الفصل الرابع

لم يقدِّم المقال القصير الذي تناول اللُّغز سوى حقيقةٍ واحدة جديدة. وهي أن السيدة بلومنشتاين قضت نحبَها بسبب التسمُّم بالكلوروفورم. فقد كانت السيدة سمينة، وعجز اللصوص عن إعطائها المقدار المناسب من المُخدر.

قال أنو: «ستظل جريمة قتل»، ونظر في عينَي جوان مباشرة، كأنه يسألها عما ستفعله.

أجابت جوان بنبرةٍ متألِّمة متأنية: «يجب أن أخبر الشرطة بما حدث.» لكنها لم تتردَّد؛ بدا قرارها نابعًا عن تفكيرٍ وليس وليد اللحظة.

لم يؤيدها أنو ولم يُعارضها. كان وجهه خاليًا من التعبير، وعندما تحدَّث كانت نبرته باردة غير ودودة. سألها: «حسنًا، وماذا ستقولين للشرطة يا آنسة؟ هل ستقولين إنكِ دخلتِ الغرفة بهدف السرقة، وإنكِ تعرضتِ للهجوم من شخصَين غريبَين يرتديان زيَّ رجال الأباتشي ويضعان قناعَين؟ هل هذا ما ستقولينه؟»

أجابت: «نعم.»

واصل أنو: «وكم عدد الرجال الذين كانوا مُتنكِّرين في زي الأباتشي ويضعون أقنعةً في حفلة سميراميس الراقصة؟ هيَّا! أعطيني رقمًا تقديريًّا. لنقُل مائة على الأقل؟»

أجابت: «أعتقد ذلك.»

قال: «وما الذي سيفعله اعترافك سوى أن يضعك في ورطة؟»

وهُنا ابتسم السيد ريكاردو بارتياح. لقد كان أنو يتخذ موقفًا واضحًا. وكانت نواياه صادقة. كانت الفتاة ترسُم نمطًا مُبهمًا بإصبعها على مفرش الطاولة.

كررت وهي ترفع عينَيها ثم تخفضهما مرة أخرى: «ومع ذلك، أعتقد أنه عليَّ إبلاغ الشرطة.» لاحظ السيد ريكاردو أن رموشها طويلة جدًّا. ولأول مرة بدا الارتياح على وجه أنو.

صاح أنو بحرارةٍ أثارت دهشة السيد ريكاردو: «أتفق معك. أخبريهم بالحقيقة قبل أن يشكُّوا فيك، وسيُساعدونكِ في الخروج من المأزق، إن استطاعوا. لا شكَّ في ذلك. هيَّا، سأصحبك بنفسي إلى سكوتلاند يارد.»

قالت جوان: «أشكرك»، ورحلا معًا في سيارة أجرة.

بعد ذلك، عاد أنو إلى ميدان جروفنر وحدَه، وتناول الغداء مع ريكاردو.

قال: «سارت الأمور على ما يُرام. كانت الشرطة في غاية اللطف. وأخبرتهم الآنسة جوان كورو بما حدث كما حكت لنا بالضبط. لحُسن الحظ أن الظرف الذي يحتوي على القلادة البلاتينية وصل ووقع في أيديهم. كانوا في غاية الحيرة بشأنه، لكن منحتهم قصة الآنسة جوان تفسيرًا معقولًا. وأعتقد أنهم يميلون إلى تصديقها؛ وإذا تبيَّن صدقُها، فسيحُولون دون مثولها أمام المحكمة للشهادة، إن استطاعوا.»

سأل ريكاردو: «ستبقى في لندن، أليس كذلك؟»

أجاب أنو: «بلى، لن تُغادر. ستُقدِّم خطابَي توصيتها لدار الأوبرا، وتحصل على عمل، إن استطاعت. قد ينخدع المُجرمان، ويظنَّان أن الفتاة لم تُخبر أحدًا بالحادثة الغريبة، وأنه لا علم لأحدٍ بالزيِّ التنكُّري الذي استخدماه.» تحدث أنو بنبرةٍ غير مُكترثة كأن المسألة لا تعنيه؛ وقال ريكاردو بحذقٍ غير معتادٍ منه:

«من الواضح يا صديقي أنك تظن أن هذَين الرجلَين لن يُقبض عليهما على الإطلاق.»

هزَّ أنو كتفَيه بعدم اكتراث.

وقال: «هناك احتمال دائمًا. اسمع. هب أنه يُوجَد غرفة تحتوي على مائة بندقية، واحدة منها فقط المُعبَّأة بالذخيرة. وأن خارج تلك الغرفة تُوجَد مائة حمامة، واحدة منها فقط بيضاء اللون. تخيَّل أنك دخلت الغرفة مُعصوب العينَين. واخترت البندقية المُعبَّأة وأصبتَ الحمامة البيضاء. احتمال القبض عليهما يُساوي احتمال أن تفعل ذلك.»

هتف ريكاردو: «لكن هذه اللآلئ قيمتُها لا تُقدَّر بثمن، وسبق أن سمعت في إحدى المحاكمات إفادات خبراء في تجارة اللؤلؤ. وقد أجمعوا على أن اللآلئ الفريدة تكون أشهر من النار على العلَم؛ لذا عندما تظهر في السوق …»

قاطعه أنو بهدوء: «هذا صحيح. أخبِرني كيف يتعرَّف عليها الناس؟»

قال السيد ريكاردو: «من خلال الوزن.»

ردَّ أنو: «بالضبط. ألم تسمع في المحاكمة أيضًا أن اللآلئ قابلة للتقشير مثل البصل؟ كلا؟ هذا صحيح. أزِلْ طبقةً أو طبقتَين من اللؤلؤة، وسيتغيَّر وزنها ويصغُر حجمها قليلًا. لا شك أنها تخسَر بعضًا من قِيمتها، لكنك لن تُميِّز أنها لآلئ السلطان الفلاني، التي سرقها وزيرُه وابتاعها السيدان صاحبا متجر «لاستر آند شتاينوبلويس» للمجوهرات في منطقة هاتون جاردن، ثم ابتاعتها بدورها السيدة الثرية بلومنشتاين. لا، لقد اختفت اللؤلؤة التي تعرفها تمامًا. وحلَّت محلها لؤلؤة جديدة يُمكن بيعها.» ثم نظر إلى ريكاردو. وسأله: «مَنْ يستطيع الجزم أن هذه اللآلئ ليست الآن في دهليز من الدهاليز المظلمة المريبة بمدينة أمستردام، تخضع بالفعل لعملية تحويلها إلى لآلئ جديدة؟»

لم يقتنع السيد ريكاردو لأنه لم يشأ ذلك. وقال بغطرسة: «لديَّ بعض الخبرة في هذه المسائل. وأومن أننا سنقبض على المُجرمَين. فلم نُخفق في ذلك من قبل.»

ابتسم أنو ابتسامةً واسعة. فالخبرة الوحيدة التي اكتسبها السيد ريكاردو كانت على سواحل مدينة جنيف، وفي مدينة إيكس في فرنسا، تحت توجيه أنو. لكن أنو لم يُعارضه، وتوقف النقاش عند هذا الحد.

توالت الأيام بسرعة. وبدأ موسم الاسترخاء في لندن. فقد اغمقَّ الأخضر اليانِع والذهبي الساطع، اللذان سادا في مطلع الصيف، وأفسحت الليالي الاستثنائية الدافئة تحت سماء إنجلترا الزرقاء الباهتة، حيث ضجَّت الشوارع بخُطى الشباب المرحة، المجالَ لأوقات الفجر الصافية وساعات النهار البهيجة المشرقة. وتعرَّف أنو المساحاتِ الخضراءَ التي تمتدُّ على طول نهر التيمز، وغنَّت جوان كورو أغنية «لويز» في دار الأوبرا الملكية بكوفنت جاردن بنجاح باهر، وأُضيفت قضية فندق سميراميس، في عقول الحفنة القليلة التي تتذكَّرها، إلى القائمة الطويلة للألغاز المُستعصية على الفَهْم.

لكن باقتراب نهاية مايو، حدث تطوُّر مدهش في الأحداث. أرسلتْ جوان كورو خطابًا للسيد ريكاردو تُخبره فيه أنها تعتزم زيارته بعد الظهيرة، ورجته بشدة أن يضمن حضور أنو. وصلت جوان في الموعد بالضبط، وبدت عليها علامات الشحوب والاضطراب، وفي الغرفة التي حكى فيها كالادين قصة زيارتها له لأول مرة، حكَت هي قصةً أخرى أكثر غرابةً بالنسبة للسيد ريكاردو … وبالتأكيد أكثر ريبة.

أنشأت جوان تقول: «بدأ الأمر منذ فترة. فكرتُ في القدوم إليك على الفور. وبعد ذلك، خشيتُ إذا انتظرت … لن تُصدقني أبدًا!»

قال أنو بصبرٍ: «لنسمع ما لدَيك.»

قالت: «بدأتُ أحلم بالغرفة، والرجلَين المتنكِّرَين المُلثَّمَين، والجسد الساكن في الفراش. وراودني ذلك الحلم ليلةً تلوَ الأخرى! صرتُ أخشى الذهاب إلى الفراش بشدة. وكنت أشعر بتلك اليد تُكمِّم فمي. وعندما كنتُ أشعر أني على وشك أن أستسلم للنوم، كنت أنهض وأتجول في الغرفة، وكل المصابيح مضاءة، كي تُساعدني في البقاء مُستيقظة.»

قال أنو بابتسامة: «لكنك لا تقوين على البقاء مستيقظة. فلا يقدِر على ذلك سوى العجائز.»

اعترفت: «صحيح، لم أقوَ على ذلك؛ وصارت لياليَّ مُرعبة حتى …»، وسكتت ونظرت إلى رفيقَيها بتردُّد، ثم تابعت: «حتى انزلق القناع في إحدى الليالي.»

هتف أنو وقد شاب صوته فجأة نبرة حازمة: «ماذا …؟ ماذا تقولين؟»

واصلت جوان والكلمات تتدفَّق من فمِها بسرعةٍ شديدة، والحُمرة تتسلَّل إلى جبهتها ووجنتَيها:

«هذا صحيح. لقد انزلق القناع عن وجه أحدِهما … عن وجه الرجل الذي أمسك بي، لكنه انزلق قليلًا، فكشف عن جبهته … لا أكثر.»

سأل أنو: «وماذا بعد؟»، في حين انحنى السيد ريكاردو للأمام، تتأرجح مشاعره بين الشك اللاذع والرغبة في تصديق هذا الكشف المُثير.

واصلت الفتاة: «استيقظتُ وإذا بالظلام يُغلِّفني؛ ولوهلةٍ ظلَّ المشهد واضحًا في ذهني … لوهلة كافية لأن تُثبِّت في ذهني صورة الجبهة البيضاء للرجل المُتنكر في زي الأباتشي، التي ظهرت من القناع المنزلق.»

سأل ريكاردو: «ومتى حدث ذلك؟»

أجابت: «منذ أسبوعَين.»

سأل ريكاردو: «ولماذا لم تأتي وتقُصِّي عليَّ حكايتكِ حينئذٍ؟»

قالت جوان: «انتظرت. ما كنتُ سأقوله كان عديم الجدوى حينئذٍ. فكرتُ أنه ربما ينزلق القناع أكثر لاحقًا. كما أنني وجدتُ صعوبة في وصف ما أشعر به. شعرت أنه يجب أن أحفظ الصورة في ذهني، وألَّا أفكر فيها، وألا أتحدَّث بشأنها، بل لا أنظر إليها بكثرةٍ كي لا يتخيَّل ذهني بقية ملامح الوجه، أو يصوِّر لي شيئًا مألوفًا في وقفة الرجل أو جسده، مُخالفًا للواقع. هل تفهمني؟» طرحت سؤالها وعيناها مثبَّتَتان على وجه أنو في توسُّل.

أجاب أنو: «أجل. أفهم ما ترمِين إليه.»

واصلت جوان: «اعتقدتُ أن ذلك يمنحنا فرصة — حتى لو كانت ضئيلةً جدًّا — لمعرفة الحقيقة. ولم أشأ إفسادها»، والتفتت إلى ريكاردو، كأنها بعدما أقنعت أنو صار بوسعها تحويل جهودها إلى رفيقه. قالت: «لقد تغير رأيي. لم أعُد أخشى النوم حتى لا تُراودني الكوابيس. بل أصبحتُ أرغب في أن أحلم، لكن …»

أكمل أنو: «لكنكِ لم تستطيعي.»

ردَّت جوان كورو: «أجل، هذه هي الحقيقة. كنتُ في السابق أسعى للبقاء مُستيقظةً رغم حاجتي إلى النوم من شدَّة التعب، أما الآن فأنا أحاول بكل جهدي أن أنام، لكنني أظلُّ مستيقظةً الليل بأكملِه، ولا أغطُّ في سباتٍ عميق بلا أحلام حتى قرب شروق الشمس، حينما يبدأ ضوء النهار في التسلُّل من بين الستائر.»

أومأ أنو برأسه في تفهُّم.

وقال: «نحن في عالمٍ عنيدٍ يا آنسة كورو، لا تجري فيه الرياح بما تشتهيه السفن.»

أنصت ريكاردو علَّ أذنَيه تلتقِطان نبرة السخرية في كلام أنو، أو أمارات الشك في ملامحه. لكنه لم يجد هذا ولا ذاك. فقد كان يستمع إلى جوان في صبرٍ وأناة.

واصلت جوان كورو: «بعد ذلك، انشغلتُ بتجارب الأداء، واستحوذت تلك الأوبرا الرائعة على عقلي وطردَتْ ما سواها. كانت لديَّ فرصة رائعة، وليتني أحسنتُ استغلالها! الآن عندما أذهب إلى الفراش، تتردَّد هذه الموسيقى في أذنيَّ بإلحاح — «نداء باريس» — أوه، لا بد أنكَ تذكرها. أتتخيَّل شعور فتاة تُغنيها لأول مرة في دار الأوبرا بكوفنت جاردن؟»

هُنا رأى السيد ريكاردو أن هذه فرصته. فلا أحد أقدَر على إجابة هذا السؤال منه، وهو الخبير الذي يجد سيكولوجية غرفة استراحة المُمثلين والمُمثلات كتابًا مفتوحًا.

قال السيد ريكاردو لأنو بنبرةٍ واثقة هادئة: «هذا صحيح يا صديقي. لا يكترث الفنان بالأحداث العظيمة. ويعيش في عالمه الخاص. وبينما تُقعقع عجلات العربات في الطرقات، يكون هو منهمكًا في إضافة اللمسات الأخيرة الحاذقة للوحةِ الفنية التي يرسُمها، أو تذكُّر انتصاره في دوره الأخير الرائع.»

ردَّ أنو بجدية: «شكرًا لك. والآن بوسع الآنسة كورو استكمال قصتها.»

واصلت جوان: «في الليلة التي أعقبت أول ظهورٍ لي، تناولتُ العشاء مع بعض الأصدقاء. وشرفتني فنانة قديرة بحضورها. تُدعى كارمن فاليري. وعُدت إلى البيت في غاية الفرح، وفي تلك الليلة حلمتُ مرة أخرى.»

علَّق أنو: «وماذا بعد؟»

أجابت: «هذه المرة كان كلٌّ من الذقن والشفتَين والعينَين واضحًا. كان هناك شريط أسود يُغطِّي منتصف الوجه فحسب. وظننتُ — بل أيقنتُ — أنه إذا اختفى ذاك الشريط سأتعرَّف الرجلَ.»

سأل أنو: «وهل اختفى؟»

أجابت: «بعد ذلك بثلاث ليالٍ.»

سأل أنو: «وهل تعرَّفتِ الرجلَ؟»

ظهر الاضطراب على وجه الفتاة. وقطَّبت ما بين عينَيها.

أجابت: «عرفتُ وجهه لا أكثر. شعرت بخيبة الأمل. فلم أتحدَّث إليه من قبل. ولا شك لديَّ في ذلك. لكن واثقة من أنني رأيتُه في مكانٍ ما.»

سأل أنو: «ألا تتذكَّرين متى؟»

لوهلةٍ ظلَّت جوان تُفكر وعيناها مُثبَّتتان على السجادة، ثم رفعت رأسها في يأسٍ وأجابَت: «لا. لا أتذكَّر. حاولتُ أن أتذكَّر طيلة هذا الوقت. لكن باءت كل محاولاتي بالفشل.»

انفلتَت من السيد ريكاردو إيماءة تنمُّ عن حنقه. شعر أنه كان يُتلاعَب به طيلة هذا الوقت. لقد حمَّسَته الفتاة بقصتها الرائعة لأقصى درجة، كي تستغفِله فحسب. وعادت إلى عقله شكوكه السابقة. ماذا لو كانت متورِّطة في الجريمة والسرقة في نهاية المطاف؟ ماذا لو أنها تتمتَّع بالمكر والدهاء الكافيَين لأن تُخبره هو وأنو فقط بالقدْر الكافي من المعلومات ومن الحقيقة، لأن تُقنعهما بحمايتها؟ ماذا لو كان اعترافها الواضح برغبتها الطاغية في سرقة العقد، ليس إلا استعطافًا ماكرًا لشفقة الرجال، استعطافًا قائمًا على معرفة واسعة بمكامن ضعفهم، لا ينبغي أن تكون مُتحقِّقة لفتاة في التاسعة عشرة من عمرها ولا حتى في العشرين؟ بلع السيد ريكاردو ريقه، وجلس في مقعده مُقطِّب الجبين. كان يُشمِّر عن ساعدَيه للبحث عن سؤالٍ مُتفرِّد ثاقب، عندما سأل أنو سؤالًا خارجًا تمامًا عن السياق.

قال: «كيف قضيتِ الليلةَ التي حلمتِ فيها بوجهِ الرجل المُعتدي كاملًا لأول مرة؟»

فكرت جوان برهة. ثم أشرق وجهها.

أجابت في حماسة: «تذكَّرت. كنتُ في الأوبرا.»

سأل: «ماذا كان يُعرَض حينئذٍ؟»

أجابت: «أوبرا «جواهر العذراء».»

أومأ أنو برأسه. بدا لريكاردو أن أنو كان يتوقَّع هذه الإجابة تحديدًا.

واصل أنو: «هل أنتِ واثقة أنكِ قابلتِ هذا الرجل من قبل؟»

ردَّت جوان: «نعم.»

قال أنو: «ممتاز. أتعرفين اللعبة التي تلعبينها في حفلات الأطفال؟ لعبة «حيوان أو نبات أو جماد» حيث يُخمن الأطفال الإجابة دائمًا؟ لنلعب أنا وأنتِ هذه اللعبة لبضع دقائق.»

قرَّبت جوان كورو مقعدها من المائدة، وجلست مسندةً ذقنها على يدَيها ومُسلطة عينَيها على وجه أنو. وكلما طرح سؤالًا، فكرت فيه قليلًا، ثم أجابت. وإذا تردَّدت في إجابتها، ألحَّ في السؤال حتى يحصُل على إجابة شافية.

سأل أنو: «هل جئتِ من نيويورك على متن السفينة لوكانيا؟»

أجابت: «أجل.»

قال: «تخيلي نفسكِ في غرفة طعامٍ وحولكِ الطاولات. هل تستطيعين تخيُّلها بشكلٍ واضح؟»

أجابت: «نعم.»

قال: «هل رأيتِه في أثناء تناول طعام الفطور؟»

أجابت: «لا.»

سأل: «عند الغداء؟»

أجابت: «لا.»

سأل: «عند العشاء؟»

سكتت لحظة، استدعت فيها كلَّ المُسافرين الجالِسين إلى طاولتها إلى ذاكرتها.

أجابت: «لا.»

سأل: «لمْ تقابلِيه في صالة الطعام إذن؟»

أجابت: «نعم.»

سأل: «ألمْ ترفعي رأسكِ في المكتبة ذات يوم، وأنتِ تكتُبين الخطابات، ووقعت عيناكِ عليه؟»

أجابت: «نعم.»

سأل: «ماذا عن سطح السفينة؟ هل مرَّ بكِ وأنتِ جالسة في مقعدك على السطح، أو مررتِ أنتِ به وهو جالس في مقعده؟»

أجابت: «لا.»

رويدًا رويدًا، أعاد أنو جوان إلى فندقها في مدينة نيويورك، وإلى رحلاتها عَبر القطار. بعد ذلك، نقلها إلى مدينة ميلان في إيطاليا، حيث درست. واندهش ريكاردو أيما اندهاش بسعة معرفة أنو بالمناهج التي يدرسها الطالب الذي يطمح لامتهان الغناء الأوبرالي. ومن ميلان أعاد أنو جوان إلى نيويورك مرة أخرى، وأخيرًا، ندَّت عنها صيحة فرح وقالت: «أجل. كان هناك.»

أخرج أنو منديله من جيبه ومسح جبينَه.

قال مُتذمرًا: «أوف! التركيز في يومٍ كهذا يُصيب المرء بالحرارة، صدِّقيني. والآن أخبرينا بالقصة يا آنسة كورو.»

حدث ذلك في حفل، في منزل السيدة ستارلنجشيلد في شارع فيفث أفنيو، في فترة ما بعد الظهيرة. هناك غنَّت جوان كورو. كانت غريبةً على مدينة نيويورك، وشعرت بالتوتُّر الشديد. ولم ترَ سوى غيمةٍ من الوجوه في أثناء انشغالها بالغناء، لكنها بعدما انتهت انقشعت الغمامة، ورأت الرجل في أثناء نزولها من فوق خشبة المسرح المُرتجلة. كان يستنِد إلى الحائط، ويقف بين صفٍّ من الرجال. لا تدري ما الذي دفعها للنظر إليه وحدَه من بين كل الرجال سوى أنه لم يُنصت إلى غنائها باهتمام، والحقُّ أنها نسِيَته بعد ذلك.

قالت: «صادف أن رأيتُه بوضوح وبجلاء ليس إلا. كان طويل القامة، حليق الذقن، بشرته مائلة إلى السمار؛ ولا يبدو يافعًا، إنما بدا في الخامسة والثلاثين أو نحو ذلك؛ وفي رأيي، كان وجهه مُمتلئًا، وجسده مائلًا إلى البدانة. وقد غادر مكانه وأنا مُنشغلة في تحية للجمهور، ورأيته بعد ذلك يتجول في الأنحاء ويتحدث مع الآخرين.»

سأل أنو: «أتذكُرين مع من كان يتحدث؟»

أجابت: «لا.»

سأل: «أتعتقِدين أنه رآك؟»

قالت بنبرة جازمة: «أنا متأكدة أنه لم يرَني. فلم ينظُر إلى خشبة المسرح حيث وقفتُ أغني قطُّ، ولا نظر إليَّ لاحقًا.»

وأملت أسماء الضيوف والمُغنِّين، الذين كانت تعرفهم في ذلك الحفل، بحسب ما سمحت لها ذاكرتها. ثم قالت: «هذا كل ما لديَّ.»

قال أنو: «شكرًا لكِ. قد يكون ما قلتِه مفيدًا. وقد يتبيَّن أنه عديم الجدوى.»

هتفت جوان وهي تنهض من مقعدها: «أيُمكنك أن تُطلعني على المستجدَّات؟»

ردَّ أنو: «أنا في خدمتك يا آنسة كورو.» ومدَّت له يدَها في تردُّد، فصافحها بحفاوة. أما السيد ريكاردو، فقد اكتفت بتحيتِه بإيماءة بسيطة من رأسها، أفصحت عن إدراكها لارتيابِهِ بها، وعن أنها لا حقَّ لها في الشعور بالإهانة. بعد ذلك، انصرفت جوان، وابتسم أنو لريكاردو الذي كان يجلس في الناحية المقابلة من المائدة.

قال: «أجل يا ريكاردو، كل ما تُفكر فيه صحيح. رجل ينعزل عن المجتمع، كي يتعاطى مُخدرًا في سلامٍ دون أن يُعكر صفوَه شيء، وفتاة حاولت السرقة، وفوق كل ذلك، تلك القصة المُذهلة كلها. من الطبيعي ألَّا تُصدِّقَ كلمةً واحدة من كل هذا. لكننا لم نُصدِّق من قبل، حين غادرنا مسكن كالادين في أديلفي، وتبيَّن خطؤنا بعد ذلك. لذلك لنلتزِم الحذَر.»

هتف ريكاردو: «ألديك أي فكرة؟»

قال أنو: «ربما!» وتفقد عمود المسرح في صحيفة «ذا تايمز». وقال: «لنُسرِّ على أنفسنا بالذهاب إلى المسرح.»

انفجر السيد ريكاردو بدون تفكير: «يا لك من رجلٍ مُستفز! لو أن لي أن أرسم لوحةً شخصية لكَ، فسأرسُمك وقد أسندتَ إصبعك على جانب أنفك، تقول بنبرة تَعالٍ: «أنا أعرف»، في حين أنك لا تعرف شيئًا على الإطلاق.»

عبس أنو بصبيانية. وقال: «سنذهب ونجلس في مقصورتك في دار الأوبرا الليلة، وستشرح لي، ونحن نُنصت إلى الموسيقى العذبة، نظرية الصولفيج الموسيقية.»

وصلا إلى دار الأوبرا قبل أن يُرفَع الستار. كانت مقصورة السيد ريكاردو في الصفِّ السُّفلي بجوار المقصورة الكبيرة.

قال أنو، وهو يتَّخذ مجلسه في الزاوية، ويُنظم ستار المقصورة كي يُراقب المشهد دون أن يراه أحد: «نحن قريبان من المسرح. يُعجبني ذلك.»

كان المسرح مكتظًّا بالحاضرين؛ وتألَّقت المقاعد الأمامية والمقصورات بالجواهر وقماش الستان، وكل صيحات الموضة التي تنمُّ عن الجمال والرقي في ذلك الموسم.

علَّق أنو: «رائع! ما الأوبرا التي ستُعرَض الليلة؟» ونظر إلى البرنامج وهتف بدهشةٍ مُصطنعة: «نحن محظوظان. إنها أوبرا «جواهر العذراء».»

سأل السيد ريكاردو ببرود: «أتؤمِن بالفأل؟» كان لا يزال متأثرًا بصدِّ أنو له قبلَ بضع ساعات.

أجاب أنو: «لا، لكنِّي أعتقد أن كارمن فاليري تقدِّم أفضل أداءٍ لها في ذلك الدور.»

كان السيد ريكاردو من أولئك النقَّاد الذين يُعكرون متعة المرء بعقد المقارنات بين الفنانين وتذكُّر الفنانين العظماء الآخرين. ولم يكن الوضع في مصلحته الليلة بالتأكيد؛ إذ لم يكن قد حضر الأوبرا المعروضة من قبل. ومع ذلك بذل ما في وسعه. وتخيَّل فنانين آخرين يؤدُّون الأدوار، وعندما جاء المشهد الكبير في نهاية الفصل الثاني، وسحرت كارمن فاليري الجمهور بأدائها وهي تأخذ من عشيقها الجواهر المسروقة من التمثال المُقدس، تنهَّد السيد ريكاردو بهدوء وبصبر.

وتمتم: «لو أن كالفي أدَّت هذا الدور لأبرزت قيمة المشهد النفسية على نحوٍ خلَّاب»، وكان يشعر بالاستياء الشديد من أنو، الذي جلس ونظارة الأوبرا قريبة من عينَيه، وانغمس في العرض بكل حواسِّه. بعد انتهاء المشهد، أُسدل الستار ثم رُفع مرةً أخرى، وظلَّ أنو جالسًا جامدًا في مكانه كتمثال أبي الهول، يحدق في خشبة المسرح من خلال نظارته المقربة.

قال ريكاردو عندما أسدل الستار للمرة الخامسة: «هذا هو الختام.»

قال أنو: «سيخرج المُمثلون الآن. انتظر!» ومن وراء الستار، خرجت كارمن فاليري إلى مركز الأضواء، تُزين صدرَها مجموعة من الجواهر المتلألئة. وبعد طول انتظار، أنزل أنو نظارة المسرح عن عينَيه، واستدار إلى ريكاردو مُتهلِّل الوجه مسرورًا أيَّما سرور، مما أثار حسد ذلك الهاوي الذي لم تعُد تُبهره الأوبرات من كثرة ارتياده لها.

قال أنو: «ما أجمل الليلة! وما أروعها!» وصفَّق بقوة حتى تمزَّق قفازاه. وفي نهاية المسرحية الغنائية، هتف بحماسة: «لنذهب ونتناول العشاء في فندق سميراميس. لنُنهِ أمسيتنا مثل النبلاء الكرماء يا صديقي. هيَّا! لنعش اللحظة الحاضرة.» وصفع ظهر ريكاردو في مرح.

رغم كل هذا الحماس المُتباهي، لم يلمس أنو عشاءه تقريبًا، وعبث بكأس البراندي والصودا بدلًا من احتسائها. وكان يجلس إلى طاولته المُعتادة، بالقرب من حاجزٍ زجاجي في أقصى الغرفة وظهره في مواجهة الجدار، يُراقِب الجماعات التي كانت تتدفَّق إلى المكان. وفجأة تهلَّلت أساريره.

صاح: «ها قد أتت كارمن فاليري! لقد حالفَنا الحظ للمرة الثانية. أليست جميلة؟»

استدار السيد ريكاردو في مقعده بفتور وارتدى نظارته أحادية العدسة.

قال: «نوعًا ما.»

ردَّ أنو: «آه! إذن سيُثير رفيقها اهتمامك أكثر. فهو الرجل الذي قتل السيدة بلومنشتاين.»

قفز السيد ريكاردو من مقعده لدرجة أن نظارته سقطت عن عينه، وتدلَّت في سلسلتها وظلَّت تتأرجح محدثةً رنينًا، وهي ترتطم بأزرار صدريته.

هتف ريكاردو: «ماذا تقول؟! مُستحيل!» ونظر مرة أخرى. وقال: «يطابق الرجل الأوصاف التي ذكرتها جوان كورو. لكن …» والتفت إلى أنو في دهشة عارمة. وبينما نظر ريكاردو إلى صديقه الفرنسي، تدفَّقت إلى عقله كل ذكرياته السابقة عنه، واستنتاجاته السريعة، وخياله المُرهف الذي يخفيه جسده المُمتلئ جيدًا، وأقنعته.

همس ريكاردو في انبهار: «كم مضى من الوقت وأنت تعرف ذلك؟»

أجاب أنو: «منذ العاشرة مساءً الليلة.»

قال ريكاردو: «لكن عليك أن تعثُر على العقد المسروق حتى تُثبت صحة فرضيتك.»

قال أنو بلا اكتراث: «العقد! لقد عثرتُ عليه بالفعل.»

كان السيد ريكاردو يتوق إلى الإثارة. وها قد وجدها. وشعر بها تتدفَّق في كل ذرةٍ من كيانه.

همس ريكاردو مندهشًا: «عثرت عليه؟»

أجاب أنو: «أجل.»

استدار ريكاردو مرةً أخرى بعدم اكتراث بذل قصارى جهده في تصنُّعه، إلى الرجل والمرأة الجالسَين إلى طاولتهما؛ كان الرجل يبدو عليه البرود واللامبالاة، وكان وجه كارمن فاليري مُتهللًا للانتصار الذي حققته للتو، والذي صارت حرة للاستمتاع بثماره. وشعر بالارتباك وهو يستحضِر الأسئلة التي طرحها أنو على جوان كورو في فترة الظهيرة، وأُقحِم فيها اسم كارمن فاليري بدهاء باستمرار. كانت كارمن امرأةً في الثلاثينيات، جميلة جدًّا، لها بشرة فاتحة صافية وعينان ساحرتان مثل الليل.

قال ريكاردو: «هي متورِّطة إذن!» وفكر في انتقالها الكارثي من مسرح كوفنت جاردن إلى زنزانة المُجرمين، ومن غرفة عشاء سميراميس البهيجة بما تحتوي عليه من أرديةٍ زاهية وقهقهات صاخبة، إلى مشاغل سجن أيلزبري بأجوائها الصامتة وأزيائها الشائنة.

هتف أنو: «هي!»، وخاب ظنُّ ريكاردو بعض الشيء؛ فقد كان مولعًا بالتناقُض الدرامي. تابع أنو: «لا علاقة لها على الإطلاق بالجريمة. إنها لا تعرف شيئًا. الرجل، أندريه فافار، متورِّط فعلًا. لكن كارمن فاليري! إنها غبية مثل الحمار وغارقة في حُبه. أتُدرك مدى غبائها؟ سترى لاحقًا. دعوت مدير دار الأوبرا السيد كلمنتس على العشاء، وها قد حضر.»

وقف أنو وصافح المدير. كان رجلًا عمليًّا غير مُهتم بالفن، وكانت لديه معرفة وثيقة بطبائع المُغنِّين والمُغنِّيات الأوبراليين، أكسبَتْه حسَّ فكاهةٍ تهكُّمِيًّا.

قال: «إنهم أطفال مُدلَّلون؛ سريعو الغضب ويشعرون بالاستحقاقية؛ كما أنهم على استعدادٍ لتدمير حياتك إذا لم تُبعِد منافسيهم عن المسرح.»

وظل يقصُّ عليهم حكايةً تلوَ الأخرى.

سكت المدير، فسأل أنو: «هل تُسبِّب لك كارمن فاليري أي متاعب هذا الموسم؟»

ردَّ كلمنتس بنبرة لاذعة: «سبَّبت لي متاعب في الماضي. لكنها في الوقت الحالي تُحاول أن تُحسِن التصرف. لكنها أفزعتني منذ بضعة أسابيع.» واستدار إلى ريكاردو وواصل كلامه: «إنها تؤمن بالخرافات، وأندريه فافار يعلم ذلك. لقد تركته في أمريكا في فصل الربيع.»

هتف ريكاردو بشكلٍ مباغت: «أمريكا!»، فنظر إليه كلمنتس فجأة في دهشة.

وردَّ: «أجل، كانت تُغني في نيويورك، في موسم الشتاء. وتركته هناك بعد انقضاء الموسم، وسررتُ بذلك الخبر أيَّما سرور، حتى بدأ في ممارسة قراءة الطالِع ببطاقات اللعب هناك. جاءت كارمن إليَّ في هلع. فقد تلقَّت برقيةً منه. وقالت إنها لن تستطيع الغناء ليلة الجمعة. هذا لأنه أبلغَها أنه ظهرت له بطاقة الولد الأسود بجوار بطاقة تسعة ديناري. لذلك لن تستطيع الغناء بأي حالٍ من الأحوال. وكان هذا أول عرضٍ لأوبرا «جواهر العذراء»! تخيَّل الورطة التي كنتُ فيها!»

سأل ريكاردو: «وماذا فعلتَ حينئذٍ؟»

ردَّ كلمنتس بلا مبالاة: «فعلتُ الشيء الوحيد الذي كان بمقدرتي في ذلك الوقت. أرسلتُ مبلغًا من المال إلى فافار، فقرأ الطالع مرةً أخرى. حينئذٍ، قدِمَت لي كارمن مسرورة فرحة. قالت إنها تضايقت للغاية لأنها أوقعتني في ورطة! لكنها ما كانت تدري كيف تتصرَّف. وقالت إنه ظهر له بطاقة ملكة حمراء بجوار بطاقة واحد كوبة؛ لذا يُمكنها الغناء بلا قلق، ما لم تصادف جنازةً في طريقها إلى دار الأوبرا. لحُسن الحظ لم يحدث ذلك. لكن أموالي جلبت فافار إلى هنا، وصرتُ كمن يعيش على بركانٍ يخشى أن يثور في أية لحظة. فهو أكبر مُحتالٍ حرٍّ طليق. وهو لا يحتفظ بفلس من أي أموال تعطيها له كارمن؛ لذا يعمد إلى الابتزاز والاحتيال، ولا يعرف الآداب ولا اللياقة، وتبدو هيئته مِثل القصَّابين، ويُعامل كارمن كما لو أنها حثالة، ولا يقترب من دار الأوبرا إلا لو كانت كارمن تؤدِّي دورًا فيها؛ وهي تعشقه عشقًا. حسنًا، أعتقد أنه حان وقتُ رحيلي.»

كانت المصابيح قد أُطفِئت، وبدأت الغرفة الكبيرة تفرغ من الحاضرين. نهض السيد ريكاردو وصديقاه استعدادًا للرحيل، إلا أن أنو أوقف السيد كلمنتس عند الباب، وتجاذبا أطراف الحديث بمُفردهما لبعض الوقت، مما أصاب السيد ريكاردو بالاستياء الشديد. لكن عندما انضمَّ أنو إلى صديقه، كان لدَيه من انشراح الصدر ما يكفيهما هما الاثنين.

قال: «أعتذر من كل قلبي يا صديقي. ما تخلَّفتُ إلا لمصلحتك. فأنت تعشق الأحداث الدرامية المأساوية، التي أمقُتها، ومع ذلك أنوي إرضاءك. كان من المفترض أن أرحل إلى باريس غدًا، لكني سأبقى إلى الخميس.» وراح يقفز على الرصيف، وهما في طريقهما إلى المنزل في ميدان جروفنر.

كان صدر السيد ريكاردو يمور بالأسئلة، لكنه كان يعرف صديقه جيدًا. ويعلم أنه لن يحصل على إجابةٍ واحدة لأي سؤالٍ من أسئلته الليلة. لذا بات مستيقظًا في فراشه يحاول حلَّ اللغز بنفسه، ونزل إلى طعام الفطور في صباح اليوم التالي مُتعبًا لكن منتصرًا. ووجد أنو جالسًا إلى المائدة منشغلًا بنزع قشرة بيضة.

قال أنو: «أرى أنك حللتَ اللغز كلَّه يا صديقي.»

رد ريكاردو بتواضُع: «لا ليس كلَّه، أظن أنك لن تمانع أن أُحييك تحية الصباح امتثالًا للتقاليد.»

قال أنو: «على الإطلاق. أنا رجل يحترم آداب اللياقة.»

وغمس مِلعقته في البيضة التي أمامه.

وأضاف: «لكني أتوق لسماع استنتاجك.»

فتحدث السيد ريكاردو دون تردُّد.

قال: «رأت جوان كورو أندريه فافار في حفل السيدة ستارلنجشيلد، ورأته هناك مع كارمن فاليري. هذا لأن كارمن فاليري كانت في هذا الحفل. وأذكر أنك سألت جوان عن أسماء المُغنِّين الذين حضروا الحفل وكان اسم كارمن فاليري بينها.»

أومأ أنو برأسه موافقًا.

ثم قال: «بالضبط.»

واصل ريكاردو: «من الطبيعي أن تؤثِر جوان كارمن فاليري بالاهتمام، فحفظت ذاكرتها، عن غير وعيٍ منها، صورةً للرجل الذي كان معها وهو أندريه فافار، وانطبعت في عقلِها بِنيته الجسدية ومِشيته وسمته.»

وافقه أنو مرة ثانية.

قال ريكاردو: «ونسيَت جوان الرجل تمامًا، لكن صورته ظلَّت منطبعةً في عقلها اللاواعي … كفيلم غير مُحمض.»

رفع أنو بصره في دهشة، فشعر السيد ريكاردو بالزهو. يبدو أنه لم يظلَّ ساهرًا يتقلَّب في فراشه ليلَه كلَّه عبثًا.

تابع ريكاردو: «ثم وقعت الأحداث المأساوية في فندق سميراميس. بعدها لم تتعرَّف جوان على المُعتدي بعقلها الواعي، لكنها ظلَّت تحلم بالمشهد مرةً تلوَ الأخرى، وتُصبح هيئة الرجل مألوفة بالنسبة إليها؛ بسبب انشغال عقلها اللاوعي بالمسألة. وأخيرًا تؤدي جوان أول أوبرا لها، ويحتفل بها أصدقاؤها على العشاء بعدها، وتقابل كارمن فاليري مرةً ثانية.»

قاطعه أنو: «أجل، لأول مرة منذ أن قابلَتْها في حفل السيدة ستارلنجشيلد.»

واصل ريكاردو: «تحلم جوان مرة أخرى، وتتذكَّر في نومِها أكثر مما تتذكَّر في صحوها. فلقد كان لحضور كارمن فاليري في حفلة العشاء تأثيره البالِغ عليها. وتستحضر عَبر سلسلةٍ من الترابُطات فافار فينزلق القناع عن وجه المعتدي. وبعد مرور بضعة أيام، تذهب إلى دار الأوبرا. وتسمع كارمن فاليري تُغني في «جواهر العذراء». لا شك أن العاطفة التي أولتها كارمن لدَورها — أنا الآن أكثر استعدادًا للاعتراف بها عن ليلة أمس — تملَّكت على جوان حواسَّها. تذهب جوان إلى فراشها وذهنها مشغولٌ بكارمن فاليري، لكنها لا تحلُم بها، وإنما بالرجل الذي يرتبط بها في عقلها اللاواعي. فيسقط القناع تمامًا. وترى المعتدي وتتَّضح صورته في عقلها، وتُصبح قادرةً على التعرُّف عليه إن التقت به في الطريق، رغم عدم إدراكها لكيفية وصولها إلى هيئته.»

قال أنو: «أجل. من المُثير للفضول كيف يعمل العقل أثناء استرخاء الجسد، وكيف يكشف اللاوعي عما يعجز الوعي عن تذكُّره.»

سُرَّ السيد ريكاردو بتجاوب أنو. وسُرَّ بأنه يأخذ بكلامه على محمَل الجدِّية.

قال: «بالطبع، ما كنتُ سأقدر على حلِّ اللغز لولا مُساعدتك. كنتَ تعرف أندريه فافار وأيَّ صنفٍ هو.»

ضحك أنو.

ثم قال: «أجل. هذا ما يُميزني عن الآخرين دائمًا. أعرف الأوغاد من شتَّى جنسيات أوروبا.» وفجأة توقف عن الضحك، وضرب سطح المائدة بقبضته المضمومة بكل قوته. وقال بصوتٍ هامس، لكن لاحت الشدة في وجهه والقسوة في عينَيه، مما أصاب ريكاردو بالقشعريرة: «أندريه واحدٌ منهم، وقريبًا سينتهي أمره يا صديقي.»

ساد الصمت لبضع لحظات. ثم سأل ريكاردو: «ألديك أدلة كافية لإدانته؟»

أجاب أنو: «أجل.»

قال ريكاردو: «شاهداك الرئيسيان، كالادين وجوان كورو، لديهما ما يطعن في صدقِهما، كما قلتَ بنفسك. هل ستُصدق المحكمة كلامهما؟»

قال أنو: «لن يرِد اسماهُما في القضية من الأساس. تمهَّل، تمهَّل!» وابتسم مرة أخرى. وسأل: «ما رقم منزل كالادين بالمناسبة؟»

أعطاه ريكاردو الرقم، فكتب رسالة. وقال بضحكةٍ خافتة: «كل ما أفعله من أجلك يا صديقي.»

ردَّ ريكاردو: «هراء! إنها الدراما تسري في دمك.»

قال أنو: «حسنًا، لن أُنكر ذلك»، ووضع الرسالة إلى أقرب صندوق بريد.

انتظر السيد ريكاردو قدوم يوم الخميس بفارغ الصبر. أثناء الإفطار لم يتحدَّث أنو عن أي شيءٍ سوى أخبار الصحف ذلك اليوم. وظلَّ على تلك الحال حتى الغداء. بدت قضية فندق سميراميس بعيدةً آلاف الأميال عن عقله. لكن عند الخامسة مساءً، قال أنو وهو يحتسي الشاي:

«تعلم أننا سنذهب إلى الأوبرا الليلة، أليس كذلك؟»

قال ريكاردو: «حقًّا؟ هل سنحضر أوبرا؟»

أجاب أنو: «أجل. سينضم إلينا صديقك كالادين، بالمناسبة، وسنجلس في مقصورتك.»

علق ريكاردو: «هذا لُطف بالغ منه، لا شك في ذلك.»

وصل الرجلان إلى الأوبرا قبل أن يُرفع الستار، وتبادل أنو بضع كلمات مع رجلٍ غريب في البهو المُكتظ بالحاضرين، لكن ريكاردو لم يستطع سماع حديثهما. بعد ذلك، جلسا في المقصورة، وتفقَّد أنو برنامج الليلة.

قال: «ها! ستُعرَض أوبرا «حفل تنكُّري» هذه الليلة. يبدو أننا نصادف الأعمال المميزة دائمًا، ألا تُوافقني الرأي؟»

ثم رفع حاجبَيه.

وقال: «أوه! هل لاحظتَ أن صديقتنا الشابة الجميلة جوان كورو ستؤدي دور الوصيف في هذه الأوبرا؟ هذا دور يتطلَّب الكثير من المهارة. فعلى ما أذكُر، ثمَّة مقطع لحني طويل فيه يستلزم التناوب بين نغمتَين.»

لم ينخدع السيد ريكاردو بتظاهُر أنو بتفاجُئه بالأوبرا التي ستُعرَض الليلة، وبمشاركة جوان كورو فيها. ولذا لم يندهش عندما أضاف أنو:

«بالمناسبة، سأترك كالادين يكتشِف ذلك بنفسه.»

أومأ السيد ريكاردو برأسه بحكمة.

قال: «أجل. هذا تصرُّف حكيم. أنا أيضًا فكرتُ في ذلك.» غير أنه لم يُفكر في ذلك. إذ كان كل تركيزه منصبًّا على أحداث المسرحية التي يُرتبها أنو بتتابع مُحكم، حتى تبلُغ ذروتها المرجوَّة، أيًّا كانت. ودخل كالادين إلى المقصورة في غضون دقائق وصافحهما بإحراج.

قال: «كان لطفًا منكما أن دعوتماني إلى المسرحية»، وبإحراجٍ شديد جلس بينهما، وركز انتباهه على القاعة وهي تمتلئ بالحاضرين.

قال أنو: «ها قد بدأت الافتتاحية.» ورُفع الستار. وصعد المغنُّون إلى خشبة المسرح كلٌّ حسب ترتيب دوره؛ وظهر الوصيف وسط تصفيقٍ رقيقٍ من جانب الحاضرين (كانت جوان كورو قد حققت بعض الشُّهرة في ذلك الموسم)؛ وتراجع كالادين للوراء وصدرت عنه صيحةُ دهشةٍ مكتومة كأن شخصًا لكمَه في وجهه. آنذاك لم يفهم السيد ريكاردو سببَها. كلُّ ما لاحظه أن جوان كورو بدَت مهندمةً وأنيقة بشكلٍ استثنائي في زيِّ الفتى الذي كانت ترتديه. واضطُر إلى أن ينقل بصرَه من برنامج الليلة إلى المسرح، ومن المسرح إلى البرنامج مرارًا وتكرارًا، قبل أن يستوعِب سبب دهشة كالادين. ومع هذا الإدراك جاءت الصدمة. يبدو أن ولَع أنو بخلق تأثيرٍ درامي جعله يتصرَّف بتهوُّر. لقد كانت جوان ترتدي الثياب نفسها التي ارتدتها في تلك الليلة المأساوية في فندق سميراميس، بدايةً من الشريطة التي في شعرها وانتهاءً إلى كعب حذائها الساتاني القرمزي. مال ريكاردو ناحية أنو في اضطراب.

قال: «لا بدَّ أنك جُننت. ماذا لو كان فافار في المسرح ورآها؟ سيهرب إلى أوروبا بحلول الواحدة صباحًا.»

ردَّ أنو: «كلَّا، لن يفعل لعدة أسباب. أولًا، هو لا يأتي إلى دار الأوبرا إلا لحضور أوبرا واحدة، وهي تلك التي تؤدِّي فيها كارمن فاليري دور البطولة، كما سمعتَ على العشاء منذ بضع ليالٍ. وثانيًا، هو ليس حاضرًا هنا اليوم. أعلم أين هو الآن. إنه يلعب القمار في شارع دين ستريت في منطقة سوهو. وثالثًا يا صديقي، أنه حتى لو أراد الرحيل في قطار التاسعة المُتجه إلى أوروبا فلن يستطيع. فقد اتخذتُ الإجراءات اللازمة لمنعه. رابعًا، أنه لن يودَّ الهرب من الأساس. فلدَيه من الأسباب الهامَّة ما يجعله يرغب في البقاء في لندن. لكنه سيأتي إلى المسرح في وقتٍ لاحق. إذ سيُرسل له كلمنتس رسالةً يطلب فيها منه الحضور بشكلٍ عاجل، مما سيدفعه إلى المجيء إلى مكتبه مباشرة. حتى ذلك الحين، يُمكننا الاستمتاع بوقتنا، أليس كذلك؟»

لم يكن الفرق بين الهاوي والمُحترف الأصيل سيتجلَّى بأوضح مما تجلَّى في سلوك الرجلَين أثناء متابعتهما لبقية الأوبرا. كان السيد ريكاردو مثل الجالس على الجمر من كثرة تملمُله وتحرُّكه في مقعده، بينما جلس أنو هادئًا يستمتع بالموسيقى، وعندما غنَّت جوان كورو منفردة، صفَّق بحرارة فاقت أيًّا من الحضور في المقصورات الأخرى طلبًا للإعادة. والحق أن جوان كورو لم تغنِّ بهذه البراعة في حياتها، سواء كان سبب ذلك تحمُّسها لأحداث الليلة أو غيره. كان صوتها واضحًا شجيًّا مثل عصفور … عصفور حرَّكته عاطفته فشدا. وحتى كالادين سحب مقعده للأمام مرةً أخرى، وجلس وعيناه مُلتصقتان بخشبة المسرح، حتى نسي اضطرابه تمامًا. وعندما انتهت المسرحية أخذ نفسًا عميقًا.

قال كمن يستيقظ من النوم: «ما أروعَها!»

ردَّ ريكاردو في محاولةٍ لتخفيف مُبالغة كالادين: «إنها بارعة بلا شك.»

قال أنو: «هيا، لنذهب خلف الكواليس.»

وعبروا من الباب الحديدي، والتفُّوا وراء خشبة المسرح، ودلفوا إلى ممرٍّ طويل تصطفُّ على أحد جانبَيه أبواب. وكان يقف فيه رجلان أو ثلاثة بملابس السهرة، كأنما ينتظرون خروج أصدقائهم من غُرَف تبديل الملابس. توقف أنو عند الباب الثالث وطرقَه. فتحت جوان كورو الباب، وهي لا تزال ترتدي ثيابها الخضراء والذهبية. بدا القلق على وجهها ولاح الخوف في عينَيها.

قال أنو وهو يتجاوزها إلى داخل الغرفة: «تشجَّعي يا فتاة. من الأفضل ألَّا يُرى وجهي القبيح المألوف قبل اللحظة الحاسمة.»

انغلق الباب، وسار أحد الرجال المتسكعين في الممرِّ بتؤدة إلى الصبي المُختصِّ بالنداء على المُمثلين. على إثر ذلك ركض الصبي إلى الخارج. ولأكثر من خمس دقائق انتظر السيد ريكاردو ما سيحدث بدقَّات قلب متسارعة. في أثناء ذلك، شكر حظَّه السعيد الذي قذف به إلى قلب الأحداث مباشرة. وشعر بالشفقة تجاه أولئك الذين يقودون سياراتهم في شارع ستراند عائدِين لبيوتهم لعِظم ما فاتهم. بعد ذلك، رأى ريكاردو كلمنتس وأندريه فافار قادمَين من نهاية الممر. تقدَّما وهما يتناقشان في فرصة غناء كارمن فاليري في أوبرا ستُعرَض في أحد مسارح لندن الموسم القادم.

قال كلمنتس: «يجب أن ننظُر إلى المُستقبل يا صديقي العزيز، مع أنني سيؤسِفني بشدة أن …»

في تلك اللحظة، كانا يقفان أمام باب جوان كورو مباشرة. انفتح الباب وخرجت منه جوان، ثم أغلقت الباب خلفَها في توتُّر. التفت أندريه على إثر الصوت، فإذا به يرى الفتاة ذات الزيِّ الزاهي التي قاطعته في غرفة نوم السيدة بلومنشتاين في أثناء سرقته، وقد ألصقت ظهرها بالباب، وبدت على وجهها نظرةٌ تفيض رعبًا. لم تكن جوان بحاجةٍ إلى التمثيل. كان خوفها في حضرة ذلك الرجل حقيقيًّا تمامًا، كخوفها ليلة الحفل التنكُّري بفندق سميراميس. وارتجفت من رأسها إلى أخمص قدمَيها، وبدت كأنها على وشك السقوط مغشيًّا عليها.

حملق فافار في جوان وتمتم بسبةٍ تنمُّ عن دهشته. وامتقع وجهه، وترنَّح بضع خطواتٍ إلى الخلف، كأنما رأى شبحًا. ثم ركض بجنونٍ في الممر، لكن أمسك به الرجلان اللذان كانا يرتدِيان ثياب السهرة ومنَعاه من الهرب. وسرعان ما استعاد هدوءه. وتوقَّف عن محاولة التملُّص منهما.

وسأل: «ماذا يجري هُنا؟» فأخرج أحد الرجلَين مذكرة اعتقال ودفترًا من جيبه.

وقال: «أنتَ مقبوضٌ عليكَ بتهمة قتل السيدة بلومنشتاين في فندق سميراميس. وأودُّ أن أُحذرك أن أي شيءٍ تقوله سيُسجَّل، ويُمكن استخدامه ضدك.»

هتف فافار: «هذا هراء! هناك خطأ حتمًا. سنذهب إلى الشرطة ونضع الأمور في نصابها. أين الدليل الذي لديك ضدي؟»

خرج أنو من باب غرفة تبديل الملابس.

قال: «في غرفة معدَّات المسرح.»

فور أن رأى فافار أنو، أطلق صيحة غضبٍ عنيفة. صرخ: «أنتَ أيضًا هنا؟»، وانقضَّ عليه يريد أن يخنقه. لكن أنو تفاداه بخفة. فسقط فافار أرضًا، وعندما نهض على قدمَيه مرة أخرى كانت الأغلال تلتفُّ حول معصمَيه.

اقتِيد فافار بعيدًا، واستدار أنو إلى السيد ريكاردو وكلمنتس.

قال: «لنذهب إلى غرفة المعدات.» سار الجميع في الممر، ولاحظ ريكاردو غياب كالادين. نظر خلفه فرآه واقفًا خارج غرفة جوان كورو.

قال ريكاردو: «لا بدَّ أنه سيودُّ القدوم معنا.»

سأله أنو: «حقًّا؟ لماذا لم يأتِ إذن؟ كالادين شخصٌ ناضج كما تعلم»، وشبك ذراعه بذراعِه وقاده إلى المسرح مرةً أخرى. في غرفة المعدات كان يقف مفتش بثيابٍ مدنية. كان السيد ريكاردو لا يفهم ما يجري بعدُ.

سأل المسئول عن المعدات مدير الأوبرا: «ما الذي تريده بالتحديد يا سيدي؟»

أجاب أنو: «نريد جواهر العذراء فحسب.»

فتح المسئول خزانة، وأخرج منها صُدرة لامعة. أشار أنو إليها، فإذا بعقدِ لآلئ السيدة بلومنشتاين يقبع وسط الأحجار واللآلئ المُزيفة.

صاح ريكاردو: «لهذا السبب كان فافار يأتي إلى دار الأوبرا دائمًا عند عرض أوبرا «جواهر العذراء»!»

أومأ أنو برأسه موافقًا.

واصل: «كان يأتي ليحرس الكنز.»

بدأ ريكاردو يجمع أجزاء اللُّغز.

أضاف: «لا شك أنه سمع عن العقد في أمريكا. لذا تبِعه إلى إنجلترا.»

وافقه أنو مرةً أخرى.

قال: «جواهر السيدة بلومنشتاين أشهر من نارٍ على علم في نيويورك.»

هتف كلمنتس: «لكن أن يُخبِّئه هُنا من بين كل الأماكن! لا بد أنه مجنون.»

سأل أنو: «لماذا؟ أهناك مكانٌ آمَنُ مِن هنا؟ مَن سيريد سرقة غرفة معدات دار الأوبرا الملكية؟ وفوق ذلك مَن سيخطر بباله أن يبحث عن عقد من اللآلئ الثمينة وسط جواهر مُزيفة في دار أوبرا؟»

قال ريكاردو: «أنتَ فعلت.»

ردَّ أنو بلا اكتراث: «أنا؟ أحلام جوان كورو هي التي أرشدَتني لأندريه فافار. وعندما جئنا إلى هُنا أول مرة، ورأيت جواهر العذراء، كان من البديهي أن أشكَّ في الأمر. ولاحظت أن فافار كان يجلس في الصفوف الخلفية. لكن الصدفة البحتة هي التي جعلتني ألمح اللآلئ من خلال النظارة المقربة.»

هتف ريكاردو فجأة: «في نهاية الفصل الثاني، أليس كذلك؟ أنا أتذكر الآن.»

ردَّ أنو: «أجل. لولا الفصل الثاني لقبعت اللآلئ بأمانٍ طيلة موسم الصيف. وكانت كارمن فاليري ستُلقيها بأي مكانٍ في غرفة تبديل الملابس، بحماقتها المعتادة كما أخبرتك، دون أن تُدرك قيمتها الحقيقية، وفي نهاية يوليو عندما تذهب جريمة فندق سميراميس طيَّ النسيان، كان فافار سيأخُذها إلى أمستردام ويبيعها بأموالٍ طائلة.»

«هلا ذهبنا؟»

وغادرا المسرح معًا وسارا حتى مطعم فندق سميراميس. لكن ما إن ألقى أنو نظرةً إلى الداخل عبر الباب الزجاجي حتى تراجَع.

قال: «ما رأيك ألَّا ندخل؟»

سأل ريكاردو: «لماذا؟»

أشار أنو إلى طاولة. كان كالادين وجوان يجلسان ويتناولان العشاء معًا.

قال أنو مبتسمًا: «ربما، ربما، يا صديقي … ربما يتخلَّى ساكن شقة أديلفي عنها يومًا ما.»

وابتعدا عن الفندق. لكن تبيَّن أن أنو كان مُحقًّا، وقبل أن ينقضي فصل الصيف، وجد السيد ريكاردو نفسَه مُضطرًّا لشراء هدية للعروسين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥