مابو

١

قرأتُ ردك السريع بمشاعر حنين للماضي. لقد كتبتُ في رسالتي الأخيرة لك كلمة خطيرة تسبِّب سوءَ فهمٍ إلى جد ما، تلك التي تقول «الموت أمر جيد»، ولكن يبدو أنك فهمت مشاعري الحقيقية فهمًا صحيحًا دون أدنى سوء فهم، وفي الواقع لقد سعدتُ بذلك، ولا يسعني إلا أن أرى أن السبب في ذلك هو الزمن. ألستَ معي أن الناس في العصور السابقة كان يصعب عليهم فهم مشاعر الهدوء والسكينة تلك تجاه الموت؟ «لا يقتصر الأمر على مرضى السل فقط، بل إن الشباب الآن جميعًا يعيشون جنبًا إلى جنب مع الموت. لقد قُدِّمت حياتنا جميعًا قربانًا لذلك المُبجَّل، ولم تعد ملكًا لنا؛ ولهذا السبب، نحن نستطيع دون أدنى حيرة أو تردُّد أن نُسلم أنفسنا بسهولة لسفينة المشيئة السماوية تلك. هذا هو شكل الشجاعة الجديد للقرن الجديد. ومن العجيب أننا لا نبالي رغم أنه مقرر منذ زمن بعيد أن الجحيم تقبع مباشرةً تحت تلك السفينة.» إن كلماتك تلك في رسالتك أصابتني بالدهشة؛ لذا يجب عليَّ تقديم الاعتذار بجدية لإعرابي عن انطباعي بأن أول رسالة تسلَّمتها منك، قديمة.

نحن لا نستهين بالحياة مطلقًا، ولكن كذلك لا نخاف الموت، ولا ندع العواطف المشبوبة تجاهه تجتاحنا، والدليل على ذلك أنني وداع تابوت إيتكو ناروساوا الملفوف بالقماش الأبيض الألق الجميل، نسيت تمامًا مابو وتاكي سان، ورقدتُ على سريري بمشاعر صفاء مثل سماء الخريف في ذلك اليوم، ثم سمعت الطلاب والمساعِدات في الممر يتبادلون التحية المعتادة:

– هل تفعلها؟

– أفعلها جدًّا!

– اجتهد أكثر!

– حسنًا لقد جاءت.

ولكنها لم تكن بتلك النبرة شبه المازحة كما كانت عليه دائمًا، فقد انتبهتُ إلى أنها تحتوي على صدًى للجدية قليلًا، ثم شعرتُ أنا بصحة غير عادية على العكس من هؤلاء الطلاب الذين يصرخون بتوتر وبراءة. وإن قلت ذلك بطريقة متكلفة، لقد أحسستُ طوال ذلك اليوم أن الصالة بأكملها في حالة قُدسية ربانية. لقد آمنتُ أن الموت لا يجعل مشاعر الإنسان تضمحل أو تذبل.

وأشعر بالشفقة على إنسان العصور القديمة الذي لا يستطيع فهم مشاعرنا تلك إلا على أنها تظاهر طفولي بالقوة أو أنها يأس ناتج عن فقدان الأمل. ألَا ترى أنه يندر وجود الإنسان الذي يفهم بوضوح مشاعر العصرين معًا؛ العصر القديم والعصر الحديث؟ إنني أعتقد أن الروح في خفة الريشة. ولكن ليس معنى هذا أننا نتعامل مع الروح باستهانة، بل إننا نحب الروح لأنها في خفة الريشة، ثم تطير تلك الريشة بعيدًا جدًّا بسرعة كبيرة. وهكذا، نُبحرُ نحن ككلمات مباشرة لذلك المبجل، تاركين وراءنا هؤلاء الكبار يواصلون الصراخ عاليًا في جدال يبدو وكأنه واضح تمامًا عن الوطنية ومسئولية الحرب، لدرجة أنني أشعر أن تلك هي الصفة المميزة لليابان الجديدة.

لقد وضعتُ «نظرية» غير متوقعة مطلقًا من موت إيتوكو ناروساوا، ولكنني لستُ بارعًا في مثل هذه النظريات. إن الرجل الجديد يصمت مذعنًا للسفينة المصنوعة حديثًا. ومن العجيب أنه يرتاح أكثر بالكتابة عن حياته الجديدة داخل السفينة المشرقة. ما رأيك أن أحكي لك مرةً أخرى عن الفتيات؟

٢

ألم تدافع في رسالتك بسخافة عن تاكي سان؟ إن كنت تحبها لهذه الدرجة فمن الأفضل أن ترسل رسالةً مباشرة لها. كلا، أفضل من ذلك، أن تقابلها. إن وجدت لديك وقتًا من الأفضل أن تأتي لزيارة صالة الألعاب هذه، ليس من أجل زيارتي ولكن لكي تقابل تاكي سان. لو قابلتها فسوف تتحرَّر من أوهامك؛ فعلى أي حال هي امرأة عظيمة جدًّا، بل إن قوة ذراعيها أقوى منك شخصيًّا. بناءً على رسالتك، فأنت لا ترى أية مشكلة في بكاء مابو، وترى أن قول تاكي سان «أنا أشعر بالقلق» حدث عظيم، ولكن حتى ذلك أنا أيضًا فكرتُ فيه. أليس قول «أنا أشعر بالقلق» تجاه مجيء مابو إلى مكاني، وقولها إنها تعاني ثم بكاؤها، دليلًا على تعمُّد تاكي سان؟ إن هذا يولِّد غرورًا أحمق داخليًّا، إلا أنني لا أشعر بذرة من ذلك. إن تاكي سان عظيمة بدنيًّا فقط بدون أي جاذبية. يجعلها العمل مشغولةً دائمًا، ولا يترك لها متسعًا للتفكير في شيء آخر. إنها مجرد فتاة متوترة من المسئولية الثقيلة لكونها رئيسة المساعِدات فتواجه العمل بكل شجاعة. وأعتقد أن تاكي سان وبَّخت مابو في الليلة السابقة، ثم سمعت تاكي سان من المساعِدات الأخريات أن مابو بكت بكآبة شديدة بسبب توبيخها لها، مما جعلها تفكِّر أن توبيخها كان أكثر قوةً ممَّا يجب، فندمتْ على ذلك «وشعرت بالقلق». ومع أنها في هذه الحالة تبدو بلا حنكة إلا أن ذلك صحي. لا شك في ذلك مطلقًا. إن المرأة في الأصل لا تفكِّر إلا في نفسها فقط؛ لذا الرجل الجديد لا يشعر بالغرور مطلقًا تجاه المرأة؛ هو غير محبوب منها، إنه صريح وبسيط.

لقد احمرَّ وجه تاكي سان وهي تقول: «أشعر بالقلق.» ولكن هذا معناه أنها قلقت بسبب توبيخها مابو، ثم انتبهتْ إلى أن ثمة صدًى مريبًا غير متوقع لتلك الكلمة التي قالتها فجأة، فاحمرَّ وجهها ولا أكثر من ذلك. إنه أمر في منتهى الملل. ثمة حقيقة هامة جدًّا يجب وضعها في الاعتبار من أجل حل كل هذا الوضع الغريب في ذلك اليوم؛ بكاء مابو، شعور تاكي سان بالقلق، مجاملتها لي بزيادة كمية الأرز. تلك الحقيقة هي موت إيتوكو ناروساوا. لقد ماتت ناروساوا في الليلة السابقة مباشرة، ويمكن بذلك فهم توبيخ مابو التي تضحك ضحك السكارى. إن المساعِدات فتيات شابات مثل إيتوكو ناروساوا. من المؤكد أن صدمتهن قوية. ولكن ما زال لدى الأنثى حتى الآن نوع من المشاعر البالية. يشعرن بالحيرة من الوحدة، فأدَّى ذلك إلى ظهور عاطفة غريبة بزيادة كمية الأرز لي على سبيل الإحسان. على أي حال، أنا أرى أن الحالة الغريبة للجميع في ذلك اليوم لها علاقة قوية بموت إيتوكو ناروساوا. وليس معناها مطلقًا أن مابو أو تاكي سان لديهما مشاعر تجاهي من أي نوع. أنا لا أمزح.

ما رأيك؟ هل فهمت؟ هل مع ذلك ما زلت تحب تاكي سان؟ حسنًا الحل أن تأتي لزيارة صالة الألعاب وتلقي نظرةً عليها في الطبيعة. إن مابو لديها مشاعر جديدة أكثر من تاكي سان، وهو ما أعده أنا أفضل، ولكن يبدو أنك تكره مابو كرهًا شديدًا. ما رأيك لو أعدتَ التفكير في الأمر؟ إن مابو لديها جوانب جيدة. أول أمس أظهرت لي مابو شيئًا من طبيعتها الجيدة جدًّا، ممَّا جعلني أصحِّح نظرتي عنها سريعًا، ولكن اليوم، سأؤجل الكلام عن ذلك للمرة القادمة، وأعتقد أنك أنت أيضًا ستحب مابو.

٣

أول أمس تقرَّر أخيرًا أن يغادر زميلي في الغرفة السيد نيشيواكي ذيل الحصان الصالة لأسباب خاصة بأسرته، وكان بالضبط ذلك اليوم يوم عطلة مابو الرسمية، وكان الطلاب يمازحونها بأنها وعدت ذيل الحصان أن تودعه حتى مدينة إيـ… أو يطلبون منها هدايا، فكان عليها ضغط من جميع الجهات، ولكنها كانت توافق بأريحية الجميع على طلباتهم وتقول لهم فهمت، فهمت، وفي الصباح الباكر من أمس الأول، ارتدت سروال موبيه مخططًا من مدينة كوروميه وذهبت في إثر السيد ذيل الحصان، ثم في الساعة الثالثة بعد الظهر وقد بدأنا تمارين الانحناء والتمدد، عادت وعلى وجهها ابتسامة مشرقة لا تناسب فتاةً عادت بعد وداع شخص عزيز عليها، ودارت على غرف الصالة واحدةً بعد أخرى توزع الهدايا التي وعدت بها الطلاب.

في هذا العصر الحالي وبسبب نقص الأيدي العاملة، خرجت بنات العائلات التي تعيش في مستوًى اجتماعي عالٍ إلى العمل، ويبدو أن مابو من هذه الطبقة الاجتماعية، والعمل بالنسبة إليها كالهواية، وربما بسبب كثرة الأموال في جيوبها فهي دائمًا كريمة، ويبدو أن هذا أيضًا أحد أسباب شعبيتها الكبيرة بين الطلاب؛ ففي ذلك الوقت كانت الهدايا شيء في منتهى الرفاهية. كانت الهدايا التي وزعتها عبارةً عن مرايا بأطوال متنوعة لا أدري كيف ومن أين حصلت عليها! ملصق عليها في الخلف صورة ممثلة سينمائية. كنا نحصل على مثل هذه الأشياء في الماضي كهدايا مجانية في محل الحلويات اليابانية التقليدية، ولكن حاليًّا تُباع وأسعارها ليست هينةً مطلقًا. ربما تكون ذهبت إلى محل حلويات أو محل هدايا واشترت منها عشرات القطع، ولكن على كل حال كانت فكرة تلك الهدايا تدل فعلًا على شخصية مابو. وبدا أن طلاب الصالة قد أُعجِبوا إعجابًا شديدًا بصور الممثلات التي على ظهر المرايا، فحدثت ضجة كبرى. وحصل كابُّوريه كذلك على واحدة منها. أما أنا ففي الأصل أكره أن أتلقى شيئًا من امرأة؛ ولذا لم أطلب منها هدية، بالإضافة إلى اعتقادي أن حملي جميلًا بأخذ مرآة جيب مثل الجميع أمر سخيف وملل، فجاءت مابو إلى غرفتنا وسلمت كابُّوريه المرآة.

– هل تعرف يا سيد كابُّوريه تلك الممثلة؟

– لا أعرفها، ولكنها جميلة. إنها تشبك تمامًا.

– أوه، ماذا تقول! إنها دانيال داريو.

– ماذا؟ أمريكية؟

– لا بل فرنسية. شهرتها في طوكيو مؤخرًا كبيرة. ألَا تعرفها؟

– بلى، لا أعرفها. سواء فرنسا أو غيرها في كل الأحوال سأعيدها لك؛ فالأجانب مملون. ألَا تغيِّريها لي بصورة لممثلة يابانية؟ لو أمكن فهذه هي أمنيتي. يمكن أن تعطي هذه للسيد هيباري كوشيبا الذي هناك.

– أنت مرفَّه! إنني أعطيها لك أنت خاصة. أرفض أن أعطيها لهيباري؛ أرفض لأنه مشاكس!

– حقًّا؟ إذن سأقبلها على أي حال. دانيـ…

– اسمها دانيال. دانيال داريو.

كنتُ أواصل تمارين الانحناء والتمدد بلا كلل أو ملل وأنا أسمع هذا الحوار بينهما، ولكن لم يكن الأمر ممتعًا بالنسبة لي. ألهذه الدرجة تكرهني مابو؟ بالتأكيد لم أكن أظن أنها تحبني، ولكنني لم أتوقع قط أنها تكرهني، تكرهني أنا فقط، كل هذه الكراهية. مهما كنتُ أظن أنني وضعت نفسي في أقل موضع، أجد أن القاع ما زال تحته قاع آخر. في النهاية يعيش البشر في سكرة من أوهام الذات. قلتُ لنفسي إن الواقع قاسٍ وشاق. تُرى ما الخطأ الذي فعلته؟ وفكَّرت أن أسأل مابو بجدية هذا السؤال في المرة القادمة، وجاءت الفرصة بأسرع ممَّا كنتُ أتوقع.

٤

في نفس اليوم الساعة الرابعة، في وقت الطبيعة، كنتُ أجلس على سريري أنظر خارج النافذة في شرود، فظهرت مابو بعد أن بدَّلت زي الممرضات الأبيض في الحديقة فجأةً حاملةً الغسيل، فوقفتُ دون وعي، وأخرجتُ نصفي الأعلى من النافذة وناديتُ عليها بصوت خافت: يا مابو!

التفتت مابو ناحيتي ونظرت لي ضاحكة. فجرَّبت أن أسألها: ألن تعطيني هدية؟

لم تجب مابو على الفور، بل نظرت حولها في الجهات الأربعة نظرات سريعة. كانت تبدو أنها تتأكد من عدم وجود أحد يراها. كانت الصالة في ذلك الوقت في حالة سكون تام. يسود الصمت على المكان. ابتسمت مابو بملامح متشنجة، ثم وضعت كفها على فمها بالعرض، ثم فتحت فمها باتساع، ثم بوَّزت فمها وسحبت ذقنها للخلف، ثم فتحت فمها نصف فتحة ثم أومأت موافِقة، ثم فتحت فمها بثلثَي اتساعه، ثم مرةً أخرى أومأت بالموافقة. بمعنى أنها كانت تُرسل إشارةً صوتية من خلال شكل فمها فقط دون أن يخرج من فمها أي صوت. فهمتُ على الفور. كانت تقول: ﻓ… يـ… مـ…ـا ﺑ… عـ… د!

فهمتُ على الفور ولكنني تعمدتُ أن أقلِّدها بنفس حركات فمها وأعيد لها السؤال: ﻓ… يـ… مـ…ـا ﺑ… عـ… د!

كررتْ نفس الحركات وهي تضع فاصلًا بين كل حرف وحرف وترسل الإشارة الصوتية وهي تهز رأسها بظرف كبير مثل الأطفال، ثم هزَّت كفها التي كانت تضعها على فمها بالعرض هزات خفيفةً وكأنها تقول سر، سر، ثم هزَّت كتفها برشاقة وهي تضحك ثم جرت بخطوات وئيدة إلى العنبر المنفصل.

همستُ لنفسي: فيما بعد! الولادة أسهل من التفكير فيها!١ ورميت نفسي على سريري متدحرجًا عليه. لا أعتقد أن ثمة ضرورةً لشرح مقدار سعادتي، وسوف أترك كل شيء لتقديرك.

ثم ليلة أمس في وقت التدليك، تسلَّمت من مابو تلك الهدية التي قالت عنها «فيما بعد». منذ صباح أمس، كانت مابو كأنها تخفي شيئًا تحت مريولها، وتتسكع في الردهة بما يعني شيئًا، وفكرتُ أن ربما تكون هديتي مخبأةً تحت ذلك المريول، ولكن شعرتُ أن الاقتحام عليها من نفسي بصفاقة وقول «ماذا حدث؟» سيكون موقفًا في منتهى الخزي؛ ولذا تظاهرتُ بعدم ملاحظة شيء. ولكن كما توقعت كانت تلك هي هديتي.

في وقت التدليك الساعة السابعة والنصف ليلة أمس، كان الدور على مابو بعد غياب أسبوع تقريبًا لكي تدلكني، فحملت مابو الطست المعدني، وأخفت يدها اليمنى تحت المريول التي بها هديتي، جاءت وهي تبتسم ابتسامةً ذات مغزًى، ثم انحنت بجانب السرير وهي تقول: لأنك لا تأتي لتأخذها يا مشاكس! منذ الصباح أنتظرك تأتي للردهة عدة مرات.

ثم فتحت أحد أدراج السرير وبسرعة وضعت داخله الهدية من تحت مريولها ثم أغلقت الدرج غلقًا محكمًا وأضافت: لا تقل لأحد! لا تقل لكائن من كان!

أومأتُ لها مرتين أو ثلاث مرات وأنا نائم كما أنا على سريري، فبدأت في عمل التدليك.

– مرت فترة على عملي لك تدليكًا في آخر مرة يا هيباري. دورك لا يأتي لي بسهولة؛ ولذا لم أدرِ ماذا أفعل حتى عندما كنت أريد أن أعطيك الهدية.

وضعتُ يدي على عنقي وتظاهرتُ بربطها وأنا أسألها سؤالًا صامتًا بما معناه رابطة عنق، فمطَّت شفتها السفلى لكي تنفي ذلك قائلةً وهي تضحك «لا»، ثم همست قائلة: «أحمق!»

في الواقع أنا أحمق فعلًا. تُرى لِم فكرت في رابطة عنق وأنا أصلًا لا أملك بذلة؟ أنا نفسي اندهشت من نفسي! ولكن ربما قادتني مرآة الجيب الصغيرة تلك إلى التفكير في رابطة العنق.

٥

ثم جرَّبت أن أسألها بما معناه قلم حبر، وأنا أتظاهر بالكتابة بيدي اليمنى. في الواقع إنني رجل أناني؛ فيبدو أن رغبة الحصول على قلم حبر جديد كانت كامنةً في عقلي الباطن بسبب أن قلمي الحالي ساءت حالته مؤخرًا، وظهرت فجأةً وقتها. لقد أحسستُ داخلي بالامتعاض من وقاحتي.

وكما توقَّعت هزَّت مابو عنقها أفقيًّا بالنفي قائلة: «كلا.» ولم أعد أستطيع التخمين مجددًا.

– ربما تكون الهدية متواضعة، ولكن أرجو منك ألَّا تتنازل عنها لأحد. كانت هي الوحيدة المتبقية في المحل، وزينتها كذلك ليست فاخرة، ولكن أرجو أن تحملها عند خروجك من هنا؛ فأنت يا هيباري رجل أنيق ومن المؤكَّد أنك ستحتاجها.

لم أفهم شيئًا حتى النهاية، فقلت وأنا أبدِّل وضعية نومي: شكرًا لك على كل الأحوال.

– ماذا تقول؟ يا لك من طفل شارد الذهن! عالج نفسك سريعًا واخرج من هنا!

– لا شأن لك بذلك، بل سأظل هنا حتى الموت!

‏– ماذا؟! لا تقل ذلك! فهناك من سيبكي عليك.

– أنتِ؟

– مغرور، أنا لن أبكي، من المستحيل أن أبكي!

– أنا أيضًا أعتقد ذلك.

– حتى إن لم أبكِ أنا، هناك كثيرات سيبكين.

ثم فكرتْ لحظة وأكملت: ثلاثة، كلا بل أربعة؟

– لا معنى من البكاء.

قالت بعناد: بل ثمة معنًى.

ثم قربتْ فمها من أذني وأضافت: تاكي سان، والسمكة الذهبية وبصلة وحمى الشيطان.

كانت تعد كل واحدة منهن على أصابع يديها اليسرى، ثم ضحكتْ عاليًا وهي تقول: يا فرحتي!

فقلت وأنا أضحك: هل حمى الشيطان تبكي؟

في تلك الليلة كان التدليك ممتعًا؛ فلم أعد كما كنتُ سابقًا أتخشَّب تجاه مابو، وشعرتُ كأنني أنظر على الجميع من ربوة عالية، واستطعت المزاح معها بحرية، وربما كان كل ذلك بسبب أنني تخلَّيت تمامًا خلال مدة نصف الشهر الفائت عن رغبتي الخانقة في أن تحبني مابو، وقضيت وقتًا ممتعًا بلا أي عائق في القلب لدرجة أدهشتني أنا شخصيًّا. أن تُحِب أو تُحَب، أمر يشبه أوراق الشجر التي تُحدث ضوضاء مع ريح شهر مايو. ما من أي تعلُّق بالذات. لقد قفز الرجل الجديد مجدَّدا قفزةً أخرى.

انتهى التدليك في تلك الليلة، وفي وقت التقارير، وأنا أستمع من خلال مكبرات الصوت إلى الأنباء تقول إن جيش الاحتلال الأمريكي سيدخل أخيرًا هذا الإقليم، بحثتُ في أدراج سريري وأخرجت هدية مابو، وفككت لفافتها.

لفة صغيرة مربعة الشكل بطول عشرة سنتيمترات لكل ضلع، وبداخلها علبة لحفظ السجائر، وبذلك فهمت كلمتها الغامضة التي قالتها منذ قليل: «أرجو أن تحملها عند خروجك من هنا؛ فأنت يا هيباري رجل أنيق ومن المؤكد أنك ستحتاجها.»

أخرجتها من الصندوق وأثناء تقليبها وفحصي لها شعرت نوعًا ما بحزن شديد. لم أكن سعيدًا، ولا يبدو أن ذلك بسبب نشرة الأخبار السيئة فقط.

٦

كانت علبة مستوية ذهبية اللون مصنوعة من معدن يشبه الكروم يستخدم في صناعة سكاكين قطع الكعك، المسمى ستانلس ستيل! وعلى الغطاء تصميم بخيوط سوداء رفيعة متشابكة تشبه تصميمات أغصان الورد، وصُبغت حواف ذلك الغطاء بمادة تشبه الميلامين لونها أحمر غامق. ربما كان عدم وجود الميلامين أفضل؛ فبسبب وجود تلك الزينة غير الضرورية من الميلامين جعل العلبة كما قالت مابو متواضعة، وكذلك جعلها ليست فاخرة. ولكن في كل الأحوال يجب عليَّ الاحتفاظ بها بعناية ما دامت مابو هي التي اشترتها خصوصًا لي.

ولكنني كنتُ غير سعيدة لسبب مجهول. من غير اللائق قول ذلك تجاه هدية أُهديت لي ولكنني لا أشعر بأي فرحة على الإطلاق. كانت تلك هي التجربة الأولى في أخذ هدية من امرأة غريبة، ولكنه في الواقع شعور سيئ يجعل الصدر ضيقًا حرجًا بدرجة مريبة. أمر يترك بعده مذاقًا رديئًا جدًّا. أخفيت العلبة في أعمق مكان من قاع من الدرج. أريد أن أنسى ذلك الأمر سريعًا.

إن تلك العلبة بالنسبة لي صعب التعامل معها تجعلني لا أنطق بكلمة، إلا أنني أردت من خلالها أن أبين لك ولو قليلًا، كم هي جيدة مابو. وكان ذلك هو سبب كتابتي لك هذه الرسالة لأعلامك بما حدث. ما رأيك؟ هل تحسَّنت نظرتك عن مابو قليلًا؟ أم ما زلت تفضِّل تاكي سان؟ أرجو منك أن تُسمعني انطباعك.

لقد انتقل اليوم الخبز الجاف من غرفة «البجع» المجاورة إلى سرير ذيل الحصان الذي فرغ. اسمه غورو سوناغاوا وعمره ستة وعشرون عامًا. وسمعتُ أنه كان طالبًا في كلية القانون، وهو ذو شعبية لا بأس بها. بشرته خمرية وحاجباه عريضان وعيناه جاحظتان يضع عليهما نظارة نظر بعدستين مستديرتين، له أنف نسرية، لا يعطي انطباعًا حسنًا، ومع ذلك، سمعت أن المساعِدات جميعهن يهمن به ويصخبن حوله. يبدو أن الرجل كلما كان مكروهًا من الرجال أحبَّته النساء أكثر. من خلال ظهور الخبز الجاف، بات هواء غرفة الكرز معكَّرا كئيبًا بدرجة مريبة. كان كابُّوريه يكره الخبز الجاف بالفعل. وجَّهت المساعِدات أسئلةً عديدة إلى الخبز الجاف عن اللغة الإنجليزية قبل وجبة العشاء وأثناء التدليك: أرجوك علِّمني! كيف أقول عذرًا! باللغة الإنجليزية؟

قال الخبز الجاف بتصنُّع مقيت: أي بيغ يور باردون!

– صعب عليَّ حفظ ذلك. أمَا من طريقة أسهل؟

قال بتصنُّع أكثر: فيري سوري!

فقالت مساعِدة أخرى: ليس هذا ما أود قوله. أريد أن أقول: أرجوك اهتم بنفسك وصحتك. كيف يمكن قول ذلك؟

– بليز تيكِّير أوف يور سلف.

نطق كلمة take care هكذا: تيكِّير، بمنتهى التكلف والغرور.

ومع ذلك كانت المساعِدات تسمع ذلك في انبهار شديد وإعجاب. ويبدو أن كابُّوريه انزعج من لغة الخبز الجاف الإنجليزية أكثر مني، فغنَّى لي بصوت هامس أغنية دودويتسو إياها التي يفخر بها.

«في النهاية دكتور أو وزير، أما الطالب فمفلس بلا مال».

غنَّى ما يشبه هذا المعنى، في كل الأحوال كان في حالة ارتباك وهو يحاول أن يكبح جماح الخبز الجاف.

إنني على كل حال في صحة جيدة. واليوم عند الوزن زاد بمقدار كيلوغرام ونصف الكيلو. تحسُّن مؤكد!

٩ سبتمبر
١  مَثَل ياباني قديم معناه أن حدوث الأمور يكون أخف وطأةً ممَّا قد يفكر فيه المرء، مثل الولادة التي ترى الأم أنها ستكون صعبةً وعويصة، ولكنها تمر على خير وبسهولة أكثر مما كانت تتوقع. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤