الليلة السابعة عشرة
فلما عدتُ إلى المجلس قال: ما تحفظ في تَفْعال وتِفْعال، فقد اشتبها؟ وفزِعتُ إلى ابن عُبيد الكاتب فلم يكن عنده مقنَع، وألقيتُ على مِسكويْه فلم يكن له فيها مطْلع، وهذا دليلٌ على دُثور الأدب، وبَوار العلم، والإعراض عن الكدْح في طلبه.
فقلتُ: قال شيخنا أبو سعيد السيرافي الإمام — نضَّر الله وجهه: المصادر كلها على تَفْعَالٍ بفتح التاء، وإنما تجيء تِفْعالٌ في الأسماء وليس بالكثير. قال: وذكر بعضُ أهل اللغة منها ستة عشر اسمًا لا يوجد غيرُها. قال: هاتها.
قال: هذا حسَنٌ، فما تقول في تَذْكار، فإن الخوض في هذا المثال إنما كان من أجل هذا الحرف، فإن أصحابنا كانوا في مجلس الشراب فاختلفوا فيه؟ فقلتُ: هذا مصدرٌ، وهو مفتوح.
فقلتُ: السمعَ والطاعةَ مع الشرف بالخدمة.
فقال: هل رأيت هذه الرسائل؟ قلت: قد رأيت جملةً منها، وهي مبثوثةٌ من كل فنٍّ نُتَفًا بلا إشباعٍ ولا كفاية، وفيها خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات، وقد غرَق الصوابُ فيها لغلبة الخطأ عليها.
فقال له البخاري أبو العباس: ولمَ ذلك أيها الشيخ؟
قال: إن الشريعة مأخوذةٌ عن الله — عز وجل — بوساطة السفير بينه وبين الخلق من طريق الوحي، وبابِ المناجاة، وشهادةِ الآيات، وظهورِ المعجزات، على ما يوجبه العقل تارةً، ويجوِّزه تارةً، لمصالح عامةٍ متقنة، ومراشد تامةٍ مبيَّنة، وفي أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه، والغوص فيه، ولا بدَّ من التسليم للداعي إليه، والمنبِّه عليه. وهناك يسقط «لِمَ»، ويبطُل «كيف»، ويزول «هلَّا»، ويذهب «لوْ» و«ليتَ» في الرِّيح، لأن هذه المواد عنها محسومة، واعتراضات المعترضين عليها مردودةٌ، وارتياب المرتابين فيها ضارٌّ، وسكونَ الساكنين إليها نافع. وجملتُها مشتملةٌ على الخير، وتفصيلُها موصولٌ بها على حُسن التقبُّل، وهي متداوَلة بين متعلِّق بظاهرٍ مكشوف، ومُحْتَجٍّ بتأويلٍ معروفٍ، وناصرٍ باللغة الشائعة، وحامٍ بالجدل المبين، وذابٍّ بالعمل الصالح، وضاربٍ للمثل السائر، وراجعٍ إلى البرهان الواضح، ومتفقِّهٍ في الحلال والحرام، ومستنِدٍ إلى الأثر والخبر المشهورَين بين أهل الملة، وراجع إلى اتفاق الأمة.
وأساسُها على الورع والتقوى، ومنتهاها إلى العبادة وطلب الزُّلْفَى.
ليس فيها حديث المُنجِّم في تأثيرات الكواكب، وحركات الأفلاك، ومقادير الأجرام، ومطالع الطوالع، ومغارب الغوارب.
ولا حديثُ تشاؤمِها وتيامنِها، وهبوطِها وصعودها، ونحسها وسعدها، وظهورها واسْتِسْرارها، ورجوعها واستقامتها، وتربيعها وتثليثها، وتسديسها ومقارنتها.
ولا حديثُ صاحب الطبيعة الناظر في آثارها، وأشكال الأُسْطُقُسَّات بثبوتها وافتراقها، وتصريفها في الأقاليم والمعادن والأبدان، وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وما الفاعل وما المنفعل منها، وكيف تمازُجها وتزاوُجُها، وكيف تنافُرُها وتَسايُرُها، وإلى أين تسري قُواها، وعلى أي شيء يقف منتهاها.
ولا فيها حديثُ المهندس الباحث عن مقادير الأشياء ونُقَطِها وخطوطها وسطوحها وأجسامها وأضلاعها وزواياها ومقاطعها، وما الكرة، وما الدائرة، وما المستقيم، وما المنحنى.
ولا فيها حديثُ المنطقي الباحث عن مراتب الأقوال، ومَناسِب الأسماء والحروف والأفعال، وكيف ارتباط بعضها ببعض على موضوع رجل من يونان حتى يَصحَّ بزعمه الصدق، ويُنبذ الكذب.
وصاحبُ المنطق يرى أن الطبيب والمنجِّم والمهندس وكل من فاهَ بلفظٍ وأمَّ غرضًا؛ فقراء إليه، محتاجون إلى ما في يديه.
قال: فعلى هذا كيف يسُوغ لإخوان الصفاء أن ينصبوا من تلقاء أنفسهم دعوةً تجمع حقائق الفلسفة في طريق الشريعة؟
على أن وراء هذه الطوائف جماعة أيضًا لهم مآخذ من هذه الأغراض، كصاحب العزيمة وصاحب الطِّلَّسْم وعابر الرؤيا ومدَّعي السحر وصاحب الكيمياء ومستعمِل الوهم.
ويقولون: مُطِرنا بنَوْء المِجْدَح. فهذا كما ترى. والمجدح: الدَّبَران.
ثم قال: ولقد اختلفت الأمة ضروبًا من الاختلاف في الأصول والفروع، وتنازعوا فيها فنونًا من التنازع في الواضح والمُشكِل من الأحكام، والحلالِ والحرام، والتفسير والتأويل، والعِيان والخبر، والعادة والاصطلاح. فما فزعوا في شيء من ذلك إلى منجِّمٍ ولا طبيب ولا منطقيٍّ ولا مهندسٍ ولا موسيقيٍّ ولا صاحب عزيمةٍ وشَعْبَذة وسِحرٍ وكيمياء، لأن الله تعالى تمَّم الدين بنبيه ﷺ، ولم يُحْوِجْه بعد البيان الوارد بالوَحْي إلى بيانٍ موضوعٍ بالرأي.
قال: وكما لم نجد في هذه الأمة من يَفْزع إلى أصحاب الفلسفة في شيء من دينها، فكذلك أمة عيسى عليه السلام وهي النصارى، وكذلك المجوس.
قال: ومما يَزيدك وضوحًا ويُريك عجبًا أن الأمة اختلفت في آرائها ومذاهبها ومقالاتها فصارت أصنافًا فيها وفِرقًا، كالمرجئة والمعتزلة والشيعة والسُّنِّيَّة والخوارج، فما فزعتْ طائفةٌ من هذه الطوائف إلى الفلاسفة، ولا حَقَّقت مقالتها بشواهدهم وشهادتهم، ولا اشتغلَتْ بطريقتهم، ولا وجدتْ عندهم ما لم يكن عندها بكتاب ربها وأثر نبيها.
وهكذا الفقهاء الذين اختلفوا في الأحكام من الحلال والحرام منذ أيام الصدر الأول إلى يومنا هذا، لم نجدهم تظاهروا بالفلاسفة فاستنصروهم، ولا قالوا لهم: أعينونا بما عندكم، واشهدوا لنا أو علينا بما قِبَلكم.
قال: فأين الدين من الفلسفة؟ وأين الشيء المأخوذ بالوحي النازل من الشيء المأخوذ بالرأي الزائل؟
فإذ أَدَلُّوا بالعقل فالعقل موهبةٌ من الله جلَّ وعزَّ لكل عبد، ولكن بقدْر ما يدرك به ما يعلوه، كما لا يخفى به عليه ما يتلوه. وليس كذلك الوحي، فإنه على نوره المنتشر، وبيانه الميسَّر.
قال: وبالجملة، النبيُّ فوق الفيلسوف، والفيلسوف دون النبي، وعلى الفيلسوف أن يتَّبع النبي، وليس على النبي أن يتَّبع الفيلسوف، لأن النبي مبعوث، والفيلسوف مبعوثٌ إليه.
قال: ولو كان العقل يُكْتفى به لم يكن للوحي فائدةٌ ولا غَناءٌ. على أن منازل الناس متفاوتةٌ في العقل، وأنصباؤهم مختلفةٌ فيه، فلو كنا نستغني عن الوحي بالعقل كيف كنا نصنع، وليس العقل بأسْره لواحدٍ منا، وإنما هو لجميع الناس؟ فإن قال قائل بالعبث والجهل: كل عاقل موكولٌ إلى قدر عقله، وليس عليه أن يستفيد الزيادة من غيره، لأنه مكفيٌّ به، وغير مطالَبٍ بما زاد عليه.
قيل له: كفاك تماديًا في هذا الرأي أنه ليس لك فيه موافق، ولا عليه مطابق، ولو استقل إنسانٌ واحدٌ بعقله في جميع حالاته في دينه ودنياه لاستقل أيضًا بقوته في جميع حاجاته في دينه ودنياه، ولكان وحده يفي بجميع الصناعات والمعارف، وكان لا يحتاج إلى أحدٍ من نوعه وجنسه، وهذا قولٌ مرذول ورأيٌ مخذول.
قال البخاري: وقد اختلفتْ أيضًا درجات النبوة بالوحي، وإذا ساغ هذا الاختلاف في الوحي ولم يكن ذلك ثالمًا له، ساغ أيضًا في العقل ولم يكن مؤثرًا فيه.
فقال: يا هذا، اختلاف درجات أصحاب الوحي لم يخرجهم عن الثقة والطمأنينة بمن اصطفاهم بالوحي، وخصهم بالمناجاة، واجتباهم للرسالة، وأكملهم بما ألبسهم من شعار النبوة، وهذه الثقة والطمأنينة مفقودتان في الناظرين بالعقول المختلفة، لأنهم على بعدٍ من الثقة والطمأنينة إلا في الشيء القليل والنَّزْر اليسير، وعَوار هذا الكلام ظاهر، وخَطَل هذا المتكلم بَيِّن.
قال الوزير: أفما سمع شيئًا من هذا المقدسي؟ قلت: بلى قد ألقيت إليه هذا وما أشبهه بالزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير، في أوقات كثيرة بحضرة حمزة الورَّاق في الوراقين، فسكتُّ، وما رآني أهلًا للجواب. لكن الحريري غلام ابن طَرَّارة هيَّجه يومًا في الوراقين بمثل هذا الكلام، فاندفع فقال: الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء، والأنبياء يُطِبُّون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط. فأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرضٌ أصلًا، فبين مدبر المريض ومدبر الصحيح فرقٌ ظاهر وأمرٌ مكشوف، لأن غاية مدبِّر المريض أن ينتقل به إلى الصحة، هذا إذا كان الدواء ناجعًا، والطبع قابلًا، والطبيب ناصحًا. وغاية مدبر الصحيح أن يحفظ الصحة، وإذا حفظ الصحة فقد أفاده كسب الفضائل، وفرَّغه لها، وعرَّضه لاقتنائها. وصاحب هذه الحال فائزٌ بالسعادة العظمى، ومتبوِّئٌ الدرجة العليا. وقد صار مستحقًا للحياة الإلهية، والحياة الإلهية من الخلود والديمومة والسرمدية.
وقال أيضًا: إنما جمعنا بين الفلسفة والشريعة لأن الفلسفة معترِفةٌ بالشريعة، وإن كانت الشريعة جاحدةً لها. وإنما جمعنا أيضًا بينهما لأن الشريعة عامة والفلسفة خاصة، والعامة قوامها بالخاصة كما أن الخاصة تمامها بالعامَّة، وهما متطابقتان إحداهما على الأخرى، لأنها كالظِّهارة التي لا بد لها من البِطانة، وكالبطانة التي لا بدَّ لها من الظهارة.
وأما قولك في الفصل الثاني: إن إحدى الفضيلتين تقليدية والأخرى برهانية؛ فكلامٌ مدخول لأنك غلطت على نفسك، ألا تعلم أن البرهانية هي الواردة بالوحي، الناظمة للرشد، الداعية إلى الخير، الواعدة بحسن المآب، وأن التقليدية هي المأخوذة من المقدمة والنتيجة، والدعوى التي يُرْجع فيها إلى من ليس بحجة؟ وإنما هو رجلٌ قال شيئًا فوافقه آخر وخالفه آخر، فلا الموافق له يرجع إلى الوحي، ولا المخالف له يستند إلى حق. والعجب أنك جعلت الشريعة من باب الظن وهي بالوحي، وجعلت الفلسفة من باب اليقين وهي من الرأي.
وأما قولك: هذه رُوحانية (تعني الفلسفة) وهذه جسمية (تعني الشريعة)، فزخرفة لا تستحق الجواب، ولمثل هذا فليعمل المزخرفون. على أنا لو قلنا: بل الشريعة هي الروحانية لأنها صوت الوحي والوحي من الله عز وجل، والفلسفة هي الجسمية لأنها برزت من جهة رجل باعتبار الأجسام والأعراض، وما هذا شأنه فهو بالجسم أشبه، وعن لطف الروح أبعد؛ [لما أبعدنا].
وأما قولُك: الفلسفة خاصةٌ والشريعة عامة، فكلام ساقط لا نور عليه، لأنك تشير به إلى أن الشريعة يعتقدها قوم (وهم العامة) والفلسفة ينتحلها قوم (وهم الخاصة)؛ فلمَ جمعتم رسائل إخوان الصفاء ودعوتم الناس إلى الشريعة وهي لا تلزم إلا للعامة، ولم تقولوا للناس: من أحب أن يكون من العامة فليتحلَّ بالشريعة؟ فقد ناقضتم، لأنكم حشوتم مقالتكم بآياتٍ من كتاب الله تزعمون بها أن الفلسفة مدلولٌ عليها بالشريعة، ثم الشريعة مدلولٌ عليها بالمعرفة، ثم ها أنت تذكر أن هذه للخاصة وتلك للعامة، فلِمَ جمعتم بين مفترقَين، ومزَّقتم بين مجتمعَين؟ هذا والله الجهل المبين، والخُرْق المشين.
ومع ذلك يُناغِي صاحبَ كل بدعة، ويجلس إليه كلٌ متَّهم، ويلقي كلامه إلى كل من ادعى باطنًا للظاهر وظاهرًا للباطن.
قال الوزير: ما عجبي من جميع هذا الكلام إلا من أبي سليمان في هذا الاستحقار والتغضب، والاحتشاد والتعصب، وهو رجل يُعرَف بالمنطقي، وهو من غلمان يحيى بن عدي النصراني، ويقرأ عليه كتب يونان، وتفسيرَ دقائق كتبهم بغاية البيان.
فقلتُ: إن أبا سليمان يقول: إن الفلسفة حقٌ لكنها ليست من الشريعة في شيء، والشريعة حقٌ لكنها ليست من الفلسفة في شيء، وصاحب الشريعة مبعوث، وصاحب الفلسفة مبعوث إليه، وأحدهما مخصوص بالوحي، والآخر مخصوص ببحثه، والأول مكفيٌّ، والثاني كادح، وهذا يقول: أُمرت وعُلِّمت، وقيل لي، وما أقول شيئًا من تلقاء نفسي، وهذا يقول: رأيت ونظرت واستحسنت واستقبحت. وهذا يقول: نور العقل أهتدي به، وهذا يقول: معي نور خالق الخلق أمشي بضيائه. وهذا يقول: قال الله تعالى، وقال الملك، وهذا يقول: قال أفلاطن وسقراط. ويُسمع من هذا ظاهر تنزيل، وسائغ تأويل، وتحقيق سنة، واتفاق أمة، ويُسمع من الآخر الهيولى والصورة والطبيعة والأُسطقسُّ والذاتي والعرضي والأَيسي واللَّيسي، وما شاكل هذا مما لا يُسمع من مسلمٍ ولا يهودي ولا نصراني ولا مجوسي ولا مانَوي.
قال: ولعمري إن هذا صعب، ولكنه جماع الكلام، وأخذ المستطاع، وغاية ما عرض له الإنسان المؤيَّد باللطائف، المُزاح بالعلل وبضروب التكاليف.
فقال له البخاري: فهلَّا دل الله على الطريقين اللذين رسمتَهما في هذا المكان؟ قال: دلَّ وبيَّن ولكنك عمٍ، أما قال: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ، وفي فحوى هذا وما يعلمها إلا العالمون؟ فقد وصل العقلَ بالعلم كما وصل العلمَ بالعقل، لأن كمال الإنسان بهما، ألا ترى أن العاقل متى عُرِّي من العلم قلَّ انتفاعُه بعقله؟ كذلك العالم متى خُلِّي من العقل بطَل انتفاعه بعلمه، أما قال: وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا أُولُوا الأَلْبَابِ؟ أما قال: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ؟ أما قال: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟ أمَا ذمَّ قومًا حين قال: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ؟ أفما قال: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا؟ أما قال: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ؟ أما قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ؟ وكتاب الله عز وجل محيطٌ بهذا كله، وإنما تقاد إلى طاعة رسوله ﷺ بعد هذا فيما لا يناله عقلك، ولا يبلغه ذهنك، ولا يعلو إليه فكرك، فأمرك باتباعه والتسليم له، وإنما دخلت الآفة من قومٍ دهريين ملحدين ركبوا مطية الجدل والجهل، ومالوا إلى الشغْب بالتعصب، وقابلوا الأمور بتحسينهم وتقبيحهم وتهجينهم، وجهلوا أن وراء ذلك ما يفوت ذرعَهم، ويتخلف عن لحاقه رأيُهم ونظرهم، ويعمى دون كُنه ذلك بصرهم. وهذه الطائفة معروفة، منهم صالح بن عبد القدوس، وابن أبي العوجاء، ومطر بن أبي الغيث، وابن الراوَندي، والصَّيْمَري، فإن هؤلاء طاحوا في أودية الضلالة، واستجرُّوا إلى جهلهم أصحابَ الخلاعة والمجانة.
فقال البخاري: فما الذي تركتَ بهذا الوصف للذين جمعوا بين الفلسفة والديانة، ووصلوا هذه بهذه على طريق الظاهر والباطن، والخفي والجلي، والبادي والمكتوم؟ قال: تركت لهم الطويل العريض، القومُ زعموا أن الفلسفة مواطئةٌ للشريعة، والشريعة موافقةٌ للفلسفة، ولا فرق بين قول القائل: قال النبي، وقال الحكيم، وأن أفلاطن ما وضع كتاب النواميس إلا لنعلم كيف نقول، وبأي شيء نبحث، وما الذي نقدِّم ونؤخر، وأن النبوة فرعٌ من فروع الفلسفة، وأن الفلسفة أصل علم العالم، وأن النبي محتاجٌ إلى تتميم ما يأتي به من جهة الحكيم، والحكيمَ غنيٌ عنه، هذا وما أشبهه. وأن صاحب الدين له أن يعيِّن ويورِّي ويشير ويكنِّي حتى تتم المصلحة، وتنتظم الكلمة، وتتفق الجماعة، وتثبت السنة، وتحلو المعيشة، وحتى قال قائل منهم: «أوائل الشريعة أمورٌ مبتدَعة، ووسائطها سننٌ متبَعة، وأواخرها حقوقٌ منتزَعة»، وإن هذا النعت من قولي: «إن الشريعة إلهية والفلسفة بشرية»، أعني أن تلك بالوحي وهذه بالعقل، وأن تلك موثوقٌ بها ومطمأَنٌ إليها، وهذه مشكوكٌ فيها مضطرَبٌ عليها.
قال له البخاري: فلِمَ لمْ ينهج صاحب الشريعة هذه الطريق، وكان يزول هذا الخصام، وينتفي هذا الظن، وتكسَد هذه السوق؟ فقال: إن صاحب الشريعة مستغرَقٌ بالنور الإلهي، فهو محبوس على ما يراه ويبصره، ويجده وينظره، لأنه مأخوذ بما شهِده بالعِيان، وأدركه بالحس، وناله بوديعة الصدر عن كل ما عداه، فلهذا يدعو إلى اقتباس كماله الذي حصل له، ولا يسعَد بدعوته إلا من وفِّق لإجابته، وأذعن لطاعته، واهتدى بكلمته. والفلسفة كمال بشري والدين كمالٌ إلهي، والكمال الإلهي غنيٌ عن الكمال البشري، والكمال البشري فقيرٌ إلى الكمال الإلهي، فهذا هذا. وما أمر الله عز وجل بالاعتبار، ولا حثَّ على التدبر، ولا حرك القلوب إلى الاستنباط، ولا حبب إلى القلوب البحث في طلب المكنونات؛ إلا ليكون عباده حكماء ألبَّاء أتقياء أذكياء، ولا أمر بالتسليم، ولا حظر الغلو والإفراط في التعمق إلا ليكون عباده لاجئين إليه، متوكلين عليه، معتصمين به، خائفين منه، راجين له، يدعونه خوفًا وطمعًا، ويعبدونه رغبًا ورهبًا، فبيَّن ما بيَّن حرصًا على معرفته وعبادته، وطاعته وخدمته، وأخفى ما أخفى لتدوم حاجتُهم إليه، ولا يقع الغِنى عنه، وبالحاجة يقع الخضوع والتجرد، وبالاستغناء يعرض التجبر والتمرد، وهذه أمورٌ جاريةٌ بالعادة، وثابتة بالسيرة الجائرة والعادلة، ولا سبيل إلى دفعها ورفعها وإنكارها وجحدها، فلهذا لزم كلَّ من أدرك بعقله شيئًا أن يتمِّم نقصه بما يجده عند من أدرك ما أدرك بوحْيٍ من ربه.
وقال أيضًا: مما يؤكد هذه الجملة أن الشريعة قد أتت على معقولٍ كثير بنور الوحي المنير، ولم تأتِ الفلسفة على شيء من الوحي لا كثيرٍ ولا قليل.
قال: وليس ليونان نبيٌ يُعرف، ولا رسولٌ من قبَل الله صادق، وإنما كانوا يَفزعون إلى حكمائهم في وضع ناموسٍ يجمع مصالح حياتهم ونظام عيشهم ومنافع أحوالهم في عاجلتهم، وكانت ملوكهم تحب الحكمة وتؤثر أهلها، وتقدِّم من تحلَّى بجزء من أجزائها، وكان ذلك الناموس يُعمل به ويُرجع إليه، حتى إذا أبلاه الزمان، وأخلقه الليل والنهار، عادوا فوضعوا ناموسًا آخر جديدًا بزيادة شيء على ما تقدم أو نقصانٍ، على حسب الأحوال الغالبة على الناس، والمغلوبة بين الناس، ولهذا لا يقال: إن الإسكندر في أيام ملكه حين سار من المغرب إلى المشرق كانت شريعته كذا وكذا، وكان يذكر نبيًّا يقال له فلان، أو قال: أنا نبي، ولقد واقع دارًا وغيره من الملوك على طريق الغلبة في طلب الملك، وحيازة الديار، وجباية الأموال، والسبي والغارة، ولو كان للنبوة ذكرٌ وللنبي حديثٌ لكان ذلك مشهورًا مذكورًا، ومؤرَّخًا معروفًا.
قال الوزير: هذا كلامٌ عجيبٌ ما سمعت مثله على هذا الشرح والتفصيل. قلتُ: إن شيخنا أبا سليمان غزير البحر، واسع الصدر، لا يُغلَق عليه في الأمور الرُّوحانية والأنباء الإلهية والأسرار الغيبية، وهو طويل الفكرة، كثير الوحدة، وقد أوتي مزاجًا حسن الاعتدال، وخاطرًا بعيدَ المنال، ولسانًا فسيح المجال. وطريقته هذه التي اجتباها مكتنَفةٌ بمعارَضاتٍ واسعة، وعليها مداخل لخصمائه، وليس يفي كل أحدٍ بتلخيصه لها، لأنه قد أفرز الشريعة من الفلسفة، ثم حث على انتحالهما معًا، وهذا شبيهٌ بالمناقضة. وقد رأيت صاحبًا لمحمد بن زكرياء في هذه الأيام ورد من الرَّي يقال له أبو غانم الطبيب يشادُّه في هذا الموضع ويضايقه، ويُلزمه القول بما ينكره على الخصم، وإذا أذنتَ رسمتُ كلامهما في ورقات. فقال الوزير: قد بان الغرض الذي رمى إليه، وتقليبُه بالجدل لا يزيده إلا إغلاقًا، والقصد معروف، والوقوف عليه كافٍ، ومع هذا فليتَ حظَّنا منه كان يتوفر بالتلاقي والاجتماع لا بالرواية والسماع. هات فائدة الوداع فقد بلغتَ في المؤانسة غاية الإمتاع.
قلت: أكره أن أختم مثل هذه الفِقَر الشريفة بما يشبه الهزل وينافي الجِد، فإن أذنتَ رويتُ ما يكون أساسًا ودِعامة لما تقدم. قال: هات ما أحببتَ، فما عهدنا من روايتك إلا ما يشوِّقنا إلى رؤيتك.
قلت: قال ابن المقفع: عمل الرجل بما يعلم أنه خطأٌ هوًى والهوى آفةُ العفاف، وتركُه العمل بما يعلم أنه صوابٌ تهاوُن والتهاون آفةُ الدين، وإقدامُه على ما لا يعلم أصوابٌ هو أم خطأٌ لَجاج واللَّجاج آفة الرأي.
فحكيتُ أنه لما تقلد كسرى أنوشروان مملكتَه عكف على الصَّبُوح والغَبُوق، فكتب إليه وزيره رقعةً يقول فيها: إن في إدمان المَلك ضررًا على الرعية، والوجهُ تخفيف ذلك والنظرُ في أمور المملكة. فوقَّع على ظهر الرقعة بالفارسية بما ترجمتُه: يا هذا، إذا كانت سبلنا آمنة، وسيرتنا عادلة، والدنيا باستقامتنا عامرة، وعُمالنا بالحق عاملة، فلِمَ نمنع فرحةً عاجلة؟
ثم قال: وعلى الضد: متى كان السائس ذا تحفظٍ وبحثٍ، وتتبُّعٍ وحزمٍ، وإكبابٍ على لم الشعَث وتقويم الأوَد وسد الخلَل وتعرُّف المجهول وتحقق المعلوم ورفع المنكر وبث المعروف؛ احترستْ منه العامة والخاصة، واستشعرت الهيبة، والتزمت بينها النَّصَفة، وكُفِيت كثيرًا من معاناتها ومراعاتها، وإن كان للدولة راصدٌ للغرة يئس من نفوذ الحيلة فيها، لأن اللص إذا رأى مكانًا حصينًا وعهِد عليه حراسًا لم يحدث نفسه بالتعرض له، وإنما يقصد قصرا فيه ثُلمة، وبابًا إليه طريق. والأعراض بالأسباب، وإذا ضَعف السبب ضَعف العرَض، وإذا انقطع السبب انقطع العرَض.
فقال — أدام الله أيامه: هذا كلامٌ كافٍ شافٍ. وقال بعد ذلك: حدِّثني عما تسمع من العامة في حديثنا.
قلتُ: سمعت بباب الطاق قومًا يقولون: اجتمع الناس اليوم على الشط، فلما نزل الوزير ليركب المركب صاحوا وضجوا وذكروا غلاء القوت وعَوَز الطعام وتعذر الكسب وغلبة الفقر وتهتُّك صاحب العيال، وأنه أجابهم بجوابٍ مُرٍّ مع قطوب الوجه وإظهار التبرم بالاستغاثة: بعدُ لم تأكلوا النُّخالة.
وقال بعض الحكماء: إن المدن تُبنى على الماء والمرعى والمحتطَب والحصانة.
وقال الشاعر:
وكانت دية العربي مائة وَسْقٍ، ودية الهجين خمسين وسقًا، ودية المولى عشرة أوسق. وكانت العرب تجعل دية المُعِمِّ المُخْوِل مائة بعيرٍ، ودية المولى خمسةً وعشرين بعيرًا.
وقال جرير:
وقال جندل بن صخرٍ، وكان عبدًا:
وقتل الكلبيُّ عبدَ الله بن الجَوْشَن الغطفاني بقتله ابنه الجرَّاح بن عبد الله (روَّاد)، وكانوا عرضوا عليه الدية، فقال:
سئل عليه السلام عن ضالة الغنم، فقال: هي لك أو لأخيك أو للذئب.
وقال أبي بن كعب: أصبتُ مائة دينارٍ على عهد النبي ﷺ، فقال: احفظ عفاصها ووكاءها وعددها، فإن جاء صاحبُها فأخبرك بعددها وعفاصها ووكائها فأدها إليه وإلا فعرِّفها سنة، ثم استمتِع بها.
قال: وليس لشيء من الحيوان سَنامٌ إلا البعير، ولبعض البَخاتيِّ سَنامان، ولبعض البقر شيء صغيرٌ على موضع الكاهل. والجمل يبول إلى خلفٍ وكذلك الأسد. وقضيبُ الجمل من عَصَبٍ، وقضيب الإنسان من لحمٍ وغضروفٍ، وقضيب الذئب والثعلب من عظمٍ، وقضيب ذكر الأرانب من عظمٍ على صورة الثقب كأنه نصف أنبوبةٍ مشقوقة. وفي قلب الثور عَظم، وربما وُجد في قلب الجمل. والمرأة تلد من قُبل، والناقة من خلف. وزمان نَزْو الجمال في شُباط. والإناثُ من الإبل تحمل اثني عشر شهرًا وتضع واحدًا وتَلْقَح إذا بلغتْ ثلاث سنين، وكذلك الذكر، ثم تقيم الأنثى سنةً ثم يُنْزى عليها.
وزعم صاحب المنطق أن الجمل لا ينزو على أمه، وإن اضطُرَّ كرِهه.
قال: وقد كان رجلٌ في الدهر السالف ستر الأمَّ بثوبٍ ثم أرسل بكرًا عليها، فلما عرف ذلك لم يتم وقطع، وحقد على الجمَّال فقتله.
هذا كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه.
قال حذيفة: كن في الفتنة كابن اللَّبُون؛ لا ظهر فيُركب ولا لبن فيُحلب.
قال ديوجانس: إن المرأة تُلقَّن الشر من المرأة، كما أن الأفعى تأخذ السمَّ من الأصِلَّة.
وقال فيثاغورس: إن كثيرًا من الناس يرون العمى الذي يعرض لعين البدن فتأباه أنفسهم، فأما عمى عين النفس فإنهم لا يرونه ولا تأباه أنفسهم، فلذلك لا يستحيون.
وقال أيضًا: كما أن الذي يسلك طريقًا لا يعرفه لا يدري إلى أي موضعٍ يؤديه، كذلك الذي يسمع كلامًا لا يعرف الغرض فيه لا يربح منه إلا التعب.
قيل لديوجانس: أيهما أولى طلب الغنى أم طلب الحكمة؟ فقال: للدنيا الغِنى، وللآخرة الحكمة.
وقيل له: متى تطيب الدنيا؟ قال: إذا تفلسف ملوكُها وملَك فلاسفتُها.
فقال الوزير — أسعده الله: عندي أن هذا الكلام مدخول، لأن الفلسفة لا تصح إلا لمن رفض الدنيا وفرَّغ نفسه للدار الآخرة، فكيف يكون الملِك رافضًا للدنيا وقاليًا لها، وهو محتاجٌ إلى سياسة أهلها والقيام عليها باجتلاب مصالحها ونفي مفاسدها، وله أولياء يحتاج إلى تدبيرهم وإقامة أبنيتهم والتوسعة عليهم ومواكلتهم ومشاربتهم ومداراتهم والإشراف على سرهم وعلانيتهم؟ والملك أتعب من الطبيب الذي يجمع معالجةً كثيرةً بضروب الأدوية المختلفة والأغذية المتباينة، هذا والطبيب فقيرٌ إلى تقديم النظر في نفسه وبدنه، ونفي الأمراض والأعراض عن ظاهره وباطنه، ومن كان هكذا ومن هو أكثر منه وأشد حاجةً وعلاقةً كيف يستطيع أن يكون ملِكًا وحكيمًا؟! ولعل قائلًا يظن هذا ممكنًا، ويكون الملِك واعيًا في الحكمة بالدعوى، وقائمًا بالمُلك على طريق الأوْلى، وهذا إلى التِياث الأمر واختلاله واختلاطه في الملك والفلسفة [أقرب منه إلى إحكام الأصل وإثبات الفرع. قال: ولهذا] لم نجد نحن في الإسلام من نظر في أمر الأمة على الزهد والتُّقَى وإيثار البر والهدى إلا عددًا قليلًا. والمجوس تزعم أن الشريعة معرِّجةٌ عن الملك، أي الذي يأتي بها ليس له أن يعرِّج على الملك، بل له أن يكِل المُلك إلى من يقوم به على أحكام الدين، ولهذا قال ملكنا الفاضل: الدين والمُلك أخَوان؛ فالدين أسٌّ والمُلك حارس، فما لا أسَّ له فهو مهدوم، وما لا حارس له فهو ضائع.
ذُكر للإسكندر سوء أحوال رؤساء مذهبه لما كان أبوه احتاز أموالهم وسلب أحوالهم، فقال: يجب للآباء على الأبناء إزالة الذم عنهم، [ومحو الإثم، واستعطاف القلوب عليهم، ونشر المحامد عنهم.] وأمر برد أموالهم عليهم، وزاد في الإحسان إليهم، وقال: قد بلغ من فرط شفقة الآباء على الأبناء أن يسيئوا إلى أنفسهم لتكون الإساءة سببًا للإحسان إلى أولادهم، لأنهم يرون أولادهم كأنفسهم لأنهم من أنفسهم.
فقلتُ: أيها الوزير، إني لأعجب من الإسكندر في الفعل الرشيد والقول السديد، فهذا المنصور أبو جعفر صاحب الشهامة والصرامة أخذ من وجوه العراق أموالًا بخواتيم أصحابها وأفقرهم، وجعلها في خزائنه بعد أن كتب على تلك الخرائط والظروف أسماء أهلها، ثم وصى المهدي بردها على أصحابها بعد موته ووكد ذلك عليه، وقال: يا بني، إنما أريد بهذا أن أحببك إلى الناس. ففعل المهدي ذلك، فانتشر له الصيت وكثر الدعاء وعجَّت الأصوات، وقال الناس: هذا هو المهدي الذي ورد في الأثر. فقال: هذا عجب.
وقال سقراط: ينبغي لمن علم أن البدن هو شيء جُعل نافعًا للنفس مثل الآلة للصانع أن يطلب كل ما يصير البدن به أنفع وأوفق لأفعال النفس التي هي فيه، وأن يهرُب من كل ما يصيِّر البدن غير نافعٍ ولا موافق لاستعمال النفس له.
قال أوميروس: لا ينبغي لك أن تؤثر علم شيء إذا عُيِّرتَ به غضبتَ، فإنك إذا فعلت هذا كنت أنت القاذف لنفسك.
وقال دِيوجانِس: من القبيح أن تتحرى في أغذية البدن ما يصلح له ولا يكون ضارًّا، ولا تتحرى في غذاء النفس الذي هو العلم لئلا يكون ضارًّا.
وقال أيضًا: من القبيح أن يكون الملَّاح لا يطلق سفينته في كل ريح، ونحن نطلق أنفسنا في غير بحث ولا اختبار.
ذكر لنا أبو سليمان أن فيلسوفًا ورد مدينةً فيها فيلسوف، فوجه إليه المدني كأسًا ملأى يشير بها إلى أن الاستغناء عنه واقعٌ عنده، فطرح القادم في الكأس إبرةً يعلمه أن معرفته تنفُذ في معرفته.
قال الوزير: ما البصيرة؟ قلت: لحظُ النفس الأمور. قال: فما الحكمة؟ قلت: بلوغ القاصية من ذلك اللحظ. قال: فما التجربة؟ قلت: كمال النفس بلحاظ ما لَها. قال: هذا حسن.
قال أنكساغورس: كما أن الإناء إذا امتلأ بما يسعه من الماء ثم تُجعل فيه زيادة على ذلك فاض وانصب ولعله أن يخرج معه شيءٌ آخر، كذلك الذهن ما أمكنه أن يضبطه فإنه يضبطه، وإن طُلب [منه] ضبطُ شيء آخر أكثر من وُسْعه تَحيَّر، ولعل ذلك يضيع عليه شيئًا مما كان الذهن ضابطًا له. وهذا كلام صحيح، وإني لأتعجب من أصحابنا إذ ظنوا وقالوا: إن الإنسان يستطيع حفظ جميع فنون العلم والقيام بها والإبقاء عليها، ولو كان هذا مقدورًا عليه [لوُجد، و] لو وُجد لعُرف، ولو عُرف لذُكر، وكيف يجوز هذا وقلب الإنسان مضغة، وقوته مقصورةٌ، وانبساطه متناهٍ، واقتباسه وحفظه وتصوره وذكره محدودٌ؟ ولقد حدثني علي بن المهدي الطبري قال: قلتُ ببغداد لأبي بشر: لو نظرتَ في شيء من الفقه مع هذه البراعة التي لك في الكلام، ومع هذا اللسان الذي تحير فيه كل خصم. قال: أفعل. قال: فكنت أقرأ عليه بالنهار مع المختلفة الكلام، وكان يقرأ عليَّ بالليل شيئًا من الفقه، فلما كان بعد قليل أقصر عن ذلك، فقلت له: ما السبب؟ قال: والله ما أحفظ مسألةً جليلةً في الفقه إلا وأنسي مسألةً دقيقةً في الكلام، ولا حاجة لي في زيادة شيء يكون سببًا لنقصان شيء آخر مني.
وسأل رجلٌ آخَرَ أن يقرضه مالًا، فوعده ثم غدر به فلامه الناس، فقال: لأن يحمرَّ وجهي مرةً أحبُّ إليَّ من أن يصفرَّ مرارًا كثيرة.
ووَلِي أريوس ولايةً فقال له أصدقاؤه: الآن يظهر فضلك. فقال: ليست الولاية تظهر الرجل، بل الرجل يظهر الولاية.
وقال ديوجانس: الدنيا سوق المسافر، فليس ينبغي للعاقل أن يشتري منها شيئًا فوق الكفاف.
وقيل لاسطفانُس: من صديقك؟ قال: الذي إذا صرتُ إليه في حاجةٍ وجدتُه أشد مسارعةً إلى قضائها مني إلى طلبها.
وقال أفلاطون: إن للنفس لذتين: لذةً لها مجردةً عن الجسد، ولذةً مشارِكة للجسد، فأما التي تنفرد بها النفس فهي العلم والحكمة، وأما التي تشارك فيها البدن فالطعام والشراب وغير ذلك.
وقيل لسقراط: كيف ينبغي أن تكون الدنيا عندنا؟ قال: لا تستقبلوها بتمنٍّ لها، ولا تُتْبعوها بتأسف عليها، فلا ذلك مُجْدٍ عليكم، ولا هذا راجعٌ إليكم.
وقال بعض ندماء الإسكندر له: إن فلانًا يسيء الثناء عليك، فقال: أنا أعلم أن فلانًا ليس بشرير، فينبغي أن يُنظر هل ناله من ناحيتنا أمرٌ دعاه إلى ذلك، فبحث عن حاله فوجدها رثَّةً، فأمر له بصلةٍ سَنيَّة، فبلغه بعد ذلك أنه يبسط لسانه بالثناء عليه في المحافل، فقال: أما ترون أن الأمر إلينا أن يقال فينا خيرٌ أو شر؟
قيل لطيماثاوُس: لم صرت تسيء القول في الناس؟ قال: لأنه ليس يمكنني أن أسيء إليهم بالفعل. وكان مرة في صحراء، فقال له إنسان: ما أحسن هذه الصحراء! قال: لو لم تحضرها أنت.
وقال سقراط: ينبغي إذا وَعظتَ ألَّا تتشكل بشكل منتقمٍ من عدو، ولكن بشكل من يُسْعِط أو يَكْوي بعلاجه داءً بصديق له، وإذا وُعظتَ أيضًا بشيء فيه صلاحك فينبغي أن تتشكل بشكل المريض للطبيب.
ركب مقاريوس في حاجة فمرَّ بزيموس وقد تعلق به رجل يطالبه بمال اختدعه عنه وعليهما جماعةٌ من الناس، وهو يسأله تنجيم ذلك المال عليه نجومًا ليؤديه، ويتضرع أشد التضرع. فقال مقاريوس: ما طَلِبتُك عند هذا الرجل؟ فقال: أتاني فخدعني بالزهد والنسك عن مالي، ووعدني أن يملأ بيتي ذهبًا من صنعته، فلم أزل في الاسترسال إلى ظاهره السليم حتى أفقرني باطنه السقيم. فقال له مقاريوس: إن كل من بذل شيئًا إنما يبذله على قدر وسعه، وكان زيموس أتاك على حاله التي هو عليها، ولم يكن ليتسع لأكثر من ذلك القول، وأما عمل الذهب فبيِّن ظاهر لأن فقره يدل على عجزه وضعفه عنه، ومن أمَّل الغِنَي عند الفقير فغاية ما يمكن أن يبلغه أن يصير مثله، وآخِر ما يُؤمَّل عند الفقير نيل الفقر، فقد أصبتَ ما كنتَ تحب أن تجده عند زيموس، وهو حظٌ إن تمسكتَ به لم يَغْلُ بما تَلِف من مالك، ولئن كان وعدك أن يفيدك مالًا باطلًا فلقد أفادك معدنًا حقًّا من غير قصدٍ إلى نفعك. ثم أقبل على زيموس وقال له: ما أبعد شبه معدنك من المعادن الطبيعية! إن المعادن تلفظ الذهب، ومعدِنك هذا يبتلع الذهب، ومن جاور معدنًا منها أغناه، ومن جاور معدنَك أفقره. والمعادن الطبيعية تثمر من غير قول، ومعدنك يقول من غير إثمار. فقال زيموس: أيها الفاضل، لئن عبتَني فلستُ بأول حكيم لقي من الناس الأذى. فقال له: أجل، ولا آخرهم ولا أوسطهم، لكنك من الجهال الذين لقي الناس منهم الأذى.
فقال — أعلى الله قولَه: فهل لهذا الأمر، أعني الكيمياء، مرجوع؟ وهل له حقيقة؟ وما تحفظ عن هذه الطائفة؟
فكان الجواب: أما يحيى بن عَدي — وهو أستاذ هذه الجماعة — فكان في إصبعه خاتمٌ من فضةٍ يزعم أن فضته عُملت بين يديه، وأنه شاهد عملها عِيانًا، وأنه لا يشك في ذلك.
وأما أصحابه كابن زرعة وابن خَمَار، فذكروا أن ذلك تم عليه من فعلٍ لم يَفطن له من بعض من اغترَّه من هؤلاء المحتالين الخداعين.
وأما شيخنا أبو سليمان فحصلتُ من جوابه على أنه ممكن، ولم يذكر سبب إمكانه ولا دليل حقيقته.
وأما أبو زيد البلخي — وهو سيد أهل المشرق في أنواع الحكمة — فذكر أنه محالٌ ولا أصل له، وأن حكمة الله تعالى لا توجب صحة هذا الأمر، وأن صحته مفسدةٌ عامة، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.
فأما أصحاب النسك ومن عُرف بالعبادة والصلاح، فقد ادُّعي لهم أن الصُّفر يصيَّر لهم ذهبًا، وشيئًا آخر يصيَّر فضة، وأن الله عز وجل يزلزل لهم الجبل، ويُنزِل لهم القَطْر، وينبت لهم الأرض، وغير ذلك مما هو كالآيات للأنبياء الذين يأتون من قبَل الله بالكتب والوصايا والأحكام والمواعظ والنصائح، وربما يسمي كثيرٌ من الناس ما يظهر للزهَّاد والعبَّاد من هذا الضرب كرامات ولا يسميها معجزات، والحقائق لا تنقلب بالأسماء فإن المسمَّى بالكرامة هو المسمَّى بالمعجزة والآية.
والخوض في هذا الطرَف قديم، وفصلُه في الحق شاقٌّ، والتنازع فيه قائم، والظن يعمل عمله، واليقين غيرُ مظفور به، ولا موصولٍ إليه. والطبيعة قد أوْلعت الناسَ بادعاء الغرائب، وبعثتهم على نصرتها بالرفق والخرق، والتسهيل واللَّجاج، والمواتاة والمَحْك، ولله في طي هذا العالم العلوي أسرارٌ وخفايا وغيوب ومكامن لا قوة لأحد من البشر بالحس ولا بالعقل أن يحوم حولها، أو يبلغ عمقها، أو يدرك كنهها، ومن تصرَّف عرَف، ومن عرَف سلِم. والسلام.
وقال فيلسوف: للنفس خمسُ قوى: الحس والوهم والذهن والاختبار والفكر.
فأما الحس فلَحاق الأشياء بلا فحص، ولا يُحتاج في ذلك اللَّحاق إلى شيء آخر، إلا أن يكون ممنوعًا بمانع، وذلك إذا وجد شيئًا أبيض حكم بأنه أبيض بلا فكر ولا قياس.
وأما الوهم فإنه يقع على الأشياء بتوسُّط الحس.
وأما الاختبار فيوافق الفكر، كقولك: النفس لا تموت. فهذا قولٌ اختباريٌّ بعد الفكر، فإن كان هذا هكذا فالاختبار ليس بقياس، ولكنه أُفُق القياس.
وأما الذهن فإنه لا يهجم على أوائل الأشياء.
وقال آخر شبيهًا بهذا الكلام، ولا بأس أن يكون مضمومًا إليه، ليكون شمل الفائدة أكثرَ نظامًا وأقرب مرامًا.
قال: ليس للحواس والحركات فعلٌ دون أن تبعثَها القوة المميزة، فلذلك لا يحس السكران ولا النائم، وكذلك أيضًا البهائم فإنها لا تصيح إلا بعد أن يعرض في فكرها شيء، ولا تتحرك إلا بانبعاث القوة المميزة.
ولكل واحد من الحيوان ثلاثة أرواحٍ في ثلاثة أعضاء رئيسة: نفسيةٌ في الدماغ، وحيوانية في القلب، وطبيعية في الكبد.
وفي كل واحد منها قوةٌ مميِّزةٌ بها يتم عمله، فالتي في الدماغ هي العقل المميِّز الحارس للبدن، ومنه ينبعث الحسُّ والحركة، [والتي] في القلب تنبعث منها الحرارة الغريزية في جميع البدن، وزعموا أن تلك الحرارة هي الروح. والتي في الكبد هي موضع الهَضْم والنضج، وهي التي تنضج الطعام وتغيره وتحيله دمًا وتوزِّع في كل عضو ما هو ملائمٌ له، وبالجاذبة تجذِب، وبالحابسة تَحبس، وبالهاضمة تهضم، وبالدافعة تدفع.
فأما الدماغ فينقسم ثلاثة أقسام يَحجُز بينها أغشية؛ أحدها في مقدَّم الرأس موضع التخيُّل، والثاني في وسط الرأس موضع العقل والفكر والتمييز، والثالث في مؤخَّر الرأس موضعُ الحفظ والذكر والقبول. فكل واحد مما ذكرنا يخدم الآخر، وإن ضعُف أحدها ضعف لضعفه الآخر، وباعتدالهنَّ وسلامتهن قِوام البدن والنفْس.
ولكل واحدٍ منها آلةٌ بها يستعين على خدمة الآخر.
قال: فكما أن الرَّحَى إذا نقصتَ شيئًا منها أو زدتَ أُفسِد الطحن، إما بزيادة أو نقصان، كذلك سائرُ خدَمه وآلاته.
وقال: الدِّماغ مسكَن العقل، وخدَمه الحسُّ والحركة. والقلب مسْكن الحرارة الغريزية، وخدَمُه العروق الضوارب. والكبد مسْكن النُّضْج والهضم، وخدَمُها العروق غيرُ الضوارب.
وقال: النار تُحرِق، فإذا كانت موجودةً فالدخان والرماد موجودان، والدخان رمادٌ لطيف، والرماد دخانٌ كثيف.
وقال أبو سليمان: ذكر بعض البحاثين عن الإنسان أنه جامعٌ لكل ما تفرَّق في جميع الحيوان، ثم زاد عليها وفضِّل بثلاث خصالٍ: بالعقل والنظر في الأمور النافعة والضارة، وبالمنطق لإبراز ما استفاد من العقل بوساطة النظر، وبالأيدي لإقامة الصناعات وإبراز الصور فيها مماثِلةً لما في الطبيعة بقوة النفس.
ولما انتظم له هذا كله جمعَ الحيل والطلب والهرب والمكايد والحذر، وهذا بدل السرعة والخفة التي في الحيوان، واتخذ بيده السلاح مكان الناب والمِخلب والقَرن، واتخذ الجُنَن لتكون وقايةً من الآفات. والعقلُ ينبوع العلم، والطبيعة ينبوع الصناعات، والفكرُ بينهما قابلٌ منهما، مؤدٍّ من بعض إلى بعض، فصواب بديهة الفكر من صحة العقل، وصواب روية الفكر من صحة الطباع.
وقال أبو العباس: الناس في العلم على ثلاث درجات؛ فواحد يُلهَم فيُعلَّم فيصير مبدأ، والآخر يتعلم ولا يلهَم فهو يؤدي ما قد حفظ، والآخر يُجمع له بين أن يلهَم وأن يتعلم، فيكون بقليل ما يتعلم مكثرًا بقوة ما يلهَم.
وقال: الإنسان بين طبيعته وهي عليه ونفسِه وهي له منقسمٌ؛ فإن اقتبس من العقل قوَّى نورُه ما هو له من النفس، وأضعفَ ما هو عليه من الطبيعة، فإن لم يكن يَقتبس بقي حيران أو متهوِّرًا.
وقال سقراط: الكلام اللطيف ينبو عن الفهم الكثيف.
وحكى لنا أبو سليمان قال: قيل لفيلسوف: ما بال المريض إذا داواه الطبيب ودخل عليه فرح به وقبِل منه وكافأه على ذلك، والجاهلُ لا يفعل ذلك بالعالم إذا علَّمه وبيَّن له؟ فقال: لأن المريض عالمٌ بما عند الطبيب، وليس الجاهل كذلك، لأنه لا يعلم ما عند العالم.
قال أبقاه الله: هذا مثلٌ في غاية الحسن والوضوح.
وقال فيلسوف: التهاون باليسير أساسٌ للوقوع في الكثير.
وقال أفلاطون: مثَل الحكيم كمثَل النملة تجمع في الصيف للشتاء، وهو يجمع في الدنيا للآخرة.
وقال فيلسوف: من يصف الحكمة بلسانه ولم يتحلَّ بها في سره وجهره، فهو في المثَل كرجل رُزق ثوبًا فأخذ بطرَفه فلم يلبسه.
وقال السيد المسيح: إن استطعت أن تجعل كنزك حيث لا يأكله السوس، ولا تدركه اللصوص، فافعل.]
قال فيلسوف: إذا نازعك إنسانٌ فلا تُجِبْه، فإن الكلمة الأولى أنثى وإجابتَها فحلُها، وإن تركتَ إجابتها بترتَها وقطعتَ نسلها، وإن أجبتها ألقحتَها، فكم من ولدٍ ينمو بينهما في بطنٍ واحد!
وقال فيلسوف: إن البعوضة تحيا ما جاعت، وإذا شبعت ماتت.
وقال ديوجانس: إن تكن مِلحًّا يصلِح، فلا تكن ذبابًا يُفسِد.
وقيل لديوجانس: من أين تأكل؟ فقال: من حيث يأكل عبدٌ له رب.
وقال ديوجانس: كن كالعروس تريد البيت خاليًا.
قيل لأرسطوطاليس: إن فلانًا عاقلٌ. قال: إذن لا يفرح بالدنيا.
وقيل لفيثاغورس: ما أملكَ فلانًا لنفسه! قال: إذن لا تصرعُه شهوتُه، ولا تخدعُه لذتُه.
وقيل لأسقلبيوس: فلانٌ له همة. قال: إذن لا يرضى لنفسه بدون القدْر.
ومدح رجل ثَيُودوروس على زهده في المال، قال: وما حاجتي إلى شيءٍ البخت يأتي به، واللؤم يحفظه، والنفقة تبدِّده، إن قلَّ غلبك الهمُّ بتكثيره، وإن كثر تقسَّمك في حفظه، يحسُدُك من فاته ما عندك، ويخدعُك عنه من يطمع فيه منك.
وقال سقراط: ما أحب أن تكون النفس عالمةً بكل ما أعدَّ لها. قيل: ولمَ؟ قال: لأنها لو علمتْ طارت فرحًا ولم يُنتفَع بها.
وقال ديوجانس: القلب ذو لطافة، والجسم ذو كثافة، والكثيف يحفظ اللطيفَ كضوء المصباح في القنديل.
وقال أفلاطون: العلم مصباح النفس، ينفي عنها ظلمة الجهل، فما أمكنك أن تضيف إلى مصباحك مصباحَ غيرك فافعل.
قال أبو سليمان: ما أحسنَ المصباحَ إذا كان زجاجُه نقيًّا، وضوءُه ذكيًّا، وزيتُه قويًّا، وذُبالُه سويًّا.
قيل لسقراط: ما أحسنُ بالمرء أن يتعلمه في صغره؟ قال: ما لا يسعُه أن يجهله في كبره.
قال أبو سليمان: ومن ها هنا أخذ من قال: يحسُن بالمرء التعلم ما حسنتْ به الحياة.
قيل لهوميروس: ما أصبرَك على عيب الناس لك! قال: لأنَّا استوينا في العيب، فأنا عندهم مثلُهم عندي.
وقيل للإسكندر: أي شيء أنت به أسرُّ؟ قال: قوتي على مكافأة من أحسن إليَّ بأحسن من إحسانه.
[وقال ديوجانس: إن إقبالك بالحديث على من لا يفهم عنك بمنزلة من وضع المائدة على مقبرة.]
وقال ديوجانس: الذهب والفضة في الدار بمنزلة الشمس والقمر في العالم.
وقال أفلاطون: موت الرؤساء أصلح من رئاسة السِّفْلة.
وقال: إذا بخل الملِك بالمال كثر الإرجاف به.
وقال سولون: العلم صغير في الكمية كبيرٌ في الكيفية.
وقال أبو سليمان: يعني أن القليل منه إذا استعملتَه على وجهه كان له إتاء، ونفع فائض، ودَرٌّ سائحٌ، وغايةٌ محمودةٌ، وأثرٌ باقٍ. وهذه كلها كيفيات من تلك الكمية.
وقال أفلاطون: لا يسوس النفوسَ الكثيرةَ على الحق والواجب مَن لا يمكنه أن يسوس نفسَه الواحدة.
قال ديوجانس: ينبغي للإنسان أن ينظر في المرآة، فإن كان وجهه حسنًا استقبح أن يضيف إليه فعلًا قبيحًا، وإن كان وجهه قبيحًا امتعض أن يضيف قبيحًا إلى قبيح حتى يتضاعف القبح.
وقال أبقراط: منزلة لطافة القلب في الأبدان بمنزلة لطافة الناظر في الأجفان.
وقال: للقلب آفتان، وهما الغم والهم؛ فالغم يعرض منه النوم، والهم يعرض منه السهر، وذلك أن الهم فيه فكرٌ في الخوف مما سيكون فمنه يغلب السهر، والغم لا فكر فيه لأنه إنما يحدث لما قد مضى وكان.
وقال أفلاطون: من يصحب السلطان فلا يجزع من قسوته، كما لا يجزع الغواص من ملوحة البحر.