وجودهم من الأساس، وهذا يثير القضية الوجودية التقليدية المتعلقة بوجودنا المحتمل.
كارل ياسبرز (١٨٨٣–١٩٦٩)
نشأ في أسرة ثرية في أولدينبرج بألمانيا، وتدرب على ممارسة الطب، وكان أول عمل رئيسي منشور له هو «الأمراض النفسية العامة» (١٩١٣). سرعان ما تحول إلى دراسة الفلسفة، فنشر «سيكولوجية الحياة الإنسانية» (١٩١٩)، وعُين رئيسًا لقسم الفلسفة في هايدلبرج في عام ١٩٢١. كان أول من يسمي مذهبه ﺑ «فلسفة الوجود». تركز الوجودية التوحيدية على «مواقف محدودة» مثل المعاناة والإحساس بالذنب والموت. تؤدي تجربة هذه المواقف إلى الإحساس بفنائنا ومعرفتنا المحدودة بما يسميه «التسامي»، أو الأساس الذي يقوم عليه «وجودنا». نظرًا إلى «عدم إمكانية الثقة به سياسيًّا»، حرمه النازيون من درجة الأستاذية في عام ١٩٣٧.
(٤) تجربة الاحتمال
لقد أسرَت لُبي. لم أفهم قط على مدار الأيام القليلة الماضية معنى «أن أوجد» … نحن هنا، كلنا، منزعجون، خجلون من وجودنا، ليس لدينا سبب لنوجد هنا بدلًا من هناك، محتارون، مضطربون لسبب غامض، شاعرون بأن بعضنا زائد عن حاجة بعض. كانت هذه الزيادة عن الحاجة هي العلاقة الوحيدة التي بوسعي عقدها بين هذه الأشجار، هذه السياج الشجرية، هذه الممرات. جاهدت عبثًا أن أُحصي عدد أشجار الكستناء، أو بُعدها عن فيليدا، أو طولها مقارنةً بشجر الدُّلْب؛ كلٌّ منها اختلفت عن النمط الذي حددته لها، فزادت عنه أو نقصت. وأنا أيضًا بينها، تافه، ضعيف، فاسق، أمضغ جرَّة أفكاري، أنا أيضًا كنت زائدًا عن الحاجة. [وأقصد هنا بكلمة «أنا» نفسي أو أنت أو أي شخص.] من حسن الحظ أنني لم أشعر بالأمر، أنا فقط فهمته، لكني شعرت بعدم الراحة لأني كنت خائفًا من أن أشعر به … فكرت بتردد أن أنفصل عن نفسي، أن أنفصل على الأقل عن أحد هذه الوجودات الزائدة عن الحاجة. لكن موتي — جثتي ودمي المراق على هذا الحصى، وسط هذه النباتات، في هذه الحديقة المتبسمة — كان سيصبح زائدًا عن الحاجة هو أيضًا. كنت زائدًا عن الحاجة إلى ما لا نهاية.
من نواحٍ عدة، يشكِّل هذا الوصف التخيلي — مثل وصف سول بيلو ﻟ «المصباح الكهربائي الساقط» — «حجة» وجودية، كما يعرض العلاقة الوثيقة التي تربط بين الفلسفة الوجودية والأدب التخيلي. لا يثبت هذا الوصف شيئًا أو يفسره، لكنه يمكِّننا بصورة غير مباشرة من المرور بتجربة؛ وبالتالي — كما يقول هوسرل — أن نرى؛ أي إنها تجسد تجربة نقول فيها: «أجل، هكذا هو الأمر.» في الوضع الحالي، فالتجربة هي عن احتمالنا، عن الحقيقة المجردة بأننا موجودون وأننا لسنا مضطرين إلى الوجود. إنها ليست تلك الحقيقة البديهية القائلة إنه إذا لم يلتقِ أبوانا، ﻓ «إننا» لن نكون موجودين هنا. على العكس، يستعين الوجوديون من جميع الأقطاب بهذه الرؤية المتكررة فلسفيًّا التي تركز على الفرق بين «ما» نحن عليه و«وجودنا» من الأساس، مع التشديد على مرورنا بتجربة «عدم» الاضطرار. ماذا يعني كل هذا؟
يرتبط البُعد الإنساني للوجودية بحقيقة وجودنا. وما يميز الموحِّدين عن الملحدين هو إجابة كلٍّ منهم عن السؤالين: «لماذا نوجد؟» و«لماذا يوجد أي شيء على الإطلاق بدلًا من لا شيء؟» بخلاف فلاسفة مثل برتراند راسل ممن ينكرون أن للسؤال معنًى من الأساس، فإن الوجوديين — سواء كانوا موحدين أو ملحدين — يأخذونه على محمل الجد، وكيفية إجاباتهم هي التي تشكِّل «النزعة الإنسانية» التي يقترحونها. رأينا أننا، في نظر كامو، كنا نواجه تحديَ استغلال موقف عبثي استغلالًا أمثل. سيتفق سارتر مع روكوينتين بأن وجودنا ليس إلا حقيقة قاسية، وأننا زائدون عن الحاجة. وسيتفق كلاهما مع سطر النهاية السيزيفية لمسرحية سارتر «لا مخرج»: «حسنًا، لنواصل الأمر.» ليس معنى أنه لا يوجد أمل مطلق أننا محرومون من أي أمل على الإطلاق؛ فالحكمة المستخلصة من تجربة سيزيف ليست في تثبيت الصخرة لكن في إزاحة عبئها عن كاهله! فمن الأجدى أن نسعى إلى أهداف محدودة لكن يمكن تحقيقها؛ مثل الرواقيين القدامى.
أرى أنه من المسلَّم به أن هذه التجربة حقيقية، ويجب أن يشكل تفسيرها تمهيدًا لأي تحليل لأنثروبولوجيا سارتر، وأريد أن أقول فورًا إنها، في حد ذاتها، تبدو لي غير قابلة للجدل. مشكلتنا — وهي مشكلة عويصة — هي أن نعرف القيمة التي ننسبها إليها.
هل وجودنا حقيقة قاسية علينا التعامل معها، أم هبة علينا قبولها بروح شاكرة؟ يقترح مارسيل حله الخاص، معلقًا بأن مادية جذر الشجرة ووجوده الخاص «لا يعتبرهما سارتر زيادة عن حاجة الوجود، بل هما جوهريان وعبثيان». على العكس منه، يعتبرهما مارسيل فيضًا إعجازيًّا للوجود ومثالًا لافتًا للنظر للمبدأ الأفلاطوني القديم الذي يقول: إن الخير يميل إلى نشر نفسه كالحب الذي يصر على الانتقال، أو تجربة الجمال التي تتطلب المشاركة.
(٥) إنسانيات وحريات (ميرلوبونتي)
ميزة هذه الفلسفة الجديدة بالتحديد هي أنها تحاول، من منطلق وجودي، أن تجد أسلوبًا للتفكير في وضعنا. أو بالمعنى العصري للكلمة، فإن «الوجود» هو تلك الحركة التي عن طريقها يوجد الإنسان في العالم ويدمج نفسه في موقف اجتماعي وجسدي يتحول بعد ذلك إلى وجهة نظره عن العالم.
ربطتنا الفلسفة الكلاسيكية — مثل فلسفة ديكارت — بالعالم من خلال المعرفة بالأساس. لقد رأينا كيف رفض الوجوديون ما اعتبروه مواصلة هوسرل لهذا التحامل الديكارتي بأسلوبه الفينومينولوجي. تدعي الوجودية أننا موجودون في العالم بفضل علاقة كينونية، تكون فيها الذات — من قبيل المفارقة — «هي» جسدنا وعالمنا وموقفنا، بشيء من التبادل. وكما قال هايدجر، فإن «الكائن هنا» موجود في العالم في الأصل بفضل اهتماماته العملية وليس إدراكه النظري. يفسر ميرلوبونتي هذا بتركيز انتباهه على أولوية أجسادنا النابضة بالحياة.
على الرغم من أن ميرلوبونتي سوف يتجاوز الوجودية قبيل وفاته، التي حلت على نحو مباغت وهو في الثالثة والخمسين من العمر، فقد تمثَّل إسهامه في الفكر الوجودي بالأساس في تحليله الدقيق لوجودنا الجسدي و«العالم المتداخل» للوجود الاجتماعي الذي أسقطه سارتر من اعتباره في بداية حياته، وإن لم يكن قد تجاهله تمامًا. أعمال ميرلوبونتي الأولى في علم النفس التجريبي ميزته عن معظم الوجوديين الذين — باستثناء ياسبرز — بدَوا غير مبالين بالعلم التجريبي. وكما سنرى في الفصل السادس، فنتيجة تأثره باللغويين البنيويين الجدد؛ بدأ تدريجيًّا يجعل اللغة مركز تفكيره، فأثرَت بالتالي توصيفاته الفينومينولوجية، إن لم تكن حلت محلها.