الليلة الثانية والعشرون
وقال لي مرة أخرى: ارْوِ لي شيئًا من كلام أبي الحسن العامري، فإني أرى أصحابنا يرذلونه ويذِيلونه، فلا يرون له في هذه العصبة قدمًا ولا يرفعون له في هذه الطائفة علَمًا.
فقلت: كان الرجل لكزازته وغلظ طباعه وجفاء خلقه ينفر من نفسه ويغري الناس بعرضه، فإذا طلب منه الفن الذي قد خُص به وطولب بتحقيقه وُجد على غاية الفضل.
قال: هذا كلامٌ بارعٌ من صدرٍ واسع وأحب أن تزيدني من نمطه. قلت: وقال أيضًا: الكلي مفتقرٌ إلى الجزئي لا لأن يصير بديمومته محفوظًا [بل لأنْ يصير بتوسطه موجودًا، والجزئي مفتقر إلى الكلي لا لأن يصير بتوسطه موجودًا، بل لأن يصير بديمومته محفوظًا].
وقال: العلم لا يحيط بالشيء إلا إذا عرف مبادئه القريبة والبعيدة والمتوسطة.
وقال: نتوصل إلى كُرية القمر بما نراه من اختلاف أشكاله، أعني أنا نراه في الدورة الواحدة هلاليًّا مرتين ومنصَّفًا مرتين وبدرًا مرة واحدة، وهذه الأشكال وإن كانت متقدمةً عندنا فإن كونه كريًّا هو المتقدم بالذات.
وقال: ما هو أكثر تركيبًا فالحس أقوى على إثباته، وما هو أقل تركيبًا فالعقل أخلص إلى ذاته.
وقال: الأحداث — وهي الذوات الإبداعية — الوقوف على إثباتها يغني عن البحث عن ماهيَّاتها.
وقال: كل معنى يوجد بوجوده غيره لا يرتفع بارتفاع ذلك الذي هو غيره، بل يرتفع غيره بارتفاعه، فإنه أقدم ذاتًا من غيره، مثاله الجنس لا يرتفع بارتفاع واحدٍ من أنواعه والأنواع ترتفع بارتفاع الجنس، وكذلك حال النوع مع الشخص، فالجنس أقدم من النوع والنوع أقدم من الشخص، وأعني بالجنس والنوع الطبيعيَّين لا المنطقيين.
وقال: معرفتنا أولًا تتعلق بالأشخاص الجزئية ثم بتوسطها ثبتت الأجناس فإذن المتقدم بالذات غير المتقدم إلينا.
قال أبو النضر نفيس: إنما كان هذا هكذا، لأن الطبيعة متناولة من العقل والعقل مناولٌ للطبيعة فوجب أن يختلف الأمران، فإن قال قائل: فهلا تم الأمران معًا بواحدٍ منهما، أعني الطبيعة أو العقل؟ فالجواب أن أحدهما في العلو والآخر في السُّفْل، فليس للعالي أن يهبط ولا للسافل أن يعلو، فلما كان هذا محالًا توسط بينهما — أعني العالي والسافل — المناولة والتناول حتى اتصل الأول بالثاني، وغص الفضاء بينهما بضروب الأفراد والأزواج، وانتظم الكل فلم يكن فيه خلل ولا دونه مأتى ولا وراءه متوهَّم.
وقال: كما أن لكل عضو قوةً تخصه بتدبيرها كذلك لجميع البدن قوةٌ أخرى ضامنةٌ لتدبيره.
قال أبو الحسن: الموجود له حقيقةٌ واحدةٌ لا تُدرك إلا عقلًا وليس له مبدأ، ولو كان له مبدأٌ لشاركه المبدأ في طبيعة الوجود، وليس بمتحرك لأنه لا مقابل له فيتحرك إليه.
وقال: قد يوصف الشيء بأنه واحد بالمعنى وهو كثير بالأسماء، ويوصف بأنه واحد بالاسم وهو كثير بالمعنى، ويوصف بأنه واحد بالجنس وهو كثير بالأنواع، ويوصف بأنه واحد بالنوع وهو كثير بالشخوص، ويوصف بأنه واحد بالاتصال وهو كثير بالأجزاء، وقد نقول في شيء: إنه واحد بالموضوع وهو كثير بالحدود، كالتفاحة الواحدة التي يوجد فيها اللون والطعم والرائحة، وقد يكون واحدًا في الحد وكثيرًا في الموضوع، كالبياض الذي يوجد في الثلج والقطن والإسفيداج، وقد يكون كثيرًا بالحد والموضوع كالعلم والحركة. فإن موضوع هذا الجسمُ وموضوع ذاك النفس، وحدُّ أحدهما غير حد الآخر، وقد يكون واحدًا بالموضوع والحد بمنزلة السيف والصِّمصام. وقد نقول أشياء تكون واحدةً بالفعل وهي بالقوة كثيرة كالسِّراج الواحد، فأما أن يكون واحدًا بالقوة وكثيرًا بالفعل من وجهٍ واحد فلا يكون، بل من جهات مختلفة.
قال أبو النضر نفيس: الواحد الذي ينقسم فتنشأ منه الكثرة غيرُ الواحد الذي لا ينقسم، والكثير الذي يتوحَّد حتى يكون واحدًا غيرُ الكثير الذي لا يتوحَّد، فالواحد الذي لا ينقسم علة الواحد المنقسم، والكثيرُ الذي يتوحد هو علة الكثير الذي [لا] يتوحد، وبالحكمة الإلهية ما كان هكذا حتى يكون الكثير الذي يتوحد في مقابلة الكثير الذي لا يتوحد، والواحد الذي ينقسم في مقابلة الواحد الذي لا ينقسم، وهذه المقابلة هي عبارة عن صورة التمام الحاصل للكل، وليست هي عبارة عن صورةٍ مزاحمةٍ لصورة أو كثيرةٍ غالبةٍ لكثرة. المستغاثُ بالله من قصور العبارة عن الغاية وتقاعس اللفظ عن المراد.
قال: أحب أن أسمع شيئًا من منثور كلامهم في فنون مختلفة.
فقال: يا قوم إن النظَّام معي على جادة واحدة لا ينحرف أحدنا عنها إلا بقدر ما يراه صاحبه فيذكره انحرافه ويحمله على سننه فأمرنا يقرب، وليس هكذا زنجويه الحمال فإنه يبتدئ معي بشيء ثم يطفر إلى شيء بلا واصلة ولا فاصلة، وأبقى فيُحكم عليَّ بالانقطاع، وذاك لعجزي عن رده إلى سنن الطريق الذي فارقني آنفًا فيه.
وقال فيلسوفٌ آخر: العادات قاهرات، فمن اعتاد شيئًا في السر فضحه في العلانية.
وقال فيلسوف: ما أكثر من ظن أن الفقير هو الذي لا يملك شيئًا كثيرًا! وهذا فقير من جهة العرض، فأما الفقير الطبيعي فالذي شهواته كثيرة وإن كان كثير المال، كما أن الغني الطبيعي لا يحتاج إلى شيء وإن كان قليل المال، أي الذي ملك نفسه وقمع شهواته وأخمد لهب إرادته، وقد ظن قومٌ أن الذين منعوا من الشهوات ورضوا بالزهد في اللذات خانوا الناس وحالوا بينهم وبين حظوظهم، وحرموهم ما هو لهم وصدوهم عن محبوباتهم، وهذا ظن خطأ، وأي مرادٍ في هذا للواعظين والمزهِّدين والذين وصوا وأشفقوا وردعوا عن الخوض في لذات النفوس الغضبية والبهيمية؟ والله ما كان ذلك منهم إلا على طريق النصيحة والشفقة والإعذار والإنذار، إلا أن يكون الذين ظنوا هذا إنما ظنوه، لأنهم رأوا بعض المزهدين راغبًا وبعض الناصحين غاشًّا وبعض الآمرين مخالفًا، وليس العمل على المحتال وعلى من آثر الغش في المقال، ولكن المرجع إلى ما يدل عليه الحق ويشهد له العقل ويصح فيه البرهان، أترى الفيلسوف غش في قوله لأصحابه: اقنعوا بالقوت وانفوا عن أنفسكم الحاجة ليكون لكم قربة إلى الله، لأن الله غير محتاج، فكلما احتجتم أكثر كنتم منه أبعد، واهربوا من الشر والإثم واطلبوا من الخير أعمه وأعظمه وأبقاه وأدومه، واعرفوا الأبد واطلبوا السرمد، فإن من طلب الأبد ثم وجد بقي على الأبد ومن طلب الأمد ثم وجد فني على الأمد.
الحاجة ذل والغنى عز والعز ضد الذل، فمن طلب العز في العاجلة فقد طلب الذل وهو لا يدري، ومن طلب العز في الآجلة فقد وجد العز وهو لا يدري.