الفصل الثاني

كان كالادين يُقيم في الطابق الأول لمنزلٍ يقع عند زاوية. كانت الشقة فسيحة مُربعة مرتفعة السقف، تُزين غرفَها أرفف مواقد أنيقة، وتُزين سقفَها زخارفُ متشابكة دقيقة، ويفوح منها عبق القرن الثامن عشر بجمالِه وبهائه. وكانت النوافذ العريضة المُرتفعة، التي تحتضِنها الجدران السميكة، تُطل على النهر وتستقبل أشعةَ الشمس والهواء المُنعش المُنبعث منه في ترحاب. وكانت مؤثثة بما يتناسب مع حجمِها وأجوائها. عندما دخل الرجال الثلاثة الردهة، أصيب السيد ريكاردو بدهشةٍ عارمة. فقد كان يتوقَّع أن يرى الفوضى العارمة تعمُّ المكان، كما هو متوقَّع من رجلٍ جارَ عليه الدهر، وأن يرى الإهمال والغبار اللذَين هما سِمتا العزلة. لكن المكان كان في غاية النظافة؛ فقد أضفت سجادة أوبيسون لمسةً فاخرة على الأرضية، وزيَّنت بعضُ اللوحات الفنيَّة الملوَّنة القيِّمة الجدران؛ وكان الأثاث الماهوجني مصقولًا لامعًا كالمرآة. وقبع بجوار الصحيفة على المائدة المُستديرة مزهريةٌ خزفية مليئة بالزهور الحمراء الطازجة. لو أن كالادين تحوَّل إلى ناسك، فقد أصبح ناسكًا نيِّقًا بشكلٍ غير عادي. في الحقيقة، بدا مظهره غير المُهندم وهو يقف وسط رفيقَيه لا يتماشى مع أناقة شقته.

قال أنو وهو يخلع قُبعته ويضعها جانبًا: «أتعيش هنا يا سيد كالادين؟»

أجاب كالادين: «أجل.»

سأل أنو: «مع خدَمِك، أليس كذلك؟»

أجاب: «يأتون خلال النهار فقط»، فنظر إليه أنو بفضول.

سأله: «أتقصد أنكَ تبيت هُنا بمُفردك؟»

أجاب: «نعم.»

سأل: «حتى بدون الوصيف؟»

قال كالادين: «ليس لديَّ وصيف»، ومرة ثانية لاح الفضول في عينَي أنو.

وأشار بنبرة لطيفة: «لكن يُوجَد في شقتك من الغرَف ما يسع عائلة بأكملِها.»

احمرَّ وجه كالادين خجلًا، وتململ في وقفته في توتُّر.

قال وهو يتلعثم قليلًا: «لا أُحب أن يُزعجني أحد في أثناء نومي. أقصد أنني أُحب الهدوء.»

أومأ جبراييل أنو برأسه مُتفهمًا.

وقال: «أجل، أجل. والهدوء شيءٌ صعب المنال، مثل عُطلتي تمامًا»، ونظر إلى السيد ريكاردو بابتسامةٍ حزينة. ثم استدار إلى كالادين، وقال: «الآن وقد عُدتَ إلى المنزل، لا شكَّ أنك سترغب في الاستحمام واستبدال ثيابك. وبعدما ترتدي ثيابًا جديدة، قد تودُّ الاتصال بسميراميس ودعوة الآنسة كورو للقدوم إلى هُنا. وفي أثناء ذلك، سنقرأ صحيفتك ونُدخن سجائرك.»

أغلق أنو الباب خلف كالادين، لكنه لم يلتفِت إلى الصحيفة ولا إلى السجائر. إنما سار إلى السيد ريكاردو الذي كان يجلس عند النافذة المفتوحة غارقًا في التفكير.

هتف أنو: «ثمَّة فكرة تكوَّنت في ذهنك يا صديقي. وهي تلحُّ للتعبير عن نفسها. وتنعكس على صفحة وجهك. أدلِ بما في دلوك من فضلك.»

أفاق السيد ريكاردو من استغراقه في التفكير الذي كان يتظاهر به.

قال بابتسامة شاردة: «كنتُ أفكر أنك إذا اختفيتَ وسط أدغال أفريقيا، فسينشغل الجميع بمسألة اختفائك. وأنك إذا غادرتَ قريتك في لسترشير وسكنتَ في جلاسكو الملبَّدة بالغيوم، في غضون أسبوع ستعلَم القرية كلها عنوانك البريدي. لكن لندن … يا لها من مدينة! ما رأيتُ أكثر منها اختلافًا! وأقل منها اكتراثًا! يرحل المرء عن شارع جيمس ويذهب إلى أديلفي تيراس ولا يسأله شخص واحد: «الدكتور ليفينجستون، أليس كذلك»؟»

سأل أنو: «ولماذا يسألونك ذلك إذا لم يكن اسمك الدكتور ليفينجستون؟»

ابتسم السيد ريكاردو ابتسامة سمحة.

وقال: «كفاك سخرية! أنتَ تفهم قصدي جيدًا»؛ وسعى إلى قلب السِّحر على الساحر. فسأل صاحبه: «وأنتَ … ألا توحي لك هذه الشقة بشيء؟ ألديك أية أفكار؟» لكنه كان يعلم يقينًا أن أنو لدَيه أفكار. فمنذُ أن عبر عتبة الباب، بدا كمن تناول عقارًا منشطًا. كانت عيناه مُنتبهتَين مُتقدتَين بالحيوية وجسده متحفزًا.

أجاب أنو: «نعم. لديَّ أفكار.»

كان أنو يقف بجوار ريكاردو واضعًا يدَيه في جيبَيه، ينظر إلى الأشجار على ضفة نهر التيمز، والصنادل التي تتماوج فيه.

قال: «أنتَ تفكر في الحادثة الغريبة التي وقعت في هذه الغرفة منذ بضع ساعاتٍ مضت. وتتخيَّل الفتاة في زيِّها التنكُّري، وهي تقدم اعترافها، والقلادة المسروقة حول عنقها …»

نظر أنو إلى الخلف نظرة غير مُبالية. وأجاب: «لا، لم أُعِرْ ذلك أدنى تفكير»، وبعد برهة بدأ يتجوَّل في أنحاء الغرفة بخطواته الخفيفة المثيرة للإعجاب، التي لم يستطع ريكاردو التوفيق بينها وبين جسده الضخم. فرغم جسده الضخم كالدبِّ كانت خطواته خفيفةً كالريش. راح أنو يسير من زاوية لأخرى، يفتح خزانة هُنا ورفَّ مكتبٍ هناك … ثم انحنى فجأة. وانتصب مرة ثانية، وهو يحمل صندوقًا صغيرًا من الجلد المغربي في يده. بدا كأن جسده من رأسه إلى أخمص قدمَيه يصدح بالسؤال: «هل وجدته؟» وضغط على زنبركٍ فانفتح غطاء الصندوق. أفرغ أنو محتويات الصندوق في راحة يده. كان هناك عودان أو ثلاثة من الشمع الأحمر وختْم. أعادها إلى الصندوق وأغلقه.

قال ريكاردو بفراسة: «أنتَ تبحث عن شيءٍ ما.»

أجاب أنو: «أجل»؛ وبعد بضع ثوانٍ بدا أنه وجد بُغيته. لكنه إذا كان وجدها فعلًا، فقد وجدها ويداه مدسوستان في جيبَيه. هكذا رآه السيد ريكاردو يتوقف أمام رفِّ المدفأة، وسمِعه يُطلق صفيرًا طويلًا خافتًا. كانت هناك مجموعة من الصور الفوتوغرافية على الرف موضوعة بشكلٍ مُرتب، وصندوق سجائر على طرفه، في حين توسط كتاب أو اثنان مجموعةً من التحف الخزفية الدقيقة، واستندت قطعة فنية منقوشة صغيرة داخل إطار رفيع مذهب، إلى الحائط. تفحَّص ريكاردو الرفَّ من مقعده عند النافذة، لكنه لم يستطع تحديد أي من هذه الأغراض جذب انتباه أنو واستحوذ عليه.

لكن أنو خطا خطوةً للأمام. نظر داخل مزهرية ثم قلبها رأسًا على عقب. بعد ذلك، أزال غطاء كوب من الخزف، وأدرك ريكاردو من حركة كتفَيه العريضتَين، أنه عثر على ما كان يبحث عنه. كان أنو يُمسك شيئًا بين يدَيه، يُقلبه ويفحصه. وعندما شعر بالرضا، سار بسرعة إلى الباب، وفتحه بحذر. سمع الرجلان بوضوحٍ صوت انهمار الماء في الحمام. أغلق أنو الباب مرة أخرى، بإيماءةٍ راضية، ثم سار إلى النافذة مرة ثانية.

قال: «أجل، الأمر كله غريب ومُثير للفضول، ولا أندم على إقحامك إياي في هذه المسألة. كنتَ على حقٍّ فيما قلتَه يا صديقي هذا الصباح. إن شخصية الشاب السيد كالادين هي أكثر ما يُثير الاهتمام في القضية. ها نحن، على سبيل المثال، في مدينة لندن في أوائل فصل الصيف. الأشجار في الخارج خضراء يانِعة، وزهور الليلك والورود في الحدائق مُتفتحة، وثمة بصيص من الأمل والترقُّب تحمله أشعة الشمس ونسيم الهواء. ها أنا ذا رجل في منتصف العمر، لكني أشعر في تلك الأجواء بالحماسة تدبُّ في نفسي، أشعر بشيءٍ من عنفوان الشباب، ويُساورني إحساس بأن أشياء مُذهلةً لم أُدركها بعد تنتظرني. ألا تشعر أنت أيضًا بذلك؟ حسنًا إذن …»، ورفع كتفَيه في استغراب.

أضاف: «أيمكنك أن تتصوَّر أن شابًّا ذا مال وفيرٍ وذوق نيِّق وملاحة في الوجه، يُخبِّئ نفسه من تلقاء نفسه، في هذه الزاوية النائية في هذا الوقت من العام، دون سببٍ قاهر يدفعه إلى ذلك؟ لا تستطيع؟ ولا أنا أيضًا. وهناك أمر آخر … وجهت بضعة أسئلة لكالادين.»

قال ريكاردو: «صحيح.»

واصل أنو: «علمتُ أن الخدم لا يَبيتون عنده. وأنه يمكث هُنا بمفرده تمامًا دون وصيف، وهذا ما أثار اهتمامي.» سأل أنو عندما لاحظ تململ ريكاردو: «هل تبدو هذه المسألة تافهةً بالنسبة لك؟» وردَّ على نفسه: «حسنًا إنها تافهة بلا شك، لكنها تصبح في غاية الأهمية في حالة هذا الشاب الغني. فهي تُشير بصفةٍ عامة إلى أن ثمة شيئًا غريبًا أو ربما خبيثًا في حياته. لقد انتقل السيد كالادين من شارع جميس، منذ بضعة شهور، ليسكن في أديلفي تيراس. أيُمكنك أن تفسر لي ذلك؟»

أجاب ريكاردو: «لا. أتستطيع أنتَ؟»

مدَّ أنو يده. كانت في راحة يده المنبسطة بصلة مُشعرة مستديرة، في حجم زرٍّ كبير، لونها بين الأخضر والبُنِّي.

هتف: «انظُر! ما هذا؟»

أمسك السيد ريكاردو البصلة في تساؤل.

قال: «تبدو لي ثمرةَ نبتةٍ من فصلية الصبَّاريات.»

أومأ أنو برأسه موافقًا.

قال: «هي كذلك. سترى بعض أصصِها في صُوبات الحدائق النباتية المتخصصة. هي موجودة قطعًا في الحدائق النباتية الملَكية في مقاطعة كيو. كما توجد أيضًا في الحدائق النباتية في باريس. وتُسمَّى «أنالونيام لويني». لكنها تشتهر بين هنود يوكاتان باسم أبسط.»

سأل ريكاردو: «ما هو؟»

أجاب: «مسكال.»

كرَّر السيد ريكاردو الاسم. لم يبدُ له مألوفًا البتَّة.

قال أنو: «يُوجَد الكثير منها في ذلك الكوب على رفِّ المدفأة.»

رفع ريكاردو رأسه بسرعة.

سأل: «لماذا؟»

أجاب أنو: «المسكال مُخدِّر.»

صُعق ريكاردو.

واصل أنو: «أرى أنكَ بدأتَ تفهم السبب الذي دفع صديقك الشابَّ كالادين للانتقال من شارع جيمس إلى أديلفي تيراس.»

أخذ ريكاردو يُقلِّب البصلة الصغيرة بين أصابعه.

قال: «أظن أنها تحتاج إلى الغلْيِ لاستخلاص المُخدر منها، أليس كذلك؟»

ردَّ أنو: «أو يمكنكَ استخدامها كما يفعل هنود يوكاتان المكسيكية. فالمسكال يُستخدَم في احتفالاتهم الدينية. يجلس الهنود في دائرة حول النيران في الغابة ويمضغونه، في حين يقرع فردٌ من جماعتهم طبلةً بلا توقُّف.»

أجال أنو ببصره في أنحاء الغرفة، وتأمَّل بساطها الفاخر، وأثاثها الرفيع الذوق. كان الشارع خارج النافذة يعجُّ بصخب المارة. وانسابت القوارب بسرعة في النهر مع تياره المُنجزر. ولاحت في الأفق وراء فندق سميراميس الضخم، قبَّة كاتدرائية سانت بول العظيمة بلونها الأبيض المائل للرمادي. وفي الجهة المقابلة، على ضفة ساوثوارك، كانت اللوحات الإعلانية الضخمة المضيئة — مثل تلك التي تصوِّر رجلًا ضخمًا من سكان المرتفعات الاسكتلندية يحتسي الويسكي وغيره — تقف كهياكل خاوية من الحياة، تنتظر قدوم الليل كي تشتعِل أضواؤها وتدبَّ فيها الحياة. وفي الحدائق أسفل النافذة خشخشت أوراق الأشجار وتماوجت. كانت تعمُّ الأجواء بهجة الصيف ورونقه.

قال أنو: «تفصل مسافة شاسعة بين غابات يوكاتان المكسيكية وأديلفي تيراس اللندنية. لكني أظنُّ أن هذه الشقة، عندما يرحل جميع الخدَم ويعم الهدوء، تتحول إلى ركنٍ مكسيكي جامح.»

حلَّ التعاطف على وجه السيد ريكاردو. لقد رأى كثيرًا من الشبَّان الواعِدين يتركون العنان لأنفسهم، ويتخلَّون عن كل شيء، لأجل هذا السبب. وكالادين واحد منهم على ما يبدو.

قال وهو يُلقي الزر على المائدة في غضب: «أظن أنها تُشبه البانج والكيف وغير ذلك من المخدرات اللعينة.»

الْتقطها أنو من فوق المائدة.

قال: «كلَّا. إنها لا تُشبه أيًّا من المخدرات الأخرى. فلدَيها سمة مُميزة، لها أهمية خاصة في حالتنا.» ثم أومأ برأسه بجدِّية وأردف: «أجل يا صديقي، يجب أن نحذَر مِن أن نجعل مِن أنفسنا أضحوكةً في هذه القضية.»

وافقه السيد ريكاردو بنبرةٍ حكيمة للغاية: «في هذه النقطة أتَّفق معكَ تمامًا.»

سأل أنو: «لماذا؟» عجز السيد ريكاردو عن إيجاد السبب، لكن أنو لم ينتظِره. قال: «سأُخبرك. المسكال مادة مُخدرة بلا شك — لكنها تفعل ما هو أكثر من ذلك — إنها تُصيب الشخص الذي يتناولها بالهلوسات.»

كرر السيد ريكاردو الكلمة باستغراب: «هلوسات؟»

أجاب أنو: «أجل، هلوسات مُثيرة غريبة، تجعله يتخيَّل وقوع أحداثٍ درامية تبدو له حقيقية تمامًا. الهلوسات هي هبة هذا الزِّرِّ البُنيِّ المُمل.» وألقى بالبصلة في الهواء مثل العُملة المعدنية، والْتقطها مرة أخرى، ثم حملها إلى رفِّ المدفأة، وطرحها في الكوب الخزفي.

هتف ريكاردو بانفعال: «هل أنت واثق مما تقوله؟» رفع أنو يدَه مُحذِّرًا. وسار إلى الباب، ووارَبه قليلًا، ثم أغلقَه مرة ثانية.

أجاب أنو: «أجل، أنا واثق. لديَّ صديق كيميائي خبير من مؤسسة كوليج دو فرانس. هو من أولئك المُتحمسين الذين يُحبون اختبار المواد بأنفسهم. وقد جرَّب هذا المخدر.»

قال ريكاردو بصوتٍ خافت هذه المرة: «حسنًا. وما الذي رآه؟»

أجاب: «تراءت له حديقة خلَّابة تغمُرها أشعة الشمس؛ حديقة عتيقة من الزهور الباهرة والمروج الزمرُّدية، والبرك المزدانة بالزنابق الذهبية، وشجيرات الطقسوس الكثيفة؛ حديقة تتمشى فيها الطواويس في خُيلاء، ويتشاجر أناسُها المُبتهجون ويتقاتلون بالسيوف بأزيائهم المُذهلة. هذا ما رآه. وبدا له حقيقيًّا، لدرجة أنه عندما تلاشى أثر المُخدر من ذهنه وعاد إلى وعيه، بدا كأنه ينتقل من العالم الحقيقي إلى عالم الأوهام المتغيرة.»

سكت صوت أنو القوي الهادئ، ولبرهةٍ ساد صمتٌ تامٌّ في الغرفة. ولم يُحرِّك أيٌّ من الرجلَين ساكنًا. بدأ السيد ريكاردو يشعر مرةً أخرى بحماسٍ غريب يدبُّ في أوصاله. جال ببصره في أرجاء الغرفة. وتعجَّب كيف لغرفةٍ تقام فيها أثناء الليل ممارسات مُظلمة خبيثة، أن تبدوَ مشرقةً وبريئة في ضوء النهار؟ ينبغي أن يكون فيها شيء خبيث لا يُخطئه المرء ما إن يخطو بداخلها.

قال مكررًا عبارة أنو: «ينتقل من العالم الحقيقي. بدأت أفهم ما ترمي إليه.»

علَّق أنو: «أجل، بدأتَ تستوعب ما أقصده بأننا يجب أن نحذر من أن نجعل من أنفسنا أضحوكة. لقد تخيَّل صديقي من كوليج دو فرانس حديقة. لكنه لو كان جالسًا بمُفرده عند النافذة حيث تجلس الآن، يُنصت إلى موسيقى حفل تنكُّري في فندق سميراميس، في ليلةٍ صيفية، هل يُستبعَد أن يتخيل صالة رقصٍ وراقصين وعباءة قرمزية وبقية الحكاية؟»

هتف ريكاردو في دهشة عارمة: «أتقصد أن كالادين جاء إلينا، وعقله لا يزال تحت تأثير المُخدر، بينما كان ذلك العالم المُزيف لا يزال حقيقيًّا بالنسبة إليه؟»

قال أنو: «لا أدري. أكتفي في الوقت الحالي بطرح الأسئلة. وأُوجِّهها لكَ. أفعل ذلك لأنني أودُّ أن أعرف وقعها. لنُحلل اللُّغز منطقيًّا. لنفترض أن كالادين يتناول جرعةً زائدة من المُخدر مقارنةً بصديقي البروفيسور. في هذه الحالة، سيكون المخدر أقوى تأثيرًا وأطول مفعولًا. هذا بالإضافة إلى أن كالادين يألف الحفلات التنكُّرية. ومن ثم، ستُنعش الموسيقى المنسابة من فندق سميراميس ذكرياته القديمة. سيجلس هُنا، حيث تتجلَّى الحفلة أمام عينَيه، ويتخيَّل نفسه من الحاضرين. وسيكون أسعد، وهو جالس في مقعده أمام النافذة بهدوء، مما لو كان حضر حفل فندق سميراميس بالفعل. ويعود ذلك لأن التجربة ستكون أحدَّ وأكثر وضوحًا وواقعيةً بالنسبة له، مما لو كان نزل الدرج حقيقة. وسينخرِط في حكايته حتى النهاية — حكايته التي هي وليدة عقله المحموم — وستتغير أحداثها على منوال الأحلام وتصير أكثر مأساوية وقتامة، فيستبدُّ به الرُّعب ويستيقظ في الصباح مُبلبلَ الخاطر، لدرجة أنه لم يفكر في تغيير ثيابه، ويجد نفسه يطرُق باب منزلك.»

رفع السيد ريكاردو حاجبَيه وأوشك أن يُعلق.

قال أنو: «آه! ترى ثغرة في تحليلي.» لكن السيد ريكاردو أخذ حذره. فقد حدث أكثر من مرة أن انقضَّ عليه ووبَّخه بشدةٍ بسبب تعليقٍ طائش.

قال ريكاردو: «دعْني أسمع تحليلك إلى النهاية. أتعتقِد أنه لا وجود للجواهر المُغرية ولا السرقة ولا الجريمة — باختصار، لا وجود لسيليمين؟ أتظنُّ أنها وليدة تزاوج الذكريات وموسيقى حفل سميراميس؟»

هتف أنو: «لا! تعالَ معي يا صديقي. لا أستطيع الجزم بعدم وجود سيليمين.»

أرشد أنو ريكاردو عبر الغرفة بابتسامةٍ على وجهه. كان يملك أسلوبًا دراميًّا، ويستمتع باستخدامه. وكان يُعِد مفاجأة لرفيقه، ويتلذَّذ بلحظة الترقُّب السابقة للكشف الدرامي الذي كان بصدَدِه. سار أنو إلى رفِّ المدفأة، ثم وقف على بُعد بضع خطواتٍ منه.

قال: «انظر!»

نظر صديقه، فلم يرَ إلا رفَّ المدفأة العريض. فالتفت إلى صديقه، والحيرة تعلو وجهه.

سأل أنو: «هل تُلاحظ شيئًا؟»

أجاب ريكاردو: «لا!»

قال أنو: «انظُر مرةً أخرى! لست متأكدًا … لكن ألا ترى سيليمين واقفة أمامك؟»

أعاد السيد ريكاردو النظر مرةً أخرى. لم يكن هناك شيء لافت للنظر. فقد رأى كتابًا أو كتابَين، وكوبًا، ومزهرية أو مزهريَّتَين، ولا شيء آخر سوى تحفة في غاية الجمال غالية الثمن على ما يبدو … وفجأة استوعب السيد ريكاردو الأمر. أمامه مباشرة، في منتصف رف المدفأة، تمثالٌ من الخزف الملوَّن، يقف على منصة خزفية. كان تمثالًا مثاليًّا لدرجةٍ غير واقعية لأحد أفراد البلاط، يبدو أنثويًّا وفريدًا لأقصى درجة، ويرتدي الثياب نفسها التي وصف بها كالادين جوان كورو، حتى الكعب القرمزي.

قهقه أنو في سعادةٍ عندما رأى التعبير المُرتسِم على وجه السيد ريكاردو.

قال: «يبدو أنكَ فهمت الآن. هل تحلم يا صديقي؟ لا بد أنك تحلم في بعض الأحيان … مثل بقِيَّتِنا. هل تتذكر أحلامك عندما تستيقظ؟ وهل ترى في تلك الأحلام أشياء وأشخاصًا — ربما تكون رأيتهم ذاك اليوم أو منذ شهور — يأتون ويذهبون دون استئذان؟ ولا تستطيع معرفة السبب؟ وفي بعض الأحيان، يأتي هؤلاء الأشخاص الذين تراهم بأفعالٍ غريبة تبدو منطقيةً أثناء الحلم، لكنها تبدو مُلغِزةً لك ما إن تستيقظ. هكذا، يجلس صديقنا عند النافذة ثَمِلًا من المخدر، وتُعزف الموسيقى في سميراميس، فيُفتح الستار في مسرح عقله المحموم. ويرى نفسه يصعد على المسرح، فمَن عساه يُقابل غير التمثال الخزفي من رفِّ المدفأة بغرفته؟»

تحمس السيد ريكاردو لفترة قصيرة. ثم ما لبثت أن عادت إليه شكوكه.

قال: «ما تقوله في غاية العبقرية يا عزيزي أنو. كما أن تفسيرك بشأن التمثال على رف المدفأة مقنعٌ جدًّا. وكنتُ سأقتنع من كل قلبي لولا شيء واحد.»

سأل أنو وهو ينظر إلى صديقه بإمعان: «وما هو؟»

أجاب ريكاردو: «أنا … إن جاز لي القول، أحسب نفسي رجلًا ذا خبرة واسعة في الحياة. وأسأل نفسي …»، كان السيد ريكاردو يتحدث بِخُيلاء عندما يوجه أي سؤال لنفسه، «أسأل نفسي هل يَستبقي رجل شابٌّ تخلَّى عن كل صلاته الاجتماعية وانعزل عن الجميع، والأكثر من ذلك أصبح عبدًا للمخدر، على اهتمامه الشديد بجسده، والذي تمثل بارتدائه ثياب السهرة حتى وهو بمفرده؟»

ضرب أنو المائدة براحة يده، وجلس في أحد المقاعد.

قال: «أجل. هذه هي الثغرة في فرضيتي. وأنتَ اكتشفتَها. أنا مُدرِك لوجودها، لكني تساءلت هل ستستطيع أنت اكتشافها؟ أوافقك أنَّ مَن يتعاطون المخدرات يتَّسِمون بالاستهتار والإهمال … وحتى عدم النظافة، كقاعدة عامة. لكن لكل قاعدة شواذ. لا بد أن نكون حذِرين. يجب أن ننتظر.»

سأل ريكاردو وهو يبتسِم في فخر: «ننتظر ماذا؟»

أجاب أنو وهو يُومئ باتجاه الباب: «الرد على الرسالة الهاتفية.»

انتظر الرجلان بفارغ الصبر حتى دلف كالادين إلى الغرفة. كان يرتدي بزة من نسيج صوفي أزرق، وذهبت الحُمرة عن عينَيه، وصارت بشرته أكثر نضارة، بصفة عامة، صار مظهره أكثر وجاهة. لكن اضطرابه كان واضحًا وضوح الشمس. قدَّم كالادين لضيفَيه السجائر، وعرض عليهما المرطبات والوجبات الخفيفة، لكنه تجنَّب الحديث عن الغرض من زيارتهما تمامًا إلى حدٍّ مُحرج. ابتسم أنو. كانت فرضيته تسير على ما يُرام. لا بد أن كالادين أدرك حماقته بعدما اغتسل وعاد إلى وعيه.

قال أنو مبتهجًا: «هل اتصلت بسميراميس؟»

احمرَّ وجه كالادين.

قال متلعثمًا: «نعم.»

واصل أنو: «لكني لم أسمعك تُردِّد التحية مرارًا قبل رد الطرف الآخر على المكالمة الهاتفية، كعادة أهل بلدك غير المُتعجِّلين.»

أجاب كالادين: «لقد اتصلت من غرفة نومي. لن تسمع شيئًا من هذه الغرفة.»

قال أنو عابثًا مع ضحيته: «أجل، أجل؛ فجدران المنازل القديمة سميكة. ومتى ستأتي الآنسة كورو؟»

ردَّ كالادين: «لا أدري. يبدو الأمر غريبًا جدًّا. هي ليست في الفندق. أخشى أنها رحلَت أو لاذَت بالفرار.»

تبادل السيد ريكاردو وأنو النظرات. وبدت عليهما علامات الرِّضا. لا توجد كلمة واحدة حقيقية في قصة كالادين.

قال أنو: «إذن لا داعي لأن ننتظِر. يبدو أنني سأحظى بعُطلتي في نهاية المطاف.» وبينما كان يتحدث، قدِمَ من بعيدٍ صوتُ بائع الصحف ينادي على النسخة الأولى من الصحيفة المسائية. توقف أنو في أثناء توديعه لكالادين. وأرهف السمع لبرهةٍ وهو مُطرق الرأس. سمع الصوت مرة ثانية، لكنه كان مشوشًا وغير واضح؛ فالْتقط قُبعته وعصاه، ونزل الدرج راكضًا، دون أن يتفوَّه بكلمة أخرى. وتَبِعَه السيد ريكاردو، لكنه عندما وصل إلى الرصيف، كان أنو قد صار في نصف الزقاق تقريبًا. وعند الزاوية، توقف، فانضمَّ إليه ريكاردو وهو يسعل ويلتقِط أنفاسه بصعوبة.

سأل ريكاردو لاهثًا: «ما الخطب؟»

أجاب أنو: «أنصتْ.»

في أقصى شارع دوك ستريت، عند محطة تشارينج كروس، كان بائع الصحف ينادي على بضاعته. أنصت الرجلان فآلت إلى سمعهما الكلمات بنطق غير سليم لكنه مفهوم.

«جريمة غامضة في فندق سميراميس.»

حملق ريكاردو في رفيقه.

هتف: «أنت مُخطئ إذن. قصة كالادين حقيقية.»

بدا الارتباك الشديد على وجه أنو، وهذا لا يحدث كثيرًا.

قال: «لست واثقًا بعد. لنشتري الصحيفة.»

وقبل أن يخطو خطوة واحدة، دلفت سيارة أجرة إلى أديلفي تيراس من ناحية شارع ستراند، ومرَّت أمامهما، قبل أن تتوقف عند باب كالادين. ونزلت منها فتاة.

قال أنو: «لنعُدْ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥