تاكي سان

١

تحياتي.

سأخبرك اليوم بخبر حزين. ومع قولي حزين ولكنني أشعر بمشاعر حزن غريبة وربما أريد أن أصفه بالحزن الحبيب. تاكي سان سوف تتزوَّج. ستتزوَّج مَن؟ المدير. سوف تتزوَّج الدكتور تاجيما مدير صالة الألعاب الصحية. لقد سمعت ذلك اليوم من مابو.

حسنًا لأبدأ القصة من بدايتها.

لقد حضرت أمي إلى صالة الألعاب صباح اليوم حاملةً معها الكثير من الأشياء من ملابس وغيرها. تأتي أمي مرتين في الشهر لترتيب أغراضي. ألقت نظرةً عميقة على وجهي وقالت ساخرةً مثل كل مرة: ألم يحن الوقت لتشعر بالحنين إلى البيت؟

تعمَّدتُ أن أكذب وأقول لها، مثل كل مرة: ربما كنتُ كذلك.

– لقد سمعتُ أن ثمة مَن سيودِّعني حتى جسر كوميه.

– مَن؟

– حسنًا، مَن يا تُرى؟

– أنا؟ وهل يمكنني الخروج؟ هل صدر لي تصريح؟

أومأت وقالت: ولكن، لو تكره ذلك فلا داعي له.

– أكره؟ لقد بتُّ قادرًا على السير لمسافةٍ لأربعين كيلومترًا كل يوم.

فقالت أمي وهي تقلد طريقتي في الكلام: ربما كنتَ كذلك.

خلعتُ منامتي وارتديت الكيمونو الكاسوري بعد غياب أربعة أشهر، وعندما خرجتُ مع أمي للمدخل كان المدير يقف في صمت وهو يعقد ذراعيه خلف ظهره.

فقالت له أمي وهي تبتسم كأنها تحدِّث نفسها: هل يستطيع المشي؟ ما رأيك؟

فقال المدير مازحًا مزاحًا رديئًا بدون أن يبتسم: يستطيع ابنك الوقوف والمشي منذ كان عمره سنةً واحدة. سأجعل إحدى المساعِدات تذهب معكما.

ظهرت مابو من مكتب الإدارة مرتديةً زي الممرضات الأبيض وعليه معطف نصفي أحمر مزين بتصميمات زهور كاميليا مهرولة تجاهنا، ثم انحنت تجاه أمي بارتباك انحناءةً متواضعة. كانت مابو هي من سيرافقنا.

لبست قبقابي الخشبي الجديد ومشيت للخارج مباشرة. كان القبقاب ثقيلًا بدرجة غريبة، فتعثرت.

فسخر مني المدير مازحًا من خلفي: أوه، قدم الطفل تسير بمهارة.

شعرتُ في نبرته بإرادة قوية وباردة أكثر ممَّا شعرت بالحب، وأحسستُ أنه يوبِّخني قائلًا: يا لك من مهمل! ممَّا ثبَّط من عزيمتي، ثم مشيت خمس أو ست خطوات متعجلًا، فصاح المدير مرةً أخرى من خلفي هذه المرة بنبرة توبيخ علانيةً قاسية: ابدأ ببطء. ابدأ ببطء.

ولكن على العكس شعرتُ مع هذه الكلمات أكثر بالحب والسعادة.

مشيت ببطء. تبعتني أمي ومابو من خلفي وهما تتهامسان بصوت خافت حول شيء ما، وعندما اخترقنا غابة أشجار الصنوبر ووصلنا داخل طريق الأسفلت التابع للمحافظة، شعرت بدوار خفيف فتوقفتُ عن المشي.

– إنه كبير. هذا الطريق كبير جدًّا.

كان طريق الأسفلت يلمع فقط تحت أشعة شمس الخريف الرقيقة، ولكنه للحظة بدا لي وكأنه نهر عملاق هائج لا حدود له.

ضحكتْ أمي وسألتني: هل صعب عليك؟ ما رأيك؟ هل أرجو منك توديعي في المرة القادمة؟

٢

– أنا بخير. أنا بخير.

مشيت وأنا كالعادة أجعل قبقابي يُقرقع بصوت عالٍ وأضفت: لقد تعوَّدت.

وفي ذات اللحظة، مرَّت سيارة نقل بجواري باندفاع مهول ممَّا جعلني أصيح «واه» بلا وعي.

– كبيرة جدًّا، سيارة النقل كبيرة.

سخرت أمي مني وهي تقلِّد طريقة كلامي.

– ليست كبيرةً ولكنها قوية. قوة حصان مهولة. على ما أتذكَّر أنها كانت بقوة مائة ألف حصان.

– حسنا ربما الآن هي سيارة نقل ذرية؟

هذا الصباح أيضًا كانت أمي مبتهجة.

مشينا ببطء وعندما اقتربنا من محطة الباص عند جسر كوميه، سألتها سؤالًا غير متوقع. في النهاية أحاديث متنوعة بين مابو وأمي أثناء السير: سمعت أن مدير الصالة سوف يتزوج قريبًا.

– أجل على الفور سيتزوج من تاكي سان.

– سيتزوج من تاكي سان؟ المساعدة؟

على ما يبدو أن أمي اندهشت، ولكن كانت دهشتي أنا مائة ضعف من دهشتها. تلقيتُ صدمةً وكأن سيارة نقل بقوة مائة ألف حصان طرحتني أرضًا.

أمَّا أمي فقد عاد لها هدوءها سريعًا وقالت: أجل إن الأنسة تاكيناكا إنسانة جيدة جدًّا. إن مدير الصالة يملك عينًا فاحصة كما ينبغي.

ثم ضحكت بمرح ولم تسأل أسئلةً اعتراضية أكثر من ذلك، بل نقلت الحوار إلى موضوع آخر بطريقة لطيفة.

ولا أستطيع تذكُّر بوضوح بأي حال. ودعتُ أمي عند محطة الباص، فقط كان ما أمام عيني غائمًا، وكان قلبي في حالة وكأنه يرقص مُصدرًا صدى صوت عنيف، وكانت تلك المشاعر لا يمكن القدرة عليها مطلقًا.

سأعترف، أنا … أحبُّ تاكي سان. كنتُ أحبها منذ البداية. لم تكن مابو مثلًا تسبِّب أي مشكلة، بل لقد كنتُ أحاول بأي طريقة نسيان تاكي سان، فاقتربتُ من مابو بصفة خاصة واجتهدتُ في أن أحبها ولكنني فشلت في ذلك مهما فعلت. في الرسائل التي أُرسلها إليك أيضًا، كنتُ أذكر الصفات الجميلة فقط في مابو، وأكتب الكثير من السباب السيئ عن تاكي سان، ولكن لم أكن أقصد أن أخدعك مطلقًا، بل كنتُ أريد أن أمحو مشاعري القلبية من خلال الكتابة بتلك الطريقة؛ فحتى الرجل الجديد عندما يفكِّر في تاكي سان، يصبح جسده ثقيلًا نوعًا ما، ويتقلَّص جناحاه، ويشعر فعلًا أنه رجل ممل يشبه ذيل الخنزير حقًّا، فيغامر بكرامة الرجل الجديد ويحاول باستماتة أن يرتِّب مشاعره بانتعاش، ويريد أن يكون بلا أي علاقة بتاكي سان، ويشجِّع نفسه وقلبه تشجيعًا حارًّا. أرجو منك أن تتفهَّم قليلًا درجة معاناتي وعذابي، عندما كنتُ أسب تاكي سان سبابًا متنوعًا؛ أنها إنسانة متصنعة المشاعر، أو أنها تشبه سمكة أسبور عملاقة، أو أنها غير ماهرة في التبضُّع … إلخ. وكنتُ أتأمل في سري أنك لو وافقتني وأنت وبدأت تسبها معي، لربما كنتُ كرهتُها حقًّا، وربما أصبحت خفَّت أحمالي، ولكن خاب ظني، ولأنك أصبحتَ مهووسًا بها، فوقعتُ أنا في النهاية في ورطة. وعندها غيرتُ هذه المرة استراتيجية القتال، فتعمَّدت مدح تاكي سان، وخططتُ أن أُحجمك بطريقة أو بأخرى من خلال حديثي عن الحب الذي بلا جاذبية والنوع الجديد للصداقة بين الرجل والمرأة، وهذه هي الحقيقة البائسة لتفاصيل ما حدث حتى الآن. ليس انعدام الجاذبية بل كنتُ على العكس منجذبًا حتى النخاع. وهذه هي حقًّا المشاعر التي يجب أن توصف بصعوبة كبح جماحها، إنسان في منتهى الضحالة حقًّا.

٣

لقد قلتَ أنت إن تاكي سان جميلة لدرجة مهولة، وحاولت أنا باستماتة محو ذلك، ولكن حتى أنا كنتُ أرى أن تاكي سان جميلة لدرجة مهولة. اعتقدتُ ذلك بمجرَّد أن رأيتها لأول وهلة في اليوم الذي أتيتُ فيه إلى هذه الصالة.

إن مثل تاكي سان هي فعلًا المرأة الجميلة. إن تاكي سان عندما كانت تمسح ألواح الأرضية الخشبية وهي تنحني بهدوء وسكون في قاع الظلام ذي الهاجس المريب تنيرها إضاءة المصباح الكهربائي الأزرق للمغسلة، كانت جميلةً لدرجة مرعبة. لا أقول ذلك مستاءً من الهزيمة؛ لأنه كان أنا، فقد مر الأمر بسلام، ولكن لو كان شخصًا آخر في هذا الموقف لوقعت جريمة بلا شك ولا ريب. إن كابُّوريه يقول دائمًا إن المرأة شيطان، ربما فعلًا تفقد المرأة إنسانيتها لحظيًّا دون وعي وتصبح ذات طبيعية شيطانية.

الآن فقط أنا أعترف. إنني أعشق تاكي سان. لا علاقة لذلك بقديم أو جديد.

افترقتُ مع أمي، ثم مشيت ومشاعري تتأرجح مثل اهتزاز رضفة الركبة، وعطشتُ عطشًا مريعًا فقلت: لنسترح قليلًا في مكان ما.

وكان صوت هذا مبحوحًا لدرجة أنني أنا نفسي تفاجأتُ منه، وشعرتُ أنها كلمات يهمس بها شخص آخر في مكان يبعد عني بُعدًا مهولًا.

– من المؤكَّد أنك تعبت. بعد قليل سنصل إلى بيت اعتدنا على أن نُعرِّج عليه أحيانًا ونستريح قليلًا.

أرشدتني مابو فدخلنا بيتًا على طراز يشبه ما يُسمى طراز ميوشينو قبل الحرب. في المدخل الترابي الواسع ذي الإضاءة المعتمة قليلًا، تتدحرج هنا وهناك دراجة هوائية محطَّمة، وجوَّالات فحم، وفي أحد الأركان طاولة واحدة متواضعة، وُضع معها مقعدان أو ثلاثة مقاعد، وعُلِّقت بالجدار الذي بجوار تلك الطاولة مرآة كبيرة، تلمع في ريبة بأشعة بيضاء مرعبة تترك انطباعًا عميقًا. مع قول إن هذا البيت يعمل محلًّا، إلا أنه يبدو أنه مجرد يقدِّم الشاي للمعارف، وهو المكان الذي يتهرَّبن فيه مساعِدات الصالة من العمل عندما تخرجن في مهمة. دخلت مابو بجراءة إلى الغرفة الداخلية وأحضرت قنينة الشاي الخزفية والأكواب ثم عادت. جلسنا وجهًا لوجه على المقاعد التي أسفل المرآة وشربنا معًا الشاي الفاتر، ثم أطلقتُ زفرةً عميقة فارتاحت مشاعري قليلًا واستطعت أن أقول بنبرة خفيفة: إذن تاكي سان ستتزوَّج؟

– أجل.

كانت مابو مؤخرًا تبدو في وحدة لسبب مجهول. انكمش كتفها من البرودة كما يبدو ثم قالت وهي تنظر إلى وجهي مباشرة: ألم تكن … تعرف؟

– لم أكن أعرف.

سخنت عيني فجأةً وتأزَّم موقفي فنظرتُ للأرض.

– أتفهَّم ذلك، حتى تاكي نفسها كانت تبكي.

– ما هذا الذين تقولين؟

كانت نبرتها الودية مقزِّزة، مقزِّزة، فبدأتُ أشعر بالغضب الشديد.

– لا يجب عليكِ أن تقولي شيئًا … سخيفًا.

– ليس شيئًا سخيفًا أبدًا.

كانت مابو تبكي.

– لذلك ألم أقل لك، حذارِ من أن تحسِّن علاقتك بها؟

– لا أحسِّن علاقتي بها مطلقًا. لا تقولي أي شيء هكذا وكأنك عالمة بكل الأمور؛ فهو أمر مقزِّز بدرجة لا تُحتمل. إن زواج تاكي سان أمر جيد، أمر سعيد أليس كذلك؟

– خطأ؛ لأنني أعرف. مهما حاولت خداعي لن تفلح.

فارت الدموع من عينَيها الواسعتين، وتجمَّعت على أهدابها ثم بدأت تسيل لتصل إلى خدودها.

– أنا أعرف. أنا أعرف.

٤

– توقفي. لا معنى لذلك.

فكرتُ أنه لو أحد رآنا في هذه الحال فستكون ورطة.

لا معنى مطلقًا لما تقولين.

ولكنني لم أكن أعتقد أن تلك الكلمات التي أكرِّرها لها أي معنًى.

مسحت مابو دموعها بأطراف أصابعها وابتسمت قليلًا ثم قالت: أنت يا هيباري مهمل جدًّا. لا أصدِّق أنك لم تكن تعلم حتى الآن بما بين مدير الصالة وبين تاكي سان.

– لا أعلم مثل هذه الأمور البذيئة.

تعكَّر مزاجي بشدة فجأة، وتولَّدت لديَّ رغبة في ضرب الجميع ولكمهم لكمًا موجِعًا.

– ما هذه الأمور البذيئة؟ هل الزواج أمر بذيء؟

– كلا، ليس بذيئًا مطلقًا.

ثم أكملت بتلعثم: ولكن ما قبله من أمور …

– ماذا تقول؟ لا يوجد مثل هذا مطلقًا. إن مدير الصالة شخص جاد. لم يقل شيئًا لتاكي سان بل ذهب مباشرةً إلى والدها وطلبها منه. وقد سمعت أن والد تاكي سان موجود هنا نازحًا بسبب الحرب، ثم تحدَّث والدها معها مؤخرًا، فظلَّت تاكي سان تبكي ليلتين أو ثلاث ليالٍ، تقول إنها لا تريد أن تتزوَّج.

فقلتُ بمشاعر سارة: إن كان الأمر كذلك فهو جيد.

– ما الجيد في الأمر؟ الجيد أنها ظلَّت تبكي؟ أنت شخص كريه يا هيباري.

قالت ذلك ضاحكةً ثم مالت بوجهها عرضًا وباتت أشعة عينَيها حيةً حيوية مريبة، ثم مدَّت ذراعها الأيمن للأمام برفق وقبضت بقوة على يدي الموضوعة فوق الطاولة وقالت: لقد بكت تاكي سان بسبب حُبِّها لك يا هيباري. هذه هي الحقيقة. أنا لا أكذب.

ثم زادت من قوة قبضها على يدي أكثر، فقبضتُ أنا أيضًا على يدها دون أن أفهم شيئًا. كانت مصافحةً بلا معنًى، ثم أحسستُ على الفور بغباء ما أفعله، فسحبتُ يدي ولكي أخفي خجلي جرَّبت أن أقول: هل أصب لكِ مزيدًا من الشاي؟

– كلا.

خفضت مابو عينَيها بضعف ورفضت بطريقة رفض غريبة رفضًا حاسمًا.

– ألَا نخرج من هنا إذن؟

– بلى.

أومأتْ إيماءةً خفيفة ثم رفعت وجهها. كان ذلك الوجه رائعًا، رائعًا روعة مفاجئة. كان وجهها بلا ملامح البتة، وظهرت تجاعيد رفيعة خافتة على جانبَي أنفها وكأنها متعبة، وفتحت فمها قليلًا وعيناها الواسعتان تصفوان ببرود وعمق، كان في ذلك الوجه الذي شحب قليلًا وبات أزرقَ، رقي نفس بدرجة مهولة، رقي النفس هذا الذي يميِّز بصفة خاصة الشخص الذي يئس تمامًا وتخلَّى عن كل شيء. خاضت مابو معاناةً هائلة، ثم غدت لأول مرة امرأةً تستطيع أن تُظهر جمالًا جديدًا بلا أنانية لدرجة النقاء الشفاف الكامل. إنها أيضًا رفيقة لنا. أسلمت نفسها للمركب الجديد العملاق وتتقدَّم كما هي في طريق السماء البحري بخفة وبراءة. وتلمس رياح «الرغبة» الضئيلة خدَّيها، ووقتها اندهشتُ من جمال وجهها فتذكَّرت كلمة «عذراء إلى الأبد»، تلك الكلمة التي كنت في المعتاد أعتبرها تنفُّجًا، لم تكن في ذلك الوقت تنفُّجًا مطلقًا، بل شعرت في الواقع أنها كلمة طازجة.

ربما أنت تضحك الآن عندما يستخدم شخص غليظ الحس مثلي كلمة «عذراء إلى الأبد» التي تنتمي للطبقة العليا من المجتمع، ولكنني حقًّا أُنقذت في ذلك الوقت بواسطة وجه مابو الراقي النفس.

وشعرت أن جسمي خفَّت أحماله سريعًا بعد أن بدا لي زواج تاكي سان كذلك كأمر من الماضي البعيد. حتى ولو لم يكن ثمة إرادة في اليأس، كان شعور أن المنظر الذي أمام عيني يبتعد كلما نظرتُ إليه وكأنني أنظر إليه من خلال مجهر فبدا صغيرًا مقلوبًا، ولم أعد أشعر بالتشبُّث بأي شيء في قلبي، ومع ذلك بقي داخلي فقط إحساس بالانتعاش أنني اكتملت.

٥

تصنع طائرة أمريكية دوائر في السماء الزرقاء الصافية لنهاية الخريف. وقفنا أمام البيت الذي على طراز ميوشينو ونظرنا عاليًا تجاهها.

– تطير وكأنها تمل الطيران.

– أجل.

أجابت مابو بابتسامة.

– ولكن ثمة جمال وجِدة في شكل الطائرة. تُرى هل سبب ذلك هو عدم وجود زينة واحدة لا ضرورة لها؟

– أجل.

قالت مابو ذلك بصوت خافت ثم نظرت إلى الطائرة التي في السماء بإلحاح مثل الأطفال.

– الشكل الذي بلا زينة لا داعي لها، شيء جميل.

لم يكن ذلك انطباعًا عن الطائرة فقط، بل كان كذلك تفكيري الخفي بشأن هيئة مابو التلقائية التي تُشبه حالة الذهول التام.

مشينا نحن الاثنان في صمت، وكنتُ كلما رأيت امرأةً في الطريق أنظر إليها بانتباهٍ وعناية، وأعتقد أنه مع وجود تباين في الدرجة فقط، ولكن كانت وجوه النساء جميعًا في هذا العصر تُظهر جمالًا شفافًا بريئًا بلا شبق مثل جمال مابو. باتت النساء أكثر أنوثة، ولكن لم يكن ذلك معناه أنهن عُدن إلى ما كنَّ عليه قبل الحرب العالمية، ولكنها كانت «أنوثة» جديدة خاضت معاناة الحرب. كيف يمكنني قول ذلك؟ تُرى هل ستفهم ماذا أعني لو قلت لك إنه جمال يشبه غناء الكروان البسيط؛ أي «الخفة».

عدنا إلى صالة الألعاب قبل الظهر بقليل، ولكن لأننا مشينا أكثر من اثنين كيلومتر ذهابًا وإيابًا فقد كنت في منتهى التعب، فسقطت نائمًا على سريري دون حتى أن أبدِّل ملابسي وأرتدي المنامة أو أخلع المعطف.

– الغداء يا هيباري.

فتحت عيني فتحةً ضيقة فرأيت تاكي سان تقف حاملةً آنية الطعام وهي تبتسم.

آه، السيدة زوجة المدير!

نهضتُ واقفًا على الفور ودون وعي انحنيت انحناءةً خفيفة وقلت: أهلًا، أنا آسف.

قالت وكأنها تحدِّث نفسها وهي الآنية بجوار الوسادة: أنت نعسان! أيها الناعس. هل هناك أحد ينام بالكيمونو؟ لو أصابك البرد الآن سيكون أمرًا جللًا! أسرع بارتداء المنامة فورًا.

وهي تقول ذلك بمزاج متعكِّر رافعةً حاجبَيها لأعلى، أخرجت المنامة من درج السرير وأضافت: طفل مدلَّل تربَّى على الترفيه، يسبِّب المشاكل والإزعاج! تعالَ فسوف أبدِّل لك ملابسك!

نزلتُ من السرير وفككتُ حزام الكيمونو. إنها تاكي سان المعتادة دائمًا. وبدأت أفكِّر أن زواجها من مدير الصالة هو كذب خالص. ماذا؟! لقد كنتُ الآن نائمًا أرى حلمًا! مجيء أمي كذلك كان حلمًا، وبكاء مابو في البيت الذي على طراز ميوشينو كذلك كان حلمًا، هكذا شعرت للحظة فأخذتني الفرحة، ولكن لم يكن الأمر كذلك.

خلعت تاكي سان عني الكيمونو وهي تقول: يا له من كيمونو جيد! من نوع كاسوري بمدينة كوروميه أليس كذلك؟ رائع ومناسب جدًّا عليك يا هيباري. إن مابو محظوظة جدًّا. قالت إنها أثناء العودة شربت الشاي مع والدتك في مكان ما.

كما توقَّعت، لم يكن حلمًا، فقلت لها: مبروك يا تاكي سان.

لم تُجِب. صمتت ثم علَّقت المنامة من خلفي ثم وضعت ذراعي في أكمامها، وقرصتني بقوة شديدة في ملتقى ذراعي بكتفي. جززتُ على أسناني لأتحمَّل الألم.

٦

بدَّلت المنامة وكأن شيئًا لم يكن، ثم بدأت تناول الطعام وبجواري تاكي سان تطوي كيمونو الكاسوري. ولم ينطق أي منَّا ببنت شفة للآخر، وبعد فترة قالت تاكي سان هامسةً بصوت في منتهى الخفوت: سامحني.

فشعرت أن تلك الكلمة احتوت على مشاعرها كلها، فهمست وأنا أواصل تناول الطعام مقلدًا لهجة تاكي سان: إنسان شنيع!

ثم شعرت كذلك أن تلك الكلمة احتوت على مشاعري كلها.

فضحكت ضحكات مكبوتةً وقالت: أشكرك.

لقد تصالحنا، وبتُّ أتمنى لها السعادة من أعماقي.

– إلى متى ستواصلين العمل هنا؟

– حتى نهاية هذا الشهر.

– هل نقيم لكِ حفل وداعٍ؟

– أوه! مقزز!

ارتعشت تاكي سان بمبالغة، ثم وضعت الكيمونو المطوي في درج الخزانة سريعًا وخرجت من الغرفة بلا مبالاة. تُرى لِم كان جميع من حولي هكذا أناسًا طيبين وحسني الطوية؟ إنني أكتب لك هذه الرسالة وأنا أستمع إلى محاضرة الساعة الواحدة بعد الظهر، مَن الذي ألقى محاضرة اليوم؟ هل تعرف؟ أرجو منك أن تفرح. إنه الأستاذ كاشو أوتسوكي. إن شعبية الأستاذ أوتسوكي في صالة الألعاب في ارتفاع عظيم مؤخرًا، ولم يعد أحد يناديه بلقب أسد إتشيغو الذي لا يليق. بعد اكتشافك له، بقيتُ يومين أو ثلاثة صابرًا لا أبلغ أحدًا، ولكنني بُحت أخيرًا بالأمر سرًّا إلى مابو، وفي لمح البصر انتشرت الشائعة في كل مكان، وخاصةً أنه مؤلف كلمات «فتاة أورليان»، كان ذلك سببًا في احترام الجميع له بلا شروط، بل وصل الأمر لدرجة أن مدير الصالة وقت مرور على الغرف قدَّم اعتذاره إلى الأستاذ كاشو عن عدم التعرُّف على شخصيته حتى الآن.

وبالتأكيد في العنبر الجديد، ولكن طلاب العنبر القديم أيضًا، انهمرت عليه طلبات تصحيح وتعديل الأشعار من الهايكو إلى الواكا، ولكن الأستاذ كاشو لم يتغيَّر ولم يُظهر فجأةً أي قدر ولو ضئيلًا من مظاهر التعالي الممقوت، بل كان كما هو متوقَّع أسد إتشيغو الصموت، ووكَّل كابُّوريه في تصحيح وتعديل أغلب أشعار الطلاب. وكابُّوريه مؤخرًا في منتهى الرضا، يَعُد نفسه التلميذ الأقرب للأستاذ كاشو، ويضع على وجهه ملامح الجدية، فيُحدث في أشعار الآخرين التي عانَوا من أجل تأليفها تعديلات كثيرةً كما يحلو له. واليوم تقرَّر أن يلقي الأستاذ كاشو محاضرةً لأول مرة بناءً على طلب الإدارة. وكانت المحاضرة بعنوان «التفاني»، وعندما سمعتُ صوته يأتي هكذا عبر مكبِّرات الصوت، شعرت بمشاعر الجلال والهيبة أنني أتلقَّى تعليمًا وإدراكًا من إنسان عظيم وجليل جدًّا. في الوقع إنه صوت مهيب هادئ البال. ربما كان الأستاذ كاشو أعظم كثيرًا جدًّا ممَّا كنتُ أعتقد، وكما توقَّعت كان محتوى المحاضرة جيدًا، ليس به أي قدر من الأفكار القديمة.

أمَّا التفاني فهو بالتأكيد ليس قتل النفس بجرح المشاعر اليائسة عشوائيًّا، ثمة اختلاف كبير، بل إن التفاني هو إحياء النفس للأبد في أكثر الصور ازدهارًا، ويكون الإنسان خالدًا من خلال هذا التفاني النقي، ولكن ما من أي ضرورة للاستعداد والتأهُّب من أجل التفاني، بل يجب عليه اليوم والآن وبوضعه الحالي أن يقدِّم كل ما لديه، فيجب على الشخص الذي قبض على فأسه التفاني بنفس مظهر الفلاح الحامل الفأس. لا يجب عليه الاهتمام كثيرًا بمظهره؛ فمن غير المسموح مطلقًا تأجيل التفاني، فيجب على الإنسان أن يكون متفانيًا في كل لحظة وكل ساعة من وقته. الاستعداد والتفكير في كيفية أن يكون شكل التفاني عظيمًا، أمر بلا معنًى. ظل الأستاذ يشرح مرارًا وتكرارًا بكل قوته. وأثناء سماعي احمرَّ وجهي مرات عديدة؛ يبدو أنني حتى الآن بالغت في الإعلان عن نفسي بالقول رجل جديد رجل جديد. بالغت في التشبث بالاستعداد للتفاني. أعتقد أنني كان لي ما يُشبه التمسك بمساحيق التجميل. لنسحب لوحة الرجل الجديد في هذه اللحظة بشجاعة وإقدام. إن من حولي باتوا مرحين بمثل درجة مرحي. ألم نُصبح مرحين مزدهرين دائمًا بدون استثناء واحد منا كلما ظهرنا حتى الآن؟ لا يبقى إلا عدم الكلام والسير بخطوات مستقيمة في منتهى الاعتيادية دون إسراع أو إبطاء. إلى أين يصل هذا الطريق؟ من الأفضل سؤال النبات المتدلي الذي يمتد، ومن المؤكد أنه سيجيب: أنا لا أعرف، ولكن الأكيد أن في اتجاه امتدادي توجد الشمس.

الوداع.

٩ ديسمبر

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤