الفصل الأول
عاد السيد ريكاردو، بعدما انتهت المغامرات المثيرة التي وقعت في «فيلا روز»، إلى بيته في ميدان جروفنر، واستأنف حياة الهواة الحافلة بالأنشطة التي لا هدف من ورائها. لكن المراسم كانت قد فقدت إثارتها، والفنَّانون فقدوا جاذبيتهم، حتى الأوبرات الروسية بدَت له رتيبةً بعض الشيء. الحياة برمَّتها صارت خيبة أملٍ كبيرة؛ وكأن القدر سلبَها بهاءها ورونقها؛ هكذا ظل السيد ريكاردو يُعاني الفتور … حتى صباح يومٍ لا يُنسى.
كان السيد ريكاردو يجلس مغتمًّا إلى مائدة الفطور عندما انفتح الباب على مصراعَيه، واندفع إلى داخل الغرفة رجل عريض المنكبَين ممتلئ القوام، حليق الذقن، له وجهُ مُمثلِ كوميديا فرنسي. قفز ريكاردو ناحية الوافد الجديد بصيحةِ فرح.
قال: «عزيزي أنو!»
أمسك بضيفه من ذراعه، وتحسَّسها حتى يتأكد أن الرجل، الذي كان سببًا في خوضه أكثر مغامرةٍ مُثيرة في حياته، يقف أمامه بشحمه ولحمه. ثم استدار إلى رئيس الخدم، الذي كان لا يزال يتذمَّر على عتبة الباب من اقتحام المُحقق الفرنسي الغرفة بهذه الطريقة المنافية للذوق.
وصاح قائلًا: «بيرتون، جهِّز طبقًا آخر في الحال»، وفور أن صار هو وأنو بمفردِهما في الغرفة، قال: «أي قدرٍ سعيد أتى بكَ إلى لندن؟»
أجاب: «إنه العمل يا صديقي. لقد اختفت سبائك أثناء نقلها من باريس إلى لندن. لكن حُلَّت المشكلة. وأنا الآن في عطلة.»
ظهرت الْتماعة في عينَي السيد ريكاردو فجأة، لكنها ما لبثت أن خبَت. تجاهل أنو الإحباط الذي انتاب صديقه. وأمسك بتحفةٍ فضية تُزين المائدة، وسار بها إلى النافذة.
صاح مبتسمًا: «كل شيءٍ كما تصورته بالضبط يا صديقي. ميدان جروفنر، وصحيفة «ذا تايمز» المفتوحة على قسم الأخبار المالية، والتحفة الفنية المُقلدة على المائدة. هكذا تخيَّلتك. هذه الأشياء الثلاثة تُلخصك.»
ضحك السيد ريكاردو بعصبية. فقد علَّمتْه التجربة أن يحترس من عبارات أنو المازِحة. كما استحيى أن يُدافع عن أصالة تحفتِه الفضية. في الحقيقة، لم يُتَح له الوقت لذلك. فقد فُتح الباب من جديد، وظهر رئيس الخدم مرة أخرى. لكنه كان وحدَه هذه المرة.
قال: «يرغب السيد كالادين في التحدُّث إليك يا سيدي.»
صاح ريكاردو في دهشةٍ عارمة: «كالادين! هذا غريب للغاية.» ونظر إلى الساعة القابعة على رفِّ الموقد. كانت الساعة قد وصلَت لتوِّها الثامنةَ والنصف صباحًا. ثم أضاف: «وفي هذه الساعة؟»
علَّق رئيس الخدم: «لا يزال السيد كالادين يرتدي ملابس السهرة.»
اعتدل ريكاردو في مقعده. وبدأ يتخيَّل الاحتمالات المُثيرة؛ لا سيما أن أعجوبةً ما ساقت إليه أنو في تلك اللحظة.
سأل ريكاردو: «أين هو السيد كالادين؟»
أجاب رئيس الخدم: «أجلسته في غرفة المكتبة.»
قال السيد ريكاردو: «رائع. سأذهب إليه.»
لكنه لم يكن في عَجلةٍ من أمره. جلس في مقعده وترك العنان لمخيلته بشأن سبب زيارة كالادين المبكرة.
قال: «الأمر جدُّ غريب. لم أرَ كالادين منذ شهور — لا أنا ولا غيري. لكن، منذ أمدٍ غير بعيد، كان أكثر شخصٍ يمكن أن تراه.»
أوحى مظهره أنه كان مُستغرقًا في التفكير، لكنه كان يسعى لإثارة فضول أنو. ومع ذلك فشلت محاولته. فقد واصل أنو تناول فطوره بهدوء، فأُجبر السيد ريكاردو على أن يروي القصة التي كان يتحرَّق شوقًا لحكايتها.
قال ريكاردو: «اشرب قهوتك يا أنو، وسأُخبرك عن كالادين.»
غمغم أنو بإذعان، وطفق ريكاردو يسترسِل في السرد:
«كالادين هو أحد شباب إنجلترا البارزين. هذا ما شاع على لسان الناس. كان يُنتظَر منه أن يُحقق إنجازاتٍ رائعة فور أن يُقرر ما يريد أن يفعله. في تلك الأثناء، كان من المُمكن أن تلتقي به في اسكتلندا، أو في نيوماركت أو أسكوت أو كاوز، أو في شرفة سيدةٍ رفيعة الشأن في دار الأوبرا — لكن ليس قبل العاشرة والنصف مساءً — أو في أي حفلٍ يقام في أيٍّ من منازل عِلية القوم. كان يذهب إلى كل مكان، إلى أن جاء يوم ولم يعُد يظهر في أي مكان. لم تنَل أي فضيحةٍ أو مشكلة ولا حتى شائعة من سُمعته الطيبة. إنما اختفى فجأة. انشغل بعض الناس باختفائه لفترةٍ وجيزة وتساءلوا: «ماذا حدث لكالادين؟» لكن لم يكن هناك أي جواب، ولندن لا وقتَ لدَيها للأسئلة المُستعصية. وحلَّ محلَّه شباب آخرون واعدون. لقد انضم كالادين لجحفل الفشلة. ولم يعُد أحدٌ يراه حتى في الشارع. وها هو الآن يأتي لزيارتي في الثامنة والنصف صباحًا، بِحلَّةِ السهرة. لماذا؟ هذا ما أسأله لنفسي.»
غرق السيد ريكاردو في تأمُّلاته مرةً أخرى. وراقبه أنو بابتسامةٍ عريضة تنمُّ عن لذةٍ خالصة.
وعلق بفتور: «وأخيرًا ستسأله عن السبب، أليس كذلك؟»
هب السيد ريكاردو واقفًا.
قال بكبرياء لاذعة: «قبل أن أخوض في مسائل هامَّة مع شخصٍ أعرفه معرفةً سطحية، أحرص على استحضار انطباعاتي عنه أولًا. ستجد السجائر في العلبة البلورية.»
قال أنو بلا استحياء: «هذا ما تصوَّرته»، في حين غادر ريكاردو الغرفة في أنَفَة. لكن في غضون خمس دقائق، عاد راكضًا إلى الغرفة، وقد ذهب عنه كل هدوئه.
صاح: «إنه لحظٌّ عظيم أنكَ اخترتَ هذا الصباح بعينِه لزيارتي يا صديقي»، فأومأ أنو في عبوسٍ ينمُّ عن إذعانه لقدَرِه.
قال أنو: «ها قد ضاعت عُطلتي. أنا رهن إشارتك من الآن فصاعدًا. سأتعرَّف إلى صديقك الشاب.»
ونهض من مقعده، وتَبِع ريكاردو إلى مكتبه، حيث كان الشاب يَذرع الغرفة جيئةً وذهابًا في توتر.
قال ريكاردو: «السيد كالادين. أُعرِّفك بالسيد أنو.»
التفت الشاب بحماسة. كان طويل القامة، تبدو عليه بوضوح الأناقة والوجاهة، ورأى أنو أن ملامحه في غاية الوسامة، رغم القلق البادي عليها.
قال الشاب: «أنا في غاية السرور. أرى أنكَ لستَ من مسئولي هذه الدولة. يسعك إذن أن تُقدِّم لي المشورة — دون اتخاذ أي إجراءاتٍ قانونية — إذا تكرَّمت.»
قطَّب أنو جبينه. ونظر إلى كالادين نظرةً حازمة.
وسأله بنبرة بدَتْ فيها الحدَّة: «ماذا تقصد؟»
انفجر كالادين بنبرة مرتعشة: «أقصد أنه يجب أن أبوح لشخصٍ ما بما في صدري. لا أدري ماذا أفعل. أنا في ورطةٍ كبيرة. هذه هي الحقيقة.»
نظر أنو إلى الشاب نظرةً مُتفرِّسة. شعر ريكاردو أنه استوعب كل إيماءةٍ منفعلة، وكل قَسَمة مُضطربة بتلك النظرة الشاملة. بعد ذلك، سحب كرسيًّا ليجلس إلى الطاولة وقال بصوتٍ أكثر ودًّا: «اجلس وأخبرني بما حدث.»
قال كالادين: «كنتُ في سميراميس ليلة أمس»؛ كان ذلك واحدًا من أكبر الفنادق في منطقة إمبانكمنت. وأردف: «كنتُ أحضر حفلًا تنكريًّا مُقامًا هناك.»
بالمناسبة، وقعت تلك الأحداث قبل نشوب الحرب — تقريبًا منذ ثلاث سنوات — وقتما كانت لندن قد تخلَّت عن تحفُّظها وخجلِها، وأصبحت مدينةً تقام فيها المهرجانات والحفلات التنكُّرية، تُنافس جيرانها في القارة الأوروبية في بهجتها، بل إنها تفوقت عليهم بما فيها من مظاهر الترف والبهرجة. «ذهبتُ إلى الحفل بالمصادفة البحتة. أنا أُقيم في شقةٍ في مباني أديلفي تيراس.»
صاح السيد ريكاردو مندهشًا: «أحقًّا؟!» لكن أنو أشار بيده حتى يتوقف عن مقاطعته.
واصل كالادين: «نعم. كانت ليلةً دافئة، وانسابت الموسيقى من نوافذ غرفتي المفتوحة وقلَّبت الذكريات القديمة. صادف أن كان معي تذكرة للحفل. فقررت الذهاب.»
سحب كالادين كرسيًّا وجلس قبالة أنو، ثم حكى بنبرةٍ مضطربة بعد كثيرٍ من الوقفات المُتوترة قصةً — بدت لريكاردو — خرافية مثل قصص «ألف ليلة وليلة».
طفق الشاب يقول: «كانت لديَّ تذكرة، لكن لم يكن لديَّ زيٌّ تنكري. لذا أوقفني أحد الخدَم في الردهة أعلى الدرَج المؤدي إلى صالة الرقص.
قال لي: «يمكنكَ استئجار زيٍّ تنكُّري من غرفة المعاطف يا سيد كالادين.» كنتُ قد بدأت أندم على الرغبة المفاجئة التي جلبتني إلى الحفل، فتحجَّجتُ بعدم قدومي بزيٍّ تنكُّري لأُغادر. وبينما كنت أستدير نحو الباب، إذا بفتاة تنزل راكضةً من دَرَج الفندق إلى الردهة، صاحت في بهجة: «هو ليس بحاجةٍ لاستئجار زي»؛ وألقت إليَّ بعباءةٍ قرمزية كانت ترتدِيها فوق ردائها. كانت فتاة شابة، شقراء طويلةً نوعًا ما، ممشوقةَ القوام، وجميلةً جدًّا؛ وكان شعرها مربوطًا للخلف بشريطة، وينسدِل حول كتفَيها في خُصَل غزيرة؛ وكانت ترتدي معطفًا من الساتان، وسروالًا يمتدُّ إلى الركبة باللونَين الأخضر الفاتح والذهبي، بالإضافة إلى صدرية بيضاء، وجوارب حريرية، وحذاء من الساتان له كعب قرمزي. كانت نحيلة القوام مثل فتًى، ورقيقة مثل تمثال خزفي. أمسكتُ بالعباءة والتفتُّ لأشكرها. لكنها لم تتنظِر. ركضتْ نازلةً الدرَج بخفةٍ وتألُّقٍ وهي تضحك، وغابت وسط المتجمهرين عند مدخل صالة الرقص. ملأتني احتمالية المغامرة بالإثارة. فركضتُ خلفَها. وجدتُها تقف داخل الصالة وحدَها، تُحدِّق في المشهد بشفتَين مفتوحتَين وعينَين متراقصتَين. عندما رأت العباءة حول كتفيَّ ضحكتُ مرة أخرى، ضحكةً مُجلجلة عذبة، فسألتها:
«أترقصين معي؟»
قفزَت قفزةً صغيرة، وشبَّكت يدَيها، وهتفت: «بالطبع!» كانت روحها مرحة سعيدة، ولا تأخذ أمور التعارُف بتشدُّد. قادتني إلى تمثال للإله الإغريقي بان الذي يستقر في كوةٍ بالحائط، وقالت: «هذا الرجل النبيل خيرُ من يعرِّفنا ببعضنا. كما ترى، أنا بطلة مسرحية موسيقية. اسمي سيليمين، أو أي اسمٍ من أسماء القرن الثامن عشر. وأنتَ … لك أن تكون من تشاء. هذه الليلة، نحن صديقان.»
سألت: «وماذا عن الغد؟»
أجابت: «سأُخبرك لاحقًا»، وبدأت ترقُص بخفةٍ وشغف، جعلا الرجال الآخرين يرمقونني بنظراتٍ حاسدة. كنتُ محظوظًا لأن سيليمين لم تعرف أحدًا، ومع أنني قطعًا رأيتُ وجوه كثيرين ممَّن لا تزال ذاكرتي تحفظهم، فقد تجاهلتهم. وأخذنا نرقُص لما يقرُب من نِصف الساعة حتى حدث أول شيءٍ غريب تلك الليلة. سكتَت في منتصف حديثها، وندَّت عنها شهقة صغيرة. تحدثتُ إليها لكنها لم تسمعني. كانت تُحدق في شيءٍ خلفي، بعينَين متَّسعتَين ودهشة جمَّة. بدَت كمن نزلَت عليها صاعقة. نظرتُ إلى حيث تنظر، وأدهشني أن لم أرَ سوى امرأةٍ بدينة قصيرة في منتصف عمرها، متأنقة بشكلٍ فاضح مبالَغٍ فيه مثل ماري أنطوانيت.
قلتُ: «هل تعرفين أحدًا هُنا؟»، واضطررتُ إلى تكرار الكلمات بصوتٍ مرتفع، حتى أشاحت ببصرِها عن السيدة. ومع ذلك لم تنتبِه لسؤالي. كنتُ وكأنما أتحدث إليها في أثناء نومِها، فأقلقتُها دون أن أوقِظها تمامًا. بعد ذلك، عادت إلى وعيها — لا أستطيع العثور على كلمةٍ أخرى لوصف حالتها في تلك اللحظة — عادت إلى وعيِها بتنهيدةٍ عميقة.
أجابت: «لا. إنها السيدة بلومنشتاين من شيكاغو، وهي أرملة طموحة ذات ثروةٍ كبيرة. لكني لا أعرفها.»
علقتُ: «لكنكِ تعرفين كلَّ شيءٍ عنها.»
أجابت سيليمين: «لقد جاءت معي في السفينة نفسها. هل أخبرتكَ أني وصلتُ إلى ليفربول هذا الصباح؟ وهي تُقيم في سميراميس أيضًا. لنرقُص!»
شدَّت كمَّ معطفي بنفاد صبر، ورقصت بعنفوانٍ وجموح، كأنها تريد طرد فكرةٍ مشئومة من عقلها. ويبدو أنها نجحت في ذلك. فقد تناولنا العشاء معًا، وتخلَّينا عن التحفُّظ في الكلام، كما هو معتاد في هذه المواقف. وأخبرَتني باسمها الحقيقي. كان اسمها جوان كورو.
«جئتُ للبحث عن عملٍ بدار الأوبرا الملكية في كوفنت جاردن. من المُفترَض أن لديَّ صوتًا حسنًا. لكني لا أعرف أحدًا. فلقد نشأتُ في إيطاليا.»
سألتُ: «ألديكِ خطابات توصية؟»
قالت: «أجل. لديَّ خطابٌ من مُعلمي في ميلان. ومعي خطابٌ آخر من ربِّ عملٍ أمريكي.»
أخبرتُها بدوري باسمي ومحلِّ إقامتي، وأعطيتُها بطاقتي. فكرتُ حينئذٍ أنني قد أستطيع مساعدتها؛ لأن لديَّ الكثير من المعارف في الأوبرا.
قالت: «أشكرك»، وفي تلك اللحظة قدمَتْ إلى صالة العشاء السيدة بلومنشتاين، وفي أعقابها مجموعةٌ معظمها من الشبَّان الخانعين، الذين تجدهم يحومون حول مِثل هذه الشخصيات في العادة، وجلسوا إلى طاولةٍ قريبة من طاولتنا. في الحال، وضع ذلك حدًّا لتعارُفنا — بل لحديثنا برمَّته. فقد فقدَت جوان كورو مرحها؛ وبات حديثها عشوائيًّا، وظلت عيناها تتَّجهان إلى السيدة ذات الزيِّ المبهرَج. في نهاية المطاف شعرتُ بالانزعاج.
سألتُ بنفاد صبر: «هل نذهب؟» واندهشتُ عندما همسَتْ لي بحرارة:
«أجل. من فضلك! لنذهب.»
كانت هناك رعشةٌ في صوتها وكانت قبضتاها مضمومتَين بقوة. عُدنا إلى صالة الرقص، لكن جوان كورو لم تستعِدْ بهجتها، وفي منتصف إحدى الرقصات، وبينما كنا قريبين من مدخل الصالة، توقَّفَت عن الرقص بغتةً على نحوٍ أثار دهشتي.
قالت فجأة: «سأرحل. أشعر بالتعب. لقد أصابني الملل.»
اعترضت، لكنها نظرتْ لي بشيءٍ من العبوس.
قالت: «ستملُّني قريبًا. لنَكُنْ واقعيَّين ونفترق ونحن لا نزال صديقين»، وبينما كنت أنزع الزيَّ التنكُّري عن كتفي، انحنت بسرعةٍ شديدة. بدا لي أنها التقطت شيئًا مُخبَّأً أسفل حذائها. لكني واثِق من أنها حرَّكت قدمَها، ومن أني رأيت شيئًا صغيرًا لامعًا يبرق في راحَتِها أثناء اعتدالها. لكني تصورتُ أنها التقطت شيئًا وقَعَ منها لا أكثر.
قالت: «لنذهب»، وصعدْنا الدرَج إلى الردهة. كانت مغامرتنا قد فقدت كل بريقِها. ورأيتُ أنَّ اقتراحها كان عينَ الحكمة.
سألتها: «هل سنلتقي مرة أخرى؟»
أجابت: «أجل. لديَّ عنوانك. سأكتب لكَ وأُحدد موعدًا أكون متفرغةً فيه. تُصبح على خير، وشكرًا جزيلًا. كنتُ سأشعر بالضجر الشديد لو أنكَ أتيتَ بالزيِّ التنكُّري.»
كانت تتحدث بمرحٍ وهي تمدُّ إليَّ يدَها، لكنها أحكمت قبضتَها على يدي قليلًا، وظلت مُمسكةً بها. غامت عيناها واضطربتا وارتعشت شفتاها. بدا وكأن مصيبةً كبيرة أحاطت بها فجأة. وسرَتْ رجفة في جسدها.
قالت: «أجد في نفسي الرغبة لأن أطلب منكَ البقاء وإن كنتَ ستملُّني؛ وأن ترقص معي حتى ضوء النهار — ضوء النهار وأمانِه.»
كانت العبارة التي استخدمتها غريبة، وأثَّرت فيَّ أيما تأثير.
قلت مشجعًا: «لنعُدْ إلى الداخل.» شعرتُ أنها تُعاني الوحدةَ الشديدة. لكنها استجمعت شجاعتها. وأجابت بسرعة: «لا، لا.» وانتزعت يدَها بسرعةٍ من يدي، وركضت أعلى الدرَج بخطواتٍ خفيفة، ثم استدارت عند الزاوية كي تلوِّح لي بيدها وتبتسِم. كان ذلك في الواحدة والنصف صباحًا.»
حتى الآن كان كالادين يتحدث دون مقاطعة. كان السيد ريكاردو، في الحقيقة، يتلهَّف لمقاطعته بالأسئلة الهامة، ولم يمنعه سوى خوفِه من أنو الذي كان مفيدًا في هذا الموقف. لكن الآن، سنحت له الفرصة، إذ سكت كالادين.
قال ريكاردو بنبرة حكيمة: «الواحدة والنصف. آه!»
سأل أنو كالادين: «ومتى عُدتَ إلى شقتك؟»
قال السيد ريكاردو: «صحيح. هذا سؤال في غاية الأهمية.»
لم يكن كالادين متأكدًا. لقد خلَّفت رفيقتُه في الرقص وراءها مجموعةً غريبة من الأحاسيس في صدره. كان حائرًا مأسورًا مسحورًا. كان لا يستطيع منع نفسه من التفكير فيها، وامتلأت نفسه بالأمل، فكان النوم مُستحيلًا. راح يتجوَّل قليلًا في صالة الرقص. بعد ذلك سار إلى شقته، عبر شوارع لا يُسمَع فيها حسٌّ ولا حسيس، وهناك جلس عند النافذة، وفي غضون وقتٍ قصير، اخترق بوق سيارةٍ ستارَ الصمت، وتوقَّفت سيارة، وأزَّ مُحركها أزيزًا في الشارع بالأسفل. وسرعان ما دق جرس باب الشقة.
نزل الدرَج مسرعًا بحماسٍ شديد، وشدَّ مزلاج الباب الرئيسي وفتحه. كانت جوان كورو لا تزال ترتدي زيَّها التنكُّري، والعباءة القرمزية حول كتفَيها، وانسلَّت من فتحة الباب.
همسَت: «أغلق الباب»، وانزوَت في زاوية.
سأل كالادين: «ماذا عن سيارة الأجرة؟»
أجابت: «لقد غادرت.»
أغلقَ كالادين مزلاج الباب. في أعلى بئر السُّلم، كان الضوء يتدفَّق من باب شقته المفتوح، إلى الخارج. وفي الأسفل، كان الظلام حالكًا. لم يرَ إلا الْتماعةَ وجهها الأبيض الناصع، وبريق فستانها، لكنها التقطت أنفاسها كأنها ركضت لمسافةٍ طويلة. ثم صعدا الدرَج بخطواتٍ حذرة. لم ينطق بكلمةٍ واحدة حتى ضمَّتهما غرفة الاستقبال بأمان؛ ومع ذلك، تحدث بصوتٍ خافت.
سأل: «ماذا حدث؟»
قالت: «أتَذْكرُ المرأةَ التي كنتُ أحملقُ فيها؟ لم تفهم لِمَ كنتُ أُحدق فيها بتلك الطريقة، لكن أي فتاةٍ كانت ستفهم. لقد كانت ترتدي عقدًا من أجمل لآلئ رأيتها في حياتي.»
كانت جوان تقف عند حافة المائدة. وراحت تُمرِّر إصبعها على نقشٍ في مفرش المائدة وهي تتحدث. وهُنا دق ناقوس الخطر في عقل كالادين.
قالت جوان: «أجل. أنا أعشق اللآلئ. لطالما عشقتُها. أحد أسباب حُبي لها هو أنها تزداد جمالًا عندما أرتديها. لا أملك أيًّا منها بالطبع. فأنا لا أملك المال. لكن صديقاتي اللائي يملكن اللآلئ كنَّ في بعض الأحيان يُعطينني لآلئهنَّ لأضعها عندما يخبو بريقها، ودائمًا ما كانت تستعيد بريقها ما إن أضعها. أعتقد أن ذلك له علاقة بعشقي لها. آه، لطالما تلهَّفتُ لامتلاكها، ولو عقدًا صغيرًا منها فحسب. ينتابني أحيانًا شعور أنني على استعدادٍ لبيع روحي من أجلها.»
كانت تتحدَّث بصوتٍ رتيب فاتر. لكن كالادين تذكَّر كيف أشرقَ وجهها من شدة فرحِها عندما سقطت عيناها على اللآلئ لأول مرة، وكيف جرفها توقُها لها إلى عالَمٍ آخر، وكيف رقصت بحماسةٍ حتى تمنع نفسها من التفكير فيها.
قال: «وأنا لم ألاحظ وجودها على الإطلاق.»
قالت: «لكنها مُذهلة. ما أروعَ لونها! وما أجمل بريقها! كانت تغريني طيلة المساء. غضبتُ أشد الغضب أنَّ امرأةً بدينة مبتذلة تمتلك مثل هذه الأشياء البديعة الجمال. آه، كدتُ أفقد عقلي من الغضب.»
وغطَّت وجهها بيدَيها فجأة وترنَّحت. هبَّ كالادين لنجدتِها. لكنها أوقفته بإشارةٍ من يدِها.
قالت: «لا، أنا بخير.» طلبَ منها الجلوس، لكنها أبت. أضافت: «أتذْكُر عندما توقفتُ عن الرقص فجأة؟»
أجاب: «أجل. أتقصدين عندما كنتِ تُخبئين شيئًا في حذائك؟»
أومأت الفتاة برأسها.
تمتم كالادين مندهشًا: «كان مفتاحها!»
ولأول مرةٍ منذ أن دخلت جوان كورو الغرفة، رفعت رأسها ونظرت إليه. كانت عيناها تفيضان بذُعرٍ مشوبٍ بالحيرة كأنها لا تستطيع تصديق ما تعلم أنه حدث يقينًا.
استطردت الفتاة: «مفتاح ييل صغير. لاحظتُ أن السيدة بلومنشتاين تبحث في الأرض عن شيء ما؛ وفجأة رأيتُه يلمع في البقعة نفسها! كان جناح السيدة بلومنشتاين في الطابق نفسه الذي فيه جناحي، وخادمتها تنام في الطابق الذي يليه. تفعل الخادمات ذلك عادة. كنتُ أعلم ذلك. آه، شعرتُ كأنني بعتُ روحي، وأنني أقبض الثمن.»
وهُنا فهم كالادين مَغزى عبارتها الغريبة … «النهار وأمانه.»
واصلت جوان: «صعدتُ إلى جناحي الصغير. مكثت، وأنا أشعر بحرارة المفتاح على قفَّازي مثل الجمرة المشتعلة، حتى أمنحها الوقت الكافي لتستغرق في النوم»؛ ومع أنها تردَّدت قليلًا قبل أن تنطق هذه الكلمات، فإنها نطقَتْها في نهاية المطاف، دون أن تنظر إلى كالادين، وسرَتْ رجفة في جسدها تنمُّ عن شعورها بالندم، كانت بمثابة اللمسات النهائية المُكملة للاعتراف. تابعت: «تسللتُ إلى الخارج. كان الممرُّ بين الحجرات معتمًا قليلًا. في الأسفل، كان صوت الموسيقى العالي لا يزال يدوي. لكن في الأعلى كانت الأجواء صامتة صمتَ القبور. فتحت الباب — باب جناحها. ووجدت نفسي أقف في البهو. كان الجناح، رغم اتساعه، مُنسقًا على نفس شاكلة جناحي. تسللتُ إلى الداخل وأغلقت الباب خلفي. وقفتُ أُرهف السمع في الظلام الحالك. ولم أسمع همسًا. سرتُ ببطءٍ شديد إلى الباب القابع أمامي. وقفتُ برهة، يدي على مقبض الغرفة، وقلبي يخفق بسرعة حتى كاد أن ينخلِع من مكانه. كان لا يزال لديَّ الوقت لأعود عما عزمت عليه. لكني وجدتُ نفسي عاجزة عن ذلك. إذ لم تذهب صورة اللآلئ عن مخيلتي ببريقها وروعتها. وببطءٍ شديد، واربتُ الباب قليلًا — وفجأة — حدث كلُّ شيءٍ بسرعة البرق.»
ترنَّحت جوان كورو. كانت أحداث الليلة لا تزال حاضرةً بقوةٍ في ذهنها، بما صاحبَها من مشاعر الندم والهلع. أغلقت جوان عينَيها بقوة، وانكمشت مرتعدةً في أحد المقاعد. وفي أثناء ذلك، انسلَّت عباءتها من فوق كتفَيها، وسقطت على الأرض. انحنى كالادين إلى الأمام وأطلق صيحة فزع، فاعتدلت جوان كورو مجفلة.
سألتْ: «ما الأمر؟»
قال: «لا شيء. تابعي.»
قالت: «وجدت نفسي داخل الغرفة وبابها مُوصدٌ خلفي. كنت قد أغلقته من شدة فزعي. لكني لم أجرؤ أن أستدير كي أفتحه مرةً أخرى. كنت كالمشلولة.»
سأل: «ماذا تقصدين؟ هل كانت مستيقظة؟»
هزت جوان كورو رأسها نافية.
قالت: «كان هناك آخرون، رجال سبقوني إلى الغرفة، لنفس الغرض!»
تراجع كالادين وهو يُحملق بترقُّب في وجه الفتاة.
سأل ببطء: «وماذا بعد؟»
قالت: «لم أرهم في البداية. ولم أسمعهم. كانت الغرفة غارقةً في ظلام دامس، إلا من ضوء كشَّاف أبيض قوي، مُسلَّط على باب خزنة. وفور أن أغلقتُ باب الغرفة، تحرك الضوء بسرعةٍ فائقة، حتى سقط عليَّ. أصابتني شدتُه بالعمى، ووقفت في دائرة الضوء الساطع ملتصقةً بالباب، مرتعدة الأوصال، أكاد أن يُغمى عليَّ من شدة الرعب. وتناهت إلى أُذني ضحكة خافتة، واقترب مني شخص بخطواتٍ هادئة. كان الأمر مُرعبًا! استعدتُ السيطرة على أطرافي؛ واستدرتُ إلى الباب في هلع، لكن كان قد فات الأوان. وبينما كنتُ أحاول فتح مقبض الباب، أمسك بي أحد الرجال، وغطت يدٌ فمي. وحُمِلت إلى منتصف الغرفة. بعد ذلك، انطفأ ضوء الكشاف، وأُضيئت المصابيح الكهربائية. كان هناك رجلان يرتدِيان سروالًا ووشاحًا أحمرَين — كزيِّ رجال قبيلة الأباتشي — مثل مئات الراقصين في الصالة بالأسفل، وكانا يضعان قناعَين. حاولت باستماتة أن أتملَّص من قبضة الرجل الذي يُمسك بي، لكني بالطبع كنت مثل الطفل الرضيع بالنسبة له. همس للرجل الآخر: «اربط ساقَيها؛ فهي تحدث ضوضاء كبيرة.» ركلتُ بقدمي وحاولت الإفلات من قبضته، لكن الرجل الآخر انحنى وربط كاحليَّ، وأُغشِيَ عليَّ.»
أومأ كالادين برأسه.
سأل: «وماذا بعد؟»
قالت: «عندما أفقت، كانت المَصابيح لا تزال مضاءة، وباب الخزنة مفتوحًا، والغرفة فارغة: كان قد أُلقي بي على أريكةٍ عند طرف الفراش. وجدت نفسي مُستلقيةً وقد حُلَّ وثاقي.»
سأل كالادين فجأة: «هل كانت الخزنة فارغة؟»
أجابت: «لم أنظُر.» وغطَّت وجهها بيدَيها في انفعالٍ وأردفت: «آه! نظرتُ إلى الفراش. كان شخصٌ مُستلقيًا تحت الغطاء ساكنًا لا يتحرك. ورأيت ساعةً جدارية تدقُّ عقاربها؛ كان ذلك الصوت الوحيد المسموع في الغرفة. تملَّكني خوف شديد. وكدت أفقد صوابي من شدة الرعب. شعرتُ أنني سأجنُّ لو لم أخرج من الغرفة في الحال، وأنني سأصرخ وسيأتي الجميع ليجدوني بمُفردي — مع الشخص القابع تحت الغطاء في الفراش. ركضت إلى الباب، وورابتُه واسترقت النظر إلى الممر. كان لا يزال فارغًا تمامًا، ولا تزال الموسيقى ترجُّ صالة الرقص بالأسفل. نزلت الدرج بخطواتٍ هادئة، ولم أقابل أحدًا، حتى وصلتُ إلى البهو. تفقدتُ صالة الرقص كأنني أبحث عن شخصٍ ما. ومكثت وقتًا لإثبات حضوري. بعد ذلك، استدعيتُ سيارة أجرة، وقدمتُ إليك.»
تلا ذلك صمت قصير. نظرت جوان كورو إلى رفيقِها في توسُّل. وأضافت: «أنتَ الوحيد الذي يُمكنني اللجوء إليه. لا أعرف أحدًا سواك.»
جلس كالادين ينظر إلى الفتاة في صمت. ثم سألها بصوتٍ حازم:
«هل هذا كل ما لدَيك؟»
أجابت: «أجل.»
سأل: «هل أنتِ واثقة؟»
نظرت إليه جوان كورو وقد أربكها إلحاحُه. وفكرت برهة.
وأجابت: «واثقة تمامًا.»
نهض كالادين ووقف بجوارها.
رفع قلادةً من البلاتين والألماس تضعها حول عنقها، وسألها: «كيف ارتديتِ هذا إذن؟ لم تكوني ترتدينها عندما كنتُ أرقص معك.»
حملقت جوان كورو في القلادة.
قالت: «ليست ملكي. لم أرَها من قبل.» ثم سرى بريق في عينَيها. وقالت: «الرجلان — ألبساها لي حتمًا وأنا غائبة عن الوعي — قبل رحيلهما.» وتفحَّصتها بعينَيها. وقالت: «لا بد أن هذا ما حدث. إنها ليست قيِّمة. لذا تخلَّيا عنها بسهولة، كما أنها ستُلصق التهمةَ بي.»
قال كالادين ببرود: «أجل، منطقي جدًّا.»
رفعت جوان كورو رأسها بسرعةٍ ونظرت إلى وجهه.
صاحت: «أرى أنك لا تُصدقني. أتعتقد … آه، مستحيل.» وأمسكت بتلابيبه وهي تصرخ وتُنكر بحرارة.
قال بنبرة هادئة: «لكنكِ ذهبتِ إلى هناك لتسرقي كما تعلَمين»، فأجابته على الفور:
«أجل، فعلتُ، لكن ليس هذه.» ورفعت القلادة أمام عينَيه. وأضافت: «لو أنني سرقتُ هذه، هل كنتُ سآتي إليكَ وأنا أرتديها؟ لو أنني سرقتُ اللآلئ، هل كنت …»، ثم سكتت لبرهةٍ وتابعت: «إن كانت قصتي غير حقيقية؟»
وزن كالادين حُجَّتها، ووجدها منطقية بعض الشيء.
قال بصراحة: «لا، ما كنتِ ستفعلين ذلك، حسبما أعتقد.»
لا شك أن غالبية الجرائم كُشِفت لأن المجرم ارتكب خطأً غبيًّا للغاية؛ غبيًّا للغاية بمعايير السلوك المنطقي العادي. ومع ذلك، أراد كالادين تصديقها. نظر إليها. وفكَّر أنه من غير المعقول إقدامُها على القتل. كما أنها لم تنهمِك في إظهار ندمِها، ولا أدتْ دور التائبة المُداهنة، لقد استسلمت للإغواء، وأوقعتْ نفسها في ورطةٍ كبيرة، لا تعرف كيف تخرُج منها. كانت صريحة بشأن وضعها.
نظر كالادين إلى الساعة الجدارية. ووجد أنها تقترب من الخامسة صباحًا، ورغم أن ستار الليل بدأ ينقشع عن نهر التيمز، فقد كانت الموسيقى لا تزال تنسابُ من صالة الرقص في فندق سميراميس.
قال: «لا بد أن تعودي. سأصحبك إلى هناك.»
تسلَّلا إلى الطابق السُّفلي وخرجا إلى الشارع. كان فندق سميراميس قريبًا جدًّا. ولم يرَيا أحدًا حتى وصلا إلى شارع ستراند. هناك كان الكثيرون، يقفون مُرتدِين أزياءهم التنكُّرية، مثل جوان كورو، أو يتجوَّلون في الأرجاء بحثًا عن عربات أو سيارات أجرة. كان الشارع يعجُّ بصخب السائقين والمُغادرين.
قال كالادين وهو يُمعن النظر في الفِناء المكتظ بالنزلاء: «يُمكنكِ التسلُّل إلى الداخل دون أن تلفتي إليكِ الأنظار. سأتَّصل بكِ في الصباح.»
هتفت في حماسةٍ وهي تتشبَّث بذراعه للحظة: «حقًّا؟»
أجاب: «أجل، بلا شك. انتظري اتصالي. سأُفكر في الأمر. وسأرى ما يُمكنني فعله.»
قالت بحرارة: «أشكرك.»
راقب كالادين عباءتها القرمزية، وهي تُرفرف يمينًا ويسارًا وسط الزحام، حتى غابت في مدخل الفندق. بعد ذلك، عاد إلى شقته بينما كان نور الصباح يتسلَّل إلى النهر من ناحية البحر.
•••
كانت هذه هي القصة التي حكاها كالادين في مكتبة السيد ريكاردو. وأنصتَ إليها السيد ريكاردو بمشاعر مُتباينة. في البداية بدأ يستمِع إلى الحكي بترقُّب، مثل رجلٍ يقف على أعتاب مغامراتٍ كبيرة لا يعلم ما ينتظره. كما راقَتْه أجواء القصة التي وجدها غريبة مُسلِّية. لكن كلما تطوَّرت الأحداث، ازدادت حيرته وخفتت حماستُه نوعًا ما. كان بوسعه رؤية عيوبها وثغراتها، وبدأت تجيش في ذهنه الانتقادات التي لم يبُح بها، ثم الردود السريعة الحاذقة، التي لم يجرؤ على التفوُّه بها. ونظر إلى الشاب بازدراءٍ كأنما ينظر إلى صاحب مسرحٍ وعد بعرض مسرحيةٍ عظيمة، لكنها لم ترقَ للمستوى المطلوب. في المقابل، استمع أنو بهدوء، بلا أي تعبيرٍ على وجهه، حتى انتهى كالادين من قصته. بعد ذلك، أشار إليه بإصبعه، وسأل سؤالًا بدا لذهن ريكاردو خارج السياق تمامًا.
«إذن فقد عُدتَ إلى غرفتك قبل الخامسة صباحًا يا سيد كالادين، أليس كذلك؟ الآن الساعة التاسعة إلا بضع دقائق.»
أجاب كالادين: «بلى.»
قال أنو: «لكنك لم تُغير ثيابك. فسِّر لي ذلك. ما الذي كنتَ تفعله بين الخامسة والثامنة والنصف؟»
نظر كالادين إلى قميصه المُتغضِّن.
وهتف: «لم يخطر ببالي حقًّا. فقد استحوذ عليَّ القلق. وحِرت فيما أفعله. وفي النهاية، قررتُ التحدث إلى السيد ريكاردو، وبعد أن وصلتُ إلى هذه النتيجة انتظرتُ بفارغ الصبر، حتى أستطيع زيارته في ساعةٍ مناسبة.»
نهض أنو من مقعده. بدت عليه الجدِّية، لكنها لم تُفصح عن رأيه بأيِّ حال. واستدار إلى ريكاردو.
وقال: «لِنزُر شقة صديقك الشاب في أديلفي»؛ وذهب ثلاثتهم إلى هناك بالسيارة على الفور.