الأستاذ كاشو

١

لقد أسعدتني زيارتك أمس سعادةً لا حدود لها، بل إنك أحضرت لي معك باقة ورد، وأهديت لكلٍّ من تاكي سان ومابو قاموسًا أحمر صغيرًا للغة الإنجليزية. يا لها من فكرة لطيفة تليق بشاعر! ولقد شعرت بالامتنان لك بصفة خاصة لجلبك هديةً لكلٍّ من تاكي سان ومابو؛ فلقد أخذتُ من كلتيهما علبة حفظ السجائر ودمية الخيزران المسماة ابنة فوجي، ممَّا جعلني في حرج قليل تجاههما، وفي الوقت الذي كنت أفكِّر داخلي أنني يجب عليَّ الرد بإهدائهما شيئًا ما قريبًا، تصرَّفت أنت بذكاء وأتيت بتلك الهدايا؛ ممَّا جعلني أشعر براحة عظيمة. يبدو أنك لديك وجهًا أكثر جِدةً مني؛ فأنا ما زلت أشعر بقليل من القلق تجاه تَلَقي هدية من امرأة ما أو إعطائها هدية. أرى أنه أمر لا يليق. ربما كان ذلك الجزء القديم مني. يجب عليَّ أن أتعلَّم منك القدرة على تبادل الهدايا ببساطة ودون خجل. لقد شعرت أنني تعلَّمت منك مرةً أخرى شيئًا جديدًا، وأدركت أنني قد رأيت فضيلةً مبهجة.

عندما قالت مابو جاءك زائر، وأدخلتك الغرفة خفق قلبي بشدة وكأنه قد أُصيب بنزيف داخلي. تُرى هل تدرك وضعي وقتها؟ بالطبع كانت فرحتي عظيمةً برؤيتك بعد غياب طويل، ولكن ما أثار دهشتي أكثر من ذلك، كان رؤيتي لك أنت ومابو تدخلان عليَّ معًا وأنتما تضحكان وكأنكما صديقان قديمان. أحسستُ أن ذلك منظر من قصة خيالية. ولقد شعرت مرةً بمشاعر شبيهة بتلك المشاعر في ربيع العام الفائت.

في ربيع العام الفائت مع تخرُّجي من المدرسة المتوسطة، أُصبتُ بالْتهاب رئوي، وبسبب ارتفاع الحُمى كنتُ أشعر بدوار، وعندما نظرت فجأةً إلى جانب فراش المرض وجدت الأستاذ كيمورا معلم فصلي في المدرسة المتوسطة يقف مع أمي ويتحدَّث معها مبتسمًا. وقتها أيضًا اندهشت بشدة. الاثنان اللذان يسكن كلٌّ منهما منفصلَين في عالمين بعيدين ومختلفين تمامًا هما البيت والمدرسة، يتحدَّثان معًا بجوار سريري وكأنهما صديقان قديمان، كان ذلك في الواقع عجيبًا، فرقص قلبي فرحًا بمشاعر سعادة وكأنه ارتبك ارتباكًا فظيعًا من مشهد خيالي يشبه عثوري على جبل فوجي عند بحيرة توادا (بحيرة توادا في محافظة أوموري شمال اليابان وهي مسقط رأس دازاي، بينما جبل فوجي في وسط اليابان).

قلتَ لي: يبدو أنك شفيت تمامًا، أليس كذلك؟

ثم أعطيتني باقة الورد، وعندما رأيتني محتارًا طلبتَ من مابو قائلًا بنبرة شديدة التلقائية: أرجو أن تعيري هيباري مزهرية، ولا مانع في أن تكون مزهريةً متواضعة.

فأومأت مابو وذهبت لإحضار المزهرية. آه لقد كان ذلك يبدو حلمًا بالنسبة لي. لم أستطع استيعاب كل شيء، فقفز مني سؤال بليد: هل كنت تعرف مابو من قبل؟

– ألَا أعرفها من خلال رسائلك؟

– حقًّا!

ثم ضحكنا معًا.

– هل عرفت أنها مابو على الفور؟

– عرفتها من أول نظرة. ألطف بكثير ممَّا توقعت.

– ماذا مثلًا؟

– أنت لحوح. ما زال لديك نية أليس كذلك؟ لم تكن بذيئةً كما توقعت. أليست مجرد طفلة صغيرة؟

– أحقًّا هذا؟

– ولكنها ليست سيئة. إحساس العظام الرفيعة لها ليس سيئ.

– أحقًّا هذا؟

كنتُ في منتهى الاستمتاع.

٢

عادت مابو حامِلةً مزهرية بيضاء رفيعة وطويلة، فأخذتها أنت منها وقلت لها: شكرًا.

ووضعت الزهور بطريقة عشوائية وأضفت: أرجو أن تعيد تاكي سان فيما بعد تنسيقه.

ولكن كان ذلك موقفًا سيئًا قليلًا منك؛ فمع أنك أخرجت من جيبك على الفور القاموس الصغير السالف الذكر وأعطيته لها لم يبدُ على وجهها السرور، بل انحنت في صمت انحناءةً مؤدبة وخرجت من الغرفة بخطوات سريعة، وهذا كما هو متوقع دليل على أن مزاجها قد تعكَّر قليلًا؛ فمابو ليست بالشخص الذي ينحني مثل هذه الانحناءة المؤدبة غير الودية، ولكن لا حيلة في الأمر؛ فأنت لا يعنيك أمر أي شخص آخر باستثناء تاكي سان.

– الجو اليوم رائع؛ لذا لتذهب إلى الشرفة ونتحدث هناك؛ فنحن الآن في راحة الغداء ولا مانع من ذلك.

– أعرف كل شيء من خلال رسائلك، ولقد أتيت أنا مستهدِفًا وقت راحة الغداء هذا، وعلاوةً على ذلك فاليوم هو يوم الأحد، يوم الإذاعة الترفيهية.

خرجنا معًا من الغرفة ضاحكَين وصعِدنا درجات السلم، ومنذ ذلك الوقت غدونا نحن الاثنان جديين فجأةً نناقش أمور الوطن والعالم، تُرى لماذا صار الأمر هكذا؟ فنحن أعطينا بالفعل أرواحنا إلى المقام المقدس، ونحن على أهبة الاستعداد للطيران بخِفة إلى أي مكان طبقًا لأوامره لنا، ويُفترض أنه ما من شيء يستحق النقاش، ومع ذلك دبَّ الحماس فينا، وكشفنا عن مشاعرنا الداخلية بشأن إعادة بناء اليابان الجديدة؛ فربما أن الرجال مهما كانت درجة الود بينهم عندما يتقابلون معًا بعد غياب طويل تسيطر عليهم مشاعر الحيرة بسبب الرغبة في أن يجعل الطرف الآخر يعترف بإنجازاته، فيتبادلون الحديث بنوع من الغرور كما حدث معنا. حتى بعد خروجنا للشرفة، غضبتَ أنت وقلت إن التعليم الأساسي في اليابان فاشل.

– لأن نوع التعليم الذي يتعلَّمه المرء في صِغره هو الذي يقرِّر حياته كلها فيما بعد، وأرى أنه يجب التوسع أكثر في إبعاد كبار العظماء.

– أجل. حتى لو فكَّرنا في الأجور فقط فهؤلاء الرجال لا ينفعون.

– أجل هو ما تقول. أنت على حق تمامًا. لا يُفترض أن ينجح شيء بخداع النفعية فقط. لقد شبعنا من مُهاترات الكبار.

– بالضبط. لقد قَدُم أسلوب الادعاء السطحي، أليس هذا الأمر واضحًا وشفافًا؟

يبدو أنك أنت أيضًا على نفس مستواي من رداءة النقاش. لقد بدا أننا نردِّد ونكرِّر نفس القول مرات ومرات، ثم أثناء ذلك بدأ نقاشنا السيئ هذا يتقطَّع تدريجيًّا، فأخذت كلمات مثل: «مجرد» أو «بمعنى» أو «على كل حال» أو «في النهاية» تتطاير من أفواهنا وتتدلَّى. وفي ذلك الوقت ظهرت فجأةً تاكي سان فوق النجيلة التي أمام المدخل الرئيس أسفل مننا، فناديتُ عليها بلا وعي: تاكي سان!

وفي نفس الوقت أصلحت أنت من هندامك، ما معنى ذلك؟ وضعت تاكي سان كفها على جبينها ونظرت إلى الشرفة، وقالت وهي تضحك: ماذا حدث؟

ما رأيك؟ ألم يكن موقف تاكي سان وقتها رائعًا؟

قلتُ لها: يوجد هناك شخص يقول إنه يحب تاكي سان جدًّا.

فقلتَ أنت: كفى، كفى.

يبدو أنه في ذلك الموقف لا تخرج في الواقع إلا كلمة كفى، كفى الساذجة تلك.

٣

فقالت تاكي سان: مقزِّز.

ثم لوت عنقها بالعرض بزاوية أكبر من ٤٥ درجةً ووجَّهت لك الحديث وهي تضحك قائلة: مرحبًا بك.

فاحمرَّ وجهك حمرةً فاقعة ثم انحنيت فجأة، ثم قلتَ لي بصوت خافت بدا متذمرًا: ما هذا؟ إنها جميلة جدًّا! لقد كنتَ تستخف بي. لقد كنت تكتب في رسائلك أنها فقط شخص عظيم ضخم الجسد؛ لذا اطمأن قلبي في مديحها. ولكن ما هذا؟ إنها بارعة الجمال.

– هل اختلفت توقعاتك؟

– اختلفت، اختلفت، اختلافًا عظيمًا؛ لأنك تقول حجمها ضخم؛ فقد ظننتها في حجم الحصان. ما هذا؟ إنها يجب أن توصف بالرشاقة، حتى لونها، ليست سمراء مطلقًا. أنا أخاف من مثل هذه الجميلة. إنها خطر!

إلى آخر ما قلتَ بنبرة كلام سريعة متعجلة، وأثناء ذلك انحنت تاكي سان انحناءةً خفيفة وكانت على وشك التوجه إلى العنبر القديم؛ لذا ارتبكت أنت وقلت: أنت أوقف تاكي سان واجعلها لا ترحل فثمة هدية لها.

ثم بحثت في جيبك وأخرجت القاموس الصغير إياه، فناديتها بصوت عال «تاكي سان» وأوقفتها.

– معذرة ولكن سألقي بها إليكِ. لقد طلب هيباري مني شراء تلك الهدية؛ فهي ليست مني أنا.

كما توقعتُ كنتَ في منتهى الازدهار وأنت ترمي لها برشاقة ذلك القاموس الظريف ذا الغلاف الأحمر. لقد أبديت لك عظيم الاحترام في داخلي. تلقَّت تاكي سان هديتك البريئة بصدرها بمهارة، ثم توجهت إليك بكلمة الشكر قائلة: أشكرك.

مهما قلتَ أنت فإنها تعرف أن الهدية منك أنت. أطلقتَ زفرة أسًى وأنت تتأمل ظهر تاكي سان وهي تتجه إلى العنبر القديم ثم همست بجدية بالغة: خطر، إنه أمر خطر.

ممَّا جعلني أضحك مستغربًا.

– ما من أي خطر على الإطلاق! عادي أن تكون مهمًّا بمفردك في غرفة حالكة الظلام. لقد خضتُ تلك التجربة بالفعل.

– هذا لأنك شخص بليد المشاعر.

قلت لي ذلك بنبرة مشفقة ثم أضفت: حتى إنك لا تعرف الفرق بين الجميلة والدميمة، أليس كذلك؟

أغضبتني تلك الكلمة، مع أنك أنت الذي لا يفهم أي شيء! وإن بدت تامي سان بهذا الجمال فمن المؤكد أن جمال قلبها انعكس على قلبك الصافي. عند ملاحظة الأمر بهدوء فتاكي سان ليست جميلةً بالمرة، بل إن مابو أجمل منها بدرجة بعيدة. والموضوع فقط أن شعاع الرقي النابع من روح تاكي سان يُظهرها جميلة. وأنا أعتقد أنني أملك عينًا أكثر صرامةً منك بمراحل فيما يتعلق بملامح المرأة. ولكن في ذلك الوقت لأنني فكَّرت أن الجدال بشأن وجوه النساء أمر بذيء فقد التزمتُ الصمت. يبدو أننا نغدو عصابيين عندما يتعلَّق الأمر بتاكي سان، فيميل الموقف بيننا إلى أن يكون كئيبًا. أمر غير جيد، ولكن أرجو منك بصدق أن تثق في رأيي؛ أن تاكي سان ليست جميلة. وليس في الأمر أي خطورة. أليس غريبًا أن تكون خطرة! كل ما في الأمر أن تاكي سان مثلك، إنسان في منتهى الجدية.

وقفنا في الشرفة في صمت لفترة ثم ذكرتَ أنت فجأةً أن أسد إتشيغو جاري في الغرفة هو الأستاذ كاشو أوتسوكي الشاعر الشهير، فذهب أمر تاكي سان أو غيرها أدراج الرياح.

٤

مستحيل!

كنتُ كأنني في حلم من الأحلام.

يبدو لي أنه هو. عندما ألقيت عليه نظرةً سريعة منذ قليل أصبتُ بدهشة. إن أخي الأكبر ورفاقه من أشد المعجبين به؛ لذا فأنا أعرفه بأنني شاهدت صوره كثيرًا منذ كنتُ طفلًا، بل إنني كذلك كنت من المعجبين بأشعاره، بل إنك أنت كذلك من المؤكد أنك تعرف اسمه على الأقل.

أعرفه بالتأكيد.

إنني مهما فعلت لا أستطيع عمل علاقة جيدة مع الشعر، ولكن مع ذلك أعرف جيدًا قصائد كاشو أوتسوكي، بل لدرجة أنني أحفظ عن ظهر قلب قصيدة أميرة السوسن وقصيدة النورس، ويمكنني ترديدها الآن من الذاكرة. وكان من المستحيل أن أصدِّق فجأةً أنني كنت على مدى عدة أشهر أنام في السرير المجاور لمؤلف تلك الأشعار. إنني لا أفهم مطلقًا في الشعر، ولكن كما تعلم فيما يتعلَّق باحترام وتقدير الشعراء الموهوبين على العكس لا أتأخر عن الآخرين.

هذا الرجل! حقًّا؟

ظَلِلت لبعض الوقت بمشاعر لا حدود لها.

ارتبكتَ فجأةً وقلت: لا أعرف ذلك معرفةً مؤكدة لا تقبل الشك؛ لأنني لم أرَه إلا للحظة منذ قليل.

وقرَّرنا على كل حال النظر إليه بإمعان، ولأن وقت الإذاعة الترفيهية ليوم الأحد كانت على وشك أن تبدأ؛ لذا عدنا إلى غرفة الكرز في الطابق الأسفل. كان إتشيغو نائمًا، ولم يسبق لي أن رأيته عظيمًا كما كان وقتها. لقد بدا حقًّا كالأسد النائم في عرينه. نظرنا إلى بعضنا البعض وتبادلنا الإيماء، ثم زفرنا نحن الاثنان في وقت واحد زفرةً عميقة، ومن شدة التوتر لم نستطع أن نتبادل أي حوار ولا غيره، بل ظَلِلنا واقفَين وظهرنا للنافذة نسمع فقط في صمت أسطوانة الإذاعة الداخلية. تتابع البرنامج، وعندما بدأت أخيرًا الفقرة الثانية الجذابة لذلك اليوم حيث تغنِّي المساعِدات أغنية «فتاة أورليانز»، ضربتَ بكوعك الأيمن بطني ضربةً قوية وهمست لي بحماس بالغ: هذه الأغنية من تأليف الأستاذ كاشو!

وعندما قيل لي ذلك تذكَّرت فعلًا أنني في طفولتي قرأتها في مجلة للصغار مع رسومات توضيحية على أنها رائعة من روائع الأستاذ كاشو، وأنها انتشرت انتشار النار في الهشيم. راقبنا بانتباهٍ ملامح وجه إتشيغو. كان حتى ذلك الوقت نائمًا على ظهره فوق سريره يغمض عينيه برقة، ولكن عندما بدأ غناء «فتاة أورليانز» فتح عينيه ورفع رأسه عن الوسادة قليلًا لكي يصيخ بأذنيه، ثم أغمض عينيه في النهاية مرةً أخرى، وضحك وهو مغمض العينين ضحكةً حزينة خافتة، ففعلتَ أنت حركةً مريبة بأن صنعتَ من يدك اليمنى قبضةً وكأنك تضرب بها الهواء، ثم طلبت مني المصافحة. تصافحنا مصافحةً متينة دون حتى أن نبتسم. عندما أفكِّر في ذلك الآن، أتساءل ماذا كان معنى مصافحتنا تلك، لا أدري، ولكن وقتها لم نكن نتحمَّل مواصلة الوقوف ولم تكن لمشاعرنا أن تهدأ دون تلك المصافحة. لقد كنتُ أنا وأنتَ كذلك في منتهى الهياج العاطفي، وعندما انتهت أغنية «فتاة أورليانز» قلتَ لي بصوت مبحوح مريب: حسنًا، سأستأذن أنا.

فأومأت أنا وخرجت معك للردهة في وداعك، وعندها صحنا في نفس الوقت: أمر مؤكد!

٥

حتى الآن يُفترض أنك تعرفه، حسنًا بعد وداعي معك وعودتي للغرفة وحيدًا، تخطَّت مشاعري درجة الهياج، ووصل الأمر إلى وقوعي في حالة من الرعب لدرجة أن وجهي بات مزرقًّا شاحبًا. حاولت ألَّا أنظر إلى إتشيغو متعمدًا، ونمت على ظهري فوق سريري، ولكن كانت مشاعري لا تهدأ وقد اختلطت مشاعر الرعب مع القلق مع الحيرة والارتباك، وفي النهاية لم أعد أحتمل، فناديته بصوت خافت جدًّا قائلًا: أستاذ كاشو!

لا رد. فاستجمعت شجاعتي فلويت وجهي ناحية الأستاذ كاشو. كان إتشيغو قد بدأ تمرينات الانحناء والتمدد في صمت. بدأت أنا أيضًا التمرينات على عجل. استطعت أثناء إبعاد ساقي عن بعضهما البعض بأقصى حد ممكن، وثني أصابع كلتا يدي للداخل بالترتيب بدايةً من الخنصر، استطعت أن أسأله بنبرة صوت هادئة نسبيًّا: على الأرجح أنهن غنين تلك الأغنية دون معرفة مطلقًا من هو مؤلفها.

فأجاب برزانة: لا بأس من نسيان أمر المؤلف.

فأخيرًا عرفت أن ذلك الشخص هو الأستاذ كاشو بلا أي شك.

– أعتذر عمَّا بدر مني حتى الآن. لقد عرفت ذلك الأمر لأول مرة بعد أن أخبرني صديقي به. صديقي هذا وأنا أيضًا نحب أشعارك منذ طفولتنا.

فقال بجدية: أشكرك. ولكن حتى الآن كنت مرتاحًا وأنا إتشيغو.

– لماذا؟ ألَا تكتب شعرًا مؤخرًا.

– لقد تغيَّر العصر.

ثم ضحك بصوت صاخب.

اختنق صدري فلم أستطع قول شيء عديم الإحساس. واصلنا أداء التمارين لفترة في صمت، ثم صرخ إتشيغو فجأة: لا تهتم بأمر أحد؛ فأنت مؤخرًا تتصرف بصفاقة!

فوقعت في حالة من الرعب؛ فلم يتحدث معي إتشيغو حتى الآن ولو مرةً واحدة بهذه النبرة الفظة مطلقًا. في كل حال ليس أمامي إلا الاعتذار.

– أعتذر لك. لن أذكر ذلك مجددًا.

– أجل. لا تقل شيئًا؛ فأنتم لا تفهمون، لا تفهمون شيئًا.

في الواقع لقد وقعت في موقف متأزم. إن الشعراء أناس مرعبون؛ فأنا لا أعرف ما الذي أخطأت فيه. وفي ذلك اليوم لم نتبادل بعدها كلمةً حتى نهاية اليوم. جاءت المساعِدات للتدليك، ومهما وجَّهن لي أحاديث مختلفة كنتُ حتى النهاية بوجه منتفخ لا أستطيع الرد ردًّا لائقًا، وفي داخلي كنتُ أتحرَّق شوقًا وأريد إبلاغ مابو مثلًا أن جاري إتشيغو هو مؤلف أغنية فتاة أورليانز وجعلها تندهش، ولكن لقد نبَّه إتشيغو عليَّ بالصمت قائلًا: «لا تقل شيئا.» ولذا ما بيدي حيلة في أن أنام تلك الليلة في صمت.

ولكن صباح اليوم، تصالحت ببساطة مع الأستاذ كاشو الذي كان غاضبًا بشدة. ارتحت راحةً عظيمة. لقد جاءت ابنة إتشيغو هذا الصباح لزيارته بعد فترة غياب طويلة. ابنة هادئة اسمها كيوكو وفي عمر مابو تقريبًا، نحيفة القوام ولون وجهها شاحب من المرض، وطرفا عينَيها مرتفعان لأعلى. كُنا بالضبط نتناول وجبة الإفطار. قالت الابنة وهي تفك الصرة القماش الكبيرة التي أتت بها معها: لقد صنعت تسوكوداني وأحضرته معي.

– حقًّا؟ لنأكله الآن على الفور. أخرجيها. أعطي جاري السيد هيباري نصفها.

فقلتُ في سري: ماذا؟! حتى ذلك الوقت عندما يشير إتشيغو إليَّ كان يقول ذلك الأستاذ، أو الطالب أو السيد كوشيبا فقط، ولم يسبِق له أن قال عني ولو مرةً واحدة بلقب هيباري الحميمي بطريقة مريبة.

٦

أتت لي الابنة بالتسوكوداني.

– هل لديك وعاء؟

احترت ونزلتُ من على سرير وأنا أقول: ها، كلا، ضعيه فوق ذلك الرف.

انحنت الابنة وأخرجت صندوق الوجبات المعدني من الرف الجانبي للسرير.

آه، أجل هو ذلك، المعذرة.

قالت وهي منحنية تحت السرير تنقل التسوكوداني في ذلك الصندوق: هل تأكل منه الآن؟

– كلا، لقد أنهيت وجبتي بالفعل.

أرجعت الابنة صندوق الوجبات إلى مكانه ثم وقفت.

– أوه، جميلة.

مدحت زهور الأقحوان التي وضعتها أنت بطريقة عشوائية في المزهرية. ولأنك قلت وقتها لا لزوم له أن أطلب تاكي سان أن تعيد تنسيقه، ممَّا جعلني أخجل من طلب ذلك منها، بل والطلب من مابو كذلك سيبدو متعمدًا؛ ولذا بقيت تلك الزهور على نفسها وضعها دون تغيير.

– أمس وضعها صديق لي بهذا الشكل البائس وما من أحد يعيد تنسيقها لي.

ألقت الابنة نظرةً سريعة على ملامح وجه أبيها.

– أعيدي تنسيقها له.

بدا أن إتشيغو أيضًا قد أنهى وجبته، فقال ذلك ضاحكًا وهو يستخدم خِلَّة@ الأسنان. مزاج هذا الصباح حسن جدًّا فأعطني على العكس زاد من شعوري بالخوف منه.

تورَّد وجه الابنة ثم اقتربت من جانب الوسادة وهي في حالة حيرة وارتباك، فأخرجت كل زهرات الأقحوان من المزهرية وبدأت تنسيقها من جديد. وكنتُ في منتهى السرور أن تعيد تنسيقها فتاة جيدة.

جلس إتشيغو فوق سريره متربعًا وهمس وهو يتأمل ابنته واثقًا ببراعتها في تنسيق الزهور: هل أعود مجددًا لكتابة الشعر!

التزمتُ الصمت مخافة أن أقول ما يعكِّر مزاجه فيصرخ في وجهي مرةً أخرى.

– يا سيد هيباري أعتذر لك عمَّا حدث أمس.

قال ذلك ثم هز عنقه في خبث.

– كلا، على العكس أنا الذي تحدَّثت بصفاقة وجه.

في الواقع تصالحنا ببساطة على غير ما أتوقع.

– هل أعود مجددًا لكتابة الشعر!

كرَّر مرةً أخرى نفس القول.

– اكتب من جديد. أرجوك حقًّا أن تكتب بأي طريقة من أجلنا نحن. نحن الآن أكثر ما نريد قراءته هو شعر نقي وخفيف مثل أشعارك يا أستاذ. أنا لا أفهم في الشعر جيدًا، ولكننا حاليًّا نطلب فنًّا مثل موسيقى موتسارت، ممتعة وصافية في سمو وشموخ. إن الأعمال المبالَغ فيها أو التي تَدَّعي العمق والجدية باتت قديمةً وساذجة. ما من شاعر يكتب لنا بجمالٍ أشعارًا عن العشب اليافع الضئيل الكامن في أركان الأطلال. ليست محاولةً للهروب من الواقع. نحن بالفعل تشرَّبنا العذاب حتى النخاع. نحن على أهبة الاستعداد لعمل أي شيء ببساطة، ولن نهرب؛ فلقد قدَّمنا أرواحنا، فأمسينا بلا أعباء ولا أحمال. أنا أشعر أن الفن الحقيقي حاليًّا هو الذي يمتلك لمسةً مثل تيار ماء صافٍ ينساب بسرعة ورشاقة ليُقابل مشاعرنا تلك بالضبط. الذي لا يحتاج إلى الحياة ولا إلى الشهرة، وأعتقد أنه لو لم يكن كذلك، فلن يمكن أبدًا أن نتخطى تلك الأزمة الصعبة؛ أي انظر إلى الطير التي تطير في السماء. الأيديولوجية ليست هي القضية. حتى وإن حاولنا الخداع بهذا فهو لن ينجح. سيُدرك درجة نقاء ذلك الشخص من لمسته فقط. المشكلة هي اللمسة، الإيقاع؛ وهو ما هو غير صافٍ ولا شامخ فهو مزيف.

حاولت أن أبذل جهدي في قولٍ نظري أنا في الأصل غير بارع في قوله، وبعد الانتهاء من قوله شعرت بالخجل، وتمنَّيت لو أنني لم أقله.

٧

مسح الأستاذ كاشو أرنبة أنفه بالمنشفة ثم نام على ظهره وقال: هل غدونا في مثل هذا العصر! في كل الأحوال يجب الخروج من هنا.

– هو كذلك، هو كذلك.

وقتها لأول مرة منذ أتيت إلى صالة الألعاب هذه، شعرت خفيةً بعدم الصبر والرغبة الشديدة في أن أكون بصحة بدنية جيدة سريعًا. إنه أمر هباء ولكني شعرت أن طريق البحر السماوي بطيء وسيئ.

ويبدو أن الأستاذ بحساسيته المفرطة لاحظ مشاعري تلك كما ينبغي له، فقال: أنتم أمركم مختلف. لا يجب عليكم الاستعجال. إن عشتم هنا في هدوء فشفاؤكم مؤكد، ثم تستطيعون لعب دوركم العظيم في إعادة إعمار اليابان، ولكن أنا كبرت في العمر بالفعل.

وعندها يبدو أن الابنة قد انتهت من تنسيق الزهور، فقالت بنبرة مرحة: يبدو أنها باتت أسوأ ممَّا كانت.

ثم اقتربت من سرير أبيها ثم عندها قالت له غاضبةً بصوت خافت جدًّا: أبي! ما زلت تشتكي؟ إن مثل هذا ليس يلقى رواجًا الآن.

– هل يعني هذا أن أفكاري لن يتقبَّلها العالم من جديد؟

قال إتشيغو ذلك، ومع ذلك ضحك ضحكًا خافتًا وهو في منتهى السرور.

وأنا أيضًا نسيت تمامًا نفاد صبري الأحمق منذ قليل وابتسمت بسعادة بالغة.

اعلم أن العصر الجديد قادم بالتأكيد، وهو خفيف مثل ريش الطيور، بل وفوق ذلك فهو صافٍ ونظيف مثل جدول ضحل ينساب فوق سلسال الرمال البيضاء. لقد تعلمتُ في المدرسة المتوسطة من المعلم واشو فوكودا أن الشاعر العظيم باشو أعطى في سنواته الأخيرة مثالًا ﺑ «الخفة» وأنه وضعها فوق «وابي» و«سابي» و«شيوري»، تلك المشاعر التي كان الشاعر الذي بعبقرية باشو يتوقَّعها ويتوق إليها أخيرًا في نهايات عمره، وصلنا إليها نحن تلقائيًّا، يعني ألَا نقدر على طلب الفخر بها. إن تلك «الخفة» تختلف تمامًا عن الضحالة. لا يمكن أن تفهم تلك المشاعر إن لم تتخلَّ عن الحياة وعن الرغبة. إنها طليعة الرياح التي تهب بعد بذل الجهد والعذاب وتدفُّق العرق مدرارًا. الطائر الخفيف خفةَ أن يكون جناحاه شفافين، الذي يولد ظاهرًا من بين الهواء المضغوط في نهاية الفوضى الكبرى في العالم. الشخص الذي لا يفهم ذلك، سيُبعد إلى الأبد من مسار التاريخ، ويبقى وحيدًا. آه، هذا وذاك سيغدو قديمًا. اعلم أنه ما من منطق ولا نظرية. إن الخفة هي بحق سلام من فقد كل شيء وتخلَّى عن كل شيء.

هذا الصباح، ذكرتُ أمام إتشيغو ما يشبه المنطق الفني البالغ الرداءة، ثم أحسست بسبب ذلك بالخجل المريع، ولكنني انتبهت إلى أن ابنة إتشيغو تمثِّل ما يمكن أن نسميه مؤيدًا خفيًّا لنا، فشعرت بثقة شديدة بالنفس، وأدَّى ذلك إلى أنني سمحت لنفسي هنا أن أحاول كتابة إضافة تكميلية لنظريتي السابقة المتبجِّحة عن الرجل الجديد.

وبالمناسبة لقد كان تقييم زيارتك لصالة الألعاب هذه في منتهى الجودة. أرجو منك أن تُسر لذلك سرورًا كبيرًا. وليس من المبالغة مطلقًا القول إنك بمجرد فقط أن قمتَ بزيارة هذه الصالة تحوَّلت فجأةً إلى مكان مرح ومشرق. أولًا لقد صغر الأستاذ كاشو عشر سنوات كاملات، وتُبلغك كل من تاكي سان ومابو تحياتهما. قالت مابو ما معناه: يا لعينيه الجميلتين! وكأنهما لعبقري. الأهداب طويلة، وكلما طرفت أسمع صوتها عاليًا.

مابو دائمًا تبالغ في كلامها. من الأفضل ألَّا تصدِّقها. هل أعرِّفك بتقييم تاكي سان؟ أرجو منك ألَّا تتخشَّب هكذا وأن تسمع الكلام ببرود أعصاب ولا تهتم به. كان رأي تاكي سان …

– منافسة جيدة معك يا هيباري.

قالت هذا فقط، ولكنها قالته بوجه أحمر.

٢٩ أكتوبر

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤