المذاهب الاجتماعية والفكرية
إذا اتسعت الديانة لقبول المذاهب الاجتماعية والفكرية فهي إحدى ديانتين تختلفان، ويبلغ الاختلاف بينهما حد التناقض في هذه الوجهة …
فهي إما ديانة تنفض يدها من أعمال الدنيا، وتتجرد بضمائر أتباعها للمطالب الروحية أو المطالب الأخروية غير الدنيوية.
أو هي ديانة تنظر إلى الدنيا، وتقيم قواعد الإصلاح الاجتماعي على أسس واسعة النطاق، ثم توجب على الناس أن يتخيروا الأوقات لتطبيقها على حسب دواعيها، ومطالب البيئات التي تتجدد فيها …
والمقرر في المقابلة بين الديانات أنَّ المجتمع الإنساني يتطلب نصيبه من الديانة، وإن لم تشتمل على نصوص تتعرض للسياسة الاجتماعية؛ لأن الديانات جماعية وفردية، بل هي ألزم للجماعة وأولى بالقيام بين ظهرانيها؛ لأن ضمائر الأفراد لا تنعزل بأعمالها عن شركائها في الحياة الاجتماعية، وعلى ما فيها من الصلاح والفساد تنتظم تلك الحياة، أو ينتقض فيها النظام …
وقد كانت البرهمية ديانة «غير دنيوية»؛ لأنها تقوم في جوهرها على سوء العقيدة في الدنيا، والإيمان ببطلانها، وغلبة الوهم على مظاهرها وخفاياها، ولكنها تعرضت للمجتمع فقسمته إلى طبقات، وميزت كل طبقة منها بمزيتها في الحكم والمعيشة، وداخلت الناس في المساكن والمطاعم فلا تفارقهم في عمل يعملونه، أو حركة يتحركونها …
والمسيحية لم تتعرض للتشريع ولا للسياسة الاجتماعية؛ لأنها نشأت في بيئة ترجع بشرائعها المدنية إلى الدولة الرومانية التي قيل عنها: إنها أم الشرائع في الزمن القديم، وترجع بشرائعها الدينية إلى الهيكل اليهودي الذي يطلق اسم الشريعة على الدين كله؛ لأن الاعتقاد عنده قائم كله على التشريع، ومع هذا ظهرت في ظلال المسيحية دعوى الملوك الذين أقاموا حكمهم على الحق الإلهي، وظهرت فيها مراسم للسلطة الدينية أعم وأقوى من سلطة الدين في غيرها …
فالديانات في الواقع العملي سواءٌ في آثارها الاجتماعية، وإن لم تكن سواءً في نصوصها التي تعرض لمسائل الاجتماع، وكثيرًا ما اصطدمت الديانات «غير الدنيوية» بالمذاهب الدنيوية على غير تفرقة بينهما؛ لأنها من أساسها تجعل الحياة الروحية مناقضة للحياة الدنيوية كيفما كانت، وعلى أية سنة تسير …
والإسلام لم يتجنب مسائل الاجتماع؛ لأن اجتنابها ليس من طبيعة الدين، ولكنه عني بهذه المسائل كما ينبغي أن تدركها عقيدة الإنسان في الجماعة البشرية، ووكل إلى عقيدته أن توفِّق بينها وبين الصلاح الاجتماعي كما يقتضيه زمانه، وتستوحيه الجماعة كلها من ضروراتها، ومن قواعد دينها. ولا فارق في النهاية بين المصلحة كما تهتدي إليها الجماعة، والمصلحة كما يوجبها الدين …
والمذاهب الاجتماعية شيء واقع معروف المبادئ والغايات في العصر الحاضر، فعلاقة الإسلام بها كذلك شيء واقعي لا حاجة به إلى الخوض في النظريات والفروض الذهنية؛ لأن مواضع الوئام أو النزاع بين جميع هذه المذاهب وبين نصوص الدين الإسلامي مسطورة معلومة لمن يريدها، وقد كشفت عنها تجارب العمل كما كشفت عنها بحوث الباحثين …
هذه المذاهب الاجتماعية ومعها المذاهب الفكرية كثيرة تتفرع على أصولها الكبرى، ولكننا إذا عددنا منها هذه الأصول أغنانا البحث فيها عن البحث في فروعها، وبخاصة حين يدور البحث على القواعد الكبرى في الإسلام، والقواعد الكبرى في أمهات مذاهب الاجتماع والفكر في هذه الآونة …
إنَّ أصول المذاهب الاجتماعية قد تتلاقى في هذه الآونة إلى أصول ثلاثة تحيط بها في جملة مناحيها؛ وهي: الديمقراطية، والاشتراكية، والعالمية …
أما مذاهب الفكر فأكثرها ذكرًا في العصر الحاضر مذهب التطور، ومذهب الوجودية أو مذاهبها المتعددة بمقاصدها وإن اتَّحدت بعنوانها …
فما الذي يمنع المسلم أن يعمل للديمقراطية، أو يعمل للاشتراكية، أو يعمل للوحدة العالمية؟
وما الذي يمنع المسلم من أحكام دينه أن يقبل مذهب التطور، أو يقبل الوجودية في صورتها المثلى؟
إنَّ المسلم أحق بالديمقراطية من أتباعها المحدثين والأقدمين؛ لأنه — منذ أربعة عشر قرنًا — يدين بمبادئ الديمقراطية الأولى التي لا يصدق اسم الديمقراطية على نظام من النظم بغيرها، وهي: التبعة الفردية، والحكم بالشورى، والمساواة بين الحقوق، والمحاسبة بالقانون …
كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [سورة الطور: ٢١]. وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ [سورة الشورى: ٣٨]. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [سورة الحجرات: ١٠]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ [سورة الحجرات: ١٣]. وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا [سورة الإسراء: ١٥]. وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [سورة فاطر: ٢٤].
ومتى آمن المسلم بهذه المبادئ فهو صاحب الحق في اختيار ما يرتضيه من نظم الديمقراطية؛ بل فرض عليه واجب الدين — مع واجب المصلحة — أن يطلب الحكم على نظام من النظم التي تتوافر لها هذه المبادئ الأولى …
•••
وليس في عقيدة المسلم ما يصده عن مذهب من مذاهب الاشتراكية الصالحة؛ لأنه ينكر احتكار الثروة في طبقة واحدة، وينكر احتكار التجارة في الأسواق عامة، ويفرض على المجتمع كفالة أبنائه من العجزة والضعاف والمحرومين، ويجعل حق الفرد رهينًا بمصلحة الجماعة. ومن سمحت عقيدته بهذه المبادئ لم تحرم عليه أن يأخذ من الاشتراكية ما أباحته له قبل أن توجد الاشتراكية والاشتراكيون …
ينهى الإسلام عن حصر المال في طبقة دون سائر الطبقات: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ [سورة الحشر: ٧].
ويمنع كنز الذهب والفضة: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة التوبة: ٣٤].
وفي الحديث الشريف: «من احتكر طعامًا أربعين يومًا يريد به الغلاء؛ فقد برئ من الله، وبرئ الله منه.»
ويحرم الإسلام أكل الأموال بالباطل من طريق التجارة بالديون: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران: ١٣٠].
وقد ظهر في الإسلام فقهاء اشتراكيون يستندون في آرائهم إلى السنن الإسلامية، ولا يعرفون سندًا غيرها لما يدعون إليه، ومنهم فقهاء المذهب الظاهري، الذين يحرمون تأجير الأرض بغير عمل إلا أن تكون أرض بناء، وأن يكون الأجر لما عليها من بناء، وأشهر هؤلاء الفقهاء الاشتراكيين الفيلسوف ابن حزم الظاهري، الذي يقول في كتابه المحلى: «إنَّ زرع الأرض لا يحل إلا على أحد ثلاثة أوجه: إما أن يزرعها المرء بآلته وأعوانه وبذره وحيوانه، وإما أن يبيح لغيره زرعها، ولا يأخذ منها شيئَا.
فإن اشتركا في الآلة والحيوان والأعوان دون أن يأخذ منه للأرض كراءٌ فحسن، وإما أن يعطي أرضه لمن يزرعها ببذره وحيوانه وأعوانه وآلته بجزء، ويكون لصاحب الأرض مما يخرج الله تعالى مسمًّى؛ إما النصف، وإما الثلث أو الربع، أو نحو ذلك أكثر أو أقل، ولا يُشترط على صاحب الأرض شيء من كل ذلك، ويكون الباقي للزارع، قل ما أصاب أو كثر، فإن لم يصب شيئًا؛ فلا شيء له ولا شيء عليه. فهذه الوجوه جائزة، فمن أبى فليمسك أرضه.»
ورأيُ ابن حزم هذا مذهبٌ يستند فيه الفقيه الفيلسوف إلى حجة من الدين تجوز عنده على ما فصَّله في كتابه، فإن لم تكن قاطعة عند غيره، فالدين الذي يستنبط أمثال ابن حزم من أحكامه ذلك الرأي لا يقال عنه: إنه يصد المؤمنين به عن الاشتراكية على طريقتها الوسطى بين الطرفين، وليس فيها ما هو أوسط وأعدل ممن يمنع احتكار الثروة، ويجعل للمحرومين حصة معلومة من الثروة العامة. وهو مذهب الإجماع في شريعة الإسلام، وعليه تقوم إحدى فرائضه الخمس؛ وهي الزكاة.
•••
وإنه لمما يناسب رسالة الدين أن يستوعب مذاهب الاجتماع، ولا يستوعبه مذهب منها؛ لأن هذه المذاهب الاجتماعية تأتي وتذهب، ويعتريها التعديل والتبديل جيلًا بعد جيل، ولا يعقل أن يتغير يقين الإيمان بحقيقة الوجود كلما تغيرت خطة من خطط العمل في المصالح الاجتماعية، مهما يبلغ من صوابها عند العمل بها وإجرائها في مجراها الموقوت …
ومما يساق من أمثلة هذا أنَّ ناقدي الإسلام من الغربيين أخذوا عليه أنه يعوق أعمال المصارف والشركات، ومرافق التثمير والتعمير، بما حرمه من الربا في تثمير القروض، وليس هذا النقد بصحيح؛ لأن الإسلام لم يحرك قط عملًا من أعمال التثمير يخلو من الإضرار بمن يحتاجون إلى القروض، ويبرأ من أكل أموال الناس بالباطل في غير عمل مباح، ولكن هذا النقد على أية حال ينقضي بصوابه وخطئه، ولا تنقضي رسالة الدين على إطلاقها.
وإنما يقيس مصالح الأديان حقًّا من يقيسها على اتساع وامتداد، وينظر إلى الغد كما ينظر إلى اليوم، فلا يقضي بحكم من الأحكام فيها كأنه ختام العصور والمصالح جمعاء، فهذا عصر الثروات الكبرى في أيدي أصحاب الأموال يوشك أن ينقضي، ويلحقه عصر ينادي فيه الاقتصاديون بملك الأمة لموارد الثروات، ويقول فيه آخرون بمنع حيازة الأموال العامة، فضلًا عن فوائدها على قدر من الأقدار كائنًا ما كان …
وقد استوعب الإسلام مذاهب الاقتصاد في عصر المصارف والشركات وقروضها وفوائدها دون أن يعوق مصلحة من مصالحها البريئة في العرف المشروع، وتمضي هذه المذاهب كما مضى غيرها، فلا يئوده بعدها أن يستوعب مذاهب الثروة في أيدي الجميع، ولا مذاهب الثروة في أيدي الآحاد، لا يمنع منها إلا ما يمنعه أولًا وآخرًا من ضرر أو ضرار …
•••
وإذا كان دين المسلم لا يمنعه أن يتخذ من مذاهب الديمقراطية والاشتراكية ما يرى صلاحه، فالوحدة العالمية أمل من آماله، وغاية من غايات الخلق في اعتقاده، وليس مبلغ الأمر فيها أنها رأي لا يمنعه مانع من دينه …
فالخالق — جل جلاله — قد خلق الشعوب والقبائل لتتعارف وتصطلح على العرف الحسن، والمعرفة الرشيدة، فتجمعها أسرة واحدة لا تفاضل بين أبنائها بغير التقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ [سورة الحجرات: ١٣].
ولا يسهل الإيمان بالوحدة العالمية على امرئ يؤمن بأن الله يصطفي سلالة من البشر دون سائر السلالات لغير فضيلة تحسب لها في ميزاتها غير انتسابها إلى أرومة معلومة …
ولا يسهل الإيمان بهذه الوحدة العالمية على امرئ يؤمن بأن النجاة في ماضي العصور ومقبلها قسمة موقوفة على شرط لم يكمل في غير زمن محدود لأناس محدودين …
ولكن المسلم الذي يؤمن برب العالمين، ويعلم أنَّ النجاة قسمة لكل من سمع دعوة الهداية فاستجاب لها من الأولين والآخرين، يبسط رواق الأخوة الإنسانية على الغابرين والحاضرين، ولا يطرد من حظيرة الرضوان إنسانًا اتقى الله على هَدْي دين من الأديان …
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة: ٦٢].
وينبسط رواق الأخوة الإنسانية على جميع الأجناس والأقوام كما ينبسط على جميع الملل والديانات، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى، كما جاء في أحاديث النبي العربي القرشي إلى قومه، وإلى صحبه وآله، وليس بين الأخوين من هذه الأسرة العظيمة رجحان لغير ذي عمل راجح في ميزان الخير والصلاح …
•••
وفي عقيدة المسلم عون له على النظر في المذاهب الفكرية الحديثة — وهو مذهب التطور — فربما أعانه دينه على قبول مبادئه، دون أن يقيده بقبول نتائجه التي تصح عند أناس، ولا تصح عند آخرين …
وليس في مذهب التطور مبدأ أهم من تنازع البقاء وبقاء الأصلح، وليس النظر في هذين المبدأين محظورًا على من يقرأ في كتابه أنَّ صلاح الدين والدنيا لا يتفق لناس عفوًا، وأنَّ الفساد لا يُدفع عن الناس بغير دافع، وأنَّ الإيمان يحمي صاحبه، ويحميه صاحبه، فلا إيمان لمن لا يَنصُر اللهَ ويَنصُره اللهُ.
وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة: ٢٥١]. لَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة الحج: ٤٠].
وأول ما يعتقده المسلم في مسألة الخلق أنَّ الله خلق الإنسان من سلالة من طين، وأنبته من الأرض نباتًا، وأنشأه مع سائر أبناء نوعه أطوارًا، كما جاء في آيات متواردة من التنزيل:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [سورة المؤمنون: ١٢–١٤]. ذَٰلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ [سورةالسجدة: ٦–٩]. مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [سورة نوح: ١٣، ١٤].
فإذا آمن المسلم بنشأة الإنسان من سلالة من طين، وأنه نبت من الأرض نباتًا، ثم اتصل خلقه أطوارًا، فلا جناح عليه أن يتقبل ما يثبته العلم الصادق من نشأة تلك السلالة بين مادة الأرض من طين وماء، وبين هذا الخلق السوي القويم، أيًّا كان معنى السلالة في الخبر الثابت، غير مسئول أن يأخذ معناها مأخذ الإيمان باليقين …
•••
والوجودية مذهب آخر من المذاهب الفكرية يشبه التطور في هذا العموم الشائع بين الآراء والتطبيقات، فإن الوجودية في حقيقتها وجوديات كثيرة تتشعب في كل ناحية من نواحي النظر والاعتقاد، ولا تلتقي في غير قاعدة واحدة، هي الاعتزاز بحق الفرد في الوجود؛ لأنه عند الوجوديين هو الكيان الثابت الذي تصدق عليه صفة الوجود الصحيح؛ إذ لا وجود في غير الذهن للأنواع والأجناس والفصائل والأقسام، ولكنها كلها أفراد متفرقة هي الموجودة بذواتها دون ما يطلق عليها من الأسماء و«الماهيات» في اصطلاح المنطقيين …
وليس على الفكر حرج أن يدحض زعم الزاعمين بوجود الفرد وبطلان وجود النوع في الحس والعيان، فهذا كله لا طائل تحته في النتيجة التي يخرج بها الوجوديون من تلك المقدمة، وإنما نتيجتها أنَّ الفرد مسئول، وأنه صاحب الحق الواجب على قدر هذه المسئولية، وأنه خليق ألا يدين لسلطان غير سلطان الضمير؛ لأنه يحاسب على أعماله ونياته، ولا يغني عنه أمر الجماعة ولا أمر ذوي السلطان، وذلك هو حق العقل في الإسلام؛ بل هو فيه واجب العقل لا يغنيه أن يعتذر منه بطاعة السلف، أو طاعة الجماعة، أو طاعة الرؤساء والأحبار. وقد وصل العقل الإنساني إلى هذا الحق، وهذا الواجب بفضل العقيدة الإسلامية قبل أن يصل إليه من طريق الجدل العقام في التفرقة بين وجود الذوات ووجود الماهيات.
•••
ولا بد — في عصور الثقافة خاصة — من كلمة سواء بين الدين وهذه المذاهب الفكرية. فما هي رسالة الدين، وما هي رسالة المذاهب؟ مهما يكن من رأي في هاتين الرسالتين ففي وسعنا أن نقول: إنَّ الدين ينبغي أن يطلق للمذاهب الفكرية مجالها في المسائل المتجددة، وإنَّ المذاهب الفكرية ينبغي أن ترعى للدين حرمته في المسائل الباقية. إنَّ المذاهب تذهب والدين باقٍ، وليس بالمتدين ذلك الذي يحمل عقيدته ليطرحها عند أول مذهب يروقه ويوائم خواطره في مشكلات يومه …
وباستقراء الواقع فيما مضى وما حضر، نتبين أنَّ الإسلام قد قال هذه الكلمة السواء في عهود كثيرة، وأنه كان في تلك العهود مذهبًا فكريًّا وزيادة؛ لأنه لم يقرر أصلًا من أصوله يحجر على العقل في تفكيره، ولأن الجانب الذي وكله إلى الإيمان من روح الإنسان هو الجانب الذي لا يستطيع الفكر أن يقول كلمة أولى بالاتباع من كلمة الدين.