«أ» الأحرار
وقعت هذه الحادثة في مكتب إحدى الشركات الكائنة في شارع سليمان، واحدة من الشركات ذات الأبواب الزجاجية المُصنفرة والمكاتب الصاج الإيديال، والسعاة الذين يرتدون بِدَلًا رمادية، ويضعون على جوانب صدورهم لافتاتٍ نحاسية دقيقة الحجم.
في الصباح، وفي الساعة الثامنة تمامًا، الموظفون جميعًا على مكاتبهم، والسُّعاة على الأبواب، والسكون مستتِبٌّ مطبِق رغم حفيف الأوراق، وتكتكة الآلات الكاتبة والحاسبة. بعد قليل كانت دوامة العمَل قد بدأت تدور، والأبواب الموصَدة كثُر فتحها وإغلاقها، وبدأ الموظفون يتجرءُون على الصمت وينطقون. والجو بدأ يحفل بدخان السجائر ورائحتها، غير أن هذا كله كان يدور أيضًا خارج حدود لا يتعداها.
وفجأة، وفي حوالي التاسعة، بدأت تصل إلى الآذان ضجَّة غير عادية صادرة من حجرة السيد عبد اللطيف سالم، رئيس قسم السكرتارية. وأن تسمعَ ضجة في حجرة السيد عبد اللطيف أمرٌ عادي جدًّا، ولكن غير العادي أن تحدث هذه الضجة قبل الحادية عشرة صباحًا … فالريس عبد اللطيف كان مريضًا بنوع غريب من الربو، وكانت أنفاسه — وبالتالي خُلقه — لا تبدأ تضيق قبل الحادية عشرة بأي حال من الأحوال. لهذا كان لا بدَّ أن في الأمر سرًّا، وليس خلف أبواب الشركة أسرار؛ فالسر الذي وراء الباب يعرفه الساعي الواقف أمام الباب. ومن ساعٍ إلى ساعٍ ينتقل السر حتى يصبح بعد ثوانٍ قليلة خبرًا. ولهذا سرعان ما عرف الجميع أن الريس عبد اللطيف يزعق لأحمد رشوان، وعلى هذا أصبح العجَب مضاعفًا … زعيق الريس قبل الحادية عشرة، والزعيق لأحمد رشوان الذي لم يسبق لأحد، وخاصة الريس عبد اللطيف، أن زعق له أو احتكَّ به؛ فقد كان أحمد هذا شابًّا مؤدبًا جدًّا، بل ممكن أن يُعدَّ أكثر موظفي العالم أدبًا … وأدبه مقرون بمراعاة تامة للأصول، وما يصح وما لا يصح. وكلمات مثل «من فضل سيادتك»، و«تسمح لي» و«لا مؤاخذة»، و«أشكرك شكرًا جزيلًا» (باللغة العربية الفصحى)؛ كلمات مثل تلك يستعملها أحمد آلاف المرات في اليوم الواحد. ثم إنه لم يكن جميلًا ولا وسيمًا لتكون لديه مركبات الوسيمين الجميلين، مثل افتعال الحركات للفت نظر السيدات والآنسات من موظفات الشركة، أو المحافظة الزائدة على هندامه والعناية به. كان كما يقال «دُوغْري وجَد»، ولكنك لأمرٍ ما لا تستطيع، كلما رأيته جادًّا وقورًا، أن تمنع نفسك من أن تسخَر من جدِّه ووقاره! ربما لأن له أنفًا طويلًا بارزًا مقوسًا، ومدببًا من أسفل وكأنه رأس خطاف. ربما لملابسه التي يحرص على اختيارها كلاسيكية جدًّا، فيفصل الجاكتة طويلة وحشمة، والبنطلونات يجعلها واسعة وَقورة. وليس معنى هذا أن أحمد جاد طوال الوقت، فهو أحيانًا يهزر معك ويضحك، ويستمع إلى النكات الخارجة التي يلقيها زملاؤه. وقد يقرص الواحد منهم في جنبه، ولكنه يفعل هذا خلسة، وكأنما يفعله من وراء نفسه الجادة الوَقورة. ثم إنه شهم إذا كان معه نقود سلَّفك، واطمئِن؛ فإنه لن يقترض منك أبدًا، فهو في مسائل النقود حريص على أن يحيا في حدود دخله، لا يتعدَّاه بأي حال من الأحوال. وفوق هذا فهو لا يدخن، ولا تعرف إن كان يرتاد السينمات أو لا يرتادها، ولكنه على أي حال فَخور جدًّا بكونه خريج كلية التجارة جامعة القاهرة. صحيح هو يعمل «تايبست» في الشركة، ولكن هذا لا يمنعه من الوعي الدائم بأنه أحسن من زملائه كُتَّاب الآلات الكاتبة الذين لا تتعدَّى مؤهلات الواحد منهم حدود التجارة المتوسطة أو التوجيهية.
والشغل عند أحمد شغل، والرئيس رئيس، والزميل زميل. أما الزميلات فليس له بهن علاقة؛ إذ هو ضد أن تعمل المرأة إلا مدرسة أو ممرضة. ولا يزال إلى الآن يعتز برأيه هذا، وبأنه أبداه من عشر سنوات، حين كان لا يزال طالبًا لمندوب إحدى المجلات الجامعية، حين جاءه يسأل عن رأيه في التعليم المشترك … يومها ظل قرابة الساعتين يُمليه رأيه باللغة الفصحى، وهو يتابع ما يكتبه الطالب المحرِّر، ويصحح له أخطاءه الإملائية والهجائية والنحوية، ويؤكد له أن المرأة مملكتها البيت، إذا خرجت منه فلا بدَّ أن تضل الطريق. لهذا لا بد أن أحمد قد وجَد نفسَه في محنة حين عُيِّن بالشركة، وعُينت معه زميلات له يؤدين نفس عمله. اكتفى حينذاك بأن أزاحهم من خاطره تمامًا، وكأنهن غير موجودات.
وبالتأكيد كانت هذه هي المرة الأولى التي يزعق له فيها الريس عبد اللطيف؛ فلا بد أن سبب الزعيق مثير للغاية. ولهذا سرعان ما اكتشف بعض الموظفين أن هناك أوراقًا مستعجلة يجب إمضاؤها من الريس في الحال. وما أسرع ما كان باب الريس يُفتح للداخل والخارج، الداخل يكاد يكون حب الاستطلاع يقفز من عينيه، والخارج يضَع يده في فمِه يكاد يموت من الضحك؛ ذلك لأن سبب الزعيق كان أغرب سببٍ ممكن أن يخطر على البال، بل كان لا يمكن أبدًا أن يخطر على البال.
الداخل كان يجد أحمد واقفًا مزررًا جاكتته، أنفه معقوف صارم جدًّا، ورأسه منخفض في أدَب وابتسامة لا معنى لها لا تبرح وجهه، والريس عبد اللطيف خلف مكتبه الكبير ذي السطح الزجاجي يداه تدفعان المكتب، وكأنما تريدان قلبه على أحمد رشوان، وزعيق كثير يخرج من فمه ووجهه وعينيه، وحتى من صلعته الخفيفة … يوزع قليلًا منه إلى اليسار، وقليلًا آخر إلى اليمين، والأغلبية العظمى يصبها على أحمد: قلنا مِيت مرة الصورة لازم تنكتب زي الأصل تمام بالحرف الواحد بلا زيادة أو نقصان، قلنا ميت مرة كده.
قالها الريس فعلًا أكثر من مائة مرة، وفي كل مرة يسكت منتظرًا إجابة أحمد، حتى إذا ما همَّ أحمد بأن يجيب، قاطعه الريس ومضى يلقِّنه المحاضرة التي يجيدها تمامًا عن العمل في الشركة وأصوله وقواعده.
وأنهى الريس محاضرته قائلًا: اتفضل. خد الجواب، واكتبه بالضبط زي الأصل يا حضرة … اتفضل يلَّا.
وخرجت كلمة من فم أحمد؛ ربما تكون قد خرجت قبل هذا، ولكنها كانت المرة الأولى التي يسمعها فيها الريس.
قال أحمد رشوان: اسمح لي … لأ … مش حاكتبه إلا كده.
وتحجرت عينا الريس، وقال: أسمح لك إيه؟!
فقال أحمد: اسمح لي سيادتك مش حاكتبه.
فقال الريس بصوت منخفض كصوت الزناد حين يُجذب استعدادًا لإطلاق النار: ليه بقى يا حضرة؟
والواقع أن أحمد تململ للسؤال … فهو بالتأكيد كان قد جهَّز نفسه له، ولكنه وجد حرجًا كثيرًا، وكأنه متأكد تمامًا مما ينطقه وهو يقول: لأني إنسان يا أستاذ عبد اللطيف. أنا مش آلة كاتبة.
– إيه؟ أنت إنسان مش آلة كاتبة؟! يعني إيه ده يا حضرة؟!
قالها الريس وملامحه تتسع فجأة كما ضاقت فجأة، وهو يمسك شفته السفلى بأصبعين، ويجذبهما إلى أمام ويحدق في أحمد.
وأول ما خُيل للريس أن الجدع قد جُن، ولم يكن هذا في رأيه شيئًا مستغربًا، فقد كان لا يطمئن أبدًا إلى أدب أحمد هذا الزائد عن الحد، ومحافظته المبالغ فيها على الأصول، والجنون يمكن أن يكون نهاية طبيعية لإِنسان كهذا.
وكأنما قرأ أحمد أفكار رئيسه؛ فقد ابتسم ابتسامة اعتذار كبيرة، وكأن الذي سيقوله عيب ما بعده عيب وقال: ما تبصِّليش سيادتك على أني مجنون. أنا مش مجنون … أنا إنسان، ولازم يكون فيه فرق بيني وبين الآلة الكاتبة … أنا … أنا.
وإلى هنا انتهت حصيلة أحمد من الكلمات؛ فقد كانت مهمته شاقة ومزدوجة. كان عليه أن يصوغ ما يدور في فكره إلى كلمات، ثم كان عليه أن يعيد صياغة هذه، فيجعلها مؤدبة أصولية، تصلح لكي يخاطب بها رئيسه. وإذا كانت المهمة الثانية سهلة؛ فالمهمة الأولى أكثر صعوبة؛ إذ كيف يصوغ أحمد رشوان ما عنَّ له بالأمس من أفكار، وكيف يشرح للريس عبد اللطيف العصبي الضيق الخلق كل ما حدث بالضبط، خاصة إذا كان لم يحدث شيء يذكر. كل ما حدث أن نوبة أرَق حادة انتابته في الليلة الماضية … كان راقدًا في فراشه غير المريح، وكاد ينام لولا أن أطار النومَ من عينيه برغوثٌ خبيث، صمَّم أحمد على أن يعثر عليه حيًّا، وصمم البرغوث على أن يحاوره ولا يجعله يظفر به. كلما كاد يطبق عليه، أصبح وكأنه فص ملح وذاب. وأخيرًا غطس البرغوث ولم يظهر، ولكنه ترك أحمد يعاني من ذلك الإحساس المقلق، الإحساس بنهشات خفية وزحف أقدام دقيقة غير مرئية، ذلك الإحساس الذي يدفع الإنسان إلى التأرجح بين الشك واليقين في وجود تلك الكائنات. وفجأة، وبدون سابق إنذار، خطر لأحمد رشوان ذلك الخاطر الذي كاد يجعله يقفز من الفراش؛ فقد اكتشف أنه ليس كاتبًا على الآلة الكاتبة كما يظن نفسه ويظنه الناس، ولكنه هو نفسه آلة كاتبة … كيف جاء الخاطر في ذهنه؟ لا أحد يدري. وكيف استطاع ذهن أحمد رشوان الأصولجي أن يجمع تلك المفارقة أو المتشابهة التي بدت غريبة كل الغرابة؟ لا أحد يدري أيضًا … المهم أن الفكرة استحوذت عليه تمامًا، حتى أنسَتْه النوم والفراش وزحف الكائنات غير المرئية. ودون أن يستطيع أن يكبح جماح خياله وجد نفسه يوغل في التفكير ويوغل … ما الفرق بينه وبين الآلة الكاتبة؟ هو صحيح خريج جامعة ومحترم، ولكنه في عمله لا فرقَ بينه وبين الآلة الكاتبة التي يكتب عليها … هو له أصابع وهي أيضًا لها أصابع. وهو يقرأ الأصل، وتستحيل الكلمات خلاله إلى ضغطات، والمكنة تستحيل الضغطات خلالها إلى كلمات. وإذا كان هو يأمر المكنة بأصابعه أن تكتب، فالشركة تأمره بأصبع واحدة منها أن يكتب. وإذا كانت المكنة لا تستطيع أن تغير ما يأمرها به إذا ضغط على حرف الميم، فلا بد أن تكتب ميمًا؛ فهو أيضًا لا يستطيع أن يغيِّر إذا قالوا له اكتب كذا، فلا بد أن يكتب كذا. أجل، ما الفرق بينه وبين الآلة الكاتبة؟ الواقع لا شيء، بل الحقيقة لا شيء مطلقًا.
وأول الأمر ضحِك أحمد كثيرًا، ضحِك بلا وعي، ولم يكفَّ عن الضحك إلا بعد أن فطن لنفسه، فوجد أنه يضحك ضحكًا غريبًا ماسخًا في الشقة المظلمة الخاوية؛ «فأحمد رشوان كان قد تعدى الثلاثين ومع هذا كان لا يزال أعزب» … وآلاف الخواطر كهذه تعنُّ لآلاف الناس آلاف المرات في اليوم الواحد، ولكنها لا تعلق بأذهانهم كثيرًا. إنها كآلاف الأشياء التي تبرق في أرض الشارع المشمس، يعبر بها الناس ولا يحفل ببريقها أي منهم، ولكن بريق أحدها قد يجذب أنظار عابر سبيل ليتوقف عنده مثلًا ويحدق فيه، بل ممكن أن ينحني ويتناوله ويتفحصه. وفي أغلب الأحيان يعود ليُلقي به وهو يضحك من نفسه ومن البريق الزائف الذي شغله.
وكان ممكنًا أن يحدث هذا لأحمد رشوان، فيلقي بالخاطر من وراء ظهره، ويعود إلى متابعة أفكاره أو محاولة النوم، ولكن ربما لفراشه غير المريح، وربما لأنه كان في حاجة ماسة إلى ما يشغله عن إحساسه بالكائنات غير المرئية التي تقاسمه فراشه؛ ربما لهذا تلكَّأ عن الخاطر قليلًا … وويل لأي منا إذا تلكأ عند خاطر؛ فقد يغير التلكؤ مجرى حياته. ربما تتلكَّأ عند كلمة قالتها فتاة، وأعجبتك طريقة نطقِها لها، فإذا بك بعد شهور زوج لهذه الفتاة. والتلكؤ عند واجهة مكتبة قد يوقع في يدك كتابًا يغير شخصيتك تمامًا. ونيوتن المشهور لم يفعل أكثر من أنه تلكأ ذات يوم أمام تفاحة سقطت من تلقاء نفسها على الشجرة.
أحمد رشوان هو الآخر تلكَّأ عند الخاطر، ومضى يقلِّبه على وجوهه. أحيانًا يحسب الأمر هزلًا في هزل؛ إذ أَمِنَ المعقول تنعدم الفروق تمامًا بينه وبين الآلة الكاتبة؟ ولكنه حين يحاول أن يجد فارقًا أساسيًّا، ولا يستطيع أن يدخل الأمر في طور الجد، ويبدأ يخاف أن يكون التشابه حقيقة. بل بلغ به الوضع حدَّ أنه كان أحيانًا يحدق في أصابع يديه، ويلعبها معًا في الظلام، ثم يوقفها جميعًا، ويلعب كلًّا منها على حدة. وأحيانًا يشيح بيده، وكأنما يقول: غير معقول هذا … غير معقول.
بل عنَّت له خواطر مضحكة للغاية: لِم لا يكون الأمر عكس ما يتصور، وتكون الماكينة الكونتيننتال التي يكتب عليها أفضل منه؟ فهي على الأقل ضامنة بقاءها في الشركة مدى الحياة، وهو غير ضامنٍ بقاءَه ولو ليوم واحد. وحتى المنضدة التي تستقر عليها منضدة أنيقة صُنعت خصيصًا من أجلها، وكلفت الشركة ما لا يقل عن العشرة جنيهات، بينما مقرُّه هو عبارة عن كرسي ملقلق الساق، اشترته الشركة في مزاد، ووقف عليها ببضعة قروش.
وعشرات الأفكار المضحكة للغاية.
وكأنما كان طوال المدة التي قضاها يفكر ويسرح، كان يدخر لنفسه خطَّ رجعة مؤكدًا. وكان ضامنًا مائة في المائة أنه يملك الدليل القاطع على أن ثمة فرقًا كبيرًا بينه وبين الآلة الكاتبة. فقط كان يحتفظ بالدليل؛ ليفاجئ به أفكاره في الوقت المناسب … وأخيرًا لم يجد بدًّا، وأخرج الدليل وقال لنفسه: الفرق بيننا أنها آلة جامدة صمَّاء بكماء، لا تستطيع التصرف وحدها أبدًا، أما أنا فأنا ملك … أنا إنسان أستطيع أن أفكر وأتصرف بمطلق إرادتي.
قال هذا لنفسه وهو يسحب الغطاء فوقه، وكأنما يكيل الضربة القاضية ويُنهي المعركة التي دارت وطالت في خياله.
ولكنه ما كاد يسحب الغطاء حتى دقَّ شيء … ومن كثرة تفكيره في المكنة خُيل إليه أنها بالتأكيد هي التي تدق، بل ذراع واحدة فقط من عشرات أذرعها هي التي تدق باستمرار، وكأنما علقت وتكتب: لا لا لا لا.
وبسرعة ثمانين كلمة في الدقيقة — وهي السرعة التي طالما حلم أحمد أن يكتب بها — مضت أذرع الآلة ترتفع وتنخفض وتتداخل في الظلام، وتكتب وترد عليه في تكتكة منتظمة: أنت واهم … من قال إنك تملك حق التصرف؟ أنت مثلي تمامًا، وحريتك في التصرف كحريتي والدليل موجود. الخطاب المشهود الذي كنت تكتبه لشركة الأسمنت، ووجدت أن كلمة «شؤون» مكتوبة خطأ والهمزة موضوعة فوق الواو، وذهبت إلى الريس عبد اللطيف فرحًا تريه الخطأ، وظننت أنه سيكافئك لفطنتك ونباهتك. أتذكر نظراته التي الْتَهمك بها وهو يقول: اسمع يا حضرة، أنت هنا مش على كيفك يا حضرة. اللي مكتوب قدامك، انقله زي ما هو يا حضرة. غلط مش غلط ملكش دعوة يا حضرة. إيه حتعدل ع الشركة. الشركة عايزة الهمزة على الواو تبقى الواو يا حضرة. عايزاها طايرة في الهوا تبقى طايرة في الهوا. فاهم يا حضرة؟ اتفضل على شغلك واعرف مركزك كويس. إنت هنا كاتب يعني تكتب، يعني تفعل ما تؤمر به. إنت عارف المكنة؟ إنت زي المكنة … فاهم يا حضرة؟
الريس عبد اللطيف ذو الصدر المقفع إذن هو الذي أوحى إليه بالخاطر، وظل الخاطر كالقنبلة الزمنية في عقله، حتى فجَّره الأرق اللعين في تلك الليلة الليلاء.
في نفس الوقت، الذي اكتشف فيه أحمد رشوان السبب، كانت أشياء كثيرة أخرى قد حدثت داخل عقله، وحدثت كلها معًا وبسرعة مذهلة. فأولًا كان قد آمن إيمانًا لا شك فيه أنه في نظر الشركة مكنة لا أكثر ولا أقل، وأن الريس عبد اللطيف على حق، والمكنة على حق، وهو وحده المخطئ الواهم الذي كان يظن نفسه شيئًا آخر غير هذا، شيئًا اسمه الإنسان. وفي لحظة خاطفة تصور أحمد نفسه بأنفه الذي يعتد به كثيرًا، بالكتب التي كان يقرؤها أثناء دراسته، ويتيه على زملائه بقراءتها وإدراك حقائق عن الكون والحياة لا يدركونها، بكفاحه الرهيب من أجل الشهادة، بالشهادة، بحياته وكل أحلامه، بكل هذا مجرد مكنة، آلة، حتى أقل من الآلة التي يكتب عليها!
للحظة خاطفة تصوَّر أحمد هذا، ولكنها كانت كافية لأن تملأه بالغضب. وغضِب أحمد رشوان لأمثال هذه الأشياء … غضب يعرفه عنه كل أصدقائه وزملائه. إذن كانت المسألة مسألة مبدأ وحق. ركِبه الغضب، وأبى أن يتزحزح عن موقفه قيد أنملة. حدث مرة في أثناء امتحان المحاسبة أن وقف أستاذ المادة في وسط خيمة الامتحان، ولبَّخ في حق الطلبة، واتهمهم بأنهم سفلة وأوغاد (إذ كان الطلبة قد أحدثوا ضجة بعد توزيع الأسئلة لصعوبتها). فما كان من رشوان إلا أن ترك الإجابة، وانتصب واقفًا يحتج على الأستاذ. وغضِب الأستاذ وأصرَّ على طرد رشوان من اللجنة، وتقديمه لمجلس تأديب. ولكنه تحت إلحاح المدرسين زملائه، اكتفى بأن قال إنه على استعداد للصفح عنه لو اعتذر عن تصرفه علنًا أمام الطلبة. ورفض رشوان رفضًا باتًّا أن يعتذر، وفضَّل أن يغادر اللجنة ويرسب في المحاسبة على أن يُهين كرامته.
كان لا يمكن أن يمرَّ خاطر كهذا على أحمد رشوان مرورَ الكرام إذن، فالأصول أنه إنسان، وخلافًا لكل الأصول أن يكون مجرد مكنة. وعليه أن يثبت لنفسه وللناس أنه إنسان، وأن ثمة فرقًا كبيرًا بينه وبين المكنة، عليه أن يثبت هذا أو يهلك دونه.
•••
وفي صباح اليوم التالي، كان أحمد رشوان يأخذ طريقه إلى مقر الشركة في شارع سليمان، وكأنه في طريقه إلى ساحة معركة أو لجنة امتحان. كان قد سهِر كثيرًا، وكان عصبيًّا وعلى وجهه تصميم خطير. لم يكن لديه أية فكرة عما يمكن أن يفعله، ولكنه كان مصممًا على أن يثبت لنفسه على الأقل أنه إنسان، إنسان حقيقي، وليس مجرد آلة كاتبة.
دخل المبنى وألقى تحيات الصباح وتلقَّى التحيات، وبوجه غير صبوح صبَّح على الريس عبد اللطيف، وتناول منه «الشغل» بلا ذيول شكر طويلة كما تعود أن يفعل.
وذهب إلى الحجرة التي يعمل فيها هو وزملاؤه. كان أكثرهم قد سبقوه، وبين حفيف التحيات ونكات الصباح الخفيفة الطائرة جلس. وبينما كان يرفع الغطاء عن المكنة، لم يستطع أن يمنع نفسه من إلقاء نظرة متشككة عليها، ومطَّ شفتيه حتى التصقت شفته العليا بأرنبة أنفه المدببة، وذلك أنه وجدها فعلًا كتلة من حديد … حديد في حديد يلمع … وحديد مطفأ، وبرودة وسكون ولا حياة. مكنة صمَّاء بَكْماء، ذلك أمر لا شك فيه.
وقبل أن يبدأ في كتابة الخطاب الأول قرأ الأصل بإمعان … وحين قارب على الانتهاء تهلَّل وجهه وابتسم، ذلك لأنه عثر على الشيء الذي كان يريد العثور عليه، فقرب نهاية الخطاب وجد في الأصل تعبيرًا يقول: «وحينئذٍ نكون أحرارًا في التصرف بمقتضى ما تخوِّله لنا كافة حقوقنا كشركة مساهمة.»
عند كلمة «أحرار» توقف أحمد رشوان. وهو نفسه لا يدري لماذا اختارها بالذات، وجعلها ضالته المنشودة، وصمم على أن يحذف منها الألف، ويكتبها «أحرار» فقط. ربما لأنه وجد موسيقاها هكذا تنسجم أكثر مع بقية الجملة؛ وربما لأسباب أخرى لا يعلمها إلا الله.
مضى يكتب الخطاب بحماس، وهو يحس بنشوة لأنه يكتب شيئًا أراده هو، ويملك التصرف فيه. يكتب وهو يرمق في شماتة أذرع المكنة وحروفها، وهي ترتفع وتنخفض في طاعة بكماء عمياء، وهو الذي حين جاءت كلمة «الأحرار» راح يكتبها على مهل، وكأنه يتلذَّذ بطعم كتابتها، ورمق الألف في الأصل، ثم ازْورَّ عنها شامخًا بأنفه، وتابع الكتابة وكأنه يعزف على مفاتيح بيانو أو ثقوب ناي.
وكان أسرع خطاب كتبه بعد أن التحق بالشركة، بل وقبل أن يبدأ في غيره، ذهب به إلى مكتب الريس ومعه الأصل والصورة، وفي صدره حماس مستبشر دافق.
والذي حدث أن الريس عبد اللطيف ما كاد يُلقي نظرة سريعة على الخطاب، حتى أدركت عينه الخبيرة على الفور أن الأحرار مكتوبة بلا ألف، فنظر إلى أحمد رشوان طويلًا، وكأنه يريد تجميده وقال: هي في الأصل «أحرارًا» ولَّا «أحرار» يا حضرة؟
– أحرارًا.
– يعني بألف؟
– أيوة بألف.
– يعني شفتها؟
– شفتها يا ريس.
– طيب أمال يا حضرة ما كتبتهاش ليه؟ … روح يا حضرة اكتبها، وهات الجواب تاني.
فقال أحمد رشوان بكل ثبات واطمئنان: مش حاكتبها يا سيد.
والواقع أنه قال هذا، وكادت تنتابه نوبة خوف. فالدهشة الشديدة المذهلة التي ارتسمت على وجه الريس عبد اللطيف كانت شيئًا يُخيف؛ إذ كيف يعصي مرءُوس رئيسه هكذا في وضح النهار وعيني عينك، وفي مسألة لا تحتمل النقاش؟!
دهش الريس عبد اللطيف وذهل، ولم ينطق في الحال! وخلال ذلك الصمت كان أحمد رشوان في حالة «أخد ورد» مع نفسه، ذلك أنه في قرارة نفسه لم يكن شديد الإيمان بما هو مقدم عليه. إن هي إلا نوبة حماس عنَّت له إثر خاطر حادٍّ في الليل، وكان لا بد لها أن تثمر عملًا ما. وقام أحمد بهذا العمل، وكان على استعداد للتراجع، بل لم يكن يعتقد أن المسألة ممكن أن تأخذ كثيرًا من الشد والجذب.
وأخيرًا تكلَّم الريس، وقال: بتقول إيه يا حضرة؟
وفي أدب جم عاد أحمد يقول: أنا رأيي يا أستاذ عبد اللطيف أنها تنكتب من غير ألف تكون أحسن.
– رأيك؟!
خرجت الكلمة كالرصاصة من فمِ الرجل، أعقبها بسِرب دافق من القذائف.
– رأيك ده تلفه في ورقة، وتبلعه على ريق النوم. رأيك ده تقوله لصاحبك وانتو ع القهوة. رأيك هناك عند بابا وماما، إنما هنا مفيش رأيك. هنا شركة ليها أوامر وقوانين. هنا تمشي تروح تكتب الألف ورجلك فوق رقبتك، ولولا عارف إنك طيب كنت بهدلتك صحيح … اتفضل يا حضرة.
وانتاب أحمد غضب، وقال: أنا أحتج يا سيد عبد اللطيف على الإِهانات دي.
– إنت مش تحتج، وديني لاخصم لك يوم كمان … اتفضل روح اكتبها.
وهكذا وجد أحمد نفسه في قلب المعركة … معركة للدفاع عن كرامته كإنسان … لم يكن يعتقد أن الأمر ممكن أن يتطور إلى هذا الحد، وطبعًا كان واثقًا أن مسألة الخصم هذه تهديد ليس إلا، والمشكلة ممكن أن تحل بإضافة ألف إلى الأحرار واعتذار لبِق، وينتهي كل شيء. ولكن كان أسهل عليه أن يقطعوا رقبته قبل أن يفعل شيئًا كهذا؛ فأهم شيء في نظره كان هو الثبات، فالمسألة لم تعد «أحرارًا» بألف أو بغير ألف. المسألة كرامته وشرفه، فلم يكن يعتقد أنه سيُهان على تلك الصورة، ويعامل كما لو كان آلة كاتبة لا تحس ولا تغضب.
كل هذا وصوت الريس يعلو أكثر وأكثر، وعناد أحمد يزداد … الريس يقسم أنه لن يتركه إلا إذا كتبها ورجله فوق رقبته، وأحمد يقسم أنه لن يكتبها ولو خرج له أبوه من التربة وأمره بكتابتها. والصراع قد وصل قمَّته، والمسألة التي بدأها أحمد وهو غير مؤمن تمامًا بها. كانت قد تبلورت إلى درجة أنه لو قبل إضافة ألف للأحرار؛ فمعنى هذا أنه تنازل طائعًا مختارًا عن كرامته ورجولته وشرَفه، وإذا كان الناس في الصعيد وفي كل مكان يُقتلون دفاعًا عن كرامتهم ورجولتهم؛ أفلا يستطيع هو الصمود مهما كانت النتائج؟
وطبعًا لم يقف الزملاء مكتوفي الأيدي … حاولوا تهدئة الريس بلا فائدة، وحاولوا حمل أحمد على الإِذعان بلا فائدة، بل كان يقابل هدهداتهم ورجواتهم باشمئزاز؛ إذ هم في نظره أكَلَة عيش منافقون مداهنون لا يقدرون قيمة هذه الأشياء والمواقف، يلتقطون الخبز من بين أقدام الرؤساء بعد أن يلعقوا تلك الأقدام. فليَمُت قتيلًا، ولكنه أبدًا لن يكتب ألفًا للأحرار.
والعجيب أن قليلًا من زملائه الموظَّفين والكتبة هم الذين كانوا يضحكون بينهم وبين أنفسهم على المشكلة القائمة. أما الغالبية العظمي فقد أخذت الأمر على أنه مشكلة من واجبهم حلُّها برجاء هذا وممالأة ذاك، أو حتى باقتراح حل وسط؛ إذ اقترح أحدهم أن يقوم هو بكتابة ألف الأحرار حسمًا للنزاع، وقُوبل اقتراحه برفض هائل من الريس وباستنكار حاسم من أحمد رشوان.
وسرعان ما ضاق صدر الريس عبد اللطيف، فهدر في جميع مَن بمكتبه يأمرهم بالخروج مقسمًا بالله العظيم ثلاثًا أن سيكون جزاؤه على تلك الفعلة هو الرفت العاجل … اليوم بلا أي تأخير. قال هذا وهو يعتصر قبضتَيه، ويصر على أسنانه، ويجهز نفسه لكتابة مذكِّرة مستعجلة جدًّا لمدير عام الشركة، يطلب فيها فصل أحمد رشوان فورًا؛ إذ الجريمة في نظره أخطر جريمة … عصيان واغتصاب، وإذا لم تعالَج الأمور بحزم؛ وبتر فممكن أن تسري عدواها إلى بقية الموظفين.
أما أحمد فقد أخذه الزملاء إلى حجرتهم، وأحضروا له فنجان قهوة رفض أن يشربه، وظلوا يتحايلون عليه يحذِّرونه من العقاب، ويقسمون له أن المشكلة الآن حلها بسيط، وأن الريس عبد اللطيف عصبي صحيح، ولكنه ابن حلال، فأقل اعتذار يرضيه.
ولكن أحمد ظل يهز لهم رأسه باستمرار، بل كان حريصًا على أن تظل الابتسامة طوال الوقت فوق ملامحه؛ حتى لا يعتقد زملاؤه أنه مهزوز، مع أنه كان مهزوزًا … كان قد صمم تصميمًا نهائيًّا خطيرًا على عدم التراجع؛ فقد كان يدرك أنه لو تراجع فلن يحترم نفسه بعدها. هو الذي يعتبر أن ميزته الوحيدة أنه يحترم نفسه … بل سر حرصه على الأدب الجم في معاملة الناس أنه يريدهم أن يعاملوه بأدب، فإذا فقد احترامه لنفسه؛ فأي قيمة تبقى له كإنسان؟
وسرى الخبر طبعًا في أنحاء المكتب … وتلقَّفته الأفواه ضاحكة وساخرة ومعقبة، حتى أصبح الخبر نكتة تُروى، وصار الموظفون الكائنون في الأجنحة البعيدة يتسابقون إلى حجرة أحمد رشوان؛ ليتفرجوا على زميلهم العجيب الغريب الذي رفض أن يكتب ألف الأحرار، معتقدين أنه لا بد قد أُصيب بلوثة. يحدقون في ملامحه ويشاهدون كيف يتكلم وبأي ردود يجيب ليعرفوا مدى إصابته … وكانوا يعودون إلى مكاتبهم، وقد انقسموا على أنفسهم، بعضهم يؤكد أنه مجنون، وبعضهم يؤكد أنه لا بد تعبان شوية، وآخرون يصرون على أن المسألة كلها لا تعدو أنه ابتلع ليلة الأمس قطعة حشيش، لا يزال مفعولها ساريًا في جسده، ويؤكدون قائلين: دا من شكله باين عليه حشَّاش.
•••
وعن طريق الريس عبد اللطيف وصل الأمر إلى المدير العام. والظاهر أنه لم يكن لديه ما يشغله، أو أنه وجد المشكلة غريبة ومضحكة في الوقت نفسه، وأراد أن يتفرج على الموظف الأعجوبة هذا الذي رفض أن يكتب ألف الأحرار. الظاهر هذا لأنه بناء على المذكرة التي قدمها السيد عبد اللطيف كان باستطاعته أن يمضي قرار الفصل في الحال، أو يخفض العقاب إلى خصم وإنذار مثلًا.
وأن يطلب المدير العام موظفًا صغيرًا معناه في العادة كارثة سوف تحل بالموظف، أقلُّها أن يُوقَف أو يُفصل أو يُتَّهم في تبديد. وهكذا مضى أحمد يتلقَّى كلمات التعزية والتشجيع، وهو يخطو إلى مكتب المدير العام بخطوات راعى أن تكون منتظمة ومتماسكة ووقورة.
وكانت أول مرة يدخل فيها أحمد مكتب المدير العام، وخُيل إليه حين أصبح في الداخل أنه لم يرَ في حياته مكانًا فيه كل تلك الفخامة والأناقة والروعة، حتى النتيجة المعلَّقة على الحائط مطلية بماء الذهب. وكل شيء في الحجرة مدير عام؛ المقاعد والستائر والهواء المكيف اللذيذ الذي يكاد يصيب الداخل بقشعريرة جنسية، والسكون التام المطبِق الذي تحس فيه بدقات ساعة يدك عالية قبيحة بلدية.
وما كاد أحمد يستجمع شعاعات نفسه الطائرة، ويلتقط أنفاسه، ويبدأ يبحث عن المدير العام في تلك الصالة الفخمة الواسعة، حتى فوجئ بصوت نحيف يقول له: قرب يا شاطر.
وتقدم أحمد بضع خطوات أخرى حتى بدأ يتبيَّن ذلك الرجل النحيف جدًّا القابع وراء المكتب، لا يظهر منه غير رأس دقيق كرأس الفأر. وبينما أحمد حائر ماذا يفعل أو يقول، جاءه الصوت مرة أخرى: إيه الحكاية؟ فيه إيه؟ مش عايز تكتب ألف الأحرار ليه يا شاطر؟
ووجد أحمد نفسه باندفاع ولا إرادة: عشان أنا إنسان يا سيادة المدير.
وضحك المدير وقهقه … ضحك كثيرًا جدًّا، وظل كرسيه يدور به وهو يضحك ويعلو، حتى كاد يصبح فوق المكتب. وعرق أحمد وتلجلج وأحسَّ أنه قال كلمة سخيفة لا معنى لها؛ إذ ما أدرى المدير العام بكل ما دار في عقله من خواطر؟ وبدأ يبتلع ريقه وأفكاره بسرعة؛ ليبلل حلقه الجاف وعقله ويستطيع أن يتكلم، وتكلم … وشرح للمدير كل ما عنَّ له من خواطر. وكلما رأى الرجل يستمع كان يحس أنه رجل طيب جدًّا، على عكس ما يتصوره الناس عن مديري العموم.
وحين انتهى فوجئ بالمدير العام يقهقه ويدور في كرسيه، والكرسي يهبط به حتى كاد يصبح تحت المكتب … واعتمد المدير رأسه على كفَّيه وقال: أمال انت فاكر ايه ياسمك إيه؟ دا مش انت بس اللي مكنة … انت مكنة وعبد اللطيف رئيسك مكنة، وأنا مكنة، وكلنا مكن. مش أنا المدير العام أهه؟ رئيسي عضو مجلس الإدارة المنتدب افرض قال لي اشتري ألف سهم من أسهم الشركة، أقدر أشتري ٩٩٩؟ لازم أشتري ألف، وإذا عملت كده أترفد ولَّا لأ؟ طبعًا أترفد. يبقى أنا في الحالة دي إيه؟ انطق. أبقى إيه؟
وقال أحمد بصوت لم يصل أبدًا إلى أذن المدير: تبقى سيادتك مكنة.
فقال المدير وهو يستدير في كرسيه، ويولي أحمد رشوان ظهره، والمشكلة بالنسبة إليه قد انتهت: روح أحسن اعتذر لرئيسك. وأنا حاكتفي بخصم يوم واحد من مرتبك. اتفضل! كلنا مكن يا مغفل … كلنا مكن.
وانتظر المدير قليلًا ليترك لأحمد فرصة الانسحاب، وبعد لحظة استدار مرة أخرى، وإذا به يفاجأ بأحمد رشوان لا يزال واقفًا، بل فوجئ أكثر حين وجد أنه قد انتظر اللحظة التي يواجهه فيها ليقول: بس أنا إنسان يا سيادة المدير … أنا إنسان.
– إنسان في عينك قليل الأدب ما تختشيش. ده جزا اللي يعاملكم بشفقة؟ غور من وشي يلَّا غور.
– يا سيادة المدير أنا بكالوريوس تجارة، أنا مش …
– غور من وشي.
وقبل أن يفتح أحمد فاه مرة أخرى كان الباب قد فُتح، ودخل الساعي وجذبه من يده برفق وأخرجه وأغلق الباب.
ولكنه ما كاد يصبح في الطرقة حتى كان جرس المدير يدق، وحتى كان قد استُدعي مرة أخرى للمثول في مكتبه.
ودخل أحمد بوجه شاحب كوجوه المنومين مغناطيسيًّا، وكأنما هو مدفوع للمضي في الطريق الذي صمم عليه بقُوًى خفية أكبر منه. والمدير العام أيضًا كان متجهمًا صارمًا، وكأنما قد نبتت له فجأة أنياب أظافر.
وخَير أحمد بين الموافقة على كتابة الألف فورًا وخصم ثلاثة أيام من مرتبه، أو فصله نهائيًّا من الشركة.
وما كاد أحمد يفتح فاه ويقول: أنا … حتى كانت يد المدير على الزر، وحتى كان السيد عبد اللطيف داخل الحجرة، وكأنما انشقت عنه الأرض. وكلمة واحدة قالها المدير لعبد اللطيف: ارفدوه.
ثم لم يلبث أن أردف: دلوقت حالًا.
•••
ورفدوه.
سلمه عبد اللطيف الأمر الإداري بفصله، وطالبه بتسليم العهدة، ونصحه مدير المستخدمين بأن يرفع قضية على الشركة؛ لعل وعسى …
والتفَّ الزملاء حول أحمد حين عاد إلى الحجرة ليسلم ماكينته الكونتننتال، وهي كل عهدته. كان في وجوههم أسًى كثير ورثاء، ولكنه كان في قرارة نفسه يرثي لهم هم. كان يحس أنه وحده الإنسان، وأنهم هم من فَرَّاشهم إلى مديرهم العام مجرد ماكينات كاتبة وحاسبة وكانسة ومفتشة.
وبينما كان أحمد يعبث بأحرف المكنة ليتأكد من سلامتها، دق صدفة على حرف الألف، ولكنه فوجئ بأن ذراعها لا ترتفع، ودق مرة أخرى ولم ترتفع الذراع.
واعتقد زملاؤه أنه لا بد قد جُن حقيقة حين انطلق إلى حجرة الريس عبد اللطيف، وهو يصرخ بطريقة مختلفة تمامًا عن طريقته المؤدبة وبانفجار: الحق يا ريس … اتفضل آهي الماكنة رافضة تكتب الألف. هيه! ارفدوها بقى هيه رخرة يا ريس … ارفدوها.
فقال الريس عبد اللطيف وهو يكح: المكن يا بني لما بيرفض الكتابة ما بيترفدش، بيصَّلَّح … ابقوا ودُّوها الورشة وصلحوها.
•••
وغادر أحمد مبنى الشركة وأصبح في الشارع، ولكنه بعد قليل لم يعُدْ يعرف في أي الشوارع يمشي؛ فقد ظل يسير كالمفيق من حادث، كالحالم؛ كالمصدوم، يسير بلا وعي وبلا هدف أو وجهة. وأخيرًا وجد نفسه مرة أخرى في شارع سليمان قريبًا من لافتة الشركة ومبناها. ولم يستطع أن يمنع خاطرًا صبيانيًّا خطر له، وجعله يقرأ اللافتة، وكأنه يراها ويتأملها لأول مرة. وفقط حين كاد ينتهي من قراءتها، أدرك أنه قد رُفد اليوم، وأنه فقد عمله، وأن عليه أن يستعد لأيام وربما سنوات عجاف، وأن سبب رفده أغرب سبب؛ إصراره على أنه إنسان.
ومرة أخرى نظر حوله … الشارع يموج بالناس والعربات والدراجات، والناس تسابق العربات، والدراجات تسابق الناس وهو ماشٍ، لا يسابق دراجة ولا تسبقه عربة، بلا هدف ولا وجهة. وفجأة أحسَّ بشيء حار يندلع في حلقه، شيء جعله يقف في وسط الشارع، ولا يشعر بنفسه إلا وهو يصرخ ويقول: أنا إنسان.
والتفتت رءوس المارة مندهشة ناحيته، وأطلت من العربات وجوه، وأُلقِيت عليه نظرات كثيرة مستغربة. وقال واحد: الناس باين عليها اجَّننت!
وضحك طفل، وزأر كلاكس يأمر أحمد بإخلاء الطريق.
ولم يستغرق هذا كله إلا لحظة خاطفة، ثم لم تلبث الحركة أن عادت في الشارع إلى سابق عهدها، وكأن شيئًا لم يحدث.