لعبة البيت
شبَّ سامح على أطراف أصابعه ونطَّ ودقَّ الجرس، وسمع صوتًا طويلًا ممدودًا يقول: مين؟ فاحتار وخاف وسكت.
وفتح الباب، ووقفت على عتبته سيدة ضخمة مهيبة، ترتدي قميص نوم خفيفًا جدًّا، لونه أصفر باهت كقشر الليمون. ووجم سامح وكاد يجري، ولكنه تماسَك، وعرف أن التي فتحت هي أم فاتن، رغم وجهها الخالي من المساحيق.
وقبل أن يحدث أي شيء، ابتسمت له السيدة ابتسامة كبيرة وانحنَت ناحيته، وقالت: يُوه … هو انت يا حبيبي؟! … أنا رخرة قلت مين اللي بيضرب الجرس ده ومالوش خيال … عايز إيه يا حبيبي؟ عايز الهون؟ … ماما بتعمل كفتة؟
ولم يجب سامح في الحال … مدَّ بصره من خلال وقفة الأم العريضة وقميصها الشفاف، وما بقي من الباب في فراغ، محاولًا أن يرى فاتن … ولكنه لم يجد لها أثرًا؛ لا في الصالة، ولا في الحجرة القريبة المواربة للباب، ولا بجوار الراديو تعبث بمفاتيحه.
وقال بجرأة منقطعة: عايز … عايز فاتن تلعب معايا.
وضحكت الأم، وانحنت وقبَّلته وقالت: كده؟ طيب حاضر يا حبيبي.
وانبسط سامح، وانبسط أكثر حين التفتَت إلى الخلف، ونادت: فاتن. سيبي الغسيل أحسن تِبلِّي هدومك … وتعالي … تعالي علشان تِلعبي مع ابن أم سامح.
ثم التفتت إلى سامح قائلة: بس اوعَ تزعلها يا حبيبي … لحسن مخليهاش تلعب معاك بعد كده أبدًا.
وقال سامح بحماس وعيون صغيرة ذكية تبرق: إن زعلتها يا تانت، ما تخلِّيهاش تلعب معايا تاني.
فقالت أم فاتن وهي تتركه وتستدير: وما تنساش تسلِّم لي على مامتك، وتقول لها ما بتزُرناش ليه؟
ثم دخلت السيدة إلى الحمام، وهي تهتزُّ وتتدحرج.
ووقف سامح يترقب ظهور فاتن ويتأمل الصالة، كان فيها ترابيزة سفرة مثل صالتهم، غير أن كراسيها قديمة موضوعة فوق الترابيزة. وكان هناك كرسي غريب الشكل مسنده عالٍ جدًّا، يحتاج إلى سلم للصعود عليه، والكرسي ترقد فوقه قطة ذات ألوان جميلة، ملفوفة على نفسها ونعسانة. وظهرت فاتن فجأة، وكأنما خرجت من تحت الأرض، ترتدي فستانها الأبيض القصير الذي يرتفع ذيله عن الركبة، وتوجهت إلى التسريحة الموضوعة في الصالة، وانحشرت بينها وبين الحائط، ثم أخرجت سبتًا صغيرًا مثل الأسْبتة التي يُباع فيها حَب العزيز، غير أنه مصنوع من البوص، وعلقت السبَت في يدها، واتجهت إلى الباب حيث يقف سامح، وابتسم لها سامح وسار في اتجاه السلم، وتبِعَته فاتن.
وفي منتصف السلم قال لها فجأة: إن كنت جدَعة امسكيني قبل ما اوْصَل باب شقتنا.
وجرى أمامها فوق الدرجات، ولكنه حين لم يسمعها تجري خلفه توقَّف، وقال: إخِّيه عليكي … مش قادرة تجري ورايا يا خايبة؟
فقالت وفي ملامحها ثبات وتأفُّف ورزانة: أنا محبِّش الجري ده.
وتضايق سامح قليلًا من تأفُّفها، ووقف ينتظرها وهو معلَّق بدرابزين السلم، ونصفه خارج عنه.
ودخلا الشقة من بابها المفتوح، وتأكَّد سامح أن أمه مشغولة في المطبخ؛ إذ كانت لا ترحب أبدًا بإحضاره فاتن ليلعب معها … وعبر سامح الصالة وفاتن وراءه، وعيناها لا تغادران السَّبت المعلق في يدها.
وأصبحا في الحجرة الداخلية ذات السرير الحديدي القديم والدولاب والكنبة.
وقال سامح وهو يهلِّل ويشير إلى ما تحت السرير: أهو ده بيتنا … أهو ده بيتنا … يلَّا بقى نعمل بيت.
ورفع داير السرير الأبيض الذي يحيط به من كل الجهات، ودخل تحت السرير، ودخلت فاتن وراءه … وبينما بقيَتْ هي على رَزَانتها، بدأ سامح يصنع زيطة كبيرة، ويصرخ ويدور ويهلِّل، ثم أخذها إلى ركن السرير الداخلي؛ حيث صندوق الشاي القديم الذي يحتوي على كل ممتلكاته وألعابه الخاصة … مجموعة كبيرة من عُلب السجائر الفارغة، وأغطية الكازوزة، وأرجل كراسي مصنوعة بالمخرطة، وعلب تونة وسالمون بمفاتيحها، وقطع صغيرة كثيرة من أقمشة جديدة متعددة الألوان سرقها من درج ماكينة الخياطة. وجرَّ الصندوق وأخذ يستخرج محتوياته ويفرج فاتن عليها … وبدأت الرزانة تغادر فاتن، فجلست على الأرض وتربَّعت، وأخذت تُخرج من «سبتها» لُعبها هي الأخرى وممتلكاتها وتفرِّجه عليها.
وفي هذه المرة أيضًا أُعجب سامح بالحلة الألومنيوم الصغيرة، والوابور البريموس الصغير، وترابيزة المطبخ التي في حجم علبة الكبريت. واستكثر على فاتن أن تكون هي مالكة هذه اللعب الجميلة كلها … ثم انتابته الخفَّة والحماسة، فقام وأخذ ثلاثة ألواح خشبية كانت ساقطة من «المُلَّة» القديمة، ومضى يضعُها على حدِّها، ويقسِّم بها ما تحت السرير إلى أقسام، وهو يقول: دي أوضة السفرة … ودي أوضة النوم … وده المطبخ. وبدأت فاتن تنقل أشياءها إلى المطبخ، ووضعت الترابيزة في ركن ووضعت فوقها الوابور، ثم وضعت الحلة فوقه، وقالت: احنا اتأخرنا قوي … نطبخ إيه النهارده؟!
فقال سامح في حماس: نطبخ رز … يلَّا نطبخ رز!
وما لبث أن غادر تحت السرير في الحال وجرى إلى المطبخ، حيث ادَّعى لأمه أنه يبحث عن كُرته المفقودة في الدولاب، وعاد وقبضته الصغيرة مضمومة وموضوعة في جيب بنطلونه، وحين أصبح تحت السرير فتحها، ووضع محتوياتها من حبات الأرز القليلة في الحلة.
وقالت فاتن وهي تتنهد: إِنت تروح الشغل وأنا أطبخ.
فقال سامح: أروح الشغل إزاي؟
فقالت: مش انت تروح الشغل … وأنا أطبخ؟
فقال: إييه؟ … إنتي عايزة تلعبي لوحدك؟ … يا نطبخ سوا سوا يا بلاش.
فقالت فاتن: لا يا سيدي … هي الرجالة تطبخ؟ … إنت تروح الشغل وأنا أطبخ … يا كده يا بلاش.
فقال سامح: دي بواخة منك دي … عايزة تطبخي لوحدك، وتقوليلي روح الشغل؟ والله مانا رايح.
واحتقن وجه فاتن غضبًا وقالت: طب هه.
وأنزلت الحلة من فوق الوابور، ووضعتها في السبت.
فقال سامح بغضب: هاتي الرز بتاعي … هو بتاعِك؟
فأخرجت فاتن الحلة … وقلبتها على الأرض … وقالت: رزك أهه. جك قرف.
ونشبت خناقة حادة … وكلٌّ يحاول أن يجمع حوائجه، هذه لي وليست لك … وشتمته ولعنت أباه، وغضِب سامح ودفعها، فسقطت منها العروسة … وأخيرًا جمعت فاتن أشياءها، ووضعتها كلها في السبت الصغير، وعلَّقت السبت في يدها، ورفعت داير السرير واختفت.
واغتاظ سامح كثيرًا وهو يراقبها، وتمنى لو يلحقها قبل أن تغادر شقتهم ويضربها … بنت مثلها صغيرة ومفعوصة تريد أن تمشِّي عليه كلمتها. دائمًا تغيظه هكذا كلما لعِب معها، وكل مرة يلعب معها فيها يصمم ألا يعود للَّعب معها … في المرة القادمة سيضربها بالقلم لو فتَحت فمها … ولكن لا … لن تكون هناك مرة قادمة … لن يلعب معها أبدًا حتى لو أحضرتها أمها ورَجَته أن يلعب معها … بنت مفعوصة ذات سن أمامية مكسورة تغضب لأتفهِ سبب، وما أسرع ما تعلِّق سَبَتها في يدها وتتركه! … هي حرة، وحتى هو ليس في حاجة إليها ليلعب … يستطيع أن يلعب وحده ولا الحوجة إليها.
وهكذا بدأ سامح يحاول أن يلعب لعبة البيت وحده، فراح يقيم الحواجز الخشبية التي هدمتها الخناقة، ويكلم نفسه بصوت عالٍ، وكأنه يريد أن يقسم نفسه إلى قسمين أو شخصين يلعبان معًا، أحدهما يتكلم والآخر يسمع. ومضى يقول: ودي أوضة السفرة، وده المطبخ … نطبخ إيه النهارده؟
وأجاب على نفسه: رز.
ولكنه غَيَّر رأيه بسرعة وقال: لأ … فاصوليا.
وفكر أن يذهب ويسرق فاصوليا من المطبخ، ولكنه لم يجِد لديه حماسًا كافيًا لتنفيذ الفكرة … كان قد بدأ يدرك أنه يضحك على نفسه حين يقسم نفسه قسمَين يلعبان مع بعضهما … وبدأ يتبين أنه يلعب وحده فعلًا، وبدا حينئذٍ كل شيء ماسخًا وقبيحًا إلى درجة أنه لم يعُدْ يصدق أن ما تحت السرير بيت كما كان منذ دقائق مضت … بدأ يرى الألواح الخشبية مجرد ألواح، والدواية التي كان ينوي استعمالها حلَّة مجرد علبة ورنيش فارغة. لم يعُد ما تحت السرير بيتًا، ولا عادت الألواح الخشبية حُجرَ نوم وجلوس وسفرة.
واغتاظ سامح … فمن دقائق قليلة، وحين كانت فاتن تلعب معه، كان يعتقد فعلًا أن المطبخ مطبخ، والصالة صالة، وحجرة السفرة حجرة سفرة. لماذا حين ذهبت وأصبح وحده بدأ يرى كل شيء سخيفًا مختلفًا، وكأن لعبة البيت لا تنفع إلا إذا لعِبها مع الست فاتن؟!
وفي غمرة غيظه غادر ما تحت السرير، بل غادر الحجرة كلها، ومضى يلف في الصالة يبحث لنفسه عن لعبة أخرى يتسلَّى بها … وفي درج مكتب أبيه الأخير عثَر على حنفية قديمة، استغرب كيف كانت موجودة طوال هذه المدة في ذلك المكان، ولم يعثر عليها سوى اليوم. أخرج الحنفية ومضى يفتحها ويغلقها وينفخ فيها، ومضت في ذهنه فكرة: لماذا لا يستعملانها هو وفاتن في لعبتهما، فيركبها في رجل السرير، ويصنع لها حجرة صغيرة، وتكون هي الحمام؟ ألا يصبح حينئذٍ كالبيوت الحقيقية؟ ولكن … لا … إنه لن يلعب أبدًا معها، حتى ولو جاءت من تلقاء نفسها، وحاولت تلعب معه … سوف يقول لها بكل احتقار: جاية هنا ليه يا باردة؟ روحي يلَّا على بيتكم.
وطبعًا هي لا بد قادمة عمَّا قليل، فهي الأخرى لن تجد أحدًا تلعب معه.
وانتظر سامح أن تأتي، ولكنها لم تأتِ، وتذكر حينئذٍ كيف كانت غلبانة، وهي تنحني وترفع داير السرير والسبت معلَّق في يدها … كانت غلبانة صحيح. لماذا لا يذهب ويصالحها؟ وذهب إلى الباب وفتحه، وتلفَّت هنا وهناك، ولكن الطرقة كانت خالية وليس فيها أحد.
وعاد مغمومًا إلى الحجرة الداخلية، واتجه إلى السرير ونظر من الفرجة الكائنة بين الداير الأبيض والمرتبة … بدا ما تحت السرير واسعًا جدًّا وخرابًا، والألواح الخشبية ولعبه وأشياؤه المبعثرة شكلها كئيب، وليس هناك أبدًا أي أثَر لذلك العالم الصغير الذي كان أحبَّ إليه من كل عوالم الكبار وسيماته ومباهجه.
وترك الحجرة متضايقًا وظل يدور في الصالة. وفجأة أحس أنه ضاق ببيتهم كله، وأنه يريد الخروج منه والذهاب إلى أي مكان … وهكذا وجد نفسه واقفًا في الطرقة خارج باب الشقة وحده. أمه تناديه وهو يكذب ويقول إنه ذاهب ليلعب مع الأولاد في الحارة.
وفي الطرقة بدأ يفكر … لا بد أن فاتن ذهبت إلى أمها باكية، ولا بد أن أمها أخذتها وأغلقت عليها الباب، ولن تسمح لها أبدًا باللعب معه مرة أخرى. إن أخوف ما يخافه لا بد قد حدث. يا له من غبي سخيف! لماذا أغضبها؟ لماذا لم يقُل لها: أنا رايح الشغل أهه، ويصل إلى باب الحجرة مثلًا ثم يعود ويقول لها: أنا رجعت م الشغل أهه. لماذا عاندها؟ وماذا يصنع الآن؟
وهبط درجات السلم تائهًا، محتارًا، مترددًا بين أن يهبط، ويحاول أن يجد طفلًا من أولاد الحارة يلعب معه أسخف لعب؛ فهو لا يريد إلا أن يلعب مع فاتن لعبة البيت بالذات، وفاتن ذهبت إلى أمها ولن تعود أبدًا، أو أن يصعد ويدَّعي لأمه أنه سخن ومريض. وحتى لم يجد في نفسه أي رغبة أو حماس لكي يهبط أو يصعد أو يتحرك من مكانه أو أي شيء. كل ما أصبح يتمناه من قلبه وهو يهبط درجة ويتوقف درجات؛ أن تزل قدمه رغمًا عنه فيسقط ويتدحرج على السلم، ويظل رأسه يتخبط بين الدرجات، وكل خبطة تجرحه وتُسيل دماءَه.
وحين وصل في هبوطه إلى باب شقة أم فاتن، كان الباب مغلقًا ومسدودًا، وكأن أصحابه سافروا أو عزَّلوا … ألقى نظرة واحدة على الباب، ولكنها جعلته يحس بالرغبة في البكاء، ويسرع بالهبوط.
وقبل أن ينتهي السلم عند آخر بسطة، توقف حزينًا حائرًا، وكأن شيئًا ثمينًا جدًّا قد ضاع منه، وأخرج رأسه من درابزين السلم، وتركه يتدلى في يأس من حديد الدرابزين … ومضى يجلس على الأرض، ويفرد ساقيه بلا أي اهتمام بملابسه أو بما يلحقها، ثم يقف فجأة وقد قرر أن يكمل الهبوط، ولكنه يجد نفسه قد عاد للجلوس وإدلاء رأسه من حديد الدرابزين. وكلما تذكر أنه لولا عناده لكانت فاتن لا تزال تلعب معه، وكلما تصوَّر أنه قد حرم اللعب معها إلى الأبد، تمنى لو مرض فعلًا أو مات، أو أصبح يتيمًا من غير أب أو أم.
ولم يصدق عينيه أول الأمر، ولكنه كان حقيقة هناك. على آخر درجة في السلم سبَت فاتن الصغير نائمًا على جنبه، والحلة الألومنيوم ساقطة منه. وهبط السلالم الباقية قفزًا، وتدحرج وعاد يقفز، وعلى آخر درجة وجد فاتن هناك … هي بعينها جالسة ورأسها بين يديها، وكانت تبكي ودموعها تسيل، وسبتها الصغير راقد بجوارها، والحلَّة قد تبعثرت منه.
وأحاطها سامح بذراعيه واحتضنها، وراح يطبطب عليها بيديه الصغيرتين، ويُقبِّلها في وجهها وشعرها، ويقول لها، وكأنه يخاطب طفلة أصغر منه بكثير ويصالحها، وهو فرحان؛ لأنها لم تذهب لأمها ولا اشتكت: معلش، معلش، معلش.
وجذبها برفق لينهضها، ونهضت معه بغير حماس، ودموعها لا تزال تتساقط … دموع حقيقية. وأعاد الحلة إلى السبت وعلَّقه في يدها، ومضى يصعد بها السلم وذراعه حولها، وهي مستكينة إليه لا تزال تدمع وجسدها ينتفض، ولكنها لا تقاومه ولا تتوقف عن الصعود.