العُرف والعَادات
دخلت في الإسلام عند ظهوره أمم شتى من أبناء الحضارة والبداوة تأصلت لهم عادات عريقة، وآداب موروثة، وتباعدت المسافة بين تلك الأمم في عاداتها وآدابها كما تباعدت في مواقعها وتخومها، ومنها خلفاء الفرس والبابليين والفينيقيين والكنعانيين والفراعنة والبربر، وقبائل البادية أو البوادي المتلاحقة بين وادي النهرين ووادي النيل …
عالم شاسع تعددت فيه الأزياء والمراسم والمواسم والأطعمة والأشربة والآداب والمصطلحات، كما تعددت اليوم في القارة الواسعة بين شعوبها التي تنتمي إلى مختلف العناصر والأقوام، فتعود المسلمون من اللحظة الأولى أن يوسعوا أكناف الإسلام لكل ما في هذا العالم الشاسع من عرف وعادة، ومن شعائر ومراسم، وأصبح العالم الإسلامي مرادفًا عندهم للعالم الإنساني عند النظر إلى اختلاف الظواهر والأشكال.
وأعفتهم هذه النظرة السمحة من جمود التقاليد التي تنعزل بأصحابها عن العالم الإنساني أحيانًا، كلما أقام الدين وأتباعه زمنًا طويلًا في معزل عن الناس، فلم يتحرج المسلمون من تلك الظواهر والأشكال في غير شيء واحد، وهو المساس بالعقائد والعبادات. وكل ما زاوله الناس بعيدًا من الهيكل والمذبح فهو حل مباح لا يسألون عنه، ولا يبالون أن ينزعوا فيه منزع الأمم التي احتوتها الرقعة الإسلامية من تخوم الصين إلى شواطئ المغرب الأقصى …
احتفل المسلمون بالنيروز، ولبسوا الطيلسان، وأكلوا في الأديرة وعلى موائد الدهاقين، وركبوا البراذين والفيلة، وتعاملوا بالدراهم والدنانير، وسكنوا البيوت من بناء القبط والروم، وعاشوا بدين واحد في أزياء لا عداد لها، فحققوا بذلك أنَّ الإسلام دين العالمين …
ولازمتهم هذه السماحة في العرف صدرًا من الدعوة ومن الدولة الإسلامية الأولى، فلم يعرفوا في هذه الفترة مشكلة دينية تحتاج إلى حل ديني في شئون المعيشة من مأكل وملبس، أو مسلك شائع في معاملات الناس، ولم تظهر هذه المشكلات إلا مع ظهور الخوف على كيان الأمة الإسلامية؛ خوف الفتنة من الداخل، وخوف السيطرة من الأعداء …
وتحرج المسلمون حين شعروا بالحرج فيما بينهم وفيما يهددهم من غلبة أعدائهم، وشعروا بهذا الحرج من الدخيل الذي يتوارى بين ظهرانيهم قبل أن يشعروا به من الدخيل الذي يغير عليهم، ويخضعهم بالقوة والمكيدة …
أخذوا ينكرون العادات والمراسم التي لا غبار عليها في مظاهرها حين علموا أنَّ الدخيل في مِلَّتهم يتستر من ورائها لترويج العقيدة التي تلازمها، والتمهيد للدولة التي تقوم عليها. ومن هنا تلفتوا على حذر إلى كل ظاهرة مجوسية أو بيزنطية تستأنف ظهورها في البيئة الإسلامية، وكاد السؤال عن الحلال والحرام يسبق كل حركة غريبة — مريبة — ترتبط بمراسم الأمم المغلوبة في الزمن القديم قبل دخولها في الإسلام. وإلى هذا الحذر يرجع الشك في المراسم الأعجمية حيث كانت بين المسلمين أو غير المسلمين.
ثم اشتد هذا الإنكار للغريب من الظواهر والعادات بعد زوال الدولة، وخضوع الأمم الإسلامية للدولة المغيرة عليها، وكاد هذا الحذر أن يغلب جهود المصلحين الذين التمسوا القوة من حيث أدركها أعداء الإسلام، فحفزوا أقوامهم إلى التشبه بأولئك الأعداء فيما أجادوه من أسلحة العلوم والصناعات …
تحرج المسلمون من الظواهر والأشكال الأجنبية في هذا الدور تحرجًا لم يتعودوه فيما سلف من تاريخهم في أيام القوة، أو في أيام الفتنة والحذر؛ لأنهم شعروا بهذا الحرج في عصر الهزيمة والخضوع، وهما أدعى إلى الشك والنفور من فتنة الدخيل والحذر من صاحب الكيد المغلوب …
ولم يكن ذلك التحرج شرًّا كله، وإن كان فيه شر كبير لم ينجُ المسلمون من عقابيله إلا بشق النفس، ولم يكد بعضهم يصدقون بالنجاة حتى الآن …
بعض ذلك التحرج صادر من حصانة الإسلام، وهي سجية يستمدها المسلم من استقلاله بضميره، ومن شمول عقيدته التي لا تفصل الدين من الدنيا، ولا تجعله في الدين تبعًا، فهو أحرى ألا يكون تبعًا في الدولة ولا في الدنيا …
وربما هان على صاحب الدين الذي يفصل العقيدة عن عمل المعيشة أن يخضع لمن يخالفونه في الدين والجنس واللغة؛ لأنه يتعزى عن ذلك باحتقار الدنيا، والفرار بروحه منها إلى الحياة الأخرى، ولكن عقيدة المسلم تأبى له هذا العزاء، وتلقي في روعه أنَّ الله محاسبه على تفريطه في مكانته ومناعة حوزته، مُذْ كان التمكين في الأرض علامة على صدق الإيمان، وصدق العمل به في شئون الحياة وشئون المعايش على السواء.
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ [سورة الأعراف: ١٠]. وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [سورة النور: ٥٥]. وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [سورة القصص: ٥].
ولعل فيلسوف التاريخ الإسلامي — ابن خلدون — كان أول من نبه المسلمين إلى هذه الخلة في المغلوبين، وعدَّها من تمام التسليم بالغلبة والهزيمة، فوقر في الأذهان أنَّ محاكاة الغالب في ظواهره وأشكاله أول عوارض الفناء والتسليم بالسيادة على غير أمل في الخلاص …
فمن حصانة العقيدة الإسلامية استمد المسلم شعور التحرج من العادات الأجنبية، فكان هذا التحرج خيرًا بمقدار ما فيه من القضاء على بواعث المحاكاة التي تؤذن بالفناء والتسليم بالسيادة …
واستبد العجز بالنفوس، فخيل إليها أنها تركت باختيارها ما تركته في الواقع عجزًا عن المحاكاة، وجهلًا بأسبابها، ولا سيما حين تكون هذه الأسباب مما يسوق العجزة المتواكلين قهرًا إلى السعي والتوافد على تحصيل العلوم والصناعات.
في هذه الفترة كثر التساؤل عن أمور لم تكن موضوع سؤال في صدر الإسلام، وليست هي موضع سؤال في هذه الأيام، وسمع الاستفتاء بعد الاستفتاء في الكبريت؛ هل يجوز قدحه؟ وعن غاز الاستصباح؛ هل تجوز الإضاءة به في المساجد؟ وعن التليفون؛ هل يجوز وضعه في المعاهد الدينية؟ وعن الجغرافيا وعلوم الطبيعة؛ هل يجوز تعليمها للتلاميذ؟ ولاح لهؤلاء المتحرجين كأنهم يعيشون في هذا العالم في سجن مغلق يخشون أن يمدوا أصبعًا إلى شيء فيه؛ فينطلق منه شيطان متربص أو مارد محبوس …
ولم تدم هذه الغاشية إلا ريثما تجددت الثقة في النفوس، وثبتت الأقدام على منهج الإصلاح، فخفت وطأة الحرج الذي استمده المسلمون من حصانة دينهم، وأيقنوا أنَّ طرق التقدم وطرق العلم الحديث لا تفترقان، وأنَّ المسلم أولى من غير المسلم بكل علم من علوم المعرفة؛ لأنه مأمور بالبحث عن أسرار الخلق، مطالب بالفهم والتفكير.
وتخلفت مع الجهل والخمول رواسب من الجمود تخلق الإحراج في غير حرجٍ، وتضر كثيرًا حيث تدعو الحاجة إلى السير الحثيث في طريق الإصلاح، وتفيد أحيانًا كلما اضطرت المتعجلين إلى بعض الروية والأناة قبل الهجوم على كل شيء جديد لغير نفع فيه إلا أنه يخالف القديم …
وأغلب الظن أنَّ رواسب الجمود كانت تزول أسرع مما زالت لو لم يكن فيها مآرب ولبانات لفئة من الحاكمين ترتهن منافعهم ببقائها، وتتعرض مواردهم للنقص والزوال بما يطرأ على الحالة الراهنة من تبديل أو تحويل.
وقد كانت الآستانة والقاهرة قبلة طلاب الإصلاح في أرجاء العالم الإسلامي؛ لأن الأولى كانت في مستهل نهضات الإصلاح مقر الخلافة الإسلامية، والثانية عاصمة الثقافة الدينية منذ عدة قرون، ولم تخل حركة من حركات التقدم في كلتيهما من بواطن خفية غير الظواهر التي يثار من حولها الشقاق بين دعاة الإصلاح، وجماعة الحكام المشايعين للقديم، ومن هؤلاء أصاب أولئك الدعاة أشد ما أصابهم من العنت والتشهير، وبما كان لهم من الجاه والسطوة اقتدروا على تسخير الأعوان لاستثارة الدهماء على الأئمة والقادة المصلحين، وأحاطوهم بالتهم والأباطيل، وأيسرها وأسرعها تفشيًا بين الجهلاء تهمة الكفر، وتهمة التواطؤ مع الأعداء على إفساد الدين …
ففي البلاد العثمانية الخاضعة للآستانة سبق الشعب رؤساءه إلى مجاراة الحضارة، ومسايرة العرف العصري في شئون المعيشة التي لا مساس لها بالعقيدة، ولكن الدولة العثمانية تعرضت لثورة من أخطر ثوراتها حين أمر السلطان بتغيير ملابس الجنود «الإنكشارية»، وتنظيم كتائبهم على النسق العصري في الجيوش الحديثة؛ لأن قادة هذه الفرق — ومِن ورائهم بعض أعضاء البيت المالك المنافسين للسلطان — آثروا بقاء القديم على قدمه، وأوجسوا من تبديل الملابس والأنظمة في الكتائب الحديثة أن يتبعه فض كتائب الإنكشارية، وتزويد السلطان بقوة من منشآته تناصره فيما أراد من تعديل نظام الوراثة …
وفي مصر كان الخلاف على أشده بين الخديو وحواشيه، وبين أئمة الإصلاح — وعلى رأسهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية — وكان باطن الخلاف حول الرقابة على أموال الأوقاف، ووظائف التدريس بالجامع الأزهر، وبرامج التعليم فيه، وظاهره على سفاسف لا تعني الخديو وحواشيه في كثير ولا قليل، ولكنها ذريعة يستخدمونها في إثارة الغبار حول موضوع الخلاف الأصيل، واتهام المصلحين بسوء النية، وفساد الطوية، والافتيات على ولي الأمر وأعوانه المخلصين …
وأشهر ما اشتهر من هذه المعارك الصاخبة حول السفاسف معركة الفتوى التي عرفت بفتوى الترنسفال، وخلاصتها الوجيزة أنَّ رجلًا من الترنسفال سأل مفتي الديار المصرية عن بعض عادات اللباس والطعام في أفريقيا الجنوبية، وعن جواز الصلاة خلف الإمام مع اختلاف المذاهب؟ فأفتاه الشيخ رحمه الله بجوار لبس القلنسوة، وجواز طعام أهل الكتاب؛ لأنه حلال بنص القرآن الكريم: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ [سورة المائدة: ٥]، وأنَّ الإمام المسلم تجوز إمامته ولا وجه للاعتراض على الصلاة خلفه وإن اختلفت المذاهب؛ لأن تخصيص مسجد بأتباع كل مذهب يفرق جماعة المسلمين، ولا يستند إلى أصل من القرآن والحديث أو سير الأولين …
ويخرج بنا من غرض هذه الرسالة أن نُلمَّ، ولو مع الإيجاز، بنبذة من الآراء الفقهية التي تداولها الكُتَّاب نقدًا وردًّا وتشهيرًا وتبريرًا بعد صدور الفتوى الترنسفالية؛ إذ ليس من غرضنا هنا أن نخوض في الجدل الفقهي وما نحا نحوه من جدل المذاهب، وما بنا من حاجة إلى ذلك؛ لأن القضية لم تكن من قضايا الفقه، ولا كان الغلاة في حملتها ممن ينكرون لبس القلنسوة، أو الأكل على الموائد الأوروبية، أو الصلاة خلف الأئمة الأحناف وفيهم الشافعيون والمالكيون، كما يتفق أيام الجمع في الصلوات الجامعة مع حاشية الأمير.
وهذه المعارك المصطنعة هي التي أوقعت في أذهان المعقبين على أحداث العالم الإسلامي أنَّ المسلم يتحرج من غير حرج، ويغلو في الجمود على القديم لغير سبب، ويخلط بين موروثات العرف وسنن العقيدة وآدابها المستفادة من أوامرها ووصاياها.
وكل هذا وهم ينفيه أنَّ المسلم قد تعلم من كتابه النعي على الجامدين الذين يستعبدون عقولهم لعادات أسلافهم، ويقتدون بهم؛ لأنهم وجدوهم عليها وإن كانوا لا يعقلون، ثم جاءت سيرة المسلمين الأولين الذين تفرقوا في أنحاء الأرض على خير ما تكون السماحة، فعاشروا أبناء الأمم من الروم والفرس والترك والديلم والبربر دون أن يتحرجوا بنمط من أنماط المعيشة، ولا بأسلوب من أساليب العرف ما لم يكن فيه مساس بالعقيدة والعبادة …
فليس من روح الإسلام أن يجمد المؤمن على عادة موروثة لأنها عادة موروثة، وليس من روحه أن يرفض عادة جديدة لأنها عادة جديدة، ولكنه يعتصم من روح الإسلام بحصانة تعيذه من سحر الغلبة، فلا تَهُوله بروعتها، ولا تجنح به إلى الفناء في غمارها، والاستسلام لقيادتها. وتلك مفخرة للإسلام تتمناها الأمم، ولا تزهد فيها، وما كان لأمة أن تزهد في حصانة تقيم الحواجز بينها وبين عدوها، ولا تحجزها عمن يسالمها ولو كان غريبًا عنها.
وسبيل المسلم فيما آثره مع الخلق من سلوك وعادة أن يأخذ بالعفو، ويأمر بالعرف، ويعرض عن الجاهلين.