افتتاح الستارة

١

احذر يا عزيزي من سوء الفهم؛ فأنا لم أيأس مطلقًا، بل إنني في حيرة من أمري لاستلامي رسالة المواساة تلك منك، ثم شعرت بخجل تورَّد منه خداي. مشاعر لا يمكن الراحة والهدوء معها. وربما تغضب لقولي هذا، ولكنني بعد قراءة رسالتك، قلتُ لنفسي: «يا له من قديم!» اعلم يا عزيزي أن الستارة قد فُتحت لعهد جديد. عهد جديد تمامًا لم يسبق لأسلافنا السابقين أن جربوه قط.

عزيزي، لندع التقليد القديم؛ فهو في أغلبه كذب؛ فلم أعد أهتمُّ حتى بمرض صدري الآن. لقد نسيت أمر هذا المرض كاملًا. وليس المرض فقط، بل إنني نسيتُ كل شيء. لقد دخلت صالة الألعاب الصحية هذه عقب الحرب بعد أن شعرتُ فجأةً بندم لضياع حياتي، وفكرت أنني يجب أن أكون بصحة جيدة وأن الوضع سيكون على ما يرام، وبالطبع لم يكن لديَّ نية لفعل أي شيء مقابل أن أنجح في حياتي، أو من أجل بر بالوالدين يوجب الثناء ويستحث الدموع من العيون، مثل أن أُطمئن أبي وأُسعد أمي بأنني شُفيت من المرض. ولكن من جهة أخرى لم آتِ إلى منطقة بعيدة ونائية كهذه بسبب دوافع انتحارية يائسة. ألَا ترى أن شرح أفعال البشر بالتفصيل أمر خاطئ ونتيجة أفكار بالية قدُمت بالفعل؟ كثير من الشروحات المفتعلة تنتهي غالبًا بمبرِّرات كاذبة. لقد سئمتُ من ألعاب المنطق. ألَا ترى أنني استنفدتُ كل ما يُمكن أن يقال من أفكار؟ ما أريد قوله في النهاية أن ما من سبب محدَّد لدخولي صالة الألعاب الصحية هذه. في أحد الأيام، وفي أحد الأوقات، تسللتْ روح القدس إلى قلبي، فسالت دموعي لتغسل خدودي، وهكذا ظللتُ بمفردي أبكي كثيرًا، ثم شعرتُ بأن الأعباء انزاحت عن كتفي، وبأن عقلي قد بات رائقًا شفافًا، ومنذ ذلك الوقت تغيرتُ إلى إنسان آخر تمامًا. لقد أخفيتُ ذلك حتى الآن ولكنني على الفور قلتُ لأمي: لقد بصقتُ دمًا.

فاختار أبي لي صالة ألعاب صحيةً في بطن الجبل. هذا فقط هو ما حدث حقًّا. أنت تعرف جيدًا ماذا أعني بأحد الأيام، وأحد الأوقات، أليس كذلك؟ ذلك اليوم الذي تعرفه! في ظهيرة ذلك اليوم، ذلك الوقت الذي اعتذرتُ لك فيه وأنا أبكي من ذلك الصوت الآتي من السماء بما يشبه المعجزة تمامًا.

منذ ذلك اليوم، لقد شعرتُ كأنني فوق سفينة عملاقة جديدة الصنع. ولم أكن أعلم إلى أين تذهب هذه السفينة. وما زلتُ حتى الآن كأنني في حلم. تبتعد السفينة عن رصيف الميناء ببطء. كنتُ فقط أتوقع توقعًا غامضًا أن ذلك الطريق البحري، هو طريق بِكر جديد تمامًا لم يجرِّبه أحد من هذا العالم من قبل، ولكن حتى الآن أتقدم ببراءة في رحمة طريق التيار السماوي مستقبلًا السفينة العملاقة الجديدة فقط.

ولكن، احذر يا عزيزي أن تُسيء فهمي! فأنا لم أصل مطلقًا إلى حالة من العدمية بعد يأس طويل. إن إبحار السفينة يجعلك تشعر بالضرورة بمشاعر أمل قليل مهما كان طبيعة ذلك الإبحار. وتلك هي طبيعة البشر التي لم تتغير منذ قديم الزمان. أنت تعرف قصة صندوق باندورا في الأساطير اليونانية، أليس كذلك؟ بمجرد أن يُفتح الصندوق الذي لا يجب فتحه، تخرج منه الآلام والأحزان والغيرة والجشع والشكوك والمكر والمجاعة والحقد وكل أنواع الحشرات المشئومة، فتغطي السماء، وتطير محلِّقةً هنا وهناك مع طنينها المزعج، ومنذ ذلك الوقت، فُرض على البشر أن يتعذَّبوا في التعاسة، ولكن، في ركنٍ من ذلك الصندوق، بقي حجر صغير لامع في حجم بذرة الخشاش، وكُتب على ذلك الحجر بحروف دقيقة كلمة «الأمل».

٢

إن الأمر مقرَّر منذ قديم الزمان. من المستحيل أن يتملك اليأس من البشر. يُخدع البشر من الأمل على الدوام، ولكن على الجانب الآخر يحدث أن يُخدعوا أيضًا بنفس الطريقة من فكرة «اليأس». لنتحدث بصدق، إن الإنسان وهو غارق لأذنيه في قاع التعاسة متمرغًا في الوحل، يظل يبحث في كل الأوقات بيديه على خيط لبصيص من الأمل. وهذه الحقيقة قرَّرتها آلهة الأوليمب منذ وقت صندوق باندورا. تسير سفينة عصرنا الجديد إلى الأمام بسلاسة متقدمةً بخطوة تاركةً بتعمُّد الناس الذين يُظهرون حماسًا وروحًا عالية على الشاطئ مستمرين في الخطابة بعصبية عن أمور عديدة مثل التفاؤل والتشاؤم. ما من ازدحام مطلقًا. وكأن هذا مثل امتداد نبات اللبلاب، حيث يتغلَّب انتحاء الشمس الطبيعي على الإرادة.

دعنا الآن من طريقة قول المغرورين الذين يُلقون باللوم على الناس جميعًا ويتعاملون معهم على أنهم خونة. إن ذلك يجعل هذا العالم التعيس أكثر كآبةً فقط. أليس من يلوم الآخرين هو أكثر من يفعل الشرور سرًّا؟ سيكون من حسن الحظ إذا انعدم وجود سياسيين يفكِّرون في حبك مؤامرات بارعة إلى حد ما، ولكن أتمنى من الناس أن تنتبه حقًّا فلا تندفع وتتسرَّع وراء التلفيق والتدليس للتملُّص الموقت بحجة الهزيمة في الحرب هذه المرة؛ لأن مثل هذا التبرير الضحل هو سبب فشل لليابان حتى الآن. وإن كرَّرنا ذلك الفعل مرةً ثانية ربما سنكون أضحوكة العالم. يجب علينا أن نكون أكثر بساطةً وتلقائية بلا غرور. لقد انزلقت الباخرة الجديدة الصنع إلى البحر بالفعل.

مع ذلك حتى أنا عانيت معاناةً شديدة حتى الآن. فكما تعلم، في ربيع العام الماضي ومع تخرُّجي من المدرسة المتوسطة، أصِبت بحُمَّى أدت إلى التهاب رئوي، وبسبب رقودي في الفراش لمدة ثلاثة أشهر لم أستطع حضور اختبار الالتحاق بالمدارس الثانوية، وبعد أن استطعت النهوض والمشي على قدمي بشكل ما، استمرت الحمى بدرجة خفيفة، وقال الطبيب لي إنه ثمة شكًّا في التهاب ذات الجنب، وأثناء معيشتي في البيت بلا هدف، فات موعد اختبار هذا العام أيضًا، وكنتُ قد فقدتُ وقتها رغبتي في مواصلة الدراسة لمرحلة أعلى. وأضحى المستقبل أمامي ظلامًا دامسًا، فلم أدرِ ماذا أفعل والحال هكذا، وشعرت بالأسف تجاه أبي بسبب وجودي في البيت بلا هدف، وكذلك شعرت أن وضعي السيئ أمام أمي ليس عاديًّا. ربما لم تخُض أنت تجربة البطالة بلا دراسة ولا عمل، إنها جحيم حقيقي ومؤلم. قضيت ذلك الوقت في قلع الحشائش من الحقل فقط. وكنت أحاول إعادة الاعتبار إلى وضعي من خلال تقليد الفلاحين. وكما تعلم، فخلف بيتنا حقل يبلغ مساحته قيراطين تقريبًا. ولسبب مجهول كان ذلك الحقل مسجلًا منذ زمن باسمي. ولم يكن ذلك هو السبب الوحيد، ولكنني بمجرد أن أضع قدمي داخل ذلك الحقل، أشعر براحة كبيرة وكأنني تحررتُ قليلًا من الأثقال والضغوط التي من حولي. لقد صرتُ خلال هذا العام أو العامين وكأنني المسئول عن هذا الحقل؛ أقلع الحشائش، ثم أعيد حرث التربة حريصًا على ألَّا تلمس جسمي، وأصنع جبيرةً خشبية للطماطم، وأنا أفكِّر أن ذلك ربما يساعد قليلًا في زيادة المواد الغذائية، فكنتُ أحتال بقضاء كل يوم بيومه، ولكن يا عزيزي ثمة كتلة من القلق تشبه الغيوم السوداء قابعةً في قاع صدري لا تفارقه ولا يمكن الاحتيال عليها. أفكِّر ماذا سيكون عليه حالي إذا واصلت حياتي بهذه الطريقة؟ لن أصل إلى شيء، ولكن أليس هذا هو «شُرَّابة الخرج»؟ وعندما أفكِّر هكذا أصاب بالذهول، ولا أدري ماذا يمكنني عمله. ولم أستطع احتمال عذاب التفكير أن حياتي بهذه الطريقة ليس لها معنًى ولا تُسبِّب إلا الإزعاج فقط للآخرين. ولا يمكن لطالب نجيب مثلك أن يفهم هذا الشعور، ولكن ما من شعور في هذا العالم أقسى من أن يشعر الإنسان أنه «عالة وأن حياته لا تسبِّب إلا الإزعاج للآخرين».

٣

ولكن أثناء استمراري في الشعور بتلك المعاناة البليدة التليدة المدللة، كانت طواحين هواء العالم تدور دورانًا سريعًا لا يتوقف. أُبيدت النازية في أوروبا إبادةً تامة، وفي شرق أسيا توالت المعارك؛ معركة جزر الفلبين ثم معركة أوكيناوا، ثم القذف الجوي الأمريكي لأراضي الداخل الياباني، إنني لا أفهم الإستراتيجية العسكرية للجيش مطلقا، ومع ذلك فأنا أملك قرون استشعار شابة وحساسة. وأستطيع الثقة في تلك القرون تمامًا. إن تلك القرون تشعر سريعًا بأية أزمة أو كآبة تُصاب بها البلاد، وما من سبب منطقي لذلك. مجرد حدس فقط. منذ بداية هذا الصيف، التقطَت قرون استشعاري الشابة تلك، أصوات طوفان مد بحري هائل بدرجة لم يسبق لها مثيل من قبل، فارتعشتُ، ولكن لم يكن بيدي أي حيلة. كنتُ فقط في اضطراب عظيم، فاجتهدت بكل طاقتي في الزراعة. تحت أشعة الشمس الحارقة، أضرب بفأسي الثقيل تربة الحقل وأنا أئن وأتلوى، فأحرث الحقول وأغرس شتلات البطاطا الحلوة. والآن لا أدري مطلقًا لماذا واصلت العمل في الحقل كل يوم بهذا العنف. وثمة أيام واصلت تكرار قول «مُت! ألَا تموت! مت! ألَا تموت!» وأنا أتأوه بصوت منخفض في كل مرة أضرب الأرض بفأسي، بمشاعر اليأس والرغبة في إيلام هذا الجسد العديم الجدوى إيلامًا شنيعًا بكل ما فيَّ من قوة واندفاع. وبهذا غرست ستمائة شتلة من شتلات البطاطا الحلوة.

عليك أن تستريح قليلًا من عمل الحقل؛ فهو فيه استحالة بالنسبة لك بجسدك هذا!

قال لي أبي ذلك عندما كُنا نتناول وجبة العشاء، ثم في منتصف ليل اليوم الثالث لهذا الكلام، حينما كنتُ بين اليقظة والنوم، أخذتُ أسعل سعالًا شديدًا، وثمة صوت غريب يرتفع أثناء ذلك من صدري. آه خطر! انتبهت فصحوت من نومي، وكنتُ أعرف من خلال كتاب قرأته، أن قبل التقيؤ دمًا، يخرج من الصدر صوت غريب. وعندما انحنيت على بطني حدث دفعةً واحدة. أسرعت بالجري جريًا خفيفًا إلى المرحاض وفمي ممتلئ بشيء له رائحة زفرة كريهة. وكما هو متوقع كان دمًا. وقفت في المرحاض لوقت طويل ولكن لم يخرج دم أكثر من ذلك. ذهبت إلى المطبخ بخطوات متسلِّلة وتمضمضت بماء وملح ثم غسلت وجهي ويديَّ وعدتُ إلى فراشي. وحاولت أن أتنفس ببطء لكيلا يخرج السعال مني، ونمت في هدوء. كنت لا أبالي لدرجة تثير الدهشة، بل لدرجة أنني أحسست أني كنتُ أنتظر مثل هذه الليلة منذ زمن طويل. وخطر على ذهني كلمة أمنية «حياتي». وقرَّرت أن أواصل غدًا العمل صامتًا في الحقل. ما باليد حيلة؛ فأنا إنسان ليس لي هدف آخر أحيا من أجله. يجب أن أعرف حدودي. آه، في الحقيقة من الأفضل لي أن أموت بأسرع ما يمكن، اليوم قبل غدًا. من الأفضل أن أستغل جسدي استغلالًا شديدًا في العمل البدني لكي أُساهم في زيادة إنتاج المواد الغذائية ولو بقدر ضئيل جدًّا، ثم أودِّع هذه الحياة للتقليل من أعباء الوطن. وهذا هو الطريق الوحيد لمن كان مريضًا مثلي وبلا فائدة. آه، أتمنى لو أموت بأسرع ما يمكن.

ثم في صباح اليوم التالي، استيقظت مبكرًا عن المعتاد بأكثر من ساعة، ورتَّبت فراشي سريعًا وخرجت للحقل دون تناول الطعام، ثم عملت في الحقل بجد واجتهاد شديدَين. وعندما أتذكَّر ذلك الآن كأنني أرى كابوسًا للجحيم. وبالطبع كنت أنوي ألَّا أعترف لأحد بأمر مرضي حتى الموت. أنوي أن أجعل حالة المرض تسوء بسرعة في الخفاء دون أن أُخبر أحدًا. من المؤكد أن هذه المشاعر هي حقًّا ما يُطلق عليها أفكار السقوط! في تلك الليلة تسلَّلت في الخفاء إلى المطبخ وملأت كوبًا على آخره بخمر الشوتشو الذي يوزَّع مع مواد التموين أثناء الحرب وشربته. ثم في وقت متأخِّر من الليل تقيأت دمًا مرةً أخرى. استيقظت فجأةً وبعد أن سعلت سعالًا خفيفًا مرتين أو ثلاث مرات جاء الدم دفعةً واحدة. ولكن هذه المرة لم أجد متسعًا من الوقت للذهاب إلى المرحاض، ففتحت الباب الزجاجي، وقفزت حافيًا إلى الحديقة وتقيَّأت. ارتفعت الدماء الغزيرة سريعًا في حنجرتي، فشعرت أن الدماء تنزف من عينَي وأذنَي أيضًا، ثم توقفت الدماء بعد أن تقيأت ما مقداره كوبان كبيران تقريبًا. دفنت الدماء التي تقيأتها في الأرض بقطعة خشبية، وجعلته لا يظهر. وفي لحظة انتهائي من ذلك دقت صافرات الإنذار بهجوم جوي، وكان ذلك آخر هجوم جوي ليلي في اليابان، كلا وبل في الحرب العالمية كلها. وإذ خرجت مترنحًا من الملجأ بمشاعر مبهَمة، وجدتُ شمس صباح الخامس عشر من أغسطس إياه قد أشرقت متألقةً زاهية.

٤

ولكن وكما هو متوقَّع خرجتُ للعمل في الحقل في ذلك اليوم أيضًا. وعندما تسمع ذلك حتى أنت من المؤكد أنك ضحكت ضحكةً متكلَّفة. ولكن يا عزيزي لم يكن الأمر مضحكًا بالنسبة لي على الإطلاق، بل لقد كنتُ أشعر حقًّا أنه ما من موقف آخر يمكنني أن أتخذه في ذلك الوقت إلا هذا. لم يكن بيدي أي حيلة أخرى. أليس من المفترض أنني في نهاية طريق طويل من التفكير والحيرة، قررتُ الموت بصفتي فلاحًا! كانت أمنية حياتي الحقيقية أن أسقط صريع الموت بهيئة الفلاح فوق التربة التي حرثتها بيدَي. كلا، بل إنني أريد الموت بأقصى سرعة بغض النظر عن أي شيء. ثم جاءت أمي لاستدعائي بينما كنت نائمًا وسط زرع نباتات البقول وقد أوشكتُ على الإغماء بعد أن تخطَّيت مرحلة المعاناة من الدوار ورعشة البرد والعرق البارد اللزج. طلبَت مني أن أغسل يدَي وقدمَي وأذهب في الحال إلى غرفة أبي. كان وجه أمي التي تبتسم دائمًا أثناء التحدث، بملامح مهيبة صارمة وكأنها شخص آخر.

أُجلِست أمام المذياع في غرفة أبي، ثم في منتصف الظهيرة بكيتُ وأنا أسمع صوت جلالته السماوي. غسلَت الدموع وجهي، وأضاءت أشعة عجيبة جسمي وكأنني أخطو في عالم جديد تمامًا، أو أركب سفينةً كبيرة تهتز، وعندما انتبهتُ وجدتني إنسانًا مختلفًا عن السابق!

ولن أتيه بنفسي فخرًا وأقول إنني وصلتُ لأن أدرك أن الموت والحياة وجهان لعملة واحدة، ولكن، أليس الموت والحياة حقًّا نفس الشيء؟ أيَّما اخترت منهما، فالمعاناة واحدة. أكثر من يستعجلون بالموت يكونون منافقين متصنعين. ولم تكن معاناتي حتى الآن إلا جهدًا مني في محاولة للتميُّز والاختلاف. فلنكفَّ حقًّا عن النفاق والتصنع اللذين فات أوانهما. لقد ذكرتَ في رسالتك كلمة «القرار المؤلم» بالنسبة لي أنا الآن، كلمة مؤلم تبدو لي وكأنها تشبه ملامح ممثل وسيم محطِّم قلوب العذارى في مسرحية رخيصة. إنها بالفعل ملامح كاذبة خادعة، ناهيك على أن تكون مؤلمة. غادرت السفينة رصيف الميناء ببطء. ومن المفترض أن إبحار السفينة يُسفر عنه بالضرورة بوادر أمل خافت. لقد تخلَّصت من الاكتئاب، ولم أعد أهتم بمرض صدري. لقد وقعتُ في حيرة شديدة عندما تسلَّمت منك تلك الرسالة التي تطفح بمشاعر التعاطف. إنني الآن عازم على أن أُسلم نفسي لتلك السفينة دونما تفكير.

في نفس ذلك اليوم بُحت فورًا لأمي بكل شيء. بُحت لها وأنا في حالة من الهدوء والسكينة أدهشتني أنا شخصيًّا: لقد تقيَّأت دمًا ليلة أمس، وكذلك الليلة التي سبقتها.

بلا سبب، فلم أشعر فجأةً بالتشبث بالحياة، فقط مجرد أن الادعاء العنيد الذي كان موجودًا حتى أمس قد اختفى.

لقد اختار لي أبي «صالة الألعاب الصحية» هذه. وكما تعلم فأبي أستاذ جامعي في علم الرياضيات. ربما كان بارعًا في حساب الأرقام، ولكنه يبدو أنه لم يسدِّد حساب فاتورة بنفسه ولو مرةً واحدة من قبل. ولأننا فقراء دائمًا، فلا يجب أن أطلب رعايةً طبية مرفهة. وحتى لهذا السبب فقط تُعد «صالة الألعاب الصحية» المتواضعة هذه مناسبةً لي تمامًا؛ فأنا لا أشكو من أي شيء. وقيل لي إنني سأُشفى تمامًا خلال ستة أشهر. ولم أتقيأ دمًا مطلقًا بعد ذلك، ولا حتى بصقت بلغمًا مختلطًا بالدم. لقد نسيت أمر مرضي تمامًا. ومدير صالة الألعاب الصحية هذه يقول إن «نسيان المرض» هو أسرع طريق للشفاء الكامل. إنه إنسان غريب الطبع قليلًا. أُطلِق اسم «صالة الألعاب الصحية» على مصحة تعالج مرضى السل، واستطاع معالجة نقص الغذاء والدواء أثناء الحرب، واكتشف طريقةً خاصة لمحاربة المرض وشجَّع وساعد العديد من المرضى حتى الآن. في كل الأحوال إنها مستشفى غريبة. هناك الكثير والكثير من الأمور الشائقة، ولكن سأؤجل الحديث عنها بتأنٍّ للمرة القادمة.

ما من داعٍ مطلقًا لأن تقلق بشأني. تحياتي. اعتنِ بصحتك أنت أيضًا.

٢٥ أغسطس ١٩٤٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤