اختبار

١

يبدو أن رسالة ذيل الحصان أول أمس سحقتني وجعلت القلم يرتعش في يدي فلم أستطع الكتابة، فجاءت رسالتي إليك مبتورة الذيل مثل اليعسوب الجريح. أعتذر لك عن ذلك. يومها جلست مذهولًا بعد قراءتي للرسالة في أعقاب وجبة العشاء، فإذا بوجه مابو يختلس النظر من نافذة الردهة، وعلى ملامحه نظرة عين كأنها تسأل سؤالًا صامتًا: «هل قرأتها؟» فأومأتُ لها إيماءةً سريعة، وعندها أومأتْ مابو إيماءةً كبيرة في جدية. يبدو أنها مهتمة بتلك الرسالة اهتمامًا شديدًا، وشعرت وقتها بسخط عارم وغريب، وقلت لنفسي إن نيشيواكي مذنب، ثم شعرت أن مابو جذابة جاذبيةً لا تُحتمل، ويجب أن أعترف أنني شعرت بعدها أن مابو تزيَّنت بجاذبية جديدة زاهية؛ أي إنني لم أعد ذلك الرجل البليد المشاعر. في غفلة من الزمن بتُّ هكذا. يبدو أن العيب على الخريف. مفهوم أن الخريف فصل الحزن. عزيزي لا يجب أن تضحك؛ فأنا جاد.

لأخبرك بكل شيء. في اليوم التالي ليوم التنظيف الكبير، ظهرت مابو فجأةً أمام باب الغرفة حاملةً الطست المعدني في وقت التدليك الساعة الثامنة صباحًا، ثم أتت مباشرةً إلى سريري بملامح وجه تحاول كتم الابتسامة، ولأنني لم أكن أتوقَّع أن يأتي دورها في تدليكي بهذه السرعة بلا وعي تقريبا قلت لها بصوت خافت: جيد جدًّا.

لقد كنتُ سعيدًا.

ولكن أجابت مابو منزعجة: تقول ذلك بلا تفكير.

ثم بدأت حك جلدي بسرعة وأكملت: اليوم دور تاكي سان، ولكن ظهر عمل عاجل يجب أن تقوم به، فجئتُ أنا بديلةً عنها. هل أزعجك ذلك؟

نبرة صوتها حيادية تمامًا. لم يُعجبني ما قالت فالتزمتُ الصمت ولم أُجب، وكذلك صمتت هي، وتدريجيًّا بدأتُ أختنق وأتألَّم. في بداية مجيئي لهذه الصالة سبق لي خوض معاناة بسبب التوتر الغريب الذي كان يُصيبني عندما كانت مابو تدلِّكني، عادت للحياة مجدَّدًا حالة التوتر تلك ولم أقدر على تحمُّل المعاناة. ثم انتهى التدليك، فقلتُ بصوت ناعس: أشكرك.

فهمست مابو بصوت خافت ولكنه حاد: أعد لي الرسالة.

فقلت لها بوجه عابس وأنا نائم على ظهري: في درج السرير.

من الواضح أنني سيئ المزاج.

– لا داعي. بعد انتهاء وجبة الغداء، تعالَ إلى دورة المياه، وأعِدها لي وقتها.

ألقت بذلك القول دون انتظار الرد وغادرت سريعًا.

كانت غير ودية لدرجة عجيبة. بمجرد أن أُعاملها بلطف بسيط، تتحوَّل هكذا على الفور إلى عقرباء تبث السموم. لا بأس، إن كان الأمر كذلك فلديَّ خطتي. لسوف أرد لها الصاع صاعين بلا رحمة ولا شفقة. حسمت أمري وانتظرت مجيء راحة الغداء.

أحضرت تاكي سان وجبة الغداء. وفي ركن الآنية وُضعت دمية صغيرة مصنوعة يدويًّا من الخيزران. رفعت وجهي وسألت تاكي سان عبر نظراتي «ما هذا؟» قضَّبت تاكي سان وجهها وأشارت لي بانزعاج ألَّا أخبر أحدًا. أومأتُ لها بوجه كئيب، ولم أفهم شيئًا.

٢

قالت تاكي سان بصوت طبيعي: لقد ذهبت اليوم إلى المدينة في أمر يخص العمل.

– هدية؟

لسبب مجهول كانت طريقة سؤالي تبدو بمشاعر فاقدة الأمل وبلا حيوية.

– أليست جميلة؟ دمية ابنة فوجي. خبِّئها بسرعة.

قالت ذلك بنبرة أخت كبرى توجِّه أخيها الأصغر ثم رحلت.

وبقيتُ خاوي المشاعر. لم أشعر بأي قدر من السرور. كان ذلك من بعد أن جددتُ مشاعري ليلة أمس، وأنني يجب أن أتأثر ببراءة للمشاعر الطيبة التي يُبديها الآخرون لي، ولكنني لسبب مجهول، لم أشعر بالشكر لمشاعر تاكي سان الطيبة تجاهي، وهي المشاعر التي ظَلِلت أحملها منذ الوقت الذي جئتُ فيه إلى هذه الصالة، والتي من الصعب تحريكها الآن بعد كل هذا الوقت. تاكي سان رئيسة المساعِدات، وهي امرأة عظيمة موضع ثقة الجميع في الصالة؛ ولذا يجب أن تكون أكثر حصافة. إنها تختلف عن فتاة مثل مابو؛ فلا يجب أن تشتري مثل هذه الدمية السخيفة وتقول لي ابنة فوجي أليست جميلة؟

وأنا أتناول الطعام، داومت النظر بتمعُّن إلى تلك الدمية المدعوة ابنة فوجي المصنوعة من الخيزران والتي يبلغ طولها بوصتين فقط في ركن آنية الطعام، ولكن كلما نظرت أكثر تأكَّدتُ أنها دمية رديئة، سيئة الذوق نوعًا ما. لا شك أنها كانت بضاعةً متروكة فوق رف محل محطة القطار حتى علتها الأتربة. يكون الشخص اللبق غير ماهر بالضرورة في الشراء، ويبدو أن تاكي سان ليست استثناءً من هذه القاعدة. إن مابو التي بها خصلات فتاة منحرفة قليلًا تشتري بضائع أكثر ألمعية. أمر لا حيلة في اليد منه. احترتُ في التعامل مع دمية الخيزران، لدرجة أنني فكَّرت في إتلافها ورميها، ولكنني كنت قد قرَّرت في اليوم السابق مباشرةً ذلك القرار الذي يستحق الثناء أنه يجب عليَّ مراعاة الكبرياء الصغيرة التي في حجم زهرة بنفسج؛ ولذا قرَّرت بمشاعر مكتئبة أن أضع تلك الهدية في درج سريري موقتًا. ولكن يجب أن أتوقف عن الكتابة أكثر من ذلك بخصوص تاكي سان حتى لا أزيدك اشتعالًا. حسنًا بعد وجبة الغداء في ذلك اليوم، ذهبت إلى دورة المياه حسب توجيه مابو. كانت تستند بظهرها تمامًا على أعمق جدار في دورة المياه وتقف متجهةً ناحيتي تضحك ضحكات مكتومة، فشعرتُ بتعكر مزاجي.

– أنت تفعلين ذلك من وقت لآخر أليس كذلك؟

خرجت تلك الكلمة غير المتوقعة من فمي.

– إيه؟ لماذا؟

نظرتْ إلى وجهي عاليًا بعينين واسعتين وهي تبتسم ابتسامةً خافتة، فشعرتُ بأشعة ساطعة.

– تستدعين الطلاب إلى هنا …

جذبتُ تلك الكلمة عنوةً ولكنني فكَّرت أنها في منتهى البذاءة فغمغمت آخرها.

– حقًّا؟! إن كان الأمر كذلك فلنتوقف.

قالت ذلك ببساطة، ثم لوت جسمها للأمام وكأنها انحناءة وبدأت في السير.

– لقد أحضرتُ الرسالة.

مددتُ لها الرسالة.

– شكرًا.

أخذتها بدون أي أثر للابتسام على وجهها وأكملتْ: أنت يا هيباري لا نفع منك.

– لا نفع مني؟ لِم؟

بتُّ أنا المتلقي.

– تظن أنني بهذه الشكل.

ثم نظرت مباشرةً إلى وجهي بوجه أزرق شاحب وأضافت: ألَا تشعر بالخجل؟

– بلى، أشعر بالخجل.

خلعتُ خوذة قتالي ببساطة وقلت: إنها الغيرة.

ضحكتْ مابو فلمعت سنتها الذهبية.

٣

– لقد قرأتُ تلك الرسالة.

كنتُ أنوي أن أنتقدها بشدة، ولكن إعطاء تاكي سان تلك الهدية السخيفة المسماة ابنة فوجي، بات عقبة، بل لقد شعرت بالخجل تجاه مابو، فلم يرتفع حماسي، وجئت إلى دورة المياه بمشاعر تقترب من الاكتئاب، فكانت مابو في منتهى السحر والجاذبية، فأشعلت مشاعر الغيرة التي يجب أن يخجل منها الرجل، فبلا وعي تلفَّظتُ بما لا يجب أن أقوله بتاتًا، وعلى الفور اكتشفت مابو مشاعري وغدوتُ الآن تقريبًا بلا نفع.

– لقد قرأتها بأكملها. كانت ممتعة. إن ذيل الحصان إنسان طيب القلب حقًّا. لقد أحببته.

كان كلامي هذا تقليديًّا ضحلًا بلا مشاعر حقيقية.

– ولكنني لم أتوقع مثل تلك الرسالة.

بسطت مابو الأوراق وعوجت رقبتها وكأنها تفحصها.

– أجل. أنا كذلك وجدتها غير متوقعة قليلًا.

في حالتي أنا كانت غير متوقعة في درجة الرداءة الشديدة تلك.

– لم تكن متوقعةً مطلقًا.

يبدو أنها شيء هام جدًّا بالنسبة لها.

– ولكنك أنت أيضًا أرسلت له رسالة، أليس كذلك؟

مرةً أخرى قلت ما لا داعي لقوله وشعرت بقشعريرة.

ولكنها اعترفت ببساطة: بلى، أرسلت له.

شعرت فجأةً بالاستياء من هذا الموضوع.

– أي إنكِ من أغوته. يبدو أنك فتاة منحرفة. إن هذا ما يُطلق عليه غباء. ما يوصف بالضحالة، وهو يُسمى أيضًا التفاهة، ويدعى كذلك الحماقة. أليس هذا الذي فعلتِه مريعًا؟

هكذا هجوتها بكل طاقتي، ولكن مابو هذه المرة ضحكت ضحكًا صاخبًا ناهيك عن أن تغضب.

اسمعيني بجدية. خاصةً أن ذيل الحصان له زوجة، الأمر ليس مضحكًا.

– ولهذا أرسلت إلى زوجته رسالة شكر. عندما غادر ذيل الحصان الصالة، ذهبتُ أنا في وداعه حتى محطة القطار، ووقتها أهدتني زوجته زوجًا من جورب التابي الأبيض، فأرسلتُ لزوجته رسالة شكر.

– هذا فقط؟

– بالطبع هذا فقط.

– ما هذا؟

اعتدل مزاجي الذي كان سيئًا وقلت: هل كان الأمر هذا فقط؟

– أجل. ومع ذلك أرسل لي تلك الرسالة، فشعرتُ باستياء شديد وعذاب النفس.

– لا داعي من عذاب النفس؛ فأنتِ تحبين ذيل الحصان حقًّا، أليس كذلك؟

– بلى، أحبه.

– ما هذا؟

مرةً أخرى شعرت بالاستياء وقلت: أنتِ تعاملينني على أنني غبي. الأمر ممل. أليس حب رجل متزوج، حبًّا بلا طائل؟ فلقد بدا أنهما زوجان متحابان.

– أجل، ولكن أليس إذا أحببتك يا هيباري فالأمر كذلك بلا طائل؟

– ماذا تقولين؟ أنت تغيِّرين مجرى الحديث.

أخيرا تعكَّر مزاجي فأضفت: أنتِ غير جادة، وأنا لا أطلب منك أن تحبيني.

– غبي! غبي! أنت لا تعرف شيئًا يا هيباري. هيباري لا يعرف شيئًا ومع ذلك …

توقَّفت في منتصف حديثها والتفتت للخلف وبدأت تبكي بعنف، ثم وقد تلوَّى جسدها هذه المرة فعلًا وقالت بقوة وحسم: اغرب عن وجهي الآن!

٤

احترتُ في كيفية التصرُّف هل أرحل أم أبقى، وأثناء سيري داخل دورة المياه وأنا أزم فمي للأمام، شعرتُ فجأةً بالرغبة في البكاء معها.

– يا مابو.

كان صوتي هذا الذي يناديها مرتعشًا.

هل حقًّا تحبين ذيل الحصان؟ حتى أنا، أحبه؛ فهو رجل رحيم وطيب القلب، وأرى أنه لا استحالة في أن تحبيه. ابكي، ابكي، ابكي حتى تكتفين من البكاء، وأنا أيضًا سأبكي معك.

تُرى لِم قلتُ مثل هذا القول المغرور؟ عندما أفكِّر في ذلك الآن أشعر وكأنه حلم. لقد رغبتُ في البكاء، ولكن سخنتْ أطراف عينَي فقط ولم تذرف دمعة واحدة، ثم نظرتُ بعينَي الواسعتين من النافذة صامتًا إلى شجرة الجنكو في ملعب التنس التي بدأت أوراقها تتلون باللون الأصفر.

– أسرع.

في غفلة من الزمن كانت مابو تقف بجواري في هدوء وقالت بنبرة هادئة ومستكينة بدرجة تثير الامتعاض: ارجع إلى غرفتك. سيسوء الوضع لو رآنا أحد.

– لا مانع من أن يرانا أحد؛ فنحن لا نفعل شيئًا سيئًا.

قلتُ ذلك وأنا أشعر بقلبي يرقص بطريقة مريبة.

– أنت يا هيباري بليد المشاعر!

ثم وقفت بجواري في دورة المياه تتأمل ملعب التنس من النافذة، وقالت وكأنها تحدِّث نفسها: لقد تغيَّرت هذه الصالة منذ أن جئتَ إليها يا هيباري. أنت لا تعرف شيئًا أليس كذلك؟ لقد سمعتُ أن والدك إنسان عظيم. لقد قال مدير الصالة في أحد الأوقات إنه عالم مشهور عالميًّا.

– مشهور عالميًّا لأنه فقير.

شعرتُ بوحدة فظيعة؛ فأنا لم أقابل أبي منذ شهرين كاملَين. تُرى هل ما زال يمخط أنفه مُصدِرًا صوتًا عاليًا لدرجة اهتزاز الأبواب الورقية؟

– أنت سليل نسب عريق يا هيباري. بعد أن جئتَ تحوَّلت الصالة إلى مكان مشرق حقًّا. تغيَّرت مشاعر الجميع، وقالت تاكي سان إنها لم يسبق لها أن رأت فتًى بهذه الروعة. إن تاكي سان من النادر أن تتحدَّث عن أحد ولكنها تهيم بك يا هيباري. ليست تاكي سان فقط، بل السمكة الذهبية وبصلة والجميع كلهن، ولكنهن يحترسن فلا يقتربن منك يا هيباري لكيلا ينتبه باقي الطلاب ويشرعون في نشر الشائعات ممَّا يتسبَّب في إزعاجك.

ابتسمتُ ابتسامةً مريرة وفكَّرت أنها مشاعر تتسم بالبخل.

– إن هذا ما يُسمى التجنب والابتعاد. هذا ليس حبًّا.

– ماذا؟ لا تقل ذلك.

ضربتني مايو على ظهري، ثم تركت يدها تلك على ظهري برفق وأضافت: ولكنني أختلف عنهن. أنا لا أُكن لك يا هيباري أي قدر من الحب؛ ولذلك لا مانع لديَّ من الحديث معك هكذا بمفردنا. أرجو ألَّا تسيء الفهم. إنني …

ابتعدتُ عن مابو بهدوء وقلتُ: أنت أقصى ما تستطيعين هو تبادل الرسائل مع ذيل الحصان. سأتحدث بصراحة، لقد ذُهلت من رداءة رسالته.

– أعرف. لقد جعلتك تقرؤها لأنها رديئة. لو كانت رسالةً جيدة، من الذي يُريها لك؟ إنني لا أعبأ مطلقًا لأمر ذيل الحصان. إنني لا أستخف به مطلقًا.

بدأت كلماتها وهيئتها تتخذ منحى البذاءة والسفور.

– إنني لم أعد أنفع. أنت لا تعرف أليس كذلك؟ لا تنتبه لأنك متبلد المشاعر. الجميع يقولون إننا على علاقة جيدة ببعضنا البعض. ماذا ستفعل؟ ألَا تمانع في أن يقال عنك ذلك؟

ثم خفضت وجهها وأبرزت كتفها اليمنى ودفعت بكتفها كتفي دفعًا شديدًا وهي تضحك بصوت عالٍ.

٥

قلتُ لها: توقفي! توقفي!

حتى في مثل هذا الوقت لا أجد كلمةً أخرى غير هذه! قلتُ لنفسي لقد بات الأمر مهولًا.

– لم تُجِب، ما رأيك؟ ستكون في مأزق؟ هل تريد أن تضعني في موقف مُخجل أكثر من ذلك؟ في الليلة الماضية القمر كان مضيئًا بشدة ولم أستطِع النوم، فخرجتُ إلى الحديقة، ثم فتحتُ الستارة التي بجوار وسادتك يا هيباري فتحةً صغيرة، واختلستُ النظر عليك. هل تعرف؟ إنك تنام وأنت تضحك ووجهك مضاء بأشعة القمر. يا له من وجه جميل! وجهك وأنت نائم. هيباري! ماذا أنت فاعل؟

– مستحيل. مبدئيًّا مستحيل. إنني في العشرين من عمري. هذا يضعني في مأزق. انتبهي ثمة شخص قادم!

سمعتُ صوت خف قادمًا في اتجاه دورة المياه.

ابتعدت مابو عني ورفعت وجهها ومشطت شعرها لأعلى بيدها، ثم ضحكت بصوت عالٍ. كان وجهها أحمر شديد الاحمرار وكأنها خرجت لتوها من الحمام.

– وقت المحاضرة، سأرحل. أكره فعل شيء مهمل مثل التأخر عن الوقت.

خرجتُ من دورة المياه جريًا، وفي نفس اللحظة قالت مابو بصوت رفيع: إياك أن تحسن علاقتك مع تاكي سان!

كان هذا الصوت هو أكثر ما تغلغل في قلبي.

من المؤكد أن العيب على فصل الخريف.

رجعت إلى غرفتي، ولم تكن المحاضرة قد بدأت، وكان كابُّوريه منقلبًا فوق سريره يغنِّي أغنية دودويتسو. كانت أغنيةً أسمعني إياها مرات عديدةً وتتكلَّم عن حشائش الطرقات التي تُبعث من جديد مع ندى الصباح مهما وطئ عليها البشر. وفي ذلك الوقت بالذات كانت غريبةً جدًّا فلم أشعر تجاهها بالانزعاج الصامت مثل كل مرة؛ لأنني سمعتها طائعًا وأنا أُصغي إليها أذني. ربما ضعفت روحي المعنوية.

أخيرًا بدأت المحاضرة وموضوعها عن تبادل العلاقات الحضارية بين الصين واليابان، وشرح لنا طبيب شاب يُسمَّى أوكاموتو شرحًا سهل الفهم مركِّزًا على تبادل العلاقات في العلوم الطبية معطيًا أدلةً واقعية واضحة ومحددة من قديم الزمان. قال إن كلًّا من الصين واليابان تقدَّمتا من خلال تعليم كلٍّ منهما للأخرى بالتبادل. وهو ما جعلني أومئ موافقًا وكان ثمة العديد من الأمور التي جعلتني أُمعِن التفكير فيها، ولكن مع ذلك كان سري اليوم يشغل تفكيري مهما فعلت، وكنت أتمنى من كل قلبي نسيان كل ما يتعلق بمابو وأعود سريعًا إلى ما كنت عليه من قبل؛ طالبًا نموذجيًّا خاليًا تمامًا من الهموم.

إن العيب كله على مابو تلك. كنتُ أظن أنها فتاة أكثر حكمةً من ذلك، ولكنها كانت فتاةً حمقاء على خلاف ما توقَّعت. لقد أظهرتْ منذ قليل العديد من الإيحاءات المرتبكة، ولكن حتى أنا أعلم أنها بلا معنى؛ فأنا لا أملك غرورًا غبيًّا بنفسي. إن مابو لا تفكِّر إلا في نفسها دائمًا؛ فالمشكلة ليست أنا ولا ذيل الحصان، ولكنها فقط سَكْرى من جمالها وتعاستها. تتظاهر بالبراءة، ولكن لسبب ما لديها اعتداد شديد بالنفس يرفض الهزيمة من الآخرين، ثم في نفس الوقت لديها طمع شنيع؛ فحتى أنا أستطيع اكتشاف خدعها.

٦

ألم تكن مابو كما هو متوقع ترغب في التفاخر عندما جعلتني مابو أقرأ رسالة ذيل الحصان تلك؟ ولكن على العكس من ذلك عندما شعرت مابو بحساسيتها أنني أرى أن تلك الرسالة غبية جدًّا، فما من شك أن نتيجة ذلك أنها غيَّرت على الفور من سلوكها فأخذت تبكي تارةً وتدفعني تارةً أخرى ويجري على لسانها ما لم تكن تفكِّر فيه؛ فليس الأمر مجرد كبرياء صغيرة في حجم زهرة بنفسج، بل إن تلك الفتاة تملك عزة نفس عاليةً وكأنها ملكة، لا يمكنني مراعاته بأي حال. لقد قالت إن الجميع يتكلَّمون ويسخرون من علاقتي الطيبة معها! يا للغباء! فحتى هذه اللحظة لم يسبق أن سخر أحد مني بسبب علاقتي مع مابو. إنها هي التي تثير ضجةً بمفردها. إن تربية مابو تربية مقزِّزة في أصلها ليس بها أي حشمة. ربما صدق قول إتشيغو إن العيب على والدتها السيئة. كلما فكَّرت بهدوء، زاد غضبي. وفكَّرت أن مابو ليس لديها مؤهِّل لتكون مساعِدةً في صالة الألعاب؛ فصالة الألعاب مكان مقدس، مكان يجتهد الجميع في التدريب صباحَ مساء، يرغبون من كل قلوبهم في التغلب على مرض السل. وإذا أظهرت مابو مثل هذا السلوك الفاضح مرةً أخرى، أنا على أهبة الاستعداد للشكوى إلى تاكي سان رئيسة المساعِدات بلا تردد، وجعلها تطرد مابو من الصالة.

وبعد أن قرَّرت هذا القرار الحاسم، أخيرا بتُّ لا أشعر بالتعلق بتلك الدرجة بشأن الكابوس الذي حدث في دورة المياه منذ قليل.

كان ذلك كابوسًا. إن الكوابيس لا علاقة لها بالحياة؛ فلو رأيت في المنام أنني لكمتُ وجهك، فلن أذهب إليك في اليوم التالي لأعتذر لك؛ فأنا لا أملك مثل هذا القلب الذي يملكه مرهفو الحس من رجال الدين أو الشعراء. الرجل الجديد يكره الأمور المعقدة كراهيةً شديدة.

لقد نويت عدم التعلُّق بالأحلام، ولكن في اليوم التالي لكابوس دورة المياه؛ أي هذا الصباح قبل الفجر رأيت حلمًا. لقد كان حلمًا جيدًا. لا أريد أن أنسى الحلم الجيد، وأريد أن أجعل بينه وبين حياتي صلةً ما، كذلك أريد أن أُطلعك عليه بأي طريقة. حلم يخص تاكي سان. إنها امرأة رائعة. هكذا كنت أفكِّر من كل قلبي. من النادر وجود مثل هذه المرأة. وفكَّرت أن لا عجب في أن تهيم حبًّا وإعجابًا بها. إن حدسك جيد بما يليق بك كشاعر، وتقييمك مرتفع. أنت رائع. إن حماسك الشديد تجاه تاكي سان جعلني أفكِّر أن سقوطك طريحَ الفراش من الحُمى سيكون ورطة؛ لذا كنت أقلِّل من الحديث إليك بشأنها مؤخرًا، ولكن عرفت بوضوح هذا الصباح أن هذا القلق لا داعي له بتاتًا.

فتاكي سان ليس هذا الإنسان الذي يجعل من يهيم به غرامًا يسقط ويرقد طريح الفراش؛ لذا أرجو منك أن تُحب تاكي سان أكثر وأعمق. وأنا أنوي ألَّا أنهزم لك وأن أثق بها بشدة وعمق. ومقارنةً بذلك فمابو فتاة حمقاء، إنها على العكس تمامًا من تاكي سان. كما كان رأيك تمامًا إنها نموذج فاشل لممثلات السينما. بعد ذلك جاءت مابو إلى غرفة الكرز في الساعة الثامنة ليلًا موعد التدليك رغم أنه ليس دورها مطلقًا، وكأنها نسيت تمامًا ما حدث في الظهيرة، وأخذت تثير ضجةً بالضحك عاليًا مع الخبز الجاف وكابُّوريه، ووقتها كان دور تاكي سان في تدليكي، فكانت تدلِّكني كما هي عادتها بجد واجتهاد في صمت تام وبمهارة يد ناضرة، وتبتسم من حين لآخر لمزاج مابو ورفاقها السخيف، ثم جاءت مابو إلينا بلا تحفُّظ أو تردُّد وقالت بنبرة فظة مازحة: هل أُساعدك يا تاكي سان؟

ومع ذلك أومأت تاكي سان إيماءةً خفيفة وأجابت بجدية: أشكرك. أنا على وشك الانتهاء.

٧

إنني أحب تاكي سان تلك الهادئة البال التي تعمل بجد، لكن مظهرها وهي تُبدي الود بطريقة غير ماهرة قبيح لا يمكنني رؤيته. لفَّت مابو لليمين دُر وذهبت مرةً أخرى إلى الخبز الجاف وعندها قلتُ لتاكي سان بصوت خافت: يا لها من مغرورة!

فأجابت هامسةً بنبرة صوت مهيبة: إنها فتاة طيبة في أصلها.

ووقتها قلتُ لنفسي خُفية: تُرى هل فعلًا تاكي سان أعلى درجةً إنسانيًّا من مابو؟

أنهت تاكي سان التدليك سريعًا، وحملت الطست المعدني، وذهبت للمساعدة في تدليك نزلاء غرفة البجع المجاورة. وبعدها أتت مابو إلى سريري مرةً ثانية وهي تبتسم ابتسامةً صفراء وقالت لي بصوت هامس: ماذا قلتَ لتاكي سان؟ أكيد قلت لها شيئًا. أعرف ذلك جيدًا.

– قلت لها إنك فتاة مغرورة.

– مشاكس! حقًّا أنا كذلك.

لم تغضب خلاف ما توقعت، ثم قالت: اسمع، هل معك ذلك الشيء.

ثم صنعت بأصابع يديها شكلًا مربعًا.

– العلبة؟

– أجل. أين تحتفظ بها؟

– في أحد هذه الأدراج. لا مانع من إعادتها لك لو رغبتِ.

– ماذا! مستحيل. احتفظ بها مدى الحياة، مع أنها ستكون مزعجةً لك.

قالت ذلك بهدوء مريب، ثم بعد ذلك، قالت بصوت عالٍ مفاجئ: كما هو متوقع إن مكان هيباري هو أفضل مكان لرؤية القمر. تعالَ هنا يا سيد كابُّوريه! لنصطفَّ هنا ونتعبَّد إلى القمر. لننشد معًا هايكو يقول قمر مضيء … إلخ، ما رأيك؟

يا لها من ثرثارة مزعجة!

في تلك الليلة، وبسبب ذلك، نمت بدون أي تغيرات بصفة خاصة، ولكنني استيقظتُ فجأةً قرب الشروق. كانت الغرفة مضاءةً إضاءة باهتة من خلال أشعة الضوء المتسرِّبة من مصابيح الرَّدهة. نظرت إلى الساعة التي بجوار سريري فكانت قبل الخامسة بقليل. ويبدو أن المكان في الخارج ما زال غارقًا في الظلام الحالك. هناك شخص ينظر تجاهي من النافذة. إنها مابو! على الفور لمع هذا الحدس في رأسي. وجه أبيض. من المؤكد أنها ضحكت ثم اختفت فورًا. نهضتُ وفتحت ستائر النافذة ونظرتُ ولكن لا أحد. كانت مشاعري غريبة. تُرى هل كنتُ نائمًا؟ مهما كانت مابو فتاةً مريبة من المستحيل أن تأتي في هذا الوقت. عدت إلى سريري ورقدتُ عليه بابتسامة مريرة وأنا أقول لنفسي إنني رومانسي على غير المتوقع، ولكنني بقيتُ منشغلًا بالأمر طويلًا، وبعد قليل سمعت صوت ماء خافتًا جدًّا يأتي من المغسلة لأحدهم يغسل ملابس.

فقلتُ لنفسي: إنه هذا الشخص! ولا أدري ما سبب قولي ذلك. إن هذا الشخص هو الذي ضحك لي منذ قليل ثم اختفى. من المؤكَّد أنه هناك الآن. وعندما فكَّرت في ذلك لم أستطع الصبر، فقمت من نومي بهدوء شديد وخرجت إلى الردهة بخطوات متسللة.

ينير المغسلة مصباح كهربائي أزرق عارٍ. اختلست النظر فوجدت تاكي سان ترتدي مريولًا أبيض فوق كيمونو من نوع كاسوري منحنيةً على نفسها كالكرة وتمسح أرضية المغسلة الخشبية. كانت تُشبه فتيات أوشيما وهي تربط المنشفة على رأسها. التفتت للخلف ونظرت تجاهي ومع ذلك واصلت مسح ألواح الأرضية في صمت، وبدا وجهها نحيفًا ورفيعًا بدرجة مريعة. كان جميع أفراد صالة الألعاب يغُطُّون في نوم هادئ وعميق. تُرى هل تستيقظ تاكي سان دائمًا في هذا الوقت المبكر من الصباح وتبدأ التنظيف؟ لم أستطع التحدث بمهارة فأخذتُ فقط أتأمل بصدر يخفق فرحًا، منظرها وهي تنظِّف الأرضية وتمسحها. سأعترف! لقد عانيت في تلك اللحظة من شهوة مخيفة لأول مرة في حياتي. في ذلك الظلام الحالك الأسود قبل ذهاب الليل وشروق الشمس، ثمة هاتف غير عادي يجثم على أنفاس المكان.

٨

على ما يبدو أن المغسلة هي بوابة الشيطان بالنسبة لي.

‏– تاكي سان! منذ قليل …

التصق صوتي بحنجرتي فقلت وأنا ألهث: هل خرجتِ إلى الحديقة؟

– كلا.

التفتت ونظرت إليَّ وابتسمت ابتسامةً خفيفة.

– ماذا تقول أيها الطفل المدلَّل؟ هل كنتَ تحلم؟ يا لك من مقزز! ما هذا؟! أنتَ حافي القدمين!

عندما انتبهت ونظرت وجدتني حافي القدمين حقًّا. لقد جئتُ في حالة حماس شديد ولذا نسيت أن ألبس الخف.

– أنت طفل مُتعب! امسح قدميك.

وقفت تاكي سان وغسلت الخرقة جيدًا في الحوض ثم حملت تلك الخرقة وقرُبت مني ثم انحنت ومسحت لي باطن قدمي اليمنى ثم باطن قدمي اليسرى بتدليكهما بقوة. ليس قدمي فقط، لقد شعرت أيضًا أن قلبي بات نظيفًا من أعمق أعماقه، وزالت تلك الشهوة المُريبة المخيفة. وضعتُ يدي على كتفَي تاكي سان أثناء مسحها لقدمي وقلت لها وأنا أتعمَّد تقليد لهجتها من سكان إقليم كانساي: تاكي سان! اسمحي لي أن أتدلَّل عليكِ دائمًا.

فقالت بصوت خافت وكأنها تحدِّث نفسها وبدون أن تبتسم: لا بد أنك تُحس بالوحدة. سوف أعيره لك، اذهب إلى المرحاض سريعًا، وتصبح على خير.

وخلعت الخُف الذي كانت تلبسه في قدميها ووضعته أمام قدمَي.

– شكرا لك.

تظاهرتُ بالهدوء ولبست الخُف ثم أضفت: ربما كنتُ أحلم.

فقالت بنبرة الكبار الجادة وقد أسرعت بالبدء في التنظيف من جديد: ألم تستيقظ للذهاب إلى المرحاض؟

– أجل، هذا ما حدث.

بالطبع لم أستطع أن أقول لها هذا الأمر الأحمق إنني رأيتُ وجه امرأة خارج النافذة. من المؤكد أنني رأيت ذلك المنظر الوهمي بسبب تعكُّر قلبي. منظري وأنا أقفز إلى الردهة حافي القدمين وقلبي يخفق فرحًا بأوهام خيالية مقزِّزة، جعلني أشعر بالخسة والخجل، مع أنه ثمة من يستيقظ هكذا في الظلام الحالك وينظِّف المكان في صمت بكل جد واجتهاد.

استندت إلى الجدار وظَلِلت لفترة أتأمل منظر تاكي سان وهي تعمل، فتعلَّمتُ منها جلال وهيبة الحياة، وقلتُ لنفسي إن هذا هو مظهر الإنسان السليم المعافى، وشعرت كأن جوهر البراءة الذي في أعماق صدري قد بات أكثر شفافيةً وصفاءً.

إن الإنسان الصادق جيد جدًّا، والإنسان البسيط نفيس جدًّا. لقد كنتُ إلى الآن أحتقر قليلًا قوة عزيمة تاكي سان ولكنني كنت مخطئًا. لا عجب أن لك عينين بارعتين في التقييم. إن مابو مثلًا لا يمكن لها أن توضَع في مقارنة معها بأي حال من الأحوال. حب تاكي سان لا يجعل الناس يسقطون. هذا أمر مؤكد. وأنا أيضًا أنوي أن أُصبح رجلًا ذا مشاعر حب سليمة هكذا. سوف أقفز عاليًا يومًا بعد يوم. يهب الجو حولي باردًا صافيًا تدريجيًّا.

إن الرجل يعيش حياته من أولها لآخرها على بُعد شعرة من الأزمات. إن الرجل الجديد يلهو بالصعاب وبهذا يتخطاها بخفة وسهولة ويطير عبرها قفزًا في طريقه.

بهذا التفكير بدا لي الخريف أيضًا ليس سيئًّا، يُحدث قشعريرة برد بالجلد فيجعل المشاعر ممتعة.

إن حلم مابو حلم رديء، وأريد أن أنساه سريعًا، وحلم تاكي سان، إن كان ذلك حلمًا، أتمنَّى ألَّا أصحو منه إلى الأبد.

هذا ليس إفشاءً لمشاعري العاطفية مطلقًا.

٧ أكتوبر

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤