الاجتهاد في الدين
مصادر الشرائع والأحكام في الدين الإسلامي ثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع.
ويقوم الإجماع على اجتهاد أولي الأمر وأهل الذكر بما اشتمل عليه من قياس واستحسان أو مصالح مرسلة؛ أي مصالح لم تتقيد بحكم خاص ينطبق عليها في جميع الأحوال وجميع الأزمنة، ولكنها من العوارض المتغيرة التي ينظر فيها المسلمون إلى مصالحهم بحسب أحوالها وأزمنتها …
والفهم واجب على المسلم في الأخذ من جميع هذه المصادر والعمل بها، فلا تعارض بين النص والاجتهاد في وجوب الفهم في كل منها؛ لأن المسلم — بعدما تلقاه من الأوامر الإلهية التي توجب عليه التفكير والتدبير والاحتكام إلى العقل والبصيرة — لا يستطيع أن يعتقد أنه مطالب باتباع النص بغير فهم ولا تفرقة بين مواضع الاتباع وأسبابه، ومن قال: إنَّ العمل بالنص يعني العمل بغير فهم، فليس هو من الإسلام في شيء.
والفرائض كلها في الإسلام تتساوى في شرط واحد: وهو الاستطاعة، ومنها التفكير؛ فلا فرق بين الصلاة والحج والزكاة والتفكير في شرط الاستطاعة، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة: ١٧٣].
والتفكير في أمور الدين أصل من الأصول المقررة. أما التقليد فهو حالة من حالات الضرورة التي تعفي من الاجتهاد بالفهم مَن يعجز عنه ولا يستطيعه. وقد يكون المستطيعون للاجتهاد أقل عددًا من المستطيعين للصلاة، وكذلك المستطيعون للزكاة والحج هم أقل عددًا ممن يؤدون صلاتهم أو يقدرون عليها، ولكن الفرق في الاستطاعة لا يجعل العجز عن الفريضة واجبًا محتومًا يلتزمه العاجز ولا يعمل على الخلاص منه كلما استطاع.
إذ الفرق ظاهر بين الواجب الذي لا يستطاع والحرام المنهي عنه؛ فلا إيجاب للتقليد، ولا تحريم للاجتهاد بالفكر. وشر الناس في الإسلام من يحرم على خلق الله أن يفكروا ويتدبروا بعد أن أمرهم الله بالتفكير والتدبر، وأنبأهم بعاقبة الذين لا يفكرون ولا يتدبرون، ومثله شرًّا من يحرم الاجتهاد على الناس جميعًا؛ لأنه قضى على خلق الله إلى آخر الزمان بالحرمان من نعمة العقل والعلم والصلاح.
ومن أباح لنفسه أن يحرم على الناس نعمة العقل والعلم إلى آخر الزمان، فقد اجتهد برأيه اجتهادًا أبعد في الدعوى من كل ما يدعيه المجتهدون على حق أو على باطل؛ فإنه يلغي أوامر الله لعباده؛ حيث يتحرى المجتهدون أن يبتغوا الوسيلة إليها، فهو ينهى الناس برأيه عمَّا أمرهم به الله، واجتهدوا قادرين أو عاجزين أن يطيعوه.
وليس التفكير في الإسلام عوضًا من النص أو ما يشبه النص في الأحكام، بل هو فريضة منصوص عليها، مطلوبة لذاتها، ولما يتوقف عليها من فهم الفرائض الأخرى، وكلها محظور على المسلم أن يهمله وهو قادر على النهوض بتكاليفه، غير مضطر إلى تركه، فإنْ ترَكه لغير ضرورة فهو مُقصرٌ مُحاسبٌ على التقصير.
وقد وقع الاجتهاد في الإسلام نصًّا وعرفًا وتقليدًا — إن صح هذا التعبير — ونعني بالتقليد هنا حسن القدوة بالأولين والتابعين من السلف الصالح. وأول الأولين نبي الإسلام عليه السلام، ثم الخلفاء الراشدون ومن تبعهم في العصور التي اشتدت فيها حاجة المسلمين إلى الاجتهاد؛ فإن البعد عن القدوة المشاهدة من الخلف الصالح أحرى أن يلجئ ولاة الأمور وأهل الذكر بين المسلمين إلى التفكير فيما يصلح لأزمنتهم، ولم يكن معهودًا في أزمنة الأولين.
فمن اجتهاد النبي صلوات الله عليه فيما رواه أبو داود، عن عبد الله بن فضالة، عن أبيه، حيث قال: علمني رسول الله ﷺ فكان فيما علمني: «وحافظ على الصلوات الخمس.» فقلت: إنَّ هذه ساعات لي فيها أشغال؛ فمُرني بأمر جامع إذا أنا فعلته أجزأ عني، فقال: «حافظ على العصرين.» وما كانت من لغتنا فقلتُ: وما العصران؟ فقال: «صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة بعد غروبها.»
ومن الاجتهاد النبوي فيما رواه الإمام أحمد، عن عثمان بن أبي العاص، أنَّ وفد ثقيف قدموا على رسول الله ﷺ فأنزلهم المسجد؛ ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا ألا يحشروا ولا يعشروا ولا يحبوا — أي لا يخرجوا للجهاد، ولا تؤخذ منهم الزكاة، ولا يحبون للصلاة — ولا يستعمل عليهم غيرهم، فقال ﷺ: «لكم ألا تحشروا، ولا تعشروا، ولا يستعمل عليكم غيركم. ولا خير في دين لا ركوع فيه.»
ويروي أبو داود عن جابر أنه سمع رسول الله يقول بعد ذلك: «سيصدقون ويجاهدون.»
ومما رواه الإمام أحمد في مسنده، عن نصر بن عاصم، عن رجل منهم، أنه أتى النبي ﷺ فأسلم على أنه لا يصلي إلا صلاتين، فقبل ذلك منه.
وجاء في البخاري أنَّ أم عطية قالت: بايعنا ﷺ فقرأ علينا: «أن لا يشركن بالله شيئًا»، ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها فقالت: «أسعدتني فلانة؛ فأريد أن أجزيها.» وجاء في رواية النسائي أنه عليه السلام قال لها: «فاذهبي فأسعديها.» ورجعت فبايعها.
وأشباه هذا من وقائع الاجتهاد النبوي غير قليل، وإنه لاجتهاد رسول الدعوة الإسلامية؛ أحق الناس بتيسير هذه الدعوة، وإنه كذلك لأحقهم بالتشدد فيها حيث يترخص المترخصون.
أما الخلفاء الراشدون فقد اجتهدوا منذ عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق في المصالح المرسلة التي لم يرد فيها نص، ولم تسبق لها سابقة. وأجمل الإمام أحمد ابن إدريس القرافي ما اجتهدوا فيه من قبيل تلك المصالح، فقال في كتابه «شرح تنقيح الفصول»: «ومما يؤكد العمل بالمصالح المرسلة أنَّ الصحابة — رضوان الله عليهم — عملوا أمورًا لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار، نحو كتابة المصحف ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير، وولاية العهد من أبي بكر لعمر — رضي الله عنهما — ولم يتقدم بها أمر ولا نظير، وكذلك تركُ الخلافة شورى، وتدوينُ الدواوين، وعملُ السكة للمسلمين، واتخاذُ السجن. فعل ذلك عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — وهد الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله ﷺ، والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه. فعله عثمان — رضي الله عنه — وتجديد الأذان في الجمعة بالسوق. فعله عثمان — رضي الله عنه — ثم نقله هشام إلى المسجد، وذلك كثير جدًّا لمطلق المصلحة.»
واجتهد أبو بكر وعمر معًا فيما ورد فيه النص لزوال العلة الموجبة، كما فعل في سهم الزكاة للمؤلفة قلوبهم، وكان لهم سهم يأخذونه من رسول الله — صلوات الله عليه — تألفًا لقلوبهم أيام ضعف الإسلام وضعف عقيدتهم، ومنهم عباس بن مرداس، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وأبو سفيان بن حرب، وابنه معاوية، فلما ولى الصديق جاءوه يسألونه سهمهم هذا، فكتب لهم بذلك إلى عمر فمزق الكتاب وقال لهم: لا حاجة لنا بكم؛ فقد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم، فإن أسلمتم وإلا فالسيف بيننا وبينكم. فلما رجعوا إلى الصديق يستثيرونه ويسألونه: والله لا ندري أنت الخليفة أو عمر؟ قال: بل هو إن شاء. وأمضى ما فعله عمر كما جاء تفصيله في كتاب الجوهرة على مختصر القدوري.
قلنا في كتاب حقائق الإسلام: «ومن سوء الفهم أن يقال: إنَّ الفاروق خالف النص في هذه القضية، وإنما يقال: إنه اجتهد في فهم النص كما ينبغي، وإنه بحث عن المؤلفة قلوبهم فلم يجدهم؛ لأن تأليف القلوب إنما يكون مع مصلحة للإسلام والمسلمين، فإن لم يكن تأليف لم يكن هناك مؤلفة يستحقون العطاء، ولو أنَّ عيينة والأقرع وأصحابهما سُئلوا يومئذ: أهم من المؤلفة قلوبهم يستحقون العطاء لأنهم ضعاف الإيمان لما قبلوا أن يثبتوا في ديوان العطاء.»
وأبين من ذلك في باب الاجتهاد مع وجود النص ما رواه الإمام ابن قيم الجوزية مفصلًا في كتابه عن إعلام الموقعين؛ حيث قال عن إسقاط حد السرقة في عام المجاعة: «إنَّ عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — أسقط القطع عن السارق في عام المجاعة.» وبعد أن ذكر الأسناد المتتابعة قال: حدثه عن عمر قال: لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة. قال السعدي: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: العذق النخلة، وعام سنة المجاعة، فقلت لأحمد: نقول به؟ فقال: إي لعمري، قلت: إن سرق في مجاعة لا تقطعه؟ فقال: لا، إذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة.
قال السعدي: وهذا على نحو قضية عمر في غلمان حاطب … إنَّ غلمة لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتى بهم عمر فأقروا، فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء، فقال له: إنَّ غلمان حاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة، وأقروا على أنفسهم، قال عمر: يا كثير بن الصلت، اذهب فاقطع أيديهم. فلما ولَّى بهم ردَّهم عمر، وقال: أما والله لولا أنني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إنَّ أحدهم لو أكل ما حرَّم الله عليه حلَّ له؛ لقطعت أيديهم. وايم الله، إذ لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك، ثم قال: يا مزني، بكم أريدت ناقتك؟ قال: بأربعمائة، قال عمر: اذهب فأعط ثمانمائة. وذهب أحمد إلى موافقة عمر في الفصلين جميعًا.
نقول أيضًا: إنه لمن الخطأ أن يقال: إنَّ الفاروق ترك النص أخذًا بالرأي. فإنه في الواقع عمل بالنص فلم يقم الحد في غير إثم، ولا إثم مع الاضطرار، ولو أنه فعل غير ما فعل لكان آثمًا، حاشاه؛ لأن إقامة الحد في غير موضعه منكر كإسقاطه في موضعه. وربما كان إطلاق الآثم أهون شرًّا من عقاب البريء. ومن كان إمامًا فلم يدرأ الحدود بالشبهات، ولم يحسب حساب الضرورة التي يبطل معها الإثم، فهو المجترئ على حدود الله، وحكمه حكم من ترك الحدود بغير برهان.
ومن الفهم المعكوس أن يقال: إنَّ الاجتهاد لازم في عصر الدعوة النبوية والنصوص من الكتاب تتوارد، والسنة من أحاديث النبي حاضرة، وصاحب الدعوة أمام الناس يسألونه ويجيبهم، ثم ينقضي ذلك العهد فيحرم الاجتهاد، وهو الموئل الوحيد بين أيديهم لفهم النصوص وتصحيح العمل بالفرائض والأحكام. فهذا من الفهم المعكوس ولا مراء؛ لأنه يقضي بالاستغناء عن الاجتهاد عند الحاجة إليه، والفهم الصحيح في هذه المسألة الجليلة أنَّ ما صنعه النبي — عليه السلام — وتابَعه فيه الراشدون من خلفائه وأصحابه وجب على المسلمين أن يصنعوا مثله، ولهم قدوة من أولى الناس أن يقتدوا بسيرته وعمله.
وشبيه بهذا في الفهم المعكوس أن يقال: إنَّ الاجتهاد يصح حين تصح الذمم، وتطهر الضمائر، وتسلم العقائد، ويكثر الصالحون، ولكنه يبطل ولا يصح إذا عم الفساد، وزاغت الضمائر، وضعف اليقين بالأعمال والنيات، فالواقع أنَّ عهد الفساد عهد تكثر فيه الشبهات التي ينبغي للحاكم أن يدرأها عند إقامة الحدود، وتكثر فيه الضرورات التي يجب عليه أن يقدرها بأقدارها عند توقيع العقاب.
وولي الأمر هو المسئول المحاسب على إقامة الحد في موضعه، ودرء الشبهات في مواضعها، وهو المسئول المحاسب على تقدير الضرورات فيما يُجريه من عقاب، أو يُسقطه من جزاء، وعليه أمانة هذا الواجب الذي يتساوى فيه وضع الجزاء في موضع الإعفاء، ووضع العفو في وضع الجزاء، فإن لم يكن بالحاكم ثقة أن يجري الأمور في مجراها، ولم يكن بالناس ثقة أن تصح فيهم الذمم، وتسلم الضمائر، فمن لغو القول أن يطول الجدل فيمن يقيم الأحكام، وفيما يقام.
ويتبين من تاريخ العالم الإسلامي في جملته أنه على ما اعتراه من أدوار التأخير والجمود لم يستمع طويلًا لآراء القائلين بمنع الاجتهاد في أية صورة من صوره، فإذا غلب التقليد في بلد من بلاده لم يخل سائر البلدان من أئمة يقولون بالاجتهاد، ويعملون به في كل باب من أبوابه، وهي كثيرة تدل كثرتها على كثرة البحث فيها، وكثرة العاملين بها.
فمن أبواب الاجتهاد: القياس، وهو أن يرى المجتهد رأيًا فيما لم يرد فيه نص من الكتاب والحديث قياسًا على ما ورد من النصوص؛ للمشابهة في العلة والمقصد.
ومن أبوابه: الاستحسان، وهو المفاضلة بين حكمين مستندين إلى النصوص ترجيحًا لأحد الحكمين على الآخر؛ لأن الراجح منهما أوفى بالقصد، وأقرب إلى السبب المشروط في إجرائه.
ومنها: المصالح المرسلة، وهي المصالح التي لم تتقيد بنص ولم يسبق لها نظير، ولكنها عمل تتحقق به مصلحة الأمة في حالة من الحالات، فيتصرف فيها الإمام المسئول بما يوافق تلك المصلحة، ويمنع الضرر من فواتها.
ومهما يكن من قول بمنع الاجتهاد، فمن الحق أن نعلم أنَّ عمل السياسة فيه كان أقوى وأفعل من عمل الدين وبواعث العقيدة أو الشريعة. وهذه مسألة لها خطرها في هذا البحث عن فريضة التفكير في الإسلام، فهي حقيقةٌ أن نرجع بها إلى أصولها، وأن نذهب بها إلى غاياتها التي تتكشف من حوادثها وأزماتها.
فلم يتردد في العالم الإسلامي قول القائلين بمنع الاجتهاد كما تردد في عصر الدعوة الفاطمية، التي تعرف أحيانًا باسم الدعوة الباطنية، أو الدعوة الإسماعيلية، وينسب إليها الإيمان بالإمام المستور، والمبايعة له جهرًا وسرًّا إذا اقتضت «التقية» إخفاء أمره إلى حين.
وخلاصة المذاهب الإمامية أنَّ هذا العالم لا يخلو من إمام يقوم بالهداية، ويعلم من أسرار الدين ما لا يعلمه أحد من خاصة العلماء، أو من عامة المقلدين؛ لأن هؤلاء جميعًا إنما يعلمون ما ظهر من نصوص الكتاب، ولا علم لهم بما بطن منه، وهو عندهم معنى الحديث الذي يقول: «إنَّ القرآن نزل على سبعة أحرف.» فلا يهتدي إليها على حقائقها غير الإمام الذي اختصه الله بأمانة الإلهام.
وقد نشأ مذهب «الظاهرية» ليقاوم هذه الباطنية، وينكر الحاجة إلى إمام مستتر يعلم الناس ما ليس في وسعهم أن يتعلموه من ظاهر الآيات والأحاديث.
ونشأ مذهب الظاهرية في المشرق، فقام به في بغداد داود بن سليمان الظاهري (٢٠١–٢٧٠ﻫ)، ولكنه لم يبلغ من القوة والشيوع مبلغه في المغرب على يد الإمام علي بن أحمد بن سعيد، المشهور باسم ابن حزم الظاهري (٣٨٤–٤٥٦ﻫ)؛ إذ كانت الدعوة الفاطمية — أو الإمامية الإسماعيلية — على أقواها وأشيعها في بلاد المغرب من إفريقيا الشمالية، وكان ابن حزم أمويًّا شديد التعصب للدولة الأموية، شديد الإنكار على مَن يقاومونها من العلويين أو الفاطميين، حتى قال بعضهم عنه: إنه «ناصب»، أي ممن يعادون شيعة آل البيت ويناصبونهم العداء.
قال ابن حزم في كتاب الفصل: «واعلموا أنَّ دين الله ظاهر لا باطن فيه، وجهر لا سر تحته، كله برهان لا مشاحة فيه، واتَّهموا كل مَن يدعو إلى أن يتبع بلا برهان، وكل من ادَّعى للديانة سرًّا وباطنًا، فهي دعاوى ومخارق، واعلموا أنَّ رسول الله ﷺ لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ابنة أو عم أو ابن عم أو صاحب على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر أو الأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده عليه السلام سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه. ولو كتَمهم شيئًا لما بلَّغ كما أُمر، ومن قال هذا فهو كافر؛ فإياكم وكل قول لم يبن سبيله، ولا وضح دليله، ولا تعوجوا عما مضى عليه نبيكم ﷺ وأصحابه — رضي الله عنهم.»
وكان من المسائل التي لهج ابن حزم بتقريرها: مسألة الوراثة في الإمامة، فقال في كتاب الفصل أيضًا: «لا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه لا يجوز التوارث فيها، ولا في أنها لا تجوز لمن لم يبلغ، حاشا الروافض؛ فإنهم أجازوا كلا الأمرين، ولا خلاف بين أحد في أنها لا تجوز لامرأة.»
ولكن ابن حزم لا ينكر ولاية العهد ولو كانت في مرض الموت «كما فعل رسول الله ﷺ بأبي بكر، وكما فعل أبو بكر بعمر، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز، قال: وهذا الوجه هو الذي نختاره ونكره غيره؛ لما فيه من اتصال الإمام، وانتظام أمر الإسلام وأهله، ورفع ما يتخوف من الاختلاف والشغب مما يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى.»
وقد اختار ابن حزم لتعزيز هذا الرأي — أي جواز المبايعة بولاية العهد حتى في مرض الموت — خليفة أمويًّا لا يختلف المسلمون من أهل السنة أو من الشيعة في صلاحه وتوقيره، وهو عمر بن عبد العزيز الذي قال فيه الشريف الرضي:
ومما يدل على أنَّ الظاهرية قامت على أساسها أصلًا لإدحاض الدعوة الباطنية، أنَّ ابن حزم لا يبطل الاجتهاد؛ بل يوجبه على جميع المسلمين، وإنما ينكر أن يختص بالاجتهاد إمام واحد يفتي بعلم ينفرد به، ولا ينكشف للمسلمين عامة من نصوص الآيات والأحاديث؛ فهو يقول في الجزء الأول من المُحلَّى: «لا يحل لأحد أن يقلد أحدًا لا حيًّا ولا ميتًا، وكل أحد له الاجتهاد حسب طاقته، فمن سأل عن دينه فإنما يريد معرفة ما ألزمه الله — عز وجل — في هذا الدين. ففرض عليه إن كان أجهل أهل البرية أن يسأل عن أعلم أهل موضعه.
إلى أن يقول: «ومن ادَّعى وجوب تقليد العامي للمفتي فقد ادعى الباطل، وقال قولًا لم يأتِ به قط قرآن ولا سنة، ولا إجماع ولا قياس، وما كان هكذا فهو باطل؛ لأنه قول بلا دليل.»
وعلى هذا يكون ابن حزم متوسعًا في تحكيم العقل غير متحرج منه إلا أن يختص به أحد دون جمهرة المسلمين، وهو لا يبطل التصرف في فهم ألفاظ النص كل الإبطال، بل يجيز العدول عن ظاهر اللفظ إذا اتضح بالدليل العقلي الذي لا يرد أنه مستحيل لا يجوز أن يكون هو المقصود بالأمر الإلهي.
وفي ذلك يقول من الجزء الثاني من كتاب الفصل: «إنَّ كلام الله تعالى واجب أن يحمل على ظاهره، ولا يحال عن ظاهره البتة، إلا أن يأتي نص أو إجماع أو ضرورة حس على أنَّ شيئًا منه ليس على ظاهره، وأنه قد نقل عن ظاهره إلى معنًى آخر. فالانقياد واجب علينا لما أوجبه ذلك النص أو الإجماع أو الضرورة؛ لأن كلام الله تعالى وأخباره لا تختلف، والإجماع لا يأتي إلا بحق، والله تعالى لا يقول إلا الحق، وكل ما أبطله برهان ضروري فليس بحق.»
ورأيُ ابن حزم هذا فيما يُجيز العدول عن ظاهر اللفظ إلى معنًى غير الظاهر قريبٌ جدًّا من مذهب القائلين بالرأي، ولكنه يخالفهم في القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، وهو — مع هذه المخالفة — لا يحجر على الاجتهاد، ولا يمنع المسلمين عامة أن يرجعوا إلى عقولهم في أمور الدين، بل يفرض الرجوع إلى العقل على العالم والجاهل الذي يستطيع أن يجد من يسأله ويتعلم منه.
وغاية ما يخشى من نتائج المذهب الظاهري لو دام وتقرر في بلاد المسلمين، أنه يصد فريقًا من العلماء القادرين على الاجتهاد النافع عن الاضطلاع بأمانة القيادة الفكرية، وإن كان لا يصدهم عن تعليم الناس ما علموه، والمشورة على ولاة الأمر بما يحسن أو لا يحسن في مواطن التشريع، وعليهم بعض العنت في تدبير المصالح المرسلة بما تقتضيه من موافقة للضرورات.
ولعل هذا المذهب الظاهري أهم المذاهب التي ابتعثتها دواعي السياسة في المغرب، وقد شاع حينًا، ثم ضعف وأخذ في الزوال شيئًا فشيئًا بزوال الحافز الحثيث إلى المضي في نشره والتنبيه إليه.
أما في المشرق، فقد أغنى عن الدعوة الحثيثة إلى نشر المذهب الظاهري أنَّ الخلفاء والأمراء كانوا يبنون المدارس، ويجرون فيها الجراية على طائفة من علماء المذاهب الأربعة، لا يشترك فيها غيرهم من أصحاب الاجتهاد، وفيهم من كان في طبقة الأئمة الأربعة في العلم والصلاح، وكان له أتباع يأتمون به ربما قاربوا في عددهم أتباع الأئمة أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد، ولكن مذاهبهم لا تدرس في المعاهد التي تفرض لها الجراية من خزائن الدولة، وهبات الخلفاء والأمراء.
•••
وانتهى الأمر في أوائل القرن السابع بأمر الخليفة المستعصمِ علماءَ الفقه في المدرسة المستنصرية أن يقصروا دروسهم على أقوال الأئمة من قبلهم، ولا يدرسوا كتابًا من كتبهم لتلاميذهم، فدعاهم الوزير وأبلغهم أمر الخليفة، فقال جمال الدين الجوزي أستاذ المذهب الحنبلي: إنه على هذا الرأي، وقال الشرمساحي أستاذ المذهب المالكي: إنه يرتب النقط في مسائل الخلاف، وليس لأصحابه تعليقة؛ أي شروح مدونة، وقال شهاب الدين الزنجاني أستاذ المذهب الشافعي، وعبد الرحمن اللمغاني أستاذ المذهب الحنفي: إنَّ المشايخ كانوا رجالًا ونحن رجال.
فلما رفع الوزير إجابتهم إلى الخليفة دعاهم إليه، وأعاد إليهم أمره فأطاعوه، وجرى مثل ذلك في المدارس الكبرى، فتضاءل شأن القائلين بآرائهم في مسائل الفقه والأصول، وكثر الإقبال على دروس المذاهب التي يتعلمها الطلاب في معاهد الدولة، ومنهم يُختار القضاة والمعلمون وخطباء المساجد وعمال الدواوين …
جاء في شرح جمع الجوامع أنَّ الشيخ أبا زرعة سأل أستاذه البلقيني عن الشيخ تقي الدين السبكي: كيف يقلد وقد استكمل آلة الاجتهاد؟!
قال الشيخ: فسكت عني، ثم قلت: ما عندي أنَّ الامتناع عن ذلك إلا للوظائف التي تجري على فقهاء المذاهب الأربعة، وأنَّ من خرج على ذلك واجتهد لم ينله شيء، وحُرم ولاية القضاء، وامتنع الناس عن استفتائه، ونُسب إلى البدعة. فتبسم ووافقني على ذلك.
كان هذا في القرن السابع للهجرة وما بعده بقليل، ثم رانت على العالم الإسلامي غاشية الجمود والضعف، فانقطع الناس عن العلم اجتهادًا وتقليدًا، وتواكلوا في كل شيء من جلائل الأمور وصغائرها، وقل الاعتماد على النفس، وقل من يثق بنفسه أو يستحق الثقة من غيره، وندر من يتقدم لادعاء الاجتهاد، ومن يصغي إليه لو ادعاه، وجرت أحوال الحياة جميعًا على الاتباع والانقياد، ولم يبالِ الناس ما خالف الولاة وما وافقوا من سنن الدين أو سنن العرف المأثور.
وطالت هذه الفترة نحو أربعة قرون، تتابعت فيها الضربات والقوارع على الأمم الإسلامية حتى تيقظت فيها بعد السبات الطويل بقايا الحياة، التي كمنت في سرائرها من وحي عقيدتها، فنبغ في كل أمة منها رهط من القادة الغيورين، يجاهدون ويجتهدون ويعودون بها كما بدأ الإسلام إلى حظيرة الدين، وتعلم المسلمون من عهود الخمول والنكسة دروسًا كالتي تعلموها من عهود العزة والتقدم، فحواها من طرفيها المتناقضين أنَّ العجز عن الاجتهاد والعجز عن الحياة مقترنان، وأنَّ المسلمين يحتفظون بمكانهم بين أمم العالم ما احتفظوا بفريضة التفكير.