أمام الأديان
من العسير على الكثيرين من المتدينين المؤمنين بالأنبياء أن يذكروا أسبابًا عقلية لتفضيلهم الدين الذي يعتقدونه على سائر الأديان التي لا يعتقدونها، وغاية ما عندهم من التعليل لهذا التفضيل أن يؤمنوا بهذه العقيدة؛ لأنها عقيدة نبيهم، ولا يؤمنون بالعقائد الأخرى لأنها عقائد أنبياء آخرين لا يؤمنون بهم، ولا يقولون لماذا ينكرونهم بعد إيمانهم بأمثالهم، ولا يستطيعون أن يردوا هذا الإنكار إلى سبب معقول!
وهذا العجز العقلي عن تعليل اختيارهم لبعض الأنبياء دون بعض يكاد أن يكون ضرورة لا محيص عنها يضطر إليها من يؤمن برسالة دون سائر الرسالات، فإن رسالات الأنبياء جميعًا لن تخلو من فضائلها ومسوغات الإيمان بها، ولن تنحصر الفضائل ومسوغات الإيمان في رسالة واحدة، مع تقادم الزمن، وتفاوت الأمم والإيمان بوجود الله وهدايته للناس منذ تهيأت عقولهم وضمائرهم لقبول الشرائع والمعتقدات.
فالعجز العقلي عن تعليل الإيمان بالدين ضرورة ملازمة لتفكير المتدين الذي لا يعرف الحق في غير دين واحد، كأنما كان الإله الهادي لعباده في غيبة عنهم قبل أن يتنزل ذلك الدين الوحيد بين ما سلف من الأديان.
والمسلم له عصمة من عقيدته تحميه من ذلك العجز الذي يعيب العقل ويعيب العقيدة معًا، فهو دين التفكير أمام الأديان الأخرى؛ حيث يتعسر التفكير في أمثال هذه المواقف بين المتدينين.
لأن المسلم يؤمن بجميع الرسالات التي سلفت قبل محمد — عليه السلام — ولا ينكر منها إلا ما نسخته الشرائع النبوية نفسها لاختلاف مقتضيات الزمن، وما ينكره العقل لما أضافه المتدينون إليه من خرافاتهم، أو من أوشاب العبادات التي اختلطت ببقايا الوثنية والعقائد الجاهلية من جيل إلى جيل.
يدين المسلم برسالة نوح قبل رسالة إبراهيم وبنيه صلوات الله عليهم.
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [سورة نوح: ١–٣].
ويدين المسلم برسالات إبراهيم والنبيين من بعده كما جاء في آيات متعددة من سور الكتاب الكريم: قُولُوا آمَنَّا باللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة: ١٣٦].
وفي سورة النساء: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [سورة النساء: ١٦٣].
وفي سورة يوسف: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ باللهِ مِن شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [سورة يوسف: ٣٨].
ومع إيمان المسلم برسالات هؤلاء الأنبياء المرسلين يتفتح أمامه باب التفكير والاحتكام إلى العقل، باعتقاده أنَّ الأنبياء والمرسلين يتفاضلون، ويحق له التمييز بين دعواتهم بما لها من حجة، وما فيها من عموم الهداية على تعدد الأمم والأزمنة …
وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ ۖ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [سورة الإسراء: ٥٥]. تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [سورة البقرة: ٢٥٣].
ويملك المسلم حرية العقل فيما يعلم من الرسالات والدعوات التي لم تُذكر بأسمائها في كتابه؛ لأن رسل الله كثيرون: مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [سورة غافر: ٧٨].
فالمسلم لا يسعه أن يهمل عقله أمام الأديان والرسالات كافة حين يوفق بين واجب الإيمان بها في أصولها وقواعدها، وواجب الإعراض عما اختلط بها من أوشاب الخرافة أو الضلالة؛ لأن العقل هو مرجعه الأول في التوفيق بين هذين الواجبين، وهو مرجعه الوحيد في تمحيص الرسالات التي لم يقصصها القرآن الكريم عليه، فلا غنى له عن التفكير فيها لفهم الصالح منها وغير الصالح، والتمييز بين ما يجوز رفضه وما لا يجوز، عسى أن يكون من رسالات الهداية الإلهية فلا يستنكره بغير بينة أو على غير هدى.
وقد صدقت أمم ببعض الأنبياء وكذبت بنبوة محمد — عليه السلام — ولا حجة لها تجيب بها من يسألها إلا أن تقول: إننا صدقنا بهؤلاء الأنبياء لأنهم أنبياؤنا، ولم نصدق بمحمد لأنه ليس بنبي عندنا. فهم لا يفرقون بين الأنبياء بقداسة السيرة، ولا بعظمة الأثر، ولا بشيوع الهداية وكثرة المهتدين بها، ولا بفضيلة الهداية في آدابها ومعانيها؛ إذ ما من فارق من هذه الفوارق يعتمدونه في تقديرهم هو خليق أن يسوغ لهم تكذيب محمد — عليه السلام — مع من صدقوهم كما وصفوهم وتحدثوا عنهم في الكتب التي يعولون عليها.
فمما جاء عن نوح — عليه السلام — في الإصحاح التاسع من سفر التكوين أنه «ابتدأ يكون فلاحًا، وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه، فأبصر حامٌ أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجًا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما، ومشيا إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير فقال: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته.»
وجاء في الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين عن لوط وبنتيه: «فسكن في المغارة هو وابنتاه، وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ، وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض. هَلُمِّ نسقي أبانا خمرًا ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلًا. فسقتا أباهما خمرًا في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، وحدث في الغد أنَّ البكر قالت للصغيرة: إني قد اضطجعت البارحة مع أبي، نسقيه خمرًا الليلة أيضًا، فادخلي اضطجعي معه؛ فنحيي من أبينا نسلًا. فسقتا أباهما خمرًا في تلك الليلة أيضًا، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها؛ فحبلت ابنتا لوط من أبيهما، فولدت البكر ابنًا، ودعت اسمه موآب، وهو أبو المؤبيين إلى اليوم، والصغيرة أيضًا ولدت ابنًا، ودعت اسمه بن عمي، وهو أبو بني عمون إلى اليوم.»
وفي الإصحاح الخامس والعشرين من ذلك السفر عن يعقوب وأخيه: «فكبر الغلامان، وكان عيسو إنسانًا يعرف الصيد … إنسان البرية، ويعقوب إنسانًا كاملًا يسكن الخيام، فأحب إسحاق عيسو؛ لأن في فمه صيدًا. وأما رفقة فكانت تحب يعقوب. وطبخ يعقوب طبيخًا، فأتى عيسو من الحقل وهو قد أعيا، فقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر لأني قد أعييت — لذلك دعي اسمه أدوم — فقال يعقوب: بعني اليوم بكوريتك، فقال عيسو: أنا ماضٍ إلى الموت، فلماذا لي بكورية؟ قال يعقوب: احلف لي اليوم، فحلف له، فباع بكوريته ليعقوب، فأعطى يعقوب عيسو خبزًا وطبيخ عدس، فأكل وشرب، وقام ومضى، واحتقر عيسو البكورية.»
ويجيء بعد ذلك في الإصحاح السابع والعشرين أنَّ إسحاق «لما شاخ وكلت عيناه عن النظر، أنه دعا عيسو ابنه الأكبر، وقال له: يا ابني، إنني قد شخت، ولست أعرف يوم وفاتي، فالآن خذ عدتك — جعبتك وقوسك — واخرج إلى البرية وتصيَّد لي صيدًا، واصنع لي أطعمة كما أحب، وائتني بها لآكل؛ حتى تباركك نفسي قبل أن أموت. وكانت رفقة سامعة إذ تكلم إسحاق مع عيسو ابنه، فذهب عيسو إلى البرية كي يصطاد صيدًا ليأتي به.
وأما رفقة فكلمت يعقوب ابنها قائلة: إني قد سمعت أباك يكلم عيسو أخاك قائلًا: ائتني بصيد، واصنع لي أطعمة لآكل وأباركك أمام الرب قبل وفاتي. فالآن يا ابني، اسمع لقولي فيما أنا آمرك به: اذهب إلى الغنم، وخذ لي من هناك جديين جيدين من المعزى، واصنعهما أطعمة لأبيك كما يحب، فتحضرها إلى أبيك ليأكل حتى يباركك قبل وفاته، فقال يعقوب لرفقة أمه: هو ذا عيسو أخي رجل أشعر، وأنا رجل أملس؛ ربما يجسني أبي فأكون في عينه كمتهاون، وأجلب على نفسي لعنة لا بركة، فقالت له أمه: لعنتك عليَّ يا ابني، اسمع لقولي فقط، واذهب خذ لي.
فذهب وأخذ وأحضر لأمه، فصنعت أمه أطعمة كما كان أبوه يحب، وأخذت رفقة ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة التي كانت عندها في البيت، وألبست يعقوب ابنها الأصغر، وألبست يديه وملاسة عنقه جلود جديي المعز، وأعطت الأطعمة والخبز الذي صنعت في يد يعقوب ابنها، فدخل إلى أبيه وقال: يا أبي، فقال: ها أنا ذا، من أنت يا بني؟ فقال يعقوب لأبيه: أنا عيسو بكرك، قد فعلتُ كما كلمتني، قُمْ اجْلسْ وكُلْ من صيدي لكي تباركني نفسك، فقال إسحاق لابنه: ما هذا الذي أسرعت لتجد يا بني.
فقال: إنَّ الرب إلهك قد يسر لي، فقال إسحاق ليعقوب: تقدم لأجسَّك يا ابني، أأنت هو ابني عيسو أم لا؟ فتقدم يعقوب إلى إسحاق أبيه فجسه وقال: الصوت صوت يعقوب، ولكن اليدين يدا عيسو. ولم يعرفه؛ لأن يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه، فباركه وقال: هل أنت هو ابني عيسو؟ فقال: أنا هو، فقال: قدم لي لآكل من صيد ابني حتى تباركك نفسي، فقدم له فأكل، وأحضر له خمرًا فشرب، فقال له إسحاق أبوه: تقدم وقبلني يا ابني.
فتقدم وقبَّله، فشمَّ رائحة ثيابه وباركه وقال: انظر، رائحة ابني كرائحة حقل قد باركه الرب، فليعطك الله من ندى السماء، ومن دسم الأرض، وكثرة حنطة وخمر؛ ليستعبد لك شعوبًا، وتسجد لك قبائل. كن سيدًا لإخوتك، ويسجد لك بنو أمك. ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين.
حدث عندما فرغ إسحاق من بركة يعقوب، ويعقوب قد خرج من لدن إسحاق أبيه، أنَّ عيسو أخاه أتى من صيده، فصنع هو أيضًا أطعمة، ودخل بها إلى أبيه وقال لأبيه: ليقم أبي ويأكل من صيد ابنه حتى تباركني نفسه، فقال له إسحاق أبوه: من أنت؟ فقال: أنا ابنك بكرك عيسو. فارتعد إسحاق ارتعادًا عظيمًا جدًّا وقال: فمن هو الذي اصطاد صيدًا وأتى به إليَّ فأكلتُ من الأكل قبل أن تجيء وباركته؟ نعم ويكون مباركًا.
فعندما سمع عيسو كلام أبيه صرخ صرخة عظيمة ومرة جدًّا، وقال لأبيه: باركني أنا أيضًا يا أبي، فقال: قد جاء أخوك بمكْرٍ وأخذ بركتك، فقال: ألا إنَّ اسمه دعي يعقوب؛ فقد تعقبني الآن مرتين؛ أخذ بكورتي وهو الآن قد أخذ بركتي، ثم قال: أما أبقيت لي بركة؟ فأجاب إسحاق وقال لعيسو: إني قد جعلته سيدًا لك، ودفعت له جميع إخوتك عبيدًا، وعضدته بحنطة وخمر، فماذا أصنع إليك يا ابني؟
فقال عيسو لأبيه: ألك بركة واحدة فقط يا أبي؟ باركني أنا أيضًا يا أبي، ورفع عيسو صوته وبكى، فأجاب إسحاق أبوه وقال له: هو ذا بلا دسم الأرض يكون مسكنك، وبلا ندى السماء من فوق، وبسيفك تعيش، ولأخيك تستعبد، ولكن يكون حينما تجمح أنك تكسر نيره من عنقك …»
ومما يُرْوى عن داود — عليه السلام — في العهد القديم قصص كثيرة، نذكر منها في هذا الصدد قصته مع قائده أوريا وزوجته أثناء القتال، وهي القصة التي جاءت في الإصحاح الحادي عشر من كتاب صمويل الثاني؛ حيث يقول: «وكان عند تمام العام في وقت خروج الملوك أنَّ داود أرسل يوآب وعبيده معه وجميع إسرائيل، فأخرجوا بني عمون وحاصروا ربة.
وأما داود فأقام في أورشليم، وكان في وقت المساء أنَّ داود قام عن سريره، ومشى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحم، وكانت المرأة جميلة المنظر جدًّا، فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: أليست هذه بسبع بنت اليمام امرأة أوريا الحثي؟ فأرسل داود رسلًا وأخذها، فدخلت عليه واضطجع معها وهي مُطهَّرة من طمثها، ثم رجعت إلى بيتها.
وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود: إني حبلى، فأرسل داود إلى يوآب يقول: أرسل إليَّ أوريا الحثي. فأرسل يوآب أوريا إلى داود، فأتى أوريا إليه، فسأل داودُ عن سلامة يوآب وسلامة الشعب ونجاح الحرب، وقال داود لأوريا: انزل إلى بيتك، واغسل رجليك. فخرج أوريا من بيت الملك، وخرجت وراءه حصة من عند الملك.
ونام أوريا على باب بيت الملك مع جميع عبيد سيده ولم ينزل إلى بيته، فأخبروا داود قائلين: لم ينزل أوريا إلى بيته، فقال داود لأوريا: أما جئت من السفر؟ فلماذا لم تنزل إلى بيتك؟ فقال أوريا لداود: إنَّ التابوت وإسرائيل ويهودا ساكنون في الخيام، وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب، وأضطجع مع امرأتي! وحياتك وحياة نفسك، لا أفعل هذا الأمر، فقال داود لأوريا: أقم هنا اليوم أيضًا، وغدًا أطلقك.
فأقام أوريا في أورشليم ذلك اليوم وغده، ودعاه داود فأكل أمامه وشرب وأسكره، وخرج عند المساء ليضطجع في مضجعه مع عبيد سيده، وإلى بيته لم ينزل. وفي الصباح، كتب داود مكتوبًا إلى يوآب، وأرسله بيد أوريا، وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيُضرب ويموت.
وكان في محاصرة يوآب المدينة أنه جعل أوريا في الموضع الذي علم أنَّ رجال البأس فيه، فخرج رجال المدينة، وحاربوا يوآب، فسقط بعض الشعب من عبيد داود، ومات أوريا الحثي، فأرسل يوآب وأخبر داود بجميع أمور الحرب، فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات أوريا رجلُها ندبت بعلَها، ولما قضت المناحة، أرسل داود وضمها إلى بيته، وصارت له امرأة، وولدت له ابنًا. وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عين الرب.»
ومن أمثال هذه الروايات عن الأنبياء المذكورين في التوراة قصة هوشع الذي قيل في كتابه: إنَّ «أول ما كلم الرب هوشع، قال الرب لهوشع: اذهب خذ لنفسك امرأة زنًى وأولاد زنًى؛ لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الرب. فذهب وأخذ جومر بنت دبلايم، فحبلت وولدت له ابنًا، فقال له الرب: ادع اسمه يزرعيل؛ لأنني بعد قليل أعاقب بيت يهوا على دم يزرعيل، وأبيد مملكة بيت إسرائيل، ويكون في ذلك اليوم أني أكسر قوس إسرائيل في وادي يزرعيل. ثم حبلت أيضًا وولدت بنتًا، فقال له: ادع اسمها لورحامة؛ لأني لا أعود أرحم بيت إسرائيل أيضًا، بل أنزعهم نزعًا …»
ثم يتبع هذا الإصحاح إصحاح تالٍ يقول فيه النبي: «وقال الرب لي: اذهب أيضًا أحبب امرأة حبيبة صاحب وزانية كمحبة الرب لبني إسرائيل وهم ملتفتون إلى آلهة أخرى، ومحبون لأقراص الزبيب، فاشتريتُها لنفسي بخمسة عشر شاقل فضة وبحومر ولثك شعير، وقلت لها: تقعدين أيامًا كثيرة ولا تزني ولا تكوني لرجل، وأنا كذلك لك؛ لأن بني إسرائيل سيقعدون أيامًا كثيرة بلا بلد، وبلا رئيس، وبلا زيجة، وبلا تمثال، وبلا أفود وترافيم …»
هذه الأخبار وما إليها نورد منها ما أوردناه ولا نناقشه أو نتعرض لنفيه وإثباته؛ لأننا لم نكتب هذه الفصول لنخوض في الجدل الديني الذي لا صلة له بما نبينه من فريضة التفكير في الإسلام، ولكننا نورد تلك الأخبار لنستخلص منها منهج الإنسان أمام الأديان كما يتعلمه من الإسلام، ومنهجه أمام الإسلام كما يتعلمه من غيره.
فالذين يقبلون هذه النبوات، ويُكذِّبون برسالة عيسى ومحمد — عليهما السلام — أو الذين يقبلونها جميعًا ويكذبون برسالة نبي الإسلام وحدها، لا تقام عندهم حجة النبوة بقداسة السِّيَر، ولا بعظمة الأثر، ولا بفضيلة الهداية في آدابها ومعانيها.
أما الإسلام فإنه يُعلِّم المسلم أن يقبل جميع الرسالات، ولا يرفض منها شيئًا لغير سبب يفقهه ويقيم الحجة عليه مما ينبغي لصفة النبوة، أو ينبغي لصلاح الرسالة، وإذا فضَّل الإسلام على سائر الأديان، فهو لا يُفضله لأنه دينه وكفى؛ وإنما يفضله لأنه يدعوه في كل عقيدة دينية إلى ما هو خير عنده مما يُدعى إليه في الأديان عامة.
فالإله الذي يدين به المسلم رب واحد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وهو رب العالمين، فتح لهم باب الخلاص بهداية الأنبياء منذ وجدوا، وليس ربًّا لقبيلة أو عشيرة يكتب لها الخلاص وحدها، وتُخصُّ بالحظوة دون ما عداها من عامة بني الإنسان.
والنبوة التي يدين بها المسلم هي نبوة الهداية التي ترشد العقل بالبينة والموعظة الحسنة، ولا تفحمه بالمعجزة المسكتة، أو بالحماية من المجهول.
والإنسان في عقيدة المسلم مخلوق مكلف ينجو بعمله لا بالوساطة التي لا فضل له فيها، ويحمل وزره، ولا يحمل الأوزار من ميراث الآباء الأولين. وكل مفاضلة بين عقيدة وعقيدة عند المسلم فمردها إلى سبب، وسببها قائم على فضيلة يفهمها العقل، ويطمئن إليها الضمير. وقد يختلف فيها الغيب والشهادة، ولكنه اختلاف لا يصدم العقل فيما تقرر لديه، وإنما يفوقه بما يتممه إذا انتهى إلى غاية مداه.