الليلة الحادية والعشرون
وسأل مرة عن المغنِّي إذا راسله١ آخر لِمَ يجب أن يكون ألذ وأطيب وأحلى وأعذب؟
فكان من الجواب: إن أبا سليمان قال في جواب هذه المطالب ما يمنع من اقتضاب قولٍ وتكلف
جواب، ذكر أن المسموع الواحد إنما هو بالحس الواحد، وربما كان الحس الواحد أيضًا غليظًا
أو كدرًا فلا يكون لنيله٢ اللذة به٣ بسطٌ ونشوٌ ولذاذة،٤ وكذلك [المسموع ربما لم يكن في غاية الصفاء على تمام الأداء بالتقطيع] الذي
هو نفس في الهواء، فلا تكون أيضًا إنالته للذة على التمام والوفاء، فإذا ثنِّي٥ المسموع — أعني توحَّد٦ النغم بالنغم — قوي الحس المدرك، فنال مسموعين بالصناعة ومسموعًا واحدًا
بالطبيعة. والحس لا يعشق المواحدة٧ والمناسبة والاتفاق إلا بعد أن يجدها في المركَّب، كما أن العقل لا يعشق
إلا بعد أن ينالها في فضاء البسيط،٨ فكلما قوي الحس باستعماله التذَّ صاحبه بقوته حتى كأنه يسمع ما لم يسمع
بحسٍّ أو أكثر، وكما أن الحس إذا كان كليلًا [كان الذي يناله كليلًا]، كذلك الحس إذا
كان قويًّا كان ما يناله قويًّا.
قال: هذا كله موهوبٌ للحس فما للعقل في ذلك؟ فإنا نرى العاقل تعتريه دهشةٌ وأريحية واهتزاز.
قلت: قد أتى على مجموع هذا ومعرفته أبو سليمان في مذاكرته لابن خمار، وذكر أن من
شأن
العقل السكون ومن شأن الحس التهيج، ولهذا يوصف العاقل بالوقار والسكينة ومن دونه يوصف
بالطيش والعجرفة، والإنسان ليس يجد العقل وجدانًا فيلتذ به وإنما يعرفه إما جملةً وإما
تفصيلًا، أعني جملةً بالرسم وتفصيلًا بالحد، ومع ذلك يشتاق إلى العقل ويتمنى أن يناله
ضربًا من النيل ويجده نوعًا من الوجدان، فلما أبرزت الطبيعة الموسيقى في عرض الصناعة
بالآلات المهيأة، وتحركت بالمناسبات التامة والأشكال المتفقة أيضًا، حدث الاعتدال الذي
يشعر بالعقل وطلوعه وانكشافه وانجلائه، فبهر٩ الإحساس وبث الإيناس وشوَّق إلى عالم الروح والنعيم وإلى محل الشرف العميم،
وبعث على كسب الفضائل الحسية والعقلية، أعني الشجاعة والجود والحلم والحكمة والصبر،
وهذه كلها جماع الأسباب المكملة للإنسان في عاجلته وآجلته، وبالواجب ما كان ذلك كذلك،
لأن الفضائل لا تقتنى إلا بالشوق إليها والحرص عليها والطلب لها، والشوق والطلب والحرص
لا تكون إلا بمشوقٍ وباعثٍ وداعٍ، فلهذا برزت الأريحية والهزة والشوق والعزة، فالأريحية
للروح والهزة للنفس والشوق للعقل والعزة للإنسان. ومما يجب أن يُعلم أن السمع والبصر
أخص بالنفس من الإحساسات الباقية، لأنهما خادما النفس في السر والعلانية ومؤنساها في
الخلوة وممداها في النوم واليقظة، وليست هذه الرتبة لشيء من الباقيات، بل الباقيات
آثارها في الجسد١٠ الذي هو مطية الإنسان. لكن الفرق بين السمع والبصر في أبواب كثيرة: ألطفها
أن أشكال المسموع مركبةٌ في بسيط وأشكال المبصر مبسوطة في مركب.
قلت: وقد حكيت هذا لأبي زكرياء الصيمري فطرب وارتاح وقال: ما أبعد نظر هذا الرجل! وما أرقى لحظه! وما أعز جانبه!
١
راسله آخر: أي تابعه في غنائه مساندة له.
٢
في كلتا النسختين: «فلا يكون نيله للذة»، وهو تحريف.
٣
به: أي بالمسموع.
٤
في كلتا النسختين: «وقسر وولاية»، ولا معنى لهاتين اللفظتين هنا، فلعل
صوابهما ما أثبتناه أو ما يفيد معنييهما.
٥
في كلتا النسختين: «فأذن الأنس المسموع»، وهو تحريف لا معنى له، ولعل صوابه
ما أثبتنا أو ما يفيد معناه.
٦
في كلتا النسختين: «توجد»، وهو تصحيف.
٧
في «ب»: «المؤاخذة»، وفي «أ»: «الواحدة»، وهو خطأ في كلتيهما.
٨
في «أ»: «بقاء النشيط»، وهو تحريف.
٩
في كلتا النسختين: «فقهر»، وهو تحريف.
١٠
في «أ»: «في الحد»، وهو تحريف.