الليلة الخامسة عشرة
وجرى مرة كلامٌ في الممكن، فحكيتُ عن ابن يعيش الرَّقيِّ فصلًا سمعتُه يقوله لا بأس
برسمه في هذا الموضع، فإن التشاور في هذا الحرف دائم متصل وينبغي لنا أن نبحث عنه بكلِّ
زَحْف وحَبْو،
١ وبكل كدٍّ وعَفْو.
قال: الممكن شبيهٌ بالرؤيا لا بدنَ له يستقلُّ به، ولا طبيعة يتحيَّز فيها، ألا ترى
أن الرؤيا تنقسم على الأكثر والأقلِّ والتساوي؟ وكما أن الرؤيا ظلٌّ من ظلال اليقظة
والظلُّ يَنقُص ويزيد إذا قِيس إلى الشخص، كذلك الممكن ظلٌّ من ظلال الواجب، فطَوْرًا
يزيد تشابهًا للواجب، وطورًا ينقص تَشَاكُهًا للممتنع، وطورًا يتساوى بالوسط.
قال: والواجب لا عَرَض له، لأنه حدٌّ واحد، وله نصيب من الوَحدة بدليل أنه لا تغيُّر
له ولا حيلولة لا بالزمان ولا بالمكان ولا بالحدثان ولا بالطبيعة ولا بالوهم ولا
بالعقل، بل العقل ينقاد له، والطبيعة تُسلِم إليه، والوهم يَفْرَق منه، وصورة الواجب
لا
يَحْدُسها الظن، ولا يتحكَّم فيها تجويز، ولا يتسلط عليها دامغ ولا ناسخ. وهذا الحُكم
يطَّرد على الممتنِع، لأنه في مقابلته على الضد، أعني أنه لا بدن له فيكون له عَرَض،
والعرَض كلُّه للممكن بالنعت الذي سلف من الكثرة والقلة والمساواة.
ولهذا تعلَّقت التكاليف به في ظاهر الحال وبادئ الأمر وعارض الشان، واستولى الوجودُ
عليه بباطن الحال وخفيِّ الأمر وراتب
٢ الشان، لكن هذا الفصل الذي اشتمل على الظاهر والباطن ليس ينكشف للحس كما
ينكشف للعقل.
ولمَّا كنا بالحس أكثر — وإن كنا لا نخلو في هذه الكثرة من آثار العقل — لزِمَنا
الاعترافُ بعوائد الممكِن وعلائقِه، والعمل عليه، والرجوع إليه إذا أَمَرْنا أو
نَهَيْنا أو ائْتَمَرْنا [أو انتهينا].
٣
ولمَّا ظهر لنا بإزاء هذا الذي كنا به أكثر أن لنا شبحًا آخر نحن به أقل، وهو العقل،
يشهد لنا بأن صورة الوجوب استولت من مبدأ الأمر إلى منقطعه الذي هو في عَرض الواجب إلى
آخر الممتنِع.
وكما لزمَنا الاعترافُ الأول لنكون به عاملين ومستعملين، ورافعين وواضعين، ولائمين
ومَلومين، ونادمين ومُندِمين؛ كذلك لزمَنا الاعترافُ بسلطان الواجب الذي لا سبيل إلى
عزله، ولا محيصَ عن الإقرار به، ولا فكاك من اطِّراده بغير دافع أو مانع.
واتصل كلامُ ابن يعيش على تقطُّع في عبارته التي ما كانت أداتُه تُواتِيه فيها مع
تدفُّق خواطره عليها؛ فقال: الرؤيا ظلُّ اليقظة، وهي واسطةٌ بين اليقظة والنوم، أعني
بين ظهور الحسِّ
٤ بالحركة وبين خفائه بالسكون.
قال: والنوم واسطة بين الحياة والموت، والموتُ واسطةٌ بين البقاء الذي يتصل بالشهود
٥ وبين البقاء الذي يتصل بالخلود.
قال: وهذا نعتٌ على تسهيل اللفظ وتقريب المراد والتصور. و[دون] الثقةُ شوك القَتاد،
وازدرادُ العَلْقَم والصاب، للحواجز القائمة والموانع المعترِضة من الإلف والمَنشأ وغير
ذلك مما يطول تعديده ويشقُّ استقصاؤه.
فقال:
٦ هذا كلامٌ ظريف، وما خِلتُ أن ابنَ يعيش مع فدامته،
٧ ووَخامَتِه يسحب ذيلَه في هذا المكان، ويُجري جوادَه بهذا العِنان.
قلتُ له: إن له مع هذه الحال مَراميَ بعيدة، ومَقاصدَ عالية، وأطرافًا من المعاني
إذا
اعتلقها دَلَّ عليها، إما بالبيان الشافي وإما بما يكون طريقًا إلى الوَهم
الصافي.
وقلتُ: لقد مر له اليومَ شيءٌ جرى بينه وبين أبي الخير اليهوديِّ استُفيد
٨ منه.
قال: وما ذاك؟ انثُرْ علينا دُرَرَ هذه الطائفة التي نميل إليها بالاعتقاد وإن كنا
نقع دونها بالاجتهاد، ونسأل الله أن يرحم ضعفَنا الذي منه بُدِئْنا
٩ ويبدِّلَنا قوةً بها نجد قُربَنا في آخرنا!
قلتُ: ذكر أن العقل لا غَناء
١٠ له في الأشياء التي تغلب عليها الحيلولة والسَّيَلان والتطوُّل، كما أن
الحس لا ينفُذُ في الأمور التي لا تطوُّر لها بالحيلولة والتطول، ولذلك عُرفت الحِكمةُ
في الكائنات الفاشيات،
١١ وخفيت العِللُ والأسبابُ في بُدُوِّها وخُفْيتِها وتبدُّدها وتآلُفِها، لكن
هذا الفرق والخفاءَ مسلَّمان للقدرة المستعلِية والمشيئة النافذة.
قال: ولهذا الترتيب سرٌّ
١٢ به حَسُن هذا النعت، وإليه انتهَى هذا البحث، وذلك أن خَفاء ما خَفِيَ
بحَقِّ الأول أُلْحِق، وبدوِّ ما بدا من نصيبٍ أُطْلِق للذي
١٣ لا يحتمل غير هذا الثقل، ولو خُفِّف عنه هذا لَلَحِق الإنسانُ البهائمَ،
ولو ثقُل عليه هذا لَلَحِق الملائكة، فكان حينئذٍ لا يكون إنسانًا. وقد وجب في الأصل
أن
يكون إنسانًا كاملًا بالنَّصَب والدَّأَب، ويَمتعِض من أن تكون صورة الإنسان عنده
مُعارة، لأنه في الحقيقة حيوان غير ناطق، بل يجتهد بسعيه وكدحه أن يصير إنسانًا فاضلًا،
ويكون في فضله وكمالِه ملَكًا، أعني بالمشاكَهة الإرادية لا بالمشاكَهة النوعية.
قال: وغاية الحكمة منها للمباشرين لها أن المعرفة تقف على حَيْلولتها ولسيلانها فقط،
لا على تصفُّح أجزائها، لأن الترتيب فيها يستحيل مع الزمان.
ألا ترى أن الرَّقْم على الماء لا صورة له؟ لأن صفحة الماء لا ثبات لها، وكذلك الخط
في الهواء، وكذلك الكائنات البائدات
١٤ لا صورة لها لأنها لا ثبات لها، وأنت إذا وجدتَ شيئًا لا ثبات له لم تضمَّ
إليه شيئًا آخر لا ثبات له طمعًا في وقوع الثبات بينهما، هذا ما لا يدين به وَهْمٌ، ولا
ينقاد له ظنٌّ، ولو ساغ هذا لساغ أن يُجمع بين ما له ثبات وبين ما له أيضًا ثبات، فيحدث
هناك سَيَلانٌ واستحالة.
وقال: وصفُ العقل بشهادة الحس، كما يكون وصف الحسِّ بشهادة العقل، إلا أن شهادة الحس
للعقل شهادة العبد للمولى، وشهادة العقل للحس شهادة المولى للعبد. على أن هاتين
الشهادتين لا تطَّردان ولا تستمران، لأن لكل واحد من الحس والعقل تفرَّدًا بخاصِّ ما
لَه، ولذلك ما وُجد حيوانٌ لا عقل له البتة، ووُجد في مقابلته حيٌّ لا حسَّ له.
ثم قال: بل العقل يحكم في الأشياء الرُّوحانية البسيطة الشريفة من جهة الصُّوَر
الرفيعة. والعلائقُ التي بين المعقولات والمحسوسات مانعت العقل، والعاقل من خلَّص
١٥ الباقيات الخالدات الدائمات القائمات الثابتات من حومة الكائنات الفاسدات البائنات
١٦ الذاهبات الحائلات الزائلات المائلات البائدات.
ودخل في هذا التلخيص ضربٌ من الشكِّ والتماري والخصومة والتعادي والتعنُّت إلى اختلاف
عظيم، ووقفتُ عن الحُكم بعد اليقين.
وقال — أدام الله سعادته: ما السَّجيَّة؟
١٧ قلتُ: سمعتُ الأندلسيَّ يقول: فلان يَمشي على سجيَّته، أي طبعه.
قال: هل يقال: ظفِرتُ عليه؟ قلتُ: قد قال شاعرهم:
وكانت قريش لو ظفِرنا عليهمُ
شفاءً لما في الصَّدر والنقصُ ظاهرُ
قال: هذا حسَن. قلتُ: الحروف التي تتعدَّى إلى الأفعال، والأفعالُ التي تتعدَّى
بالحروف؛ يُراعَى فيها السماعُ فقط لا القياس، هذا كان مذهب إمامنا أبي سعيد.
وقد جاء أيضًا «ظَفِر به»، وجاء «سخِرتُ به ومنه.»
ومن لا اتِّساع له في مذهب العرب يظنُّ أن «سخِرُت به» لا يجوز وهو صحيح، حكاه أبو
زيد.
قال: كيف يقال في جَمَل به غُدَّة؟ فكان من الجواب: جَمَلٌ مُغِدٌّ. قال: فكيف يُجمع؟
فكان الجواب بأنه في القياس ظاهر، ولكن السماع قد كفى: قال الشاعر — وهو خِراش بنُ
زُهير:
فقدْتُكمو
١٨ ولَحْظكمو إلينا
ببَطْن عُكاظَ كالإبل الغِدادِ
١٩
ضَربْناهمْ ببطن عكاظَ حتَّى
تَولَّوْا طالِعِين مِن النِّجادِ
وقال — حرس الله نفسه: من لقبه
٢٠ الخُرَسِيِّ إلى أي شيء يُنْسَب؟
فكان من الجواب: يقال: رجل خُراسانِيٌّ وخُرَسِيٌّ وخُراسِيٌّ، فنُسِبتْ
٢١ إلى رجل نزلها
٢٢ فاشتُهِرت به.
فقال: القَذال كيف يُجْمع؟ فكان من الجواب أن فَعالًا وفِعالًا وفُعالًا وفعيلًا
وفُعولًا أخوات تُجْمع في الأقل على أَفْعِلة، يقال: حِمار وأَحْمِرة، وغُراب وأَغْربة،
وقَذال وأَقذِلة، وعمود وأَعمدة.
قال: نسيتُ
٢٣ أسألك عن المسألة الأولى — أعني الخُرَسيَّ — من أين لك تلك
الفُتْيا؟
فكان من الجواب: قرأتُه على أبي سعيد الإمام في شرحه كتابَ سيبويه.
قال: برَّدْتَ غَليلي، فإن الحجة في مِثل هذا متى لم تكن بأهلها كانت
متلجلِجة.
قال: أنشدْني شيئًا نختم به المجلسَ فقد مرَّت طرائف.
فأنشدتُه لعُمارةَ بن عَقيل في بنت
٢٤ له:
حبُّك يا ذاتَ الأُنَيْف الأَكْشَمِ
٢٥
حبٌّ تَساقاه مُشاسُ
٢٦ أَعْظُمِي
ودبَّ بين كَبِدي ومَحْزِمي
وساطَهُ
٢٧ اللهُ بلَحْمِي ودمي
فليس بالمَذْقِ ولا المكتَّمِ
ولا الذي إنْ يَتَقَادَمْ يُسْأَمِ
لقد نزلتِ من، فؤادي فاعلمي
منزلةَ الشيء المُحَبِّ المُكْرَمِ
وانصرفتُ.