الفصل الثالث
تحقَّق للسيد ريكاردو ما أراد. فقد كانت الساعة الثامنة والنصف صباحًا، عندما زاره كالادين في منزله بميدان جروفنر وأقلق روتينه اليومي. وها هي الآن تُقارب العاشرة، وفي خلال هذه المدة القصيرة، تتابعت عليه المفاجآت واحدةً تلوَ الأخرى، وفي ذلك الصباح الصيفي المنعش رأى لمحة من حياة العالم السُّفلي، ولمس التبايُن الواضح بين الحياة المُريبة الفاسدة لذلك العالم الذي صادفه داخل بيت كالادين، وبين الدعوة المفتوحة للفرح والبهجة التي تُقدمها الطبيعة بالخارج. وانتقل من التشكيك في قصة كالادين إلى تصديقها، ومن تصديقها إلى التشكيك فيها، وأخيرًا عندما ترسَّخ شكُّه فيها، وتبيَّن له أنها وليدة عقلٍ مُخدَّر محموم، صفعته الحقائق بقوة، وتبيَّن أن القصة حقيقية.
وبينما كان يعود أدراجه مع أنو، انتابه شعور ما، ومن فرْط حماسه صاح مفصحًا عنه: «أشعر أن الحياة عادت إليَّ مرة أخرى».
قال أنو: «حقًّا؟ وما قيمة الحياة بلا صحف؟ ما رأيك أن تشتريَ واحدة من الفتى الصاخب للغاية في نهاية الزقاق، وأراقب أنا منزل كالادين إلى حين عودتك؟»
أسرع السيد ريكاردو الخُطى إلى محطة تشارينج كروس، وأحضر واحدة من الإصدار الرابع لصحيفة «ستار». وسلَّمها إلى أنو، الذي نظر إليها بارتيابٍ وهي مطوية.
سأل ريكاردو بنفاد صبر: «ما رأيك أن نتفقد الأخبار؟»
أجاب أنو، الذي استيقظ من أحلام اليقظة، ودسَّ الصحيفة في الجيب الخلفي لمعطفه بسرعة: «لا! سنسمع ما لدى الآنسة جوان كورو، دون أن يتأثر عقلنا بما تحتوي الصحيفة من أخبار. تشغلني مسألة مختلفة تمامًا.»
شجَّعه السيد ريكاردو على الحديث: «حقًّا؟ وما هي؟»
ردَّ أنو: «أتساءل متى يصدُر الإصدار الأول من الصحف المسائية؛ إذ إن الساعة لم تتجاوز بعد العاشرة.»
ردَّ السيد ريكاردو بأسلوبٍ وعظي: «هذا سؤال عجزَت أنبغُ العقول عن إجابته.»
بعد ذلك سارا في الشارع حتى وصلا إلى المنزل. كان الباب الرئيسي مفتوحًا في أثناء النهار كعادة المنازل التي تُؤجَّر شُققها. صعد أنو وريكاردو الدرَج، ودقَّا جرس باب شقة كالادين. ففتحت لهما امرأة في منتصف العمر.
قال أنو: «هل السيد كالادين موجود؟»
أجابت المرأة: «دعني أتحقَّق. ما اسمُك؟»
قال أنو بهدوء: «لا يُهم. سأدخل على الفور. كنتُ مع صديقي هُنا منذ دقيقة.»
ومضى قدمًا إلى غرفة استقبال كالادين. نظر السيد ريكاردو من فوق كتِف أنو، فرأى فتاةً تستدير إليهما بحدَّةٍ في رعب، وتنتفض كأن ضابط شرطة قبض عليها بالفعل. أما كالادين فتنفَّس الصُّعَداء.
قال مُخاطبًا الفتاة بحماسة: «هذان صديقاي اللذان حدَّثتك عنهما»؛ ثم قال لأنو: «أُعرِّفُك بالآنسة كورو.»
انحنى أنو في احترام.
وقال بنبرةٍ ودودة: «تفضَّلي بحكاية قصتكِ يا آنسة»، فعادَت الدماء إلى وجنتَي الفتاة بعض الشيء، واستعادَت شجاعتها.
قالت الفتاة: «لكنكَ تعرفها.»
ردَّ أنو: «لم أسمعها منكِ.»
وللمرة الثانية في تلك الغرفة، قصَّت الفتاة أحداث تلك الليلة. غير أن تلك المرة كان ضوء الشمس ساطعًا، وأصوات الحياة الروتينية المُطمئنة تنساب من النوافذ، والفتاة نفسها ترتدي ثيابًا عاديةً من الصوف الأزرق مثل آلاف الفتيات الساعيات على أرزاقهن ذلك الصباح. هذه التفاصيل البسيطة خفَّفت حدة الرُّعب والهلع الذي انطوت عليه روايتها؛ ولذا — لأكون صادقًا — أصابت السيد ريكاردو بشيءٍ من الإحباط. كان يريد أن تتدرَّج الحبكة في إثارتها، لكنها انطلقت بكل قوتها في البداية. لكن أنو كان مُنصتًا بارعًا. أنصتَ إلى الفتاة دون أن يتحرك وأظهر تعاطُفه البالِغ، مما جعل جوان كورو تتحدث إليه وحده؛ ومع كل لحظة تمر كانت تزداد ثِقتها به. كانت حيويَّتُها ونشاطها قد تلاشيا تمامًا. ولم يكن في سلوكها الحالي ما يُوحي بالتمرُّد أو الاستهتار المرِح، أو التألُّق الذي أثار إعجاب كالادين في الليلة السابقة. كانت مجرد فتاة يافعة حسناء، تروي بصوتٍ منخفض نادم الورطة المأساوية التي أوقعت نفسها فيها. أما سيليمين فلم يتبقَّ منها سوى شيء من الجاذبية والهشاشة، تبدَّى في جمالها، ورشاقة جسدِها، ورقَّة يدَيها وقدمَيها؛ كانت كنبتةٍ ترعرعت في صوبةٍ زجاجية. لكن قصتها كانت مطابقة لقصة كالادين تمامًا.
قال أنو عندما انتهت من حكايتها: «أشكركِ. الآن يجب أن أسألكِ سؤالَين.»
ردَّت: «سأُجيبهما بكلِّ سرور.»
اعتدل السيد ريكاردو في مقعده. وبدأ يُفكر في سؤالٍ ثالث يُمكن أن يطرحه، سؤال ينمُّ عن ذكاءٍ ودقةٍ استثنائِيَّين، ولا يمكن أن يخطر ببال أنو. لكن لما طرح أنو سؤالَيه، كاد ريكاردو أن ينتفِض من مقعده من فرط الدهشة.
قال: «معذرة. آنسة كورو. هل سبق أن سرقْتِ؟»
التفتت جوان كورو لأنو في انفعال. ثم ما لبث أن طرأ تغيُّر على تعبيراتها.
أجابت وهي تنظر في عينَيه بثبات: «لك الحق في أن تسأل ذلك السؤال. لا، لم أسرق قطُّ.» لكن أنو لم يتأثر أدنى تأثر. ظلَّ جالسًا يضع يدَيه على ركبتَيه، وانتقل إلى سؤاله الثاني.
قال: «في وقتٍ مبكر من الصباح، قبل أن تُغادري هذه الغرفة، أخبرتِ السيد كالادين أنكِ ستنتظرين في سميراميس حتى يتَّصل بكِ هاتفيًّا، أليس كذلك؟»
أجابت: «بلى.»
قال: «ومع ذلك كنتِ قد غادرت عندما اتصل بكِ، أليس كذلك؟»
أجابت: «بلى.»
سأل: «لماذا؟»
قالت جوان كورو: «سأُخبرك. لم أتحمَّل بقاء القلادة الألماسية الصغيرة في غرفتي.»
صدم جوابها حتى أنو للحظة. كان قد نسِي مسألة القلادة تمامًا. وانحنى إلى الأمام في قلق؛ في الحقيقة، كان القلق البادي عليه يفوق ما أظهره تجاه أيٍّ من تفاصيل القضية من قبل.
واصلت جوان كورو: «كنتُ مذعورة. ظللتُ أفكر: «لا بد أنهم اكتشفوا الجريمة الآن. وسيبحثون عن الجاني في كل مكان.» لم أُفكر بشكلٍ عقلاني حينئذٍ. واستلقيتُ في فراشي أترقَّب في كل لحظة أن أسمع طرقًا قويًّا على الباب. بالإضافة إلى ذلك، كان وجود القلادة في غرفتي … قلادتها … قلادة المرأة الميتة … أمرًا يفوق قُدرتي على التحمُّل. شعرت كأنني سرقتها. بعد ذلك أحضرَت خادمتي الشاي.»
صاح أنو: «هل خبأتِها؟»
أجابت: «أجل. لم ترَها خادمتي.»
شرحت جوان كورو كيف نهضت من فراشها، وارتدت ملابسها، ولفَّت القلادة في قطعةٍ من الصوف القطني ثم دسَّتها في ظرف. لم يحمل الظرف طابع الفندق. كان ظرفًا كبيرًا إلى حدٍّ ما، أخذته من حزمةٍ من الأظرف اشترتْها من متجرٍ مُزدحم في شارع أكسفورد، في طريقها من محطة يوستن إلى فندق سميراميس. اشترت هذا الحجم من الأظرف؛ كي تُرفق صورة فوتوغرافية لها بخطاب التوصية الذي ستُرسله إلى مدير دار الأوبرا الملكية، في كوفنت جاردن.
سأل السيد ريكاردو: «لمنْ أرسلتِها؟»
قالت: «للسيدة بلومنشتاين في سميراميس. كتبت العنوان بحرص. وغادرت الغرفة ووضعته في صندوق بريد.»
سأل أنو: «في أي صندوقٍ وضعته؟»
قالت: «في صندوق الأظرف الكبير بمكتب البريد الذي يقع في ناصية تقاطع ميدان ترافلجار.»
نظر أنو إلى الفتاة بحدة.
قال: «أرى أنكِ تصرفتِ بشكلٍ عقلاني.»
سأل ريكاردو: «ماذا لو ضاع الظرف؟»
ضحك أنو بمرارة.
وقال: «سيصل حتمًا لا سيما في هذه الظروف. فلقد انتشر خبر الجريمة كما تعلم.» والتفت إلى جوان.
وسأل: «هل كنتِ تعلمين ذلك يا آنسة كورو؟»
أجابت بصوتٍ مليء بالرهبة: «لا.»
قال: «لقد ذاع نبؤها. لنرَ ما سيقوله المُحقق الخاص بخصوص القضية.» وبسط الصحيفة على الطاولة أمامه، بتمهُّل شديد، وجدَه السيد ريكاردو مؤلِمًا.